معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 240

المقدمــــــة
الحمد لله الذي أحاط بكل شئ علماً ، وليس من شئ إلا والله عز وجل خالقه وبارئه ، ولا تستديم وجود الإشياء والخلائق كلها إلا برحمة من عند الله ، فهو المالك المتصرف والمدبر بمشيئته لأبدع الأكوان ، والأزمنة ، وصروف الأقدار ، وفي التنزيل [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
الحمد لله أقصى مبلغ الحمد ، والحمد لله عن عقلي وبصيرتي وقلبي وسمعي وبصري ويدي وكتفي وقدمي وكليتي وما رزقني من العافية ، وفي التنزيل [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( ).
الحمد لله الذي جعل أيام العافية عند الإنسان أضعاف أيام المرض سواء بالنسبة للمؤمن أو الكافر .
الحمد لله على حلمه وستره ، وصرفه البلاء ، والحيلولة بيننا وبين كثير من المعاصي والسيئات .
الحمد لله الذي له ملك السموات والأرض ، ملك تدبير وصنع وإبداع ، وحمل للخلائق على الخضوع والخشوع له سبحانه ، وفي التنزيل [يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً أسأله تعالى عدم إنقطاعه ونحن في عالم البرزخ ، وأن يتجدد منا في عرصات يوم القيامة ، وهل هو من عمومات قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، أم أن الآخرة دار حساب بلا عمل ، المختار هو الأول .
الحمد لله ملئ السموات والأرض وما بينهما ، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، وقد صدر بفضل الله الجزء السادس والعشرون بعد المائتين من هذا السِفر خاصاً بتفسير هذه الآية ، فلله الحمد والشكر على هذه النعمة العظيمة وأسأله تعالى مصاحبتها لي في الحياة الدنيا والآخرة .
الحمد لله الذي يقرب العباد إلى طاعته بلطفه واحسانه وبفضله تتم الصالحات ، و[الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ]( ).
الحمد لله الذي لا تنفد خزائنه ، ولا تزيده كثرة السؤال إلا عطاء وإحساناً ، وهو الذي يجعل الدعاء باباً للأجر والثواب ، وهل هذا الأجر والإستجابة من قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، الجواب نعم .
والإستجابة أعم من الأجر , لأن الدعاء من مصاديق الذكر والتسبيح لبيان مرتبة العالية للدعاء فهو ذكر وسؤال وتضرع وتطامن وإقرار وتسليم بأن مقاليد الأمور كلها بيد الله عز وجل .
الحمد لله الذي جعل الشكر علة لزيادة النعم ، ولم يحصر أسباب الزيادة بها ، فمن لطف وإحسان ورأفة الله عز وجل عجز العباد عن إحصاء هذه الأسباب ، ومنها الإبتداء بالنعم من عند الله ، ومنها الرزق الكريم ليكون مادة لزيادة النعم برجاء الإنسان استدامته ومضاعفته .
ومنها بعث الأنبياء والرسل ، فكل بعثة نبي نعمة قائمة بذاتها ، وسبب لزيادة النعم ، وهل تختص هذه الزيادة بالذين يصدقون بنبوته ، الجواب لا ، والله عز وجل يعطي للعام وينزل النعمة الشاملة التي تتغشى الناس كهطول الأمطار ، والبركة.
ومن النعم في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرائد:
الأولى : الهداية ونبذ عبادة الأصنام ، فمن أعظم النعم ما يتعلق بسلامة بالعقيدة ، وكلمة التوحيد .
الثانية : قطع الظلم والطغيان واسترقاق الناس بغير حق .
الثالثة : منع الغزو بين القبائل .
الرابعة : صيرورة الأخوة الإيمانية هي الملاك في الصلات ورجحانها على الإنتساب للقبيلة , قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الخامسة : السلم واشاعة الأمن في المدن والطرقات العامة.
السادسة : إزدهار التجارات .
السابعة : البركة في الكسب والمعاش.
الثامنة : منع الوأد وبيان حرمته ، قال تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ]( ).
التاسعة : إقامة الفرائض الشرعية ، ومصاحبة الصلاة للمسلم على نحو يومي من غير انقطاع بأدائها خمس مرات في اليوم بشروطها وأجزائها الواجبة والمستحبة .
ومن شروطها الوضوء ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، ومن أجزاء الصلاة تكبيرة الإحرام والركوع والسجود.
الحمد لله على نعمه في السراء والضراء ، وصرف الضرر والأذى.
الحمد لله الذي رزقنا نعمة الشكر له سبحانه والأجر والثواب عليها ، وصيرورتها مادة وسبباً للزيادة من فضله ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
الحمد لله الذي عليه توكلي ، وهو ثقتي ورجائي ، والقادر على تفريج الهمّ وإزالة الغم عني وعن المؤمنين وأهل الأرض جميعاً ، وهو من مصاديق سعة رحمته في الدنيا .
الحمد لله الذي أعجز عن استحضار معشار نعمه عليّ ولو اجتهدت في ليلي ونهاري ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
الحمد لله الذي يرضى بالقليل ، ويعطي الكثير ، وهو سبحانه [غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ).
الحمد لله الذي جعل أيام ومناسبات الشكر له سبحانه أضعافاً مضاعفة لساعات الإسترجاع عند المصيبة ، وذات الإسترجاع نعمة منه تعالى ، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
الحمد لله عن سمعي وبصري وعقلي وصحة بدني وصرف الآفات بآية ومعجزة من عنده ، فكل صرف بلاء عن إنسان هو معجزة لا يقدر عليها إلا الله عز وجل .
لبيان عدم إنحصار الإعجاز الإلهي بما رزق الأنبياء من الآيات والبراهين ، وآيات القرآن ، بل ذات خلق الإنسان معجزة ، وتعاهد سلامته ، وعامة أفراد المجتمع من الحروب معجزة عامة ، لذا ورد قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ) ، بصيغة الجمع لتعلق موضوع الآية بكل من :
الأول : الفرد الواحد ، مسلماً ، أو كتابياً ، أو كافراً.
الثاني : أفراد الأسرة الواحدة ، لذا وردت قواعد وأحكام النكاح والطلاق في القرآن على نحو التفصيل ، ومنه قوله تعالى [الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( )، وجاءت السنة النبوية للبيان وتثبيت هذه الأحكام ، والمنع من تعديها أو التفريط بها.
الثالث : الجماعة وأهل القرية والمحلة والبلدة .
الرابع : الأمة والشعب الواحد .
الخامس : أهل الأرض جميعاً .
السادس : حفظ الجيل اللاحق والأجنة بحفظ الآباء والأمهات ، وصرف البلاء والكيد عنهم.
السابع : سلامة الأرض والأرزاق التي فيها ، ومن مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، حفظ ذات الأرض لتكون محلاً لسكن الناس ، قال تعالى [وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
الحمد لله الذي لا أرجو غيره ، والذي جعل حاجتنا لرحمته في الآخرة أكثر منها في الحياة الدنيا لينشر لنا تسعاً وتسعين رحمة يومئذ حتى يطمع إبليس في رحمته ، وأسأله تعالى أن يأذن لنا بشكره والثناء عليه ونحن في عالم البرزخ ويوم القيامة ، وفي التنزيل [وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
وهذا الجزء هو الأربعون بعد المائتين من تفسيري (معالم الإيمان في تفسير القرآن ، ويختص بقانون (آياتُ السّلمْ محُْكمةٌ غَيرُ مَنْسوُخَةٍ).
ويبدأ هذا الجزء بقانون القرآن واقية من الغزو , بعد المقدمة .
الحمد لله الذي جعل الدنيا دار السلام والأمن ، ومن خصائص بعثة الأنبياء تثبيت ألوية السلم ، ولأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم الأنبياء والرسل ، فقد جاء بما يثبت السلم والأمن في أقطار الأرض إلى يوم القيامة بتعضيد القرآن وبعثة الأنبياء السابقين والكتب السماوية التي سبق نزولها القرآن.
ومن مصاديق الخلافة في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، تعاهد السلم المجتمعي والأمن العام في الأرض ، وحتى الملك والسلطان والفرد الذي يكون سبباً بنشوب حرب ، لا يلبث أن يميل إلى وقفها ، والتنازل عن كثير من مقاصده وغاياته.
ولا تمر الأيام والسنون إلا ويرى الناس كيف أن مقاصده ذهبت أدراج الرياح ، وأصابه ودولته الوهن والضعف ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
لتتضمن الآية أعلاه البشارة والإنذار ، البشارة للمستضعفين ، ومنه قوله تعالى [وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ]( )، والإنذار للطواغيت والظالمين والذين يسفكون الدماء ويشيعون القتل بين أصحابهم وعدوهم برميهم في أتون الحرب.
ليبين تعاقب الجديدين ، وتبدل الأحوال عدم استحقاق غايات السلطان القتل والتخريب والإنفاق على آلة الحرب بما يبني دولاً ، ويمنع الفقر عن أهل الأرض.
الحمد لله الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما , وتصرف ومشيئة ورأفة بالخلائق , لبيان عظيم قدرته وسلطانه , وفيه مقدمة ورجاء , لعفوه ومغفرته .
الحمد لله الذي جعل الإنسان يشكره باللسان والأركان والجنان , وهو من اللطف الإلهي لتقريب العباد لمنازل الشكر وإعانتهم عليه .
الحمد لله الموصوف بالكمال المطلق من كل الوجوه التي يدركها البشر , والصفات الحسنى الأخرى التي لا يدركها البشر , قال تعالى [وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً]( ) .
الحمد لله الغفور الودود الذي [يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ]( ) ونسأله تعالى أن يجعلنا ممن يبسط ويوسع له الرزق في العلم والمال والجاه , وحسن السمت والولد الصالح .
فقد تفضل الله سبحانه وجعل مقاليد الأمور بيده ، ثم قال [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
وعن الإمام علي عليه السلام قال (كتاب الله تبصرون به ، وتنطقون به ، وتسمعون به وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض)( ).
الحمد لله الذي جعل القرآن شاهداَ على العصر , فيكون الأمن والسلامة في كل زمان بالصدور عن القرآن والعمل بمضامينه وأحكامه .
الحمد لله رب العالمين ، الذي جعل نعمه متصلة ومتتالية ، وتعجز الخلائق عن عدها وعن معرفة أكثرها ، الحمد لله الذي جعل الشكر وسيلة لمضاعفة النعم ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
ومن الإعجاز في المقام أن الله عز وجل لم يخبر عن استدامة النعم بالشكر ، إنما جعل الشكر على لزيادتها ومضاعفتها ، مما يدل على استدامتها بفضل من عند الله ، وهذه الإستدامة من جهات منها :
الأولى : سعة رحمة الله .
الثانية : رشحات قوله تعالى في آدم [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( )، ووراثة الناس بركات هذا النفخ.
الثالثة : إفاضات خلافة الإنسان في الأرض ، ليكون من معاني إخبار الله للملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) حفظ الله عز وجل للنسل ، وتعاهد رزق الناس في السراء والضراء ، قال تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( )، والنسبة بين الخلافة في الآية أعلاه وبين توالي الرزق عموم وخصوص مطلق.
ومن فضل الله عز وجل أقوم بتأليف أجزاء هذا السِفر المتتالية وتصحيحها ومراجعتها بمفردي ، وكذا كتبي الفقهية والأصولية والكلامية .
[قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي]( ).

حرر في العاشر من شهر صفر الخير
7/9/2022


القرآن واقية من الغزو
هل كان القرآن واقية من الغزو , الجواب نعم من جهات :
الأولى : في القرآن غنى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن الغزو لأنه سفير إلى القلوب والبيوت والمنتديات .
الثانية : إجتناب اهل الكتاب محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , لتجلي الإعجاز في آيات القرآن وبيانه , قال تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
و(اقربهم) اسم تفضيل يدل على وجود أمم وأهل ملل غير النصارى يودون المسلمين , ويميلون إليهم , وفيه دعوة للمسلمين للإنفتاح على الناس , وتعاهد ألوية السلم المجتمعي , وحسن الجوار سواء كان على مستوى الدول أو الأفراد ليعيش الناس في سلام , ويتدبروا بالخلق وعالم الأكوان , قال تعالى [كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى]( ).
وكثرة الشعوب وأهل الملل الذين يودون المسلمين من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا الميل القلبي وشآبيب الرحمة دعوة للسلم ونبذ للقتال ومقدماته , وشاهد على إدراك الناس صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسلامة وكمال الأحكام التي جاء بها .
الثالثة : إمتناع أكثر الكفار عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته ودعوته إلى عبادة الله عز وجل , وقانون نبذ تقديس الأصنام.
ويدعو القرآن إلى السلم والأمن المجتمعي بالنص الصريح وبالمعنى والدلالة من وجوه :
الأول : تعدد آيات السلم , منها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( ) , وسيأتي تقدير هذه الآية في ثنايا هذا الجزء.
الثاني : سلامة آيات السلم من النسخ , وبه جاء هذا الجزء من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) وهو الجزء الأربعون بعد المائتين.
ليبقى القرآن يدعو الناس كل يوم لإجتناب وترك الغزو.
ويبعث المسلمين على الشكر لله عز وجل على نعمة انقطاع الغزو بآيات القرآن , ولا يعلم حال الترقب والترصد والخوف التي عليها الناس أيام الجاهلية إلا الله , فهم يحرسون بيوتهم في الليل والنهار , ويعزفون عن جمع المال والمواشي خشية الغزو والنهب , ويجتنبون الأسفار للخشية من مباغتة جماعات وقبائل لغزوهم حتى ممن لا عداوة لهم معهم .
الثالث : مجئ القرآن بأحكام العبادات والمعاملات وفيه صرف للناس عن القتال ، وفي خطاب وأمر إلى المسلمين والمسلمات قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ).
الرابع : قانون نفاذ آيات القرآن إلى شغاف القلوب وإنشغال الناس بالتدبر في آياته , ودلالاتها .
لقد كان العرب أهل بلاغة وفصاحة فجاءت بلاغة القرآن التي ترقى على كلام العرب وأشعارهم لصرفهم عن القتال , لبيان صفحة من إعجاز القرآن وهي عدم إنحصار بلاغته بدعوة الناس للإسلام والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , إنما تكون لبلاغته مقاصد سامية عديدة منها إصلاح النفوس وزجر الناس عن الغزو والنهب والإقتتال ومنع سطوة النفس الغضبية.
الخامس : لغة الإنذار والتخويف ومن الظلم والتعدي , قال تعالى [وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا]( ).
السادس : قانون التثبيت السماوي للأشهر الحرم ومنع النسئ والتلاعب فيها , قال تعالى [إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
لقد جعل الله عز وجل الأشهر الحرم أيام سلم وأمن , ولم يستقر العمل بحرمتها إلا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ يدل قيام المشركين بالنسئ وإرجاء الأشهر الحرم كي يستمر القتال على بدايات تخليهم عن حرمتها لولا أن بعث الله عز وجل النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم بشيراَ ونذيراَ .
وهل القرآن واقية وحصانة من الغزو أيام التنزيل أم أنه واقية من الغزو والإقتتال في كل زمان ، الجواب هو الثاني .
وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن في خمس مرات في الصلاة اليومية , وما في هذه التلاوة من إظهار الأحكام الشرعية , وبيان الحسن الذاتي للسلم والأمن والعدل , وقبح الظلم ومباغتة الناس للنهب والسلب , قال تعالى [حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ]( ).
قانون أصالة السلم
الأصل الأساس وما يستند ويتركز عليه الشئ ويبنى عليه والجمع أصول ، ويأتي بمعنى القاعدة ، والجمع قواعد ، قال تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( )، وقال تعالى [أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ]( )، وقد يطلق على الأصل في الإصطلاح القاعدة ، وقد يناسبه لفظ القانون.
والسلم بكسر السين وفتحها بمعنى واحد وهو ضد الحرب , وقد يكون التباين بالقرائن ونظم الآية , والنسبة بين السلم والصلح عموم وخصوص مطلق , فالسلم أعم ، وقد يأتي ابتداء واستصحاباً لبيان قانون وهو الأصل في أيام الدنيا هو السلم.
ولا يختص الخطاب في الآية للمهاجرين والأنصار إنما يشمل المسلمين والمسلمات في مكة والذي بين ظهراني الكفار فيكون دخولهم في السلم على وجوه :
الأول : التقييد بأحكام الإسلام في العبادات بما لا يثير حفيظة المشركين , فيمكن أداء الصلاة خفية عنهم وإن كانوا من أهل بيت المسلم , كصلاة الابن خفية عن أبيه المشرك .
الثاني : العصمة من عبادة الأوثان أو التوسل إليها , أو الخشية والخوف منها .
الثالث : حسن التوكل على الله عز وجل .
الرابع : التقيد بآداب التقية , قال تعالى [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً]( ).
الخامس : حسن الصلات والتآخي بين المسلمين , وعدم الدخول في خصومة واقتتال , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
وهل في آية البحث [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( ) نهي عن الخروج على الإمام علي عليه السلام في معركة الجمل ، وفي صفين ، والخوارج في النهروان الجواب نعم .
قد تقدم بخصوص أسباب نزول الآية انها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه , إذ استمروا بعد إسلامهم على تعظيم السبت وكراهة أكل لحوم الإبل وألبانها , ولكن موضوع وأحكام الآية أعم , ولا تختص بطائفة حديثي عهد بالإسلام .
قانون تساؤل الملائكة رحمة
عندما أخبر الله عز وجل الملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) تسألوا عن أمور :
الأول : فساد طائفة من الناس في الأرض وهي ملك طلق لله عز وجل فكيف يفسد الذي جعلهم الله عز وجل خلفاء في الأرض , قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) .
الثاني : وقوع الإقتتال بين الناس وسقوط القتلى من المؤمنين والكافرين .
الثالث : جمع طائفة من الناس بين الإفساد في الأرض وبين القتل وسفك الدماء.
والمشهور أن كلام الملائكة احتجاج .
والمختار أنهم لم ولن يحتجوا على أمر وحكم لله عز وجل , إنما تسألوا رجاء الرحمة بالناس بعصمتهم من الفساد والإقتتال .
لذا تفضل الله عز وجل وأجابهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) ومن علم الله تعالى بعثة الأنبياء والرسل حتى ختم الله عز وجل النبوة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، واقترن هذا الختم بأمور :
الأول : نزول القرآن قال تعالى [وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاَء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ]( ).
الثاني : بيان الفرائض العبادية من الصلاة والصيام والزكاة والحج والخمس .
الثالث : سلامة القرآن وأحكام الفرائض من التحريف والتبديل إلى يوم القيامة , وسلامة القرآن معجزة , وكذا فإن سلامة الفرائض معجزة أخرى مستقلة بذاتها .
الرابع : تنمية ملكة التقوى عند المسلمين , وهي آية وركن في تثبيت السلم المجتمعي , وفي صرف الإقتتال بين الناس .
تقدير (أتجعل فيها)
لما أخبر الله عز وجل الملائكة بجعل آدم عليه السلام [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) تسألوا عن التباين بين منصب الخلافة الذي لم ينالوه مع عظيم منزلتهم عند الله عز وجل , وبين الفساد الذي يقع على الأرض بسبب الخلافة , إذ قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
ومن الإعجاز في نظم هذه الآيات عدم قصد الملائكة للخليفة في الذم وحال الإفساد , فلم يقولوا (أتجعل فيها خليفة يفسد فيها) إنما قالوا (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا) على نحو التنكير والإيهام , ليكون من معاني ووجوه تقدير الآية :
الأول : أتجعل فيها مع الخليفة من يفسد فيها .
الثاني : أتجعل مع الخليفة من يسفك الدماء .
الثالث : أتجعل في الأرض من يمنع الناس عن الخليفة وما يدعو إليه من التوحيد .
الرابع : اللهم لا تجعل في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء.
الخامس : أتجعل في الأرض من يقتل خليفة الله , أو يسعى في قتله , وفي التنزيل [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ) .
وهل مكر الله عز وجل في الآية أعلاه من مصاديق ردود استجابة الله عز وجل لإحتجاج الملائكة بقول [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) الجواب , نعم .
السادس : اللهم لا تجعل في الأرض من يفسد فيها .
السابع : اللهم لك الحمد أن جعلت [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) ، يجاهد لدفع الفساد .
الثامن : اللهم نزه الأرض من الفساد وسفك الدماء .
التاسع : اللهم احفظ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من القتل , وادفع عنه شرور المفسدين , وفي التنزيل [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] ( ) .
قانون الإجتهاد في العبادة
من المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي تترشح عن آيات القرآن امتثاله لأمر الله عز وجل بأمور :
الأول : التحلي بالصبر ، قال تعالى في خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه جمعها بين الأمر بالصبر وتحمل الأذى وبين البشارة بالنصر من غير قتال أو سلّ السيوف لأن الله عز وجل خير الحاكمين الذي يحكم بظهور وغلبة سنن الهدى والإيمان , قال تعالى [لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ]( ) .
الثاني : الإستجابة المستمرة في السر والعلانية للأمر الإلهي.
الثالث : قانون ترشح وتوالي المنافع العامة عن طاعة النبي محمد للأوامر الإلهية.
الرابع : قانون إقتداء المسلمين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في طاعته لله عز وجل ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
الخامس : الإجتهاد في العبادة والصلاة , وهذا الإجتهاد من الشواهد على صدق نبوته , خصوصاَ وأنه مصاحب لأيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحياة الدنيا , فمع تحقق فتح مكة ودخول الناس أفواجاَ في الإسلام , وقهر المشركين ودخول رؤسائهم في الإسلام نزل قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ) لبيان جهات:
الأولى : قانون الملازمة بين النبوة والإجتهاد في العبادة .
الثانية : قانون الإجتهاد في العبادة صارف عن الغزو والرغبة في القتال.
الثالثة : قانون إجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العبادة شاهد على صدق نبوته .
الرابعة : قانون إجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة وضروب العبادة الأخرى دعوة للسلم والأمن العام .
ليكون من معاني قوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )، اجتهدوا في طاعة الله عز وجل .
الخامسة : قانون إجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالعبادة تأديب للمسلمين ، ونشر لأولوية الرحمة بين الناس إلى يوم القيامة , و(عن أنس قال : تعبد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى صار كالشن البالي ، فقالوا : يا رسول الله ، ما يحملك على هذا الإِجتهاد كله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.
قال : أفلا أكون عبداً شكوراً)( ).
ليتجلى عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتفضيله على الأنبياء.
وقد ورد بخصوص تسمية النبي نوح عليه السلام (عبداً شكوراً) إذ ورد عن الإمام الباقر عليه السلام (قال : إن نوحا ” إنما سمي عبدا ” شكورا ” لإنه كان يقول إذا أصبح وأمسى: اللهم إني أشهد أنه ما أمسى وأصبح بي من نعمة أو عافية في دين أو دنيا فمنك وحدك لا شريك لك، لك الحمد والشكر بها علي حتى ترضى إلهنا.) ( ) .
قانون النبوة إصلاح وسلام
لقد سعي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ الرسالة , ودعوة الناس إلى الهدى , والعمل النبوي بالوحي في إصلاح المجتمعات وضبط المعاملات وفق قواعد الشريعة ، والتي تتصف بخلوها من الظلم والتعدي ، وفيه وجوه :
الأول : بيان وتفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن , واستنباط العلماء وإلى يوم القيامة المسائل من هذا البيان .
الثاني : كل من السنة النبوية القولية والفعلية لواء سلام يومي يتغشى الناس.
وقال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ]( ) ولم يكن جهاد المنافقين بالسيف فهم يظهرون الإسلام ويخفون الكفر , إنما كان بكشف سوء سرائرهم , ودعوتهم للتوبة والإنابة , وتحذير المؤمنين من الإصغاء إليهم .
الثالث : أراد المنافقون إغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومع هذا فإنه لم يعاقبهم , ففي عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من تبوك أراد عدد منهم الفتك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد مكروا وهموا بطرح النبي صلى الله عليه وآله وسلم من رأس عقبة في الطريق فتهوى به ناقته.
وكان معه حذيفة بن اليمان يسوق الناقة ، وعمار بن ياسر آخذ بزمامها , وأحس بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغضب لفعلهم فرجع إليهم حذيفة ومعه محجن وهي عصا ذات رأس معكوف وهي كالصولجان فظنوا أن أمرهم انكشف خاصة وأنهم يعلمون بأن الوحي ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صغائر الأمور وكبائرها , فكيف لا ينزل عليه والقوم يريدون قتله غيلة , ففروا ودخلوا مع عامة الجيش وخالطوهم .
لبيان قانون وهو من السلم ترك المؤاخذة والعقوبة ، وهذا الترك المتكرر معجزة حسية ومن مصاديق وشواهد النبوة ، والدلائل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حذيفة وعماراَ أن يسرعا حتى يجتازا العقبة ثم وقفوا ينتظرون عامة الصحابة .
(ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحذيفة : هل عرفت هؤلاء القوم ، قال: ما عرفت إلا رواحلهم في ظلمة الليل حين غشيتهم.
ثم قال : علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب.
قالا: لا.
فأخبرهما بما كانوا تمالاوا عليه وسماهم لهما واستكتمهما ذلك.
فقالا: يا رسول الله أفلا تأمر بقتلهم .
فقال : أكره أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) ( ).
ومن معاني الجمع بين الكفار والمنافقين في جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم في الآية أعلاه من سورة التحريم أنه حتى الكفار تكون مجاهدتهم بالإحتجاج عليهم إلا إذا هجموا فتكون مجاهدتهم بالثبات والدفاع , و(عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تتمنوا لقاء العدوّ وأسالوا الله العافية ، فإن لقيتموهم فاثبتوا واذكروا الله كثيراً ، فإذا جلبوا وصيحوا فعليكم بالصمت)( ).
ومن مصاديق النبوة عدم اقتفاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أثر المنسحبين وعدم مطاردة الفارين من المشركين , ثم لم يلبثوا أن يأتوا مسلمين , بخلاف السنة والعرف في القتال بأن المنسحب يرجع إلى فئة فيعاود الهجوم .
قانون آيات القتال تثبيت للسلم المجتمعي
هل للمعجزات في ميدان المعركة وآيات القرآن موضوعية في إسلام كثير من الناس ، الجواب نعم , ورد لفظ القتال ثمان مرات في القرآن , تتعلق خمسة منها بالمسلمين وهي :
الأولى : قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ] ( ).
الثانية : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ] ( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا]( ).
الرابعة : قوله تعالى [وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلاَ أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً]( ).
لبيان أن وظيفة النبوة هي الحث على الدفاع ، والصبر في مرضاة الله ، لذا ورد في آية أخرى [فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا]( ).
لبيان قانون وهو أن تحريض النبي صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين على القتال صارف له لما في هذا التحريض من زجر للمشركين عن التعدي والقتال ودلالة هذه الآية كدلالة قوله تعالى [تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
فهذه الآية من آيات الدفاع التي ينصرف بها القتال ، وهو من إعجاز القرآن.
و(عن أسامة بن زيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم : ألا هل مشمر للجنة ، فإن الجنة لا خطر لها ، هي ورب الكعبة نور تلألأ ، وريحانة تهتز ، وقصر مشيد ، ونهر مطرد ، وفاكهة كثيرة نضيجة ، وزوجة حسناء جميلة ، وحلل كثيرة في مقام أبداً ، في خير ونضرة ونعمة ، في دار عالية سليمة بهية . قالوا : يا رسول الله نحن المشمرون لها . قال : قولوا : إن شاء الله ، ثم ذكر الجهاد وحض عليه)( ).
ومع ورود لفظ (حرض المؤمنين) مرتين في القرآن كما في الآيتين أعلاه ، فانه لم يرد في القرآن لفظ (حرض الصحابة) أو (حرض المهاجرين والأنصار) لبيان نكتة وهي استدامة معاني التحريض لإرادة تثبيت السلم في الأرض.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي سنان في قوله {وحرض المؤمنين} قال : عظهم( ).
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تعاهده للسلم المجتمعي ، وإمتناعه عن قتال المشركين مع تحريض الصحابة له بل أرادوا الإذن منه على القتال فنهاهم ، ودعاهم إلى التحلي بالصبر .
إذ أن تلاوتهم لآيات القرآن وأداءهم الصلاة والفرائض العبادية الأخرى أمضى وأكثر نفعاً في هداية الناس من القتال .
و(عن ابن عباس : أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : يا نبي الله كنا في عز ونحن مشركون ، فلما آمنا صرنا أذلة .
فقال : إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم . فلما حوله الله إلى المدينة أمره الله بالقتال فكفوا . فأنزل الله [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ…]الآية( ))( ).
وقيل نزلت الآية بقوم من الأمم السابقة .
وعن الحسن البصري (أنها من صفة المؤمن لما طُبعَ عليه البشر من المخافة)( ).
وهو بعيد ، إذ أخبرت الآية عن صفة قوم ، وأمر قد وقع في الخارج.
و(عن عبادة بن الصامت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اضمنوا لي ستّاً من أنفسكم اضمن لكم الجنة :
اصُدقوا إذا حدّثتم،
وأوفوا إذا وعدتم،
وأدّوا ما ائتمنتم،
واحفظوا فروجكم،
وغضّوا أبصاركم،
وكفّوا أيديكم)( ).
لقد تضمنت آيات القتال الحض على الدفاع والصبر ، قال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ]( )، ويدل في مفهومه عن كف الأيدي عن الذين لم يقاتلوا المسلمين ، وقوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ).
ومن الوقائع طلب المشركين المبارزة في معركة بدر إذ تقدم عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة وطلبوا المبارزة بسؤال تحد (فَخَرَجَ إلَيْهِ فِتْيَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ثَلَاثَةٌ وَهُمْ عَوْفٌ وَمُعَوّذٌ ابْنَا الْحَارِثِ – وَأُمّهُمَا عَفْرَاءُ – وَرَجُلٌ آخَرُ يُقَالُ هُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، فَقَالُوا : مَنْ أَنْتُمْ ؟ فَقَالُوا : رَهْطٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، قَالُوا : مَا لَنَا بِكُمْ مِنْ حَاجَةٍ . ثُمّ نَادَى مُنَادِيهِمْ يَا مُحَمّدُ أَخْرِجْ إلَيْنَا أَكْفَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قُمْ يَا عُبَيْدَةُ بْنَ الْحَارِثِ ، وَقُمْ يَا حَمْزَةُ وَقُمْ يَا عَلِيّ.
فَلَمّا قَامُوا وَدَنَوْا مِنْهُمْ قَالُوا : مَنْ أَنْتُمْ ؟ قَالَ عُبَيْدَةُ عُبَيْدَةُ وَقَالَ حَمْزَةُ حَمْزَةُ وَقَالَ عَلِيّ : عَلِيّ ، قَالُوا : نَعَمْ أَكْفَاءٌ كِرَامٌ . فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ وَكَانَ أَسَنّ الْقَوْمِ عُتْبَةَ (بْنَ) رَبِيعَةَ ، وَبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ ، وَبَارَزَ عَلِيّ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ.
فَأَمّا حَمْزَةُ فَلَمْ يُمْهِلْ شَيْبَةَ أَنْ قَتَلَهُ وَأَمّا عَلِيّ فَلَمْ يُمْهِلْ الْوَلِيدَ أَنْ قَتَلَهُ وَاخْتَلَفَ عُبَيْدَةُ وَعُتْبَةُ بَيْنَهُمَا ضَرْبَتَيْنِ كِلَاهُمَا أَثْبَتَ صَاحِبَهُ وَكَرّ حَمْزَةُ وَعَلِيّ بِأَسْيَافِهِمَا عَلَى عُتْبَةَ فَذَفّفَا عَلَيْهِ وَاحْتَمَلَا صَاحِبَهُمَا فَحَازَاهُ إلَى أَصْحَابِهِ)( ).
وكرر المشركون ذات التحدي إذ طلب المبازرة أبو سعد بن أبي طلحة حامل لواء المشركين من الإمام علي عليه السلام إذ (هَلْ لَك يَا أَبَا الْقُصَمِ فِي الْبَرَازِ مِنْ حَاجَةٍ ؟ قَالَ نَعَمْ . فَبَرَزَ بَيْنَ الصّفّيْنِ فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَضَرَبَهُ عَلِيّ فَصَرَعَهُ ثُمّ انْصَرَفَ عَنْهُ وَلَمْ يَجْهَزْ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ أَفَلَا أَجْهَزْت عَلَيْهِ.
فَقَالَ إنّهُ اسْتَقْبَلَنِي بِعَوْرَتِهِ ، فَعَطَفَتْنِي عَنْهُ الرّحِمُ وَعَرَفْت أَنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ قَتَلَهُ . وَيُقَالُ إنّ أَبَا سَعْدِ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ خَرَجَ بَيْنَ الصّفّيْنِ فَنَادَى أَنَا قَاصِمُ مَنْ يُبَارِزُ بَرَازًا ، فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِ أَحَدٌ . فَقَالَ يَا أَصْحَابَ مُحَمّدٍ زَعَمْتُمْ أَنّ قَتَلَاكُمْ فِي الْجَنّةِ وَأَنّ قَتَلَانَا فِي النّارِ كَذَبْتُمْ وَاَللّاتِي لَوْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ حَقّا لَخَرَجَ إلَيّ بَعْضُكُمْ فَخَرَجَ إلَيْهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَضَرَبَهُ عَلِيّ فَقَتَلَهُ)( ).
وقد ورد لفظ القتال مرتين في آية واحدة بخصوص بني إسرائيل بعد رسالة موسى عليه السلام كما في قوله تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ] ( ).
مسائل [كُتِبَ عَلَيْكُمْ]
معنى كتب عليكم أي فرض ووجب عليكم , وفيه مسائل :
الأولى : لزوم التعاون للعمل بمضامين آيات كتب عليكم , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] ( ) .
الثانية : الآية إنحلالية وتقديرها بصيغة المفرد : يا أيها الذي آمن كتب عليك .
الثالثة : تشمل هذه الآيات النساء ، وتقدير الآية : يا ايتها التي آمنت) إلا ما خرج بالدليل من جهة اختصاص التكليف بالرجال دون النساء كما في قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ]( ).
الرابعة : وجوب تعاهد أحكام آيات كتب عليكم .
الخامسة : الجامع المشترك بين آيات كتب عليكم ومنها ما تكون بالعبادات كقوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ] ( ) ومنها ما تكون بالمعاملات كقوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ] ( ) ومنها ما تكون بالأحكام كما في قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) .
ولابد من علة لهذا التعدد والشمول , منه نفاذ سنن وأحكام الشريعة لأمور الفرد والمجتمع وحضورها اليومي في حياة المسلمين , وهو من مصاديق الإيمان , (ومن معاني (والله معكم اينما كنتم) .
أي بأحكام الشريعة , ووجوب التقيد بها طلباَ لمرضاة الله عز وجل .
السادسة : يمكن القول كل آية من آيات (كتب عليكم) دعوة للسلم وإشاعة الأمن والطمأنينة في النفوس , فهذه الآيات مجتمعة ومتفرقة من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومن آيات (كتب عليكم) ما يتعلق بعامة الناس المسلمين وغيرهم مثل آيات أحكام القصاص , وآيات المعاملات كما في قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ]( ).
ومن الإعجاز في المقام مجئ القصاص بخصوص المسلمين وغير المسلمين , إذ جاء بخصوص بني اسرائيل قوله تعالى [وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
لبيان وحدة الموضوع في أحكام التنزيل المتعاقب في تنقيح المناط , وأن أحكام القصاص عامة.
قراءة في آيات (كتب عليكم)
وقد وردت الإشارة إلى هذا العلم في الجزء الثامن والثلاثين بعد المائتين .
ويمكن قراءة الآيات التي ورد فيها لفظ (كتب عليكم) وفق القانون الخاص بهذا الجزء وهو (آيات السلم محكمة غير منسوخة) وهي :
الآية الأولى : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ).
والقصاص زاجر عن الإرهاب ومانع من سفك الدماء ، فمتى ما علم الإنسان أنه يؤخذ بجناية ، ويُقتل قصاصاً ، وهو الذي تبينه بجلاء الآية التالية بقوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) ، فانه يمتنع عن التعدي على الغير والقتل.
وتبين الآية أن حكم القصاص عام بين الناس ليس من فارق ومائز بينهم ، فيؤخذ الغني بالفقير ، ومن يقدم على الفعل الإرهابي يعلم أن حكمه القصاص ، وإن قُتل هو نفسه في ذات الفعل لأن هذا الحكم عقوبة ، وعنوان للسخط من عند الله عز وجل ، لأن الخطاب في الآية موجه إلى المسلمين للإقتصاص من القاتل .
ثم ندبت الآية إلى العفو [فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ]( ).
وتدل عقوبة القصاص على وجوه :
الأول : قتل الغير وسفك الدماء جناية .
الثاني : القتل من أشهر ضروب الظلم والتعدي , قال تعالى [إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ] ( ) .
الثالث : أمر الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأولي الأمر باستئصال القتل بالحكم بالقصاص .
الرابع : يبغض الله عز وجل سفك الدماء , مطلقاَ , إنما جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان واختبار وابتلاء .
وعن الإمام علي عليه السلام (عند الله تجتمع الخصوم) ( ) .
و(عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده ، وأوداجه تشخب دماً يقول : يا رب قتلني هذا حتى يدنيه من العرش قال : فذكروا لابن عباس التوبة ، فتلا هذه الآية {ومن يقتل مؤمناً متعمداً}( ) قال : ما نسخت هذه الآية ولا بدلت ، وأنى له التوبة)( ).
وهل قول ابن عباس هذا (وأنى له التوبة) للتغليظ , ومنع إغراء السائل بالقتل مع قصد التوبة , لأن الله عز وجل قيد غلق باب التوبة بخصوص الذي يموت على الشرك والضلالة بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ).
والجواب لم تحصر الآية أعلاه عدم التوبة عن خصوص الشرك, إنما تكون التوبة والمغفرة من عند الله عز وجل , لغير المشرك مرهونة بمشيئة وفضل الله عز وجل , والتنازع بين يدي الله عز وجل حق يوم القيامة , قال تعالى [ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ]( ) ولما نزلت هذه الآية (قَالَ الزُّبَيْرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُكَرَّرُ عَلَيْنَا الْخُصُومَةُ؟
قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ إِذًا لَشَدِيدٌ”.)( ).
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أول خصمين يوم القيامة جاران) ( ).
مما يدل على وقوع الحساب حتى على الخصومة الشخصية والإختلافات في الحقوق , لذا نزل القرآن بالوصية بالجار , وتأكيد لزوم العناية والإحسان له .
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم تأكيد حسن الجوار وظاهر الحديث أن الجارين لم يختصما على قتل أو جرح مما يدل على شدة قبح الظلم بالقتل وسفك الدماء .
وهل تدل آيات حسن الجوار على نشر لواء السلم المجتمعي وإرادة الأمن العام , الجواب نعم .
قال تعالى [وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا] ( ) .
ويدل قوله تعالى (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى) أي القريب بالنسب على استحقاقه العناية والإكرام من جهتين :
الأولى : القربى ، كما ورد في هذه الآية بقوله تعالى (وَبِذِي الْقُرْبَى) وقيل المراد القربى المكاني أي الجار الأقرب كما لو كانت داره ملاصقة لقاعدة الأقرب فالأقرب أو بابه مقابلة غير الذي تبعد داره ثلاثين أو أربعين داراَ من الجهات الأربعة .
وقول ثالث وهو إرادة الجار المسلم , والجار الجنب اليهودي والنصراني( ) .
والمختار هو الأول أي لذوي القربى إذا كان جاراَ وهل فيه ترغيب بالجوار بين ذوي القربى الجواب نعم , وفيه عون على أداء الفرائض وتأديب الأبناء وإصلاح النفوس والتعاون وقلة الخصومة واستقرار المجتمعات وهو من السلم والأمن العام.
و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من آذى جاره فقد آذاني،ومن آذاني فقد آذى الله،ومن حارب جاره فقد حاربني،ومن حاربني فقد حارب الله عزّ وجلّ) ( ) .
و(عن ابن عباس في قوله { والجار ذي القربى } يعني الذي بينك وبينه قرابة) ( ) .
الثانية : حق الجوار وما يترشح عنه في الشريعة من أسباب التراحم والتعاون والتكافل ، والتنزه عن التعدي ، ومن خصائص حق الجوار في الإسلام مطلقاً وشموله للمسلم وغير المسلم بعث الأمن بين الناس وهل حسن الجوار من مصاديق (آيات السلم غير منسوخة) الجواب نعم.
وقال النصارى بالعفو دون القصاص , مع أن حكم القصاص استئصال للقتل , فمتى ما أدرك الذي يريد قتل غيره أنه سيقتل بجناية , يتجنب القتل فصارت آية القصاص نجاة للاثنين .
ولم يرد لفظ (القصاص) في القرآن إلا في آيتين متجاورتين من سورة البقرة .
وهل يلزم من آية القصاص تنفيذه على نحو الحتم ، الجواب لا , فذات الحكم إنذار وتخويف من القتل وبيان لحق ولي الدم في القصاص , كما أن آيات العفو حاكمة في المقام ، قال تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( ).
من بين أربع آيات (كتب عليكم) الموجهة إلى المسلمين والمسلمات جاءت ثلاثة منها متقاربة من ست آيات من سورة البقرة وهي الآيات (178-183) في معجزة في نظم آيات القرآن وبيان الأحكام فيها , وتكرر فيها نداء الإيمان (يا أيها الذين آمنوا) مرتين.
وابتدأت بحكم القصاص ثم بيان الوصية ثم فريضة الصيام التي ابتدأت آيتها بنداء الإيمان (يا أيها الذين آمنوا) لبيان موضوعية الإيمان في التخفيف في التكاليف وآية البحث (ان ترك خيراَ) دعوة للسلم والأمن من قبل المورث والوارث .
الآية الثانية : قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ]( ) لبيان أن الموت أمر وجودي يحضر عند الذي حلّ أجله ، ومغادرته الحياة الدنيا وقد تقدم الكلام بخصوص هذه الآية في الجزء الواحد والثلاثين( )، كما وردت قراءة في هذه الآية بذات قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة) في الجزء السادس بعد المائتين( ).
وتدعو الآية إلى السلم وتدل على حرمة الإرهاب من جهات :
الأولى : المنع من قتل النفس بالتفجير ونحوه ، لما فيه من قصد إزهاق الروح ، بينما تخبر الآية أعلاه بمجئ الموت وليس سعي العبد إليه .
الثانية : النسبة بين الموت والقتل عموم وخصوص مطلق ، فالقتل أخص وأقل.
وقد ذكرت الآية أعلاه الموت مما يلزم المسلم إنتظار أجله ، وعدم إختيار قتل نفسه الذي هو محرم شرعاً ، وقبيح عقلاً وعرفاً .
الثالثة : اختتام الإنسان حياته في الدنيا ببر الوالدين وذوي القربى ، ولو كان والدا المحتضر قد فارقا الحياة قبله وهو الغالب فهل يصح أن يوصي بقضاء عبادات كالصلاة والصيام والصدقة نيابة عنهما ، المختار نعم ، وهو من عمومات بره لهما بعد وفاتهما.
ليلتفت الإنسان حين دنو أجله إلى الوالدين ولزوم الرفق بهما وهو ميت بالوصية لهما.
ليكون من باب الأولوية العناية بهما في حياته , وهذه العناية صارف عن القتال والإقتتال وسفك الدماء , وكم من إنسان اجتنب الخصومة رعاية وتعاهداَ للعناية بوالديه أو لتربية ابنائه , لبيان قانون في الشريعة الإسلامية وهو تنمية ملكة الإحسان والرفق في النفوس بما يصرف المسلمين والناس عن الظلم والتعدي .
وصحيح أن موضوع الآية يتعلق بالذي يترك مالاَ تمكن معه الوصية إلا أن مضامين الآية تشمل المسلمين والمسلمات جميعاَ لما فيها من تقوية صلة الرحم , وتأكيد وجوب بر الوالدين وعدم مفارقة الدنيا من دون رضاهما.
ولبيان أن المدار على ما يقدمه العبد لآخرته , وليس المدار على ترك المال قليلاَ كان أو كثيراَ .
ولا تصح الوصية فيما زاد على الثلث إلا أن يجيز الورثة وتجوز في الأقل من الثلث .
خاتمة آية الوصية
اختتمت آية البحث بقانون (حقاَ على المتقين) إذ ورد لفظ (حقاَ على) في القرآن ثلاث مرات في :
الأولى : آية البحث وهي الآية [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ] ( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ] ( ).
وهل تقدير خاتمة آية البحث : حقاَ على المتقين الذين يتركون خيراَ دون غيرهم , الجواب لا , لموضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وبيان الفقهاء والعلماء لأحكام الشريعة , وترغيب عامة المسلمين والمسلمات بالعمل بمضامينها , قال تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً] ( ) .
ترى لماذا قيدت الآية كتاب الوصية بحضور الموت ، فيه مسائل:
الأولى : بيان قانون الموت أمر وجودي , وله علامات ودلائل كمقدمة وإنذار.
ومن الإعجاز في المقام مجئ آيتين بعد آية البحث لتأكيد الوصية , والعمل بمضامينها واجتناب التبديل والتغيير فيها بقوله تعالى [فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ]( ).
وجاءت الآية عامة بخصوص الذين يبدلون الوصية , لتشمل :
الأول : الوارث المنفرد والمتعدد .
الثاني : الوصي والناظر .
الثالث : الحاكم .
الرابع : ذوو القربى .
الخامس : الشاهد الذي سمع الوصية من الموصي قبل موته .
السادس : الكاتب .
السابع : الأجنبي والفضولي .
ومن الإعجاز في المقام انتقال الآية التالية من صيغة المفرد إلى الجمع , قال تعالى [فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
وتبعث الآية على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وتدعو إلى السلم من جهة تعاهد حقوق الأموات ليكون حفظ حقوق الأحياء من باب الأولوية القطعية .
ولا يختص هذا الحفظ بالمسلمين بل يشمل الناس جميعاَ , وقد ورد أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قال (إن الناس مسلطون على أموالهم)( ).
والمراد من لفظ (الناس) العموم الإستغراقي بغض النظر عن الدين والمذهب.
الآية الثالثة : قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ). من أركان الشريعة الإسلامية الصيام ، وهو من فروع الدين , ومعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتكرر كل سنة بصوم أفراد أمته في مشارق ومغارب الأرض شهراَ كاملاَ عيّنه الله عز وجل من بين شهور السنة القمرية الاثني عشر , وهو شهر رمضان , الشهر الوحيد الذي ورد اسمه في القرآن , مع اقتران ذكره وأوانه بنزول القرآن بقوله تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
قانون الصلة بين الصيام وآيات السلم
وهل من صلة بين أداء المسلمين والمسلمات فريضة الصيام وبين السلم المجتمعي , أم هناك فصل بين العبادات والمعاملات أو بين الفرائض العبادية وبين السلم وكون حكم آيات السلم مستقلاً عن الفرائض موضوعاَ وحكماَ.
المختار هو الأول , فهناك صلة بين الصيام والسلم , وأن الله عز وجل جعل السلم وسيلة للعناية بفرائضه , ومنها الصيام , وهناك مسائل :
الأولى : الصلة بين آيات الصيام وآيات السلم .
الثانية : منافع آيات الصيام في تحقيق السلم .
الثالثة : الصلة بين أداء المسلمين فريضة الصيام وبين السلم ونشر الأمن العام .
أما المسألة الأولى فإن أيام الصيام دعوة للتفكر في الخلق ، وموضوعية الشريعة في حياة الإنسان اليومية , ولزوم الخشية من الله عز وجل في السر والعلانية لأن اتيان الصيام فريضة لا يعلم بها إلا الله عز وجل لتتحقق ساعات خلوة للمسلم يحافظ بها على الصيام ، والإمتناع عن الأكل والشرب وسائر المفطرات .
و(عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله جعل حسنة ابن آدم عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم ، والصوم لي وأنا أجزي به)( ) .
وفي التقيد بمضامين آيات الصيام إصلاح للذات ، وإنشغال عن القتال والحروب ومناسبة للإستغفار.
وأما المسألة الثانية فإن أيام الصيام تنشر الرحمة وتعمل على التراحم بين المسلمين , وبينهم وبين غيرهم من أهل الكتاب والناس جميعاَ .
فمن عمومات قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) بعث المودة في قلوب الناس للذي يقيم على طاعة الله عز وجل , ويؤدي الفرائض العبادية , قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( ).
ولم يرد لفظ (سَيَجْعَلُ لَهُمُ) في القرآن إلا في الآية أعلاه وورد لفظ (سَيَجْعَلُ) في القرآن مرتين , والمرة الثانية في قوله تعالى [لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا]( ).
لبيان إختصاص المؤمنين العابدين بمنزلة إجتماعية رفيعة بفضل ومدد من عند الله عز وجل ، وعهد منه تعالى لأن الآية تنسب الود له سبحانه .
وهل هذا الود من مصاديق تحقيق السلم في المجتمعات , الجواب نعم , لموضوعية ميل النفوس والرفق والرأفة في سيادة الأمن والسلم العام .
أما المسألة الثالثة فمن فضل الله عز وجل على المسلمين فرض الصلاة والصيام والزكاة والحج والخمس عليهم لسلامتهم بين الناس , وتحليهم بالأخلاق الحميدة بما يجلب لهم الأمن والمودة من عامة الناس , ويبعث على الطمأنينة منهم في المشرق والمغرب .
وتحّمل فريضة الصيام المسلم والمسلمة مسؤولية تعاهد السلم العالمي وإظهار السكينة والوقار , وعدم اللجوء إلى الغضب أو استحواذ النفس الشهوية على السلوك الفردي والجماعي .
وهل في فريضة الصيام تأديب للرؤساء والملوك في باب الحرب والسلم ومنع الإقتتال.
الجواب نعم , وهو من باب الأولوية القطعية بالمقارنة مع عامة الأفراد والجماعات , إذ يدرك الرؤساء ميل المسلمين إلى السكينة في رمضان , وإتخاذهم الإمساك عن الأكل والشرب , فيه إعراضاَ عن القتال .
ومن خصائص شهر رمضان أنه شهر الطاعة والدعاء والإستغفار لبعث النفرة في النفوس من القتل والقتال وسفك الدماء .
الآية الرابعة : قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
يتوجه الخطاب في الآية أعلاه للمسلمين , وهل يختص بعهد النبوة والصحابة ، الجواب لا ، فهو أعم موضوعاَ وحكماَ , ومعنى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ]( ) إفادة الفرض ووجوب الصيام من عند الله عز وجل , والفرض في هذه الآية بسبب إصرار المشركين على القتال , وقيامهم بالهجوم المتكرر على المدينة وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )، من سورة الأنفال وهي سورة مدنية ، والظاهر إخبار الآية عن وقائع في مكة قبل الهجرة وفيه مسائل :
الأولى : الآية تذكير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالنعمة العظمى في نجاته من مكر قريش وإرادتهم قتله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : بيان قانون إنعدام الفصل التام بين السور المكية والمدنية ، إذ تأتي الآية المكية للبشارة لما يقع في المدينة ، أو ما يجب على المهاجرين والأنصار فعله ، وتنزل الآية في المدينة لتذكر بوقائع في مكة وبيان فضل الله عز وجل على المسلمين قبل الهجرة ومثله قوله تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ]( )، فهذه الآية مدنية ، ولكن موضوعها في مكة ، بداية الهجرة.
الثالثة : لزوم الإنتفاع بعد الهجرة مما وقع للنبي وأهل البيت والصحابة في مكة .
الرابعة : تجدد موضوع نزول الآية المكية بعد الهجرة ، فلا يختص موضوع قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )، بالذكرى لما وقع قبل الهجرة ، فقد قام المشركون باشعال معركة بدر ، وغزو المدينة المنورة في معركة أحد ومعركة الخندق لتحقيق أحد الغايات التي ذكرت في هذه الآية وهي :
الأول : أسر أو سجن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : إخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بين أصحابه في المدينة .
و(عن أنس بن مالك قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأيام ، سئل عن يوم السبت فقال : هو يوم مكر وخديعة .
قالوا : وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال : فيه مكرت قريش في دار الندوة إذ قال الله وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ( ).
الرابع : بيان تألب وحنق قريش على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند مبايعة وفد الأوس والخزرج له ، وظهور أمارات بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم .
وعن (ابن عباس وغيره من المفسّرين أن قريشاً لمّا أسلمت الأنصار فرقوا أن تتفاقم أُمور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاجتمع نفر من مشايخهم وكبارهم في دار الندوة ليتشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانت روؤسائهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبا جهل وأبا سفيان وطعمة بن عدي والنضر بن الحرث وأبو البحتري بن هشام وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام وبنيه ومنبّه ابنا الحجاج وأُميّة بن خلف فاعترض لهم إبليس في صورة شيخ فلما رأوه قالوا : من أنت؟
قال : أنا شيخ من نجد سمعت اجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا من رأي ونصح.
قالوا : ادخل فدخل.
فقال أبو البحتري : أمّا أنا فأرى أن تأخذوه وتحبسوه في بيته وتشدوا وثاقه وتسدوا باب البيت فتتركوه وتقدموا إليه طعامه وشرابه وتتربصوا به ريب المنون حتّى يهلك فيه كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة، وإنّما هو كأحدهم.
فصرخ إبليس الشيخ النجدي وقال : بئس الرأي رأيتم تعمدون إلى الرجل وتحبسونه فيتم أجره ، وقد سمع به مَنْ حولكم ، (فأوشكوا أن يشبّوا فينتزعوه من أيديكم) ويقاتلونكم عنه حتّى يأخذوه منكم.
قالوا : صدق الشيخ. فقال هشام بن عمرو وهو من بني عامر بن لؤي : أمّا أنا فأرى أن تحملوه على بعير فيخرجوه من بين أظهركم فلا يضركم (ما ضر من) وقع إذا غاب عنكم واسترحم وكان أمره في غيركم.
فقال إبليس بئس الرأي رأيكم تعمدون الى رجل قد أفسد سفهاءكم فتخرجوا به الى غيركم يفسدهم كما أفسدكم، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقه لسانه وأخذ القلوب ما يسمع من حديثه.
والله لئن فعلتم، ثمّ استعرض العرب لتجتمعن عليه ثم ليأتين إليكم فيخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم.
قالوا : صدق والله الشيخ.
فقال أبو جهل : لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره : إني أرى أن نأخذ واحداً من كل بطن من قريش غلاماً وسبطاً ثمّ يعطى كل رجل منهم سيفاً صارماً ثمّ يضربونه ضربة رجل واحد فإذا قتلوه تفرق دمّه في القبائل كلّها، ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلّها وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل فتؤدّي قريش ديته واسترحنا.
فقال إبليس : صدق هذا الفتى و(هذا) أجودكم رأياً، القول ما قاله لا أرى غيره.
فتفرقوا على قول أبي جهل، وهم مجتمعون فأتى جبرئيل النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك وأمره أن لا يبيت على مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأذن الله تعالى له عند ذلك بالخروج الى المدينة وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّ بن أبي طالب فنام في مضجعه فقال : اتشح ببردي فإنّه لن يخلص إليك أمر تكرهه)( ).
الآية الخامسة : قوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )، هذه الآية من أكثر آيات القرآن دلالة على وجوب السعي إلى السلم والصلح والموادعة ، ودرء القتال ومقدماته.
ورد لفظ (السلم) ست مرات في القرآن , هذه الآية هي الوحيدة التي ورد فيها بكسر السين , البواقي بفتح السين , ومنها ما يتضمن معنى السلم والصلح أيضاَ كما في قوله تعالى [فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ]( ).
وتقدير الآية : ولا تدعوا إلى السلم والمسالمة والصلح مع المشركين وأنتم الأعلون , فموضوع الآية ليس مطلقاَ , إنما هو خاص بمحاربة المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وأخبرت الآية أعلاه عن لحوق الوهن والضعف بهم ، ولا تدل الآية على لزوم ترك المسلمين حياة الدعة وبدأ الحروب والإقتتال , إنما تتضمن حقيقة وهي أن المشركين لا ينفكون عن التعدي والهجوم , فلا تزيدهم الدعوة إلا الإقامة على الشرك.
ولما قال الله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ) تفضل ونهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن الدعوة إلى السلم مع المشركين المعتدين حال مواصلتهم التعدي والغزو.
لبيان قانون وهو تجلي بغض الله عز وجل للمشركين بأن أنعم الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وجعلهم الأعلى والأرجح كفة في الكثرة والعدة والسلاح في بضع سنين بعد معركة بدر التي كانوا فيها أذلة وقلة ، كما قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ثم حضّ الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بان لا يدعوا إلى السلم والمسالمة والمصالحة مع المشركين وعبدة الأوثان , وقد اخبر الله عز وجل عن عدم أهليتهم لولاية البيت الحرام , قال تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ) .
لتكون الآية أعلاه من سورة محمد بشارة فتح مكة وإزاحة الأوثان التي في البيت الحرام ، قال تعالى [وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا]( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم توجهه إلى قلوب الناس ، وذم أصل الميل إلى عبادة الأوثان ليدخل الناس في الإسلام وتنفر نفوس الرجال والنساء من الأوثان , فحتى الذي يبطئ دخوله في الإسلام يتجلى له قبح عبادة الأوثان والضلالة بنصبها في البيت الحرام .
وهل يصح تقدير الآية ادخلوا في السلم كافة بشرط عدم وجود عبادة الأصنام ، الجواب لا , لأصالة الإطلاق , وعدم ورود مثل هذا القيد .
إذ أن الآية أعلاه تخفيف عن المسلمين والناس جميعاَ , فمن خصائص السلم أنه تخفيف ورأفة من عند الله عز وجل , ومن بديع صنعه سبحانه أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون هم الأئمة في الدعوة إلى السلم من غير تعليق على قيد أو شرط , خاصة وأن هذه الآية تخفيف ورحمة ودعوة للمسلمين والناس للتدبر في المعجزات العقلية والحسية .
قانون قطع النسئ تشييد للسلم المجتمعي
لم يرد لفظ النسئ في القرآن إلا مرة واحدة بقوله تعالى [إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ]( )، لبيان أنه تعد على حدود الله ، وعلى الأحكام العامة للناس بتعيين الأشهر الحرم بقوله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ) والأشهر الحرم هي أربعة أشهر وهي :
الأول : شهر ذي القعدة .
الثاني : شهر ذي الحجة , وهو الشهر الأخير من السنة القمرية.
الثالث : شهر محرم وهو الشهر الأول من السنة القمرية , وهذه الأشهر متصلة .
الرابع : شهر رجب , وهو منفصل .
لقد جعل الله عز وجل للشهر الحرام قدسية خاصة ، وصار مناسبة لنبذ القتال , وأواناَ للصلح والوئام ووقف القتال , وفيه شواهد تأريخية كثيرة على مستوى الأفراد , والجماعات , والقبائل والشعوب , لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , من وجوه :
الأول : قانون موضوعية نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تثبيت الأشهر الحرم , خاصة وأن العرب بدأوا قبل بعثته بالتخلي عن التقيد بأداب وأحكام هذه الأشهر , فاتخذوا النسئ وإرجاء الأشهر الحرم عن أوانها لإرادة استمرار القتال والأخذ بالثأر , قال تعالى [إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
الثاني : الذين ابتدعوا النسئ أفراد قلائل لتعمل به العرب فنزل القرآن بتثبيت حكم الله عز وجل .
و(عن ابن عباس قال : كانت النسأة حياً من بني مالك من كنانة من بني تميم ، فكان أخراهم رجلاً يقال له القلمس وهو الذي أنسأ المحرم ، وكان ملكاً ، كان يحل عاماً ويحرمه عاماً ، فإذا حرمه كانت ثلاثة أشهر متوالية ، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وهي العدة التي حرم الله في عهد إبراهيم عليه السلام ، فإذا أحله دخل مكانه صفر في المحرم ليواطىء العدة يقول : قد أكملت الأربعة كما كانت لأني لم أحل شهراً إلا وقد حرمت مكانه شهراً.
فكانت على ذلك العرب من يدين للقلمس بملكه حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، فأكمل الحرم ثلاثة أشهر متوالية ورجب شهر مضر الذي بين جمادى وشعبان)( ).
الثالث : الإخبار الصريح والنص بأن النسئ كفر وجحود ، وهو حرام لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن تنزل بضع كلمات من آية قرآنية فينقطع التحريف في النظام الزماني الذي هو فرع الإرادة التكوينية.
و(عن قتادة في قوله { إنما النسيء زيادة في الكفر }( ) الآية .
قال : عمد أناس من أهل الضلالة فزادوا صفر في أشهر الحرم ، وكان يقوم قائلهم في الموسم فيقول : إن آلهتكم قد حرمت صفر فيحرمونه ذلك العام ، وكان يقال لهما الصفران ، وكان أول من نسأ النسىء بنو مالك من كنانة ، وكانوا ثلاثة ، أبو ثمامة صفوان بن أمية ، أحد بني تميم بن الحرث ، ثم أحد بني كنانة)( ).
الرابع : من إعجاز القرآن قانون منع تسلط الرؤساء والأمراء بالتصرف في أحكام الشرائع التكليفية والوضعية ، وفي التنزيل [وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ]( ).
وهل يمكن القول بإضافة شهر رمضان إلى الأشهر الحرم , الجواب لا , لتعيين هذه الأشهر من عند الله عز وجل وبينها وبين شهر رمضان في مقام نشر ألوية السلم عموم وخصوص من وجه , إذ تلتقي كلها بالقدسية ، والدعوة إلى السلم والأخاء وتزجر عن القتال وعن الغزو .
ومادة الإفتراق التكليف بالصوم في شهر رمضان ، قال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
بينما الأشهر الحرم ليس فيها صوم واجب ، إنما يحرم فيها القتال وسفك الدماء والغزو.
بين حرمة النسئ ووجوب الصيام
قد يتبادر إلى الذهن تعلق النسئ وحرمته بخصوص الأشهر الحرم لأنه إرجاء للشهر الحل للإستمرار بالقتل كما لو أعلنوا زيادة عشرة أيام في شهر شوال ليأخذ صاحب الثأر ثأره ، ويحقق الغزاة مبتغاهم ويتقاتل المتحاربون الذين يتوعد بعضهم بعضاً ، أي يأتي النسئ أحياناً بالتراضي لما فيه سفك الدماء.
وعند التدبر يتبين أن أضرار النسئ أعم من أن تنحصر بالأشهر الحرم فهي تشمل شهر رمضان وصيامه في أوانه ، ونزل قوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( )، مدداً وعوناً لإنهاء الإسلام النسئَ ، فلابد من تعاهد شهر الصيام.
لقد قطع الله عز وجل النسئ , ومنع من إتباع الأهواء في تعيين الأشهر الحرم ليكون مقدمة لمنع التبديل والتحريف في صيام شهر رمضان , ولاستدامة قدسيته وإجلاله بما فيه صرف النفوس والألسن عن القتال في أيامه ، وكأنه ملحق بالأشهر الحرم ، ولبيان أن مقدمات وأسباب السلم متعددة ولا تختص بموضوع وحكم واحد ، وأن أيام الحياة الدنيا وعاء للسلم والهداية والإيمان.
ومن الإعجاز في فريضة الصيام في شهر رمضان الدعوة إلى المناجاة بالسلم في أيامه وحتى قبل حلوله .
و(عن عبادة بن الصامت ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوما وحضر رمضان : أتاكم رمضان شهر بركة ، فيه خير يغشيكم الله (فيه) ، فتنزل الرحمة ، وتحط الخطايا ، ويستجاب فيه الدعاء ، فينظر الله إلى تنافسكم ، ويباهي بكم ملائكته ، فأروا الله من أنفسكم خيرا ، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل) ( ) .
وفي دعاء الإمام السجاد عليه السلام في وداع شهر رمضان .
(السلام عليك يا شهر الله الاكبر ، ويا عيد أوليائه
السلام عليك يا أكرم مصحوب من الاوقات ، ويا خير شهر في الايام والساعات ، السلام عليك من شهر قربت فيه الامال ، ونشرت فيه الاعمال .
السلام عليك من قرين جل قدره موجودا ، وأفجع فقده مفقودا ، ومرجو الم فراقه .
السلام عليك من أليف آنس مقبلا فسر ، وأوحش منقضيا فمض .
السلام عليك من مجاور رقت فيه القلوب ، وقلت فيه الذنوب.
السلام عليك من ناصر أعان على الشيطان ، وصاحب سهل سبل الاحسان .
السلام عليك ما أكثر عتقاء الله فيك ، وما أسعد من رعى حرمتك بك .
السلام عليك ما كان أمحاك للذنوب ، وأسترك لانواع العيوب.
السلام عليك ما كان أطولك على المجرمين ، وأهيبك في صدور المؤمنين .
السلام عليك من شهر لا تنافسه الايام .
السلام عليك من شهر هو من كل أمر سلام .
السلام عليك غير كريه المصاحبة ، ولا ذميم الملابسة .
السلام عليك كما وفدت علينا بالبركات وغسلت عنا دنس الخطيئات .
السلام عليك غير مودع برما ، ولا متروك صيامه سأما.
السلام عليك من مطلوب قبل وقته ، ومحزون عليه قبل فوته.
السلام عليك كم من سوء صرف بك عنا ، وكم من خير أفيض بك علينا.
السلام عليك وعلى ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
السلام عليك ما كان أحرصنا بالامس عليك ، وأشد شوقنا غدا إليك .
السلام عليك وعلى فضلك الذي حرمناه ، وعلى ماض من بركاتك سلبناه)( ).
قانون الصيام تجديد سنوي للسلام
من خصائص شهر رمضان وقف الإعلام الحربي وبرامج العنف وتهييج الناس وعزوفهم عنها إن وجدت وإن سعى بعضهم للفتنة فيه لا يجد إذناَ صاغية , لتكون فريصة الصيام في شهر رمضان من مصاديق مكر الله عز وجل في قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ) بتقريب أن الله عز وجل فرض الواجبات العبادية اليومية والشهرية والسنوية لعصمة عامة الناس من الإصغاء لطبول الحرب والفتنة الخاصة والعامة , ومن أجل اتخاذ شهر رمضان مناسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ]( )، في آية الصيام.
ومن ذخائر ومنافع الصيام واستدامته لثلاثين يوماَ معلومة من كل سنة نشر ثقافة العفو والتسامح , وميل النفوس إلى الرضا والتراضي مع الإختلاف في العرف والملة , فتطوى مسافات الخلاف بين الناس , وما يترشح عن الخصومة بينهم , لقانون شهر الصيام سلم أهلي طوعاَ وقهراَ , ومناسبة لمنع الحروب والإقتتال.
إذ تظهر بين الفينة والأخرى دعوة للتطرف أو العنف فيأتي شهر رمضان ومنسك الصيام عليها ليضعفها وينقص منها في كل سنة إلى ان تزول .
والشواهد التأريخية في المقام كثيرة إذ يبقى شهر رمضان وقانون ملازمة السلم للصيام متجدداَ في كل عام ، وهو ركيزة عقائدية وأخلاقية لبناء صرح الإيمان , وتثبيت قواعد السلم والأمن طيلة أيام السنة , وفي شهر رمضان دعوة للمنظمات العلمية للتحقيق والإستقراء, وتذويب أو تصغير أسباب الخصومة والإقتتال , ولا تنحصر استجابة المسلمين في المقام , لما يحدث فيما بينهم , إنما يستجيبون بالأحسن لما يقع بينهم وبين أهل الملل المتعددة , وهو من أسرار ذكر فرض الصيام على الأمم الأخرى لقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ) ليكون الصيام سور الموجبة الكلية الذي تتغشى منافعه الناس جميعاً .
ومن رشحات الصيام بعثه الرسائل إلى قلوب عامة الناس بالسلام في ظل لواء التوحيد , ومن يتخلف عن ظلال وأنوار هذا اللواء تبقى الصلاة والصيام والفرائض العبادية الأخرى تخاطبه وتدعوه كل يوم للجوء إليه والصدور عنه.
ليكون من وظائف الفرائض العبادية التذكير بلزوم السلم وتعاهد الأمن المجتمعي وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وتتجلى أحكام التوحيد بالقرآن والسنة وكل منهما يدعو إلى السلم , ويمنع من الإقتتال وسفك الدماء.
ومن خصائص السنة النبوية تأكيدها لأحكام آيات السلم , ومنعها من الظلم والتعدي .
ومن منافع الصيام تنمية ملكة ضبط النفس وعصمتها من الإنقياد إلى الشهوات ومن استيلاء الرغائب واللذات على النفس في خياراتها , ومن أسباب القتال الشهوة والنفس الغضبية , ففرض الله عز وجل الصيام على الأولين والآخرين لقهرها , وحبس النفس عن الهوى والغضب .
ومن معاني (كتب عليكم الصيام) إرادة نزول الرحمة وشآبيب السلام على المسلمين وعامة الناس بالصيام .
و(عن عرفجة قال : كنا عند عتبة بن فرقد وهو يحدثنا عن رمضان ، إذ دخل رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسكت عتبة بن فرقد قال : يا أبا عبد الله حدثنا عن رمضان كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيه؟
قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : رمضان شهر مبارك تفتح فيه أبواب الجنة ، وتغلق فيه أبواب السعير ، وتصفد فيه الشياطين ، وينادي مناد كل ليلة : يا باغي الخير هلم ، ويا باغي الشر أقصر ، حتى ينقضي رمضان)( ).
قانون الصيام سلم متجدد كل عام
حينما تساءلت الملائكة عن جعل الله عز وجل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، للتضاد بين هذه الخلافة وبين فساد الإنسان في الأرض وهي ملك طلق لله عز وجل ، وتعديه المفرط ومن أشهره القتل بغير حق ، أجابهم الله عز وجل بكلمتين [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فخروا ساجدين لله عز وجل ، وصاروا يتطلعون لمصاديق علم الله التي لم يعلموا بها بالأفعال الإيمانية لبني آدم وتدرك الملائكة أن هذه المصاديق من اللامتناهي ، ومنها بخصوص الصيام وحده مسائل :
الأولى : صيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شهر رمضان من كل سنة من حين نزول الفريضة في السنة الثانية للهجرة النبوية الشريفة.
فمع عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله فهو يمتثل للأوامر الإلهية ، وهو الإمام في أداء الفرائض على الوجه الأتم والأكمل ، وهل أغاظ امتثال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأوامر الإلهية المشركين ، الجواب نعم ، لأنهم أدركوا تثبيت أحكام الشريعة بتأسي واقتداء المسلمين والمسلمات بسنته ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
الثانية : الصيام دعوة عبادية للجوانح والأركان بالإنقطاع إلى الله عز وجل ، ليترشح عنه إختيار السلم طوعاً وإنطباقاً .
الثالثة : في الصيام ذكر قولي وعملي لله عز وجل ، وإصلاح للسلوك ، وترغيب بالإيمان ، وتحمل للجوع والعطش طاعة لله عز وجل ، مما يملي على الناس إكرام المؤمنين في عباداتهم.
الرابعة : قانون صيام المسلمين والمسلمات كل سنة شهراً كاملاً إعلان جوارحي عام لصبغة السلم التي عليها الإسلام.
الخامسة : من معاني السلم في فريضة الصيام دعوة عملية للأركان والجوارح بالإمتناع عن الغزو والهجوم , وشهر رمضان ليس من الأشهر الحرم .
وقد قيّد أداء الصيام بميقات معين وهو إطلالة الهلال ، وهو من إعجاز القرآن في ضبط الأحكام التكليفية كماً وكيفاً وزماناً.
فلو جرى النسئ بزيادة شهر شوال لظهر في شهر رمضان التالي وكذا لو جرت الزيادة أو النقيصة في شهر رجب ، وقد أراد الله عز وجل لأحكام الشريعة الإسلامية الإستدامة بذات الكيفية والسنخية ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وبلحاظ قانون هذا الجزء (آيات السلم محكمة غير منسوخة) تحتمل آيات الصيام وجوهاً :
الأول : إنها من آيات الأحكام ولا صلة لها بالسلم أو عدمه.
الثاني : بعض آيات الصيام من السلم .
الثالث : آيات الصيام مقدمة للسلم ، ودعوة إليه .
الرابع : آيات الصيام من آيات السلم وبعث الأمن العام في المجتمعات .
الخامس : قانون آيات الصيام من رشحات آيات الموادعة والتراحم العام .
فمع السلم وشيوع الأمن يؤدي المسلمون والمسلمات الصيام بأمان وهو من مصاديق قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ).
وباستثناء الوجه الأول والثاني أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها صحيحة ، ومن مصاديقه بخصوص ليلة القدر [سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ]( )، وخفاء ليلة القدر بين الليالي العشرة الأخيرة من شهر رمضان للإجتهاد بالعبادة والسعي في أفراد السلم مدتها ، وهو من سعة رحمة الله والتداخل الموضوعي بين آيات القرآن ، وعمومات [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
رحلة بين الصلاة والصيام
بينما وردت فريضة الصلاة والزكاة في القرآن بصيغة الأمر المركب الإنشائي , جاءت فريضة الصيام بصيغة الخبر [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ]( ) نعم ورد الأمر في ثنايا آيات الفريضة , ومنه [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ) [وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ]( ) [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ]( ).
لبيان أن الصيام واجب وليس أمراَ مستحباَ .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار المعجزات لقانون من الإرادة التكوينية وهو تجدد الإعجاز في كل فرد من الخلائق وعالم الأكوان ، وليكون من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، عندما تساءلوا عن أسرار خلافة الإنسان في الأرض مع أنه [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) كثرة المعجزات بين الناس والتي تتجدد كل يوم وكل سنة بمعجزة أُم وأصل وهي بعثة الأنبياء والمرسلين ، ونزول الكتب السماوية من عند الله عز وجل ، فصاحبت الصلاة هبوط آدم وحواء الأرض ، ليكون أداء كل فرض معجزة في خلق الإنسان بلحاظ أنه مخير وليس مجبوراً.
وتفضل الله عز وجل ببعث الأنبياء والمرسلين بالبشارة والإنذار والصلاة والصيام وأحكام الشريعة الأخرى وهل يمكن الإستدلال بفرض الصلاة على الأنبياء السابقين واتباعهم من باب الأولوية القطعية لقوله تعالى في الصيام [كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )، الجواب نعم.
وقد تضمنت آيات القرآن الإخبار عن فرض الصلاة على الأنبياء السابقين والصالحين ، وفي القرآن ورد قوله تعالى [يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
ومن معاني قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، منع الله عز وجل الناس من تحريف وتبديل الصلاة ، ونفاذ مفاهيم الرياء والشرك لها ، وعندما حرّف المشركون الصلاة المتوارثة عن إبراهيم عليه السلام والأنبياء السابقين كما في قوله تعالى [وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ]( ) تفضل الله عز وجل وبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة وأدائها ، ولزوم اتقانها من جهات :
الأولى : شروط وجوب الصلاة من الإسلام ، والعقل .
الثانية : مقدمات الصلاة الذاتية كطهارة البدن ، وستر العورة والطهارة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الثالثة : مقدمات الصلاة الخارجية كطهارة المكان وعدم كونه مغصوباً ودخول الوقت.
الرابعة : المقدمات الكونية بدخول وقت الفريضة ، قال تعالى [َقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
الخامسة : تعاهد أركان الصلاة من النية ، وتكبيرة الإحرام والركوع والإعتدال في بالقيام من الركوع والسجود.
وعدّ الحنفية والمالكية والحنابلة النية شرطاً في الصلاة وليس ركناً .
(وعن عمر بن الخطاب قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه)( ).
وقال الحنفية أن تكبيرة الإحرام شرط وليس ركناً.
السادسة : الترتيب والموالاة ، وهناك واجبات عديدة للصلاة .
وكما أن للفريضة العبادية أركاناً فان ذات الفريضة ركن في بناء الإسلام ، وفي تحقيق وتثبيت السلم في المجتمعات وبين القبائل أنذاك وبين الدول والأمم في هذا الزمان ، وهو من علل الشرائع وفرض الصلاة والصيام على الملل والشرائع من أيام آدم عليه السلام.
قانون تبدل الأحوال
من مصاديق قوله تعالى وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، منع الله عز وجل سيادة واستدامة الظلم في الأرض.
ليكون من معاني قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( ).
وصحيح أن الآية تخبر عن كون الدنيا دولاَ بين الناس مرة لهؤلاء وأخرى لهؤلاء , ولكنه لا يعني استمرار تعاقب الدول بين المؤمنين والكافرين إلى ما لا نهاية , ولا تكون المداولة بالمناصفة , إنما يكون الرجحان للإيمان ودولته وأحكامه للمدد والعون من عند الله عز وجل .
ليكون من معاني تقدير آية البحث : كتب عليكم القتال لتكون وتستقر الدولة لكم) فلا يترك المشركون ولاية البيت الحرام ، ولا يتخلوا عن السلطان وإغواء الناس إلا بمدافعتهم بالسيف ، وفي التنزيل [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
ثم أن مداولة الإيمان أعم من أن تنحصر بالدول وان كان نزولها في سياق آيات معركة أحد وما لحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الخسارة إنما تشمل كلاَ من :
الأول : التداول بين الأشخاص .
الثاني : التعاقب بين الأجيال .
الثالث : الأمم والقبائل في ذاتها وفي سكناها .
الرابع : تعاقب الملوك والحكام والسلاطين على ذات النهج والأبناء أو على خلافه والضد منه .
وهل تشمل الآية آدم عليه السلام وحواء , ويكون تقديرها , تلك الأيام نداولها بين الناس من حين هبوط آدم وحواء إلى الأرض الجواب نعم .
السادس : تلك الأيام نداولها بين الأنبياء وأتباعهم , فلابد من أمة تعبد الله عز وجل في كل زمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
السابع : تداول الأيام لذات الشخص الواحد بين السراء والضراء ، والسعادة والحزن والعافية والسقم.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الدهر يومان: يوم لك، ويوم عليك، فان كان لك فلا تبطر، وإن كان عليك فاصبر، فكلاهما عنك سينحسر)( ).
ويمكن تسمية (التداول الإيماني) بمعزل عن مجتمع المشركين .
ومن مصاديق ملك الله عز وجل للأرض حصانة سنخية وماهية الإيمان وتوارث الناس له ، ومن معاني التداول في المقام وجود أمم وأجيال من المؤمنين لا يقع لهم قتال مع المشركين.
لذا فمن معاني آية البحث (كتب عليكم القتال) دون طوائف عديدة من المؤمنين ، ويدل عليه قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
أي أن طائفة من الأنبياء قاتلوا ، وليس من ملازمة بين النبوة والقتال ، فمن الرسل من لم يقاتل وهم كثير مثل صالح وشعيب وإبراهيم وعيسى عليه السلام ، وفي لوط عليه السلام ورد قوله تعالى [إِنِّي مهاجر إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
و(عن ابن عباس في قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ]الآية ، قال : هم قوم قتل نبيهم ، فلم يضعفوا ولم يستكينوا لقتل نبيهم)( ).
و(عن سعيد بن جبير أنه كان يقول : ما سمعنا قط أن نبياً قتل في القتال)( ).
وعلى فرض صحة السند في الحديثين فكأن سعيد بن جبير يبين قول مولاه ابن عباس بأن قتل النبي غيلة وظلماً وليس في ميدان قتال.
قانون دلالة آيات القتال على الدفاع
من خصائص الحياة الدنيا في الأرض أنها دار الرحمة الإلهية ، وكذا كل كوكب وجرم في عالم الأكوان من السموات والأرض ، وهو من مصاديق احتجاج الملائكة عندما أخبرهم الله عز وجل عن جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، لعلمهم بأن الأرض ملك لله عز وجل ، وما كان في ملك الله تتغشاه رحمته تعالى ، فكيف تقوم طائفة من الناس بالإفساد في الأرض وسفك الدماء فاجابهم الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ومن علم الله في المقام أمور :
الأول : كتابة وفرض القتال على المؤمنين دفاعاً ليكون فيه الثواب العظيم ، وإزاحة لمفاهيم الكفر والضلالة.
الثاني : قانون ترشح المعجزات الحسية عن المعجزة العقلية وهي الآية القرآنية لدخول الناس في الإسلام بالتدبر بهذه المعجزات مجتمعة ومتفرقة .
الثالث : قانون انحسار الشرك ، ويكف المشركون عن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه .
الرابع : قانون دخول الناس في الإسلام أفواجاً بما فيهم رؤساء الشرك ، ليكون من معاني قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( )، كتب عليكم القتال لينقطع القتال ويسود السلام والسلم المجتمعي .
لقد ورد لفظ (كتب عليكم القتال) على بني اسرائيل ايضاً وبصيغة الماضي ، وبالتقييد بأنه بعد أيام الرسول موسى بن عمران بمدة كما في قوله تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ]( ).
وهل هو غزو أم دفاع , الجواب إنه دفاع أيضاَ إذ أخرجهم جالوت وقومه من العمالقة من ديارهم , وقال تعالى [فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ] ( ) أي فرض عليهم الدفاع , ومدافعة العمالقة.
فهذا الفرض ليس عبادياَ مستديماً إنما هو حال ضرورة ، وقد نزل بخصوص المسلمين وذم المنافقين قوله تعالى أعلاه من سورة النساء , إذ كانوا يظهرون التردد في الدفاع لخوفهم من المشركين , وإظهارهم الجبن , ولإيقاع الوهن في قلوب الصحابة , وخذلانهم في الدفاع ، وفي التنزيل [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
وهل يدل قوله تعالى [لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ]( )، على أن الله عز وجل هو الذي فرضه , الجواب نعم , فرض الله عز وجل الدفاع عند هجوم المشركين ، والخشية منه ، وظهور مقدماته ، وتوالي الأخبار عنه كما في خروج النبي في كتيبة بني المصطلق لتفريقهم بعد أن (بعث بريدة بن الحصيب الاسلمي يعلم علم ذلك فأتاهم ولقى الحرث بن أبى ضرار وكلمه ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرهم)( ).
بأنهم يعدون العدة للهجوم على المدينة ، وكان نتيجة كتيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه والتي تسمى غزوة بني المصطلق أن تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم جويرية بنت زعيمهم الحارث بن أبي ضرار ، لترد لهم أموالهم التي أخذت منهم ويصبحوا أخوال المؤمنين ، قال تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( ).
وتستعمل الكتابة في الفرض , وحتمية الوقوع من باب المجاز , لقد سأل المنافقون والمترفون الله عز وجل صرف القتال للبقاء في الحياة الدنيا , ويحب الله عز وجل لعباده هذه الحياة والمؤمنون أحق بها من غيرهم ولكن المشركين يصرون على الجحود والقتال.
كما ورد لفظ قتال مكرراً في قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
وفي الآية دلالة على أن المشركين هم الذين يهاجمون ويقومون بالغزو والتعدي لقوله تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ]( ) لإرادتهم إرتداد المسلمين أو القيام بقتلهم أو أسرهم.
مما يدل على وجوب الجهاد دفاعاً عن العقيدة والنفوس.
ومن معاني الآية الحاجة لإستئصال الشرك من الجزيرة لأن المشركين اختاروا صراع الإستئصال والإبادة العامة , والتناقض بين الطرفين.
فلم يتركوا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الخيار فأما البقاء على الإيمان وأما القتل , مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يطلب قتل المشركين ولم يسع لإبادتهم .
وكان يرجو دخولهم الإسلام بتوالي المعجزات وميل القلوب إلى الإيمان دفعة أو تدريجياَ وهو الذي حصل بفضل ولطف من الله عز وجل , إذ كان عدد الذين دخلوا الإسلام في مدة سنتين بين صلح الحديبية وفتح مكة أكثر من الذين دخلوها في سنوات الدعوة الإسلامية كلها .
قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ) .
(ولا يدل قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ]( ) على العموم وأنه فرض عين على كل مسلم وفي كل زمان إنما يتوجه الخطاب للصحابة والمسلمين الذين يضطرون للدفاع ، فقد يسقط عن طائفة أو جيل أو أجيال لعدم وجود المقتضي ولوجود المانع، فقد داهم الذين كفروا المدينة المنورة، وارادوا قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل من معركة بدر وأحد والخندق، وليس بينها فترة زمانية طويلة)( ).
لقد ذكر القرآن إلتقاء المسلمين والمشركين للقتال بآيات متعددة , منها ورود قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، ثلاث مرات تتعلق واحدة بمعركة بدر وهي الآية الواحدة والأربعون من سورة الأنفال .
وتتعلق الأخريان بمعركة أحد , وهما الآية 155 , والآية 166 من سورة آل عمران , وهذا اللقاء نوع مفاعلة وفيه أطراف :
الطرف الأول : المشركون وهم الغزاة الذين يصرون على القتال .
الطرف الثاني : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهم في حال دفاع واضطرار .
الطرف الثالث : موضوع اللقاء وهو القتال , ولمعان السيوف .
قانون الإستجابة معجزة
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الإستجابة له سبحانه , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) .
فمن مصاديق العبادة لله عز وجل الإستجابة لأوامره ، وما جاء به الأنبياء والرسل من عند الله سبحانه للناس , ولابد في كل زمان من أمة تظهر الإمتثال والإستجابة لله عز وجل في عالم الأقوال والأفعال وتتقيد بالسنن .
وحينما بعث الله عز وجل النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم نزل القرآن بوجوب هذه الإستجابة بآيات منها [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] ( ) .
وجاءت الإستجابة لله عز وجل في الآية أعلاه مطلقة , أما الإستجابة للرسول فهي مقيدة بدعوة الرسول للمسلمين لها .
والمراد من (لِمَا يُحْيِيكُمْ) الحياة في الدنيا بالتقوى والصلاح قال تعالى [أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( ) .
وأما في الآخرة فهو اللبث الدائم في الجنة , والإقامة في النعيم الأبدي , قال تعالى [وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]( ) .
و(مرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أُبي بن كعب وهو قائم يصلّي فصاح له فقال : تعال إلي ، فعجل أُبي في صلاته ثمّ جاء الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ما منعك يا أُبي أن تُجيبني إذا دعوتك؟
أليس الله يقول يا ايُّها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يُحييكم.
قال : لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلاّ أجبتك وإن كنت مصلياً.
قال : تحب أن أُعلمّك سورة لم تنزل في التوارة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها.
قال أُبي : نعم يا رسول الله.
قال : لا تخرج من باب المسجد حتّى تعلمها والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يمشي يريد أن يخرج من المسجد فلما بلغ الباب ليخرج قال له أُبي : يا رسول الله،
فوقف فقال : نعم كيف تقرأ في صلاتك فقرأ أُبي أُمّ القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : والذي نفسي بيده ما أُنزلت في التوارة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن (مثلها) وإنّها لهي السبع المثاني التي أتاني الله عزّ وجلّ) ( ) .
ومثله ورد في حديث أبي سعيد بن المعلى بدعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، له وفي الإستجابة لله عز وجل والرسول حياة للقلوب والأبدان .
وتدل آيات الإستجابة ووجوبها وثوابها على خسارة الذين لم يستجيبوا لدعوة الرسول , وهو الذي يدل عليه مفهوم (لِمَا يُحْيِيكُمْ) لبيان إنحصار نعمة الحياة في النشأتين يالإمتثال للأوامر الإلهية والتصديق بالنبوة , لقانون لا يدعو الأنبياء إلا لكل خير , ولا ينهون إلا عن كل شر .
ترى ما هي النسبة بين الإستجابة والإتباع كما في قوله تعالى [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ] ( ) .
المختار ان الإستجابة أعم لأنها لله عز وجل والرسول , أما الإتباع فهو خاص بالنبي فلا يصح القول باتباع الناس لله عز وجل , والله عز وجل منزه عن الحركة والأثر , والإتباع للنبي فرع الإستجابة لله عز وجل والرسول .
وجاء قول الله عز وجل [اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ] ( ) بصيغة الإطلاق من جهات :
الأولى : موضوع الإستجابة .
الثانية : تمام الإستجابة والإمتثال .
الثالثة : عموم المسلمين والمسلمات إلا ما خرج بالدليل , وحتى هذا الخروج قد يكون مؤقتاَ مثل إفطار المسافر , وصيامه فيما بعد , والمريض بعد شفائه .
الرابعة : إرادة عموم الخطاب والأمر للناس بالإستجابة , قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ) .
الخامسة : الإتحاد أو التكرار في الإستجابة بحسب ماهية الأمر والحال والمال .
وأيهما أكثر الإستجابة المتحدة أم المتعددة في الأوامر الإلهية , الجواب هو الثاني , فذات المسلم يستجيب كل مرة ، ومنه أداء الصلاة خمس مرات في اليوم .
وصيام الأمة شهراَ كاملاَ في كل سنة , قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ) ويتجدد هلال شهر رمضان مرة كل اثني عشر شهراَ.
وكذا بالنسبة للحج والزكاة والخمس كل سنة إلى جانب تكرار تلاوة القرآن والذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , قال تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ .
وقد تقدم مبحث المرة والتكرار وفق علم الأصول .
وبخصوص خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد وهو موضع يبعد عن المسجد النبوي (12) كم نزل قوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ).
وهل تدل صيغة الفعل الماضي (استجاب) أعلاه على إرادة المرة الواحدة في الإستجابة ، الجواب لا , إلا مع القرينة مثل قوله تعالى [مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ]( ) أي الجراحات البليغة يوم معركة أحد , وليس من مدة مديدة بين هذه الإصابة وبين الخروج إلى حمراء الأسد كي تلتئم الجراحات , إنما كان أقل من يوم وليلة .
وورد عن عكرمة ما هو خلاف المشهور إذ قال بنزول الآية أعلاه بخصوص موعدة أبي سفيان وتهديده , (قَالَ عِكْرِمَةُ: “ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ الصُّغْرَى، وَبِهِمُ الْكُلُومُ، خَرَجُوا لِمَوْعِدِ أَبِي سُفْيَانَ فَمَرَّ بِهِمْ أَعْرَابِيٌّ .
ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ وَهُوَ يَقُولُ: ونفرت ناقتي محمد من رفقتي وعجوة منثورة كالعنجد، فَتَلَقَّاهُ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: وَيْلَكَ مَا تَقُولُ .
فَقَالَ : مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ تَرَكْتُهُمْ بِبَدْرٍ الصُّغْرَى، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَقُولُونَ وَيُصْدُقُونَ، وَنَقُولُ وَلا نُصْدُقُ، وَأَصَابَتْ( ) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ شَيْئاً مِنَ الأَعْرَابِ وَانْقَلَبُوا، قَالَ عِكْرِمَةُ: فَفِيهِمْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ]( ) إِلَى قَوْلِهِ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ ( ).
وعن عائشة أن الآية نزلت بخصوص حمراء الأسد إذ قالت : (لمّا أصاب نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أصابه يوم أحد، وانصرف عنه المشركون، خاف أن يرجعوا فقال : مَنْ يَرْجِعُ فِي إثْرِهِمْ ، فانتدبَ منهم سبعون رجلا فيهم أبو بكر والزبير) ( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم استجابة الصحابه له بالإمتناع عن الغزو حتى في حال القوة والمنعة وزيادة عددهم , وكانوا يمرون في السرايا على قرى وأنعام للمشركين فلا يتعرضون إليها .
وهو من أسباب ميل الناس للإسلام , والتدبر في إعجاز آيات القرآن .
قانون سرعة خفوت النفاق في الحديبية
تتعدد مصاديق وأفراد المدد من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : حال ملاقاة المشركين .
الثانية : صرف أذى الكفار .
الثالثة : فضح المنافقين .
وليس من حصر لوجوه هذا الفضح ، ومن أظهر مصاديقه آيات القرآن التي هي مدرسة وموعظة للأجيال المتعاقبة إلى يوم القيامة فلا ينحصر ذم وفضح النفاق بأيام الرسالة خاصة وأن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم موجود ويتلقى الوحي وتبعه الصحابة ليغادر إلى الرفيق الأعلى وتبقى آيات القرآن تشن الهجوم تلو الهجوم على المنافقين ، وتمعهم من الصدارة في إتخاذ القرار العام.
ومن الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن المنافقين يصاحبونه في كتائبه ، ويؤذونه والصحابة حتى ساعة تجلي المعجزة الحسية ، وهناك شواهد عديدة إذ ورد عن (ناجية بن الاعجم يقول دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين شكي إليه قلة الماء فأخرج سهما من كنانته فدفعه إلي ودعا بدلو من ماء البئر فتوضأ ثم مضمض فاه ثم مج في الدلو ثم قال انزل بالدلو فصبها في البئر وانزح ماءها بالسهم ففعلت.
فوالذي بعثه بالحق ما كدت أخرج حتى يغمرني ففارت كما يفور القدر حتى طمت واستوى بشفيرها يغترفون من جانبيها حتى نهلوا من آخرهم.
وعلى الماء يومئذ نفر من المنافقين ينظرون إلى الماء والذي يجيش بالرواء فقال أوس بن خولي لعبد الله بن أبي ويحك يا ابا الحباب أما آن لك ان تبصر ما انت عليه ابعد هذا شيء وردنا بئرا نتبرض ماءها تبرضا لم يخرج في القعب جرعة ماء فتوضأ( ) في الدلو ومضمض فيه ثم أفرغه فيها فحثحثها وجاشت بالرواء .
فقال ابن أبي قد رأينا مثل هذا .
فقال أوس قبحك الله وقبح رأيك .
وأقبل ابن أبي يريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أين ما رأيت اليوم قال ما رأيت مثله قط قال فلم قلت ما قلت استغفر الله فقال ابنه( ): يا رسول الله استغفر له فاستغفر له)( ). وابنه هو عبد الله بن أبي بن سلول.
وقيل الذي نزل بالدلو ناجية بن جندب الأسلمي وهو صاحب بدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
(وقيل : إن الذي نزل بريدة بن الحصيب وقيل البراء بن عازب ويحتمل التعدد)( ).
وناجية بن الأعجم الأسلمي ذكره ابن سعد في الصحابة وقال : لا عقب له .
وأخرج الواقدي عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه: حدثني أربعة عشر رجلاً من أسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ناجية بن الأعجم هو الذي نزل في القليب القليل الماء يوم الحديبية بسهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطاه إياه من كنانته وأمره أن يغور الماء بسهمه( ).
وذكره ابن أبي حاتم عن أبيه : قال : لا أعرفه ، وقال ابن شاهين : مات بالمدينة آخر أيام معاوية .
ويدل التعدد والإختلاف في شخص الذي نزل البئر على صحة أصل الخبر.
وقال (عن عبد الله بن عبد الله بن أبي أنه أصيبت ثنيته يوم أحد فأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتخذ ثنية من ذهب)( ).
لبيان أنه لم يرجع مع أبيه وثلاثمائة من المنافقين من وسط الطريق في معركة أحد ، إنما قاتل مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واصيب بالجراح.
وقال ابن حبان بأن الحديث موضوع (وكيف يأمر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم باتخاذ الثنية من الذهب وقد قال أن الذهب والحرير محرمان على ذكور أمتي)( ).
ولكن القدر المتيقن من الحرمة اتخاذ الذهب والحرير زينة وليس للعلاج ودرء أثر جراحه ، ومنه جواز لبس الحرير في ميدان الدفاع للظهور أمام المشركين بالعز وترغيبهم بالإسلام ، ولم تلبث النعم أن توالت على المسلمين وحررنا المسألة في باب الفقه .
وعندما رآى أبو قتادة الجد بن قيس ماداً رجليه على شفير البئر في الماء ذكّره بقوله قبل ساعة (مَا كَانَ خُرُوجُنَا إلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ بِشَيْءٍ نَمُوتُ مِنْ الْعَطَشِ عَنْ آخِرِنَا)( ).
قال : إنما كنت امزح معك ، ثم سأله (لَا تَذْكُرْ لِمُحَمّدٍ مِمّا قُلْت شَيْئًا)( ).
أي أنه لم يقل له لا تذكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاءه الرد سريعاً من أبي قتادة بأنه سبق وأن ذكر كلام الجد لرسول الله.
فغضب الجد وقال (بقينا مع صبيان قومنا من قومنا لايعرفون لنا شرفاً ولا سناً) أراد بأن ما يقوله يحب أن يستمع وينصت له ، وأن يكون خاصاً بينهم.
ثم قال الجد : لبطن الأرض اليوم خير من ظهرها).
لبيان عدم إنحصار أذى المنافقين داخل المدينة ، فهو لا ينقطع حتى في الكتائب ، وأحرج الأحوال ، ودنو جيش المشركين ، وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتجلى بصبره على شدة النفاق ، وسلامة نبوته من ضرر المنافقين.
وحينما نقل أبو قتادة قول الجد للنبي محمد لم يغضب وقال صلى الله عليه وآله وسلم (ابنه خير منه)( ).
لبيان بشارة انقراض المنافقين ، وانقطاع النفاق أو ضعفه ووهنه ، وخروج جيل جديد من الشباب الرسالي المؤمن.
ولما لام جماعة من الأنصار أبا قتادة على نقله كلام الجد بن قيس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا أنه كبيرنا وسيدنا ، فلم يسكت ولم يعتذر أبو قتادة لهم ، إنما قال : قد والله طرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيادته على بني سلمة ، وسؤد علينا بشر بن البراء بن معرور.
(وَهَدَمْنَا الْمَنَامَاتِ( ) الّتِي كَانَتْ عَلَى بَابِ الْجَدّ وَبَنَيْنَاهَا عَلَى بَابِ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ فَهُوَ سَيّدُنَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)( ).
وسبق أن سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (بني سلمة : من سيدكم ” قالوا: الجد بن قيس على بخل فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” وأي داء أدوأ من البخل بل سيد بني سلمة الأبيض الجعد بشر بن البراء ” هكذا ذكره ابن إسحاق)( ).
لقد واجه أبو قتادة مع صغر سنه رهطاَ من قومه يدافعون عن الجد بن قيس ليتفضل الله عز وجل بتعضيده وفضح المنافق عندما دعا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى البيعة تحت الشجرة في موضع الحديبية إذ توارى الجد بن قيس عن الأنظار كي لا يحضر البيعة مع أنهم في مكان مكشوف وقريبون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس مع الصحابة أحد.
ففقد أبو قتادة الجد بن قيس وأراد أن يرى قومه تخلفه عن واجب البيعة والعهد لرسول الله فأخذ معه رجلاً من الذين احتجوا عليه لإيصاله كلام الجد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وصارا يفتشان عن الجد بن قيس حتى وجداه قد دخل تحت بطن بعير ، وكأنه يستظل فأخرجاه ، وأراد أبو قتادة إقامة الحجة عليه ، وقال (وَيْحَك مَا أَدْخَلَك هَاهُنَا ؟ أَفِرَارًا مِمّا نَزَلَ بِهِ رُوحُ الْقُدُسِ ؟ قَالَ لَا ، وَلَكِنّي رُعِبْت وَسَمِعْت الْهَيْعَةَ)( ).
لقد كان الجد بن قيس من سادات بني سلمة من الخزرج فكيف يخاف من المناداة بالبيعة حال سماع الصحابة يدعون إليها .
ومن فضل الله فضح المنافق في بطلان عذره ، فليس من هيعة وخيفة من عدو قادم ، عندئذ قال الرجل الذي صحبه أبو قتادة معه: لا نضعت عنك أبداً.
اي لا أدافع عنك لأي سبب كان .
وعندئذ هل بايع الجد بن قيس ، الجواب لا ، إذ قال جابر بن عبد الله (فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير الجد بن قيس اختبأ تحت بطن بعيره)( ).
والجد بن قيس السلمي هو الذي نزلت فيه [ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي]( )، كما عن ابن عباس إذ قال (قد علمت الأنصار أنى إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن ولكن أعينك بمالي فنزلت [وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا]( ).
وكان قد ساد في الجاهلية علي بني سلمة فانتزع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سودده وسؤدده فيهم عمرو بن الجموح على ما ذكرنا من خبره في باب عمرو بن الجموح)( ).
ومات الجد أيام عثمان بن عفان.
قانون محو القتال تخفيف ورحمة
ورد لفظ (كتب عليكم) بصيغة الماضي وهل يشمله المحو في قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ) الجواب نعم , فالفرض والكتابة غير الوقوع وإن تحقق مصداقه في معركة بدر وأحد والخندق وحنين.
ولكن الذي محاه الله عز وجل من القتال لا يعلم كثرته وشدته إلا الله عز وجل.
ترى أيهما أكثر الذي وقع من القتال في المعارك أعلاه أم الذي محاه الله عز وجل من القتال بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومشركي قريش وغيرهم , المختار هو الثاني , من جهات :
الأولى : الإلتقاء بين المسلمين والمشركين هو الحجة والفصل بينهم من غير قتال , كما حدث في أول لواء عقده النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان من السنة الأولى للهجرة .
وبعد سبعة أشهر من الهجرة النبوية الشريفة , وكان مع حمزة ثلاثون من المهاجرين ليس معهم أنصاري وبلغوا سيف البحر من ناحية العيص , فلقوا أبا جهل في قافلة ومعه ثلاثمائة رجل من قريش ولم يقع بينهم قتال .
وقال كثير من مؤرخي السيرة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث حمزة بن عبد المطلب (ليعترض عيراَ لقريش جاءت الشام) ( ).
ولم يثبت هذا الإعتراض , وكان عدد الصحابة ثلاثين , بينما عدد رجال قريش في القافلة ثلاثمائة أي عشرة أضعافهم , قال تعالى [الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
لذا لم يذكر ابن هشام مسألة اعتراض هذه السرية لقافلة قريش , إذ قال (سَرِيّةُ حَمْزَةَ إلَى سَيْفِ الْبَحْرِ)( ).
وَبَعَثَ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ ، إلَى سَيْفِ الْبَحْرِ ، مِنْ نَاحِيَةِ الْعِيصِ ، فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَيْسَ فِيهِمْ مِنْ الْأَنْصَارِ أَحَدٌ .
فَلَقِيَ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ بِذَلِك السّاحِلِ فِي ثَلَاثِ مِئَةِ رَاكِبٍ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ .
فَحَجَزَ بَيْنَهُمْ مَجْدِيّ بْنُ عَمْرٍو الْجُهَنِيّ .
وَكَانَ مُوَادِعًا لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا ، فَانْصَرَفَ بَعْضُ الْقَوْمِ عَنْ بَعْضٍ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ) ( ).
وقد ذكر ابن هشام سيف البحر على نحو التعيين مما يدل على أنها سرية استطلاع إلى موضع مخصوص.
وسيف البحر ساحله , و(سيف البحر شطه، وما كان عليه من المدن) ( ).
و(عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية { يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال}( ) ثقلت على المسلمين فاعظموا أن يقاتل عشرون مائتين ، ومائة ألفاً ، فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى ، فقال {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً…}( ) الآية .
قال : فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم ينبغ لهم أن يفروا منهم ، وإن كانوا دون ذلك لم يجب عليهم قتالهم وجاز لهم أن يتحرزوا عنهم ، ثم عاتبهم في الأسارى وأخذ المغانم ولم يكن أحد قبله من الأنبياء عليهم السلام يأكل مغنماً من عدوّ هو لله) ( ).
الثانية : نكوص وتراجع المشركين عن موعدة القتال ، وإن أظهروها أمام الناس ، كما في موعدة أبي سفيان يوم معركة أحد باللقاء في بدر في العام التالي.
وعندما حال الأجل خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة ، ومعه ألف وخمسمائة من الصحابة نحو بدر.
وخرج أبو سفيان ومعه ألفان من مكة ، ولكنه نكص ورجع من مرّ الظهران ، ولم يصل إلى ربع الطريق إلى بدر ، والتي تبعد عن مكة (300) كم .
الثالثة : موضوعية الخوف والفزع الذي يملأ قلوب المشركين لقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ) لبعثهم على التردد في كل من :
الأول : المناجاة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إعراض الناس عن المشركين في حشدهم على القتال .
الثالث : مصاحبة الخوف للمشركين في حال توجههم للقتال ، فمن معاني [سَنُلْقِي] في الآية أعلاه استقرار الفزع في قلوبهم .
الرابع : إرباك المشركين في ساحة الميدان .
الخامس : لحوق الخزي للذين كفروا في حربهم للنبوة والتنزيل ، [وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ] ( ).
وهل للآية أعلاه موضوعية في قتل الإمام علي عليه السلام لبني عبد الدار ممن تعاقب على حمل لواء المشركين يوم أحد ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق نسبة الكفاية والنصر يوم الخندق لله عز وجل، إذ قال تعالى بعد قتل الإمام علي عليه السلام لفارس قريش عمرو بن ود العامري [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ) .
وأخرج (ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ هذا الحرف {وكفى الله المؤمنين القتال}( ) بعلي بن أبي طالب عليه السلام)( ).
قانون الشعر صارف للقتال
هل يشمل قانون محو القتال التخفيف عن غير المسلمين أم أنه يختص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، الجواب هو الأول من جهات:
الأولى : محو القتال والمرة الواحدة من حدوثه رحمة بأطراف القتال ، وتخفيف عنهم .
الثانية : التخفيف عن عوائل وأسر المقاتلين والمرابطين ، ومحو اليتم وكثرة الأرامل بالقتل في الميدان .
الثالثة : إنصراف رؤساء الشرك عن تحشيد الناس لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأحلاف التي كانت بين قريش والقبائل والتي صارت عبأ ثقيلاً عليها .
الرابعة : عمارة الأسواق ، وإنشغال الناس بطلب المكاسب .
الخامسة : صرف الإقتتال مناسبة لتدبر الناس في معجزات النبي محمد وهجران العصبية القبلية.
يتجلى المدد الإلهي في الميدان بحفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعزيمة الصحابة ، وبقولهم الشعر وهجاء المشركين ، ونسبة إنسحاب المشركين إلى رد الله عز وجل لهم .
قال تعالى [وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا] ( ).
و(عن جابر قال : لما كان يوم الأحزاب ردهم الله { بغيظهم لم ينالوا خيراً} فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من يحمي أعراض المسلمين .
قال كعب: أنا يا رسول الله .
قال عبد الله بن رواحة: أنا يا رسول الله .
فقال : إنك تحسن الشعر .
فقال حسان : أنا يا رسول الله فقال : نعم .
اهجهم أنت ، فإنه سيعينك عليهم روح القدس) ( ).
وهذا القول من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة له لتجلي النفع العام من قول حسان بن ثابت.
وهل هذا القول وقصائد حسان من مصاديق قانون هذا الجزء (آيات السلم محكمة غير منسوخة) الجواب نعم.
لما فيه من صرف للمشركين عن القتال ، وعزوف الناس عن نصرتهم لما في هذا الشعر من الذم لهم والتقبيح لفعلهم بالغزو والتعدي ، وهو فرع قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
بتقريب أن الذي لا يحبه الله عز وجل تنفر نفوس الناس منه ، ويشتركون في ذمه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
لقد وثّق القرآن موضوع وحكم قول الشاعر وبأي لغة كانت بأربع آيات من القرآن هي خاتمة سورة الشعراء بقوله تعالى [وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَى أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ]( ).
ولم يرد لفظ (الشعراء) في القرآن إلا في الآية أعلاه ومع هذا سميت السورة بذات الإسم لأن أربع آيات تخص الشعراء ، وقد ذكرت هذه السورة قصص أنبياء سابقين ، فهل كانت موضوعية للشعر في زمانهم ، وفي الثناء عليهم ، والتحريض عليهم ، المختار نعم .
وتضمنت هذه السورة جانباً من صبر وجهاد كل من نوح عليه السلام ، وصالح عليه السلام ، ولوط عليه السلام ، وموسى وهارون عليهما السلام، وفي إبراهيم وجحود قومه ورد قوله تعالى [قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ]( ).
وورد اسم (الغاوين) مرتين في السورة ولعل فيه دلالة على أثر الشعر والشعراء عند الأقوام والأمم السالفة ، كما يدل عليه قوله تعالى [أَلَمْ تَرَى أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ]( ).
والمختار أن المشركين كانوا يقولون الشعر في التحريض على الأنبياء فأكرم الله عز وجل النبي محمداً بخيبة شعراء الكفار ، وجعل الله عز وجل للنبي شعراء ينطق عن ألسنتهم روح القدس لبيان رجحان كفتهم.
ومنهم حسان بن ثابت الذي يُسمى شاعر الرسول ، وكان الشعر نوع حاجة في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل إذ كان شعر المشركين تهديداً للسلم الأهلي وغروراً وحضاً على البقاء على الكفر ومفاهيم الضلالة.
ومن الإعجاز في الآيات أعلاه ورود الإستثناء بخصوص الشعراء ليخرج الشعراء المؤمنون مع تعدد الشروط لهذا الإستثناء وبما يدل على سعيهم في مسلك السلم ، من جهات :
الأولى : الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر .
الثانية : الإتصاف بأداء الفرائض العبادية وعمل الصالحات .
الثالثة : الإكثار من ذكر الله عز وجل في حال السلم والحرب ، والسراء والضراء .
الرابعة : الإنتصار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن.
ومن هؤلاء الشعراء :
الأول : حسان بن ثابت .
الثاني : عبد الله بن رواحه .
الثالث : كعب بن مالك .
الخامسة : تجلي ذكر الله في ثنايا وأبيات الشعر.
ومن معاني الإستثناء أن المستثنى أقل من المستثنى منه لبيان أن شعراء المشركين هم الأكثر.
ولكن النفع من الشعراء المؤمنين عظيم ، ومن الشواهد عليه خلود شعر حسان بن ثابت ، وتلقي أجيال المسلمين له بالرضا والفخر والتوثيق والإلقاء والدراسة .
لقد كان شعرهم سلاماً وسكينة ودعوة لنبذ الحروب والإقتتال.
قانون دفاع النبي (ص) سلام
من البيان والدلائل على لجوء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للدفاع تعقب الكره لفرض القتال في آية البحث بقوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ) .
والذي يكره الشئ لا يقترب منه , ولا يلجأ إليه إلا عن غضب واضطرار , وأنه يميل ويحب ضده , وضد القتال هو السلم والصلح .
وهناك تباين رتبي بين فرض القتال وبين الغزو , فلم تقل الآية : كتب عليكم الغزو .
ولم يكتب على المشركين الغزو , إنما هو التعدي وشدة الجحود منهم , وحبهم للأصنام وإرادتهم النيل من النبوة والتنزيل وما جاءا به من أحكام الشريعة والأمر بالصالحات ، والنهي عن المعاصي والسيئات.
ومن إعجاز القرآن بيانه لقانون عام بعده على نحو الرجاء والرجحان بقوله تعالى [وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ] ( ) من غير تقييد بالقتال ولكنه يشمل الموضوع ، وفيه مسائل :
الأولى : تفقه المسلمين في أمور الدين والدنيا .
الثانية : بيان قانون وهو أن جلب المصالح ودفع المفاسد لا ينحصر بالكراهة والمحبة , التي هي كيفية نفسانية , والوقائع أعم منها .
و(عن ابن عباس قال : عسى من الله واجب .
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال : كل شيء في القرآن عسى ، فإن عسى من الله واجب) ( ).
وقول ابن عباس أدق من قول مجاهد , وقد تقدم البيان في الجزء الواحد والثلاثين من هذا السِفر وفي تفسير الآية 183 من سورة البقرة وهو قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
الثالثة : من وجوه تقدير الآية مخاطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (كتب عليكم القتال وهو كره لك ولأمتك).
الرابعة : فرض الله عز وجل على المسلمين القتال دفاعاً تخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعنهم لما فيه من المدد الإلهي في استنهاضهم للقتال ، وإعانتهم عليه ، ومنع دبيب الخوف والسأم إلى نفوسهم من المرابطة .
ولم تكن منافع دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة بزمانه بل هي متجددة في كل زمان بدعوة المسلمين والناس جميعاً إلى السلم المجتمعي إلى لغة الإحتجاج ، قال تعالى [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
ليكون تقدير هذا القانون : دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم المؤقت سلام دائم ، وحرز متجدد من الإقتتال.
(عسى) في القرآن
يمكن تقسيم (عسى) في القرآن إلى أقسام :
الأول : عسى التي من الله عز وجل , وترد في القرآن بصيغة عسى الله وعسى ربكم , ومنه قوله تعالى [عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ] ( ).
ولم يرد لفظ (ان يرحمكم) في القرآن إلا في الآية أعلاه.
الثاني : عسى الدعاء والرجاء ومنه , قوله تعالى [وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا] ( ).
والآية أعلاه بخصوص إبراهيم عليه السلام واحتجاجه على الذين كفروا.
ولم يرد لفظ (بدعاء) أو (دعاء ربي) في القرآن إلا في الآية أعلاه.
لبيان أن الدعاء سلاح الأنبياء ، وفي الآية شاهد بأن الأنبياء لا يسعون إلى القتال ، إنما يجتهدون في صرفه ودفعه.
الثالث : عسى العامة ، ومنها ما ورد في قصة يوسف عليه السلام وقول عزيز مصر لزوجته في قوله تعالى [وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا] ( ).
وهل نفعهم يوسف عليه السلام أم لم يتحقق لا النفع ولا التبني , وعسى فعل ماض جامد من أخوات كان ، ورد هنا لإفادة الترجي في أمر محبوب.
المختار أن يوسف عليه السلام نفعهم كأمة وأفراد وهو من إعجاز الآية في مجئ (ينفعنا) بصيغة الجمع والضمير (نا) وصيرورتهم سبباَ في بلوغ يوسف عليه السلام كرسي الوزارة , لذا قال تعالى في ذات الآية أعلاه [وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ] ( ).
ويبقى قوله تعالى [عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا] ( )، دعوة للعلماء إلى يوم القيامة لإقتباس الدروس والمواعظ من الآية الكريمة ، لتكون العلوم المتجددة المستقرأة من آيات القرآن في كل زمان من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ] ( ) .
وقد أنعم الله عز وجل على سليمان بعلم وتقوى من صغر سنه ، وبوجود أبيه النبي والملك داود إذ قال تعالى [وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ*فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا]( ) .
وتنطبق على علوم القرآن مقولة : كم ترك الأول للآخر ، والعلوم نعمة إلهية ، وفضل من عند الله ، ولا تصلح في المقام مقولة : ما ترك الأول للآخر ، ولا يجوز للمتأخر الخروج عن الكتاب والسنة ، ولا يصح منه الإجتهاد خلاف النص ، ولا إتباع الهوى ، إنما هو النهل من خزائن القرآن ، وبذل الوسع في الإستنباط .
ومنه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ]( )، الذي يفيد النهي والإشفاق .
ومن عسى التي هي من الله عز وجل قوله تعالى [فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً]( ) والنسبة بيين (الذين كفروا) في الآية أعلاه وبين مشركي قريش عموم وخصوص مطلق.
لبيان أن (كف بأس) في المقام عام ويشمل كلاَ من :
الأول : معارك الإسلام الأولى بدر , أحد , الخندق , حنين .
الثاني : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الإغتيال والقتل مع تعدد محاولات قريش للفتك به في حال السلم , وفي ميدان القتال.
ويوم معركة أحد (صاح إبليس بالمدينة : قتل محمد، فلم يبق أحد من نساء المهاجرين و الانصار إلا وخرج ، وخرجت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله تعدو على قدميها حتى وافت رسول الله صلى الله عليه وآله، وقعدت بين يديه، وكان إذا بكى رسول الله صلى الله عليه وآله بكت، وإذا انتحب انتحبت.
ونادى أبو سفيان: موعدنا وموعدكم في عام قابل، فنقتتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لامير المؤمنين عليه السلام : قل : نعم ، وارتحل رسول الله صلى الله عليه وآله ودخل المدينة واستقبلته النساء يولولن ويبكين، فاستقبلته زينب بنت جحش فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله : احتسبي ، فقالت : من يا رسول الله .
قال: أخاك ، قالت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، هنيئا له الشهادة، ثم قال لها: احتسبي، قالت : من يا رسول الله.
قال : حمزة بن عبد المطلب، قالت : إنا لله وإنا إليه راجعون ” هنيئا له الشهادة، ثم قال لها: احتسبي ، قالت : من يا رسول الله.
قال : زوجك مصعب بن عمير، قالت :واحزناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : إن للزوج عند المرأة لحدا ما لا حد مثله، فقيل لها : لم قلت ذلك في زوجك .
قالت: ذكرت يتم ولده) ( ) والظاهر هناك سهو من الناسخ أعلاه .
فالتي استقبلت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة أعلاه حمنة بنت جحش وليس زينب بنت جحش التي تزوجها زيد بن حارثة , ثم نزل فيها قرآن وتزوجها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد طلاق زيد لها , كما في قوله تعالى [فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً] ( ).
وولدت زينب بنت جحش في مكة في السنة الثانية والثلاثين قبل الهجرة , وهي من أوائل المهاجرات إلى المدينة , وبعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , لزمت بيتها , فلم تحج بعد حجة الوداع مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وكانت كثيرة الصدقة والإحسان إلى الفقراء , توفت في المدينة سنة عشرين للهجرة .
ولم يكن لحمنة أولاد من مصعب بن عمير , وتزوجت بعد استشهاده طلحة بن عبيد الله فولدت له محمداَ وعمران .
الثالث : إنشغال المشركين بأنفسهم والإرجاء في الغزو والهجوم على المدينة , وحتى موعد وأوان القتال , فقد عيّن أبو سفيان موعداَ للقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للقتال يوم أحد , فإنه نادى (موعدنا وموعدكم في عام قابل)( ).
ولكن الله عز وجل صرف القتال وبما فيه خزي للمشركين.
مصاديق [كُرْهٌ لَكُمْ]
لم يرد لفظ [كُرْهٌ لَكُمْ] في القرآن إلا في آية البحث وبخصوص القتال ، وجاءت الآية بصيغة الإطلاق ، فالقتال مكروه عند المسلمين سواء كان مع المشركين أم مع غيرهم ، وهل القتال بين المسلمين كره لهم ، الجواب نعم ، وهو محرم ، إنما وردت الآية بخصوص قتال المشركين ، وتقديرها على وجوه :
الأول : كتب عليكم قتال المشركين وهو كره لكم .
الثاني : كتب عليكم الدفاع ضد غزوات المشركين وهو كره لكم .
الثالث : كتب عليكم القتال ومقدماته كره لكم .
الرابع : كتب عليكم القتال دفاعاً عن النبوة والتنزيل .
الخامس : كتب عليكم القتال دفاعاً عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين يديه .
السادس : كتب عليكم القتال والنصر قريب ، وفي التنزيل [وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ]( ).
السابع : كتب عليكم القتال وهو كره لكم فلا تسعوا إليه .
الثامن : كتب عليكم القتال وهو كره لكم [وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ] ( ).
وهل يمكن تقدير الآية : كتب عليكم الرباط وهو كره لكم ، الجواب لا ، لوجوه :
الأول : ورود الأمر الإلهي للمسلمين بالمرابطة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الثاني : التباين الموضوعي بين الرباط والقتال ، فليس من لمعان سيوف في المرابطة ، بينما ورد بخصوص معركة بدر ومعركة أحد [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
الثالث : من المقاصد السامية للمرابطة الحيلولة دون القتال ، فمتى ما علم المشركون أن الصحابة على حيطة وحذر فانهم يجتنبون الغزو والغدر والغيلة.
فمن خصائص العقلاء عدم الذهاب لما فيه كراهة وأذى لهم ، إلا أن تكون المنفعة أكثر وأعظم ، لذا تضمنت الآية [وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ]( ).
وهذا الشطر من الآية بشارة النصر على المشركين وأن كيدهم يرجع إلى نحورهم ، ومن أسرار الآية أنها خطاب للمسلمين لبيان أنها ليست قانوناً عاماً يتغشى جميع الناس ، فالقتال كره للمشركين أيضاً ، ولكنه ليس خيراً لهم بل وبالاً عليهم ، وسبباً لخسارتهم وإصابتهم بالنقص في النفوس والأموال .
التاسع : كتب عليكم القتال وهو كره لكم لأنكم طلاب سلام.
العاشر : كتب عليكم القتال وهو كره لكم لإدراك كفاية معجزات النبوة والتنزيل في كسب الناس إلى الإيمان ، ولكن رؤساء الشرك يصرون على القتال .
إعجاز العدد في القرآن
لقد جعل الله عز وجل السياحة في علوم القرآن من اللامتناهي ، وتتجدد وتتفرع فيه المسائل لنشر ألوية السلم في المجتمعات ، ودعوة الناس للعناية بأمور حياتهم ومعيشتهم من غير غفلة أو إغفال لعالم الآخرة ، وشدة الحساب يوم القيامة ، لبيان قانون وهو إتخاذ المسلمين علم العدد في القرآن مناسبة لحسن العشرة مع الناس جميعاً .
وهل تقسيم الأموال وتراكيبها من مصاديق الأسماء التي علمها الله عز وجل لآدم في قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا..] ( )، الجواب نعم ، والحساب على قسمين :
الأول :الحساب العشري الذي يتقوم بالجزء من الكلي والقيمة ، فالرقم 4 مثلاً هو جزء من عشرة فيقال (0,4 ) وفي خانة العشرات يكون 40% ، وفي خانة المئات يكون 400 مع أستخدام الصفر في الخانة الخالية من الرقم بلحاظ أن ذات الصفر رقم .
الثاني : الحساب الستيني بلحاظ اعتماد قياس الوحدة (60) وهو المستعمل في الساعة وأجزائها ، كما يقال الساعة ستون دقيقة ، والدقيقة ستون ثانية ، ويستعمل في الدرجات .
ومن إعجاز القرآن نزوله بالحساب العشري ، والنسبة المئوية ، ومنها [إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ] ( ) اي نسبة 99% ، و1% .
ولم يرد لفظ [تِسْعُونَ] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
ومن مقدمات حكم داود في المقام بيانه للظلم في ضم النعجة إلى النعاج الكثيرة ، وكثرة الظلم عند الخلطاء ، لبيان أن الظلم قبيح في المعاملات للزوم نشر العدل والصدق والإنصاف فيها ، وهو طريق للسلم ، وصرف الشر والأذى .
وهذه الآية من الأخبار وهو خارج موضوع النسخ ، وفي الخبر أن علي بن الجهم قال (يقولون: إن داود كان في محرابه يصلي إذ تصور له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من الطيور، فقطع صلاته وقام ليأخذ الطير فخرج إلى الدار.
فخرج في أثره فطار الطير إلى السطح، فصعد في طلبه فسقط الطير في دار اوريا بن حنان، فاطلع داود في أثر الطير فإذا بامرأة اوريا تغتسل، فلما نظر إليها هواها، وكان اوريا قد أخرجه في بعض غزواته، فكتب إلى صاحبه أن قدم اوريا أمام الحرب.
فقدم فظفر اوريا بالمشركين، فصعب ذلك على داود، فكتب الثانية أن قدمه أمام التابوت، فقتل اوريا رحمه الله، وتزوج داود بامرأته .
فضرب الرضا عليه السلام بيده على جبهته وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد نسبتم نبيا ” من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حتى خرج في أثر الطير، ثم بالفاحشة، ثم بالقتل .
فقال: يابن رسول الله فما كانت خطيئته.
فقال: ويحك إن داود إنما ظن أن ما خلق الله عزوجل خلقا هو أعلم منه، فبعث الله عزوجل إليه الملكين فتسورا المحراب فقالا [خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ]( ).
فعجل داود عليه السلام على المدعى عليه فقال: ” لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ” فلم يسأل المدعي البينة على ذلك، ولم يقبل على المدعى عليه فيقول: ما تقول .
فكان هذا خطيئة حكمه، لا ما ذهبتم إليه، ألا تسمع قول الله عزوجل يقول [يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ]( )، إلى آخر الآية، فقال أبو الصلت الهروي : يابن رسول الله فما قصته مع اوريا ؟ فقال الرضا عليه السلام إن المرأة في أيام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبدا “، وأول من أباح الله عز وجل له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها داود، فذلك الذي شق على اوريا) ( ).
وأكثر الأرقام في القرآن هو رقم عشرة ، ليكون أصلاً في الحساب ومنه:
الأول : قال تعالى [فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا..]( ).
الثاني : قال تعالى [وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ]( ).
الثالث : قال تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ…]( ).
الرابع : قال تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]( ).
الخامس : قال تعالى [وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً]( ).
السادس : قال تعالى [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ).
السابع : قال تعالى [يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا]( ).
الثامن : قال تعالى [فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ]( ).
التاسع : قال تعالى [وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ]( ).
قانون (يريد بكم اليسر) سلام عام
لقد ورد في آيات الصيام قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ).
وهو قانون عام من الإرادة التكوينية ينبسط على أمور الحياة المختلفة وأيام عمارة الناس للأرض , وفيه إكرام للمؤمنين وبشارة تيسير الأعمال , ولو دار الأمر بين السلم والحرب فإن السلم من اليسر , والحرب من العسر , وتقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : يريد الله بكم اليسر باجتناب القتال .
الثاني : يريد الله بكم اليسر بالسعي إلى السلام .
الثالث : يريد الله بكم اليسر بابتغاء الصلح والموادعة مع أهل الملل كافة .
وقد صالح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مشركي مكة في الحديبية ورضي بشروطهم فنزل قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ) لبيان قانون وهو الاطلاق في جهة الصلح .
الرابع : يريد الله بكم اليسر اليوم وغداَ وإلى يوم القيامة .
الخامس : يريد الله بكم اليسر باتخاذ الصيام طريقاَ للأمن والسلم المجتمعي .
السادس : يريد الله بكم اليسر بالتخفيف في العبادات وقاعدة نفي الحرج في الدين , وسقوط الصيام عن المريض إلى أن يشفى , والمسافر حتى يعود .
السابع : يريد الله بكم اليسر فتعاهدوه ولا تتجهوا نحو العسر والتشديد على النفس .
الثامن : يريد الله بكم اليسر شكراَ من الله عز وجل لكم .
التاسع : يريد الله بكم اليسر ببيان الأحكام , ومنع الإختلاف فيها .
من أحكام آية السلم
من إعجاز الآية القرآنية تفرع واستقراء الأحكام منها ، ويمكن تعريف علم الأصول بأنه علم انشاء وتعيين القواعد الأصولية العامة والضوابط الكلية لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها الصحيحة.
فيستنبط المجتهد الحكم الشرعي من آيات القرآن أو من الحديث النبوي وقول المعصوم أو من الإجماع ليؤدي الناس الوظائف العبادية على الوجه الأحسن والأكمل .
ويمكن القول بقانون الآية القرآنية أصل قائم بذاته تستنبط منه الأحكام ، ومنه آيات السلم وهو قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )، والتي وردت في سورة البقرة وهي سورة مدنية نزلت بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، وتتصف هذه السورة بتضمنها لأحكام عديدة في باب العبادات والمعاملات ونظام الأسرة والمجتمع والدفاع ، ومن أحكام الآية أعلاه :
الأول : ابتداء الآية بنداء الإيمان الذي يتضمن الإكرام للمسلمين وقد ورد في القرآن تسعاً وثمانين مرة ويتعقبه أمر أو نهي أو كلاهما ، فان قلت هل نداء الإيمان من أحكام الآية ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : إرادة تعيين المسلمين والمسلمات .
الثانية : الشهادة من عند الله عز وجل للمسلمين والمسلمات بالإيمان ، وفي التنزيل شاهد [قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ]( ).
الثالثة : بعث المسلمين على العمل بسنن الإيمان ، وتعاهد الفرائض والمناسك.
الرابعة : البشارة بالثواب العظيم على ذات الإيمان.
الثاني : الأمر العام بالدخول في السلم (ادخلوا) ، وجاءت واو الجماعة ثم كلمة (كافة) في الآية للدلالة على أنها سور الموجبة الكلية وهي نكرة ، ومنصوبة على الحال الشامل لكل المسلمين والمسلمات إلا ما خرج بالدليل ، وهو معدوم.
وهل تختص الآية بالرجال من المسلمين لأن القتال ساقط عن النساء ، الجواب لا ، للتباين الموضوعي في المقام ، ومن دخول النساء في السلم قيامهن بالأمر بالدخول بالسلم والحث عليه ، ومنه دعوة الأم لابنها بالدخول بالسلم والزوجة لزوجها ، والإقتراح والمشورة باختيار السلم ، كما تجلت المشورة في ابنة شعيب النبي وقولها لابيها بخصوص موسى عليه السلام [قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ]( ).
الثالث : الدخول في الشئ والولوج فيه ، ويأتي للمحل والمكان والدعاء كما في قوله تعالى [وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ]( ).
لتبين الآية أن السلم كيان قائم بذاته يلزم تعاهده ، والمناجاة في الدخول إليه ، وكأنه محل له سور وأبواب مما يملي على المسلمين خطوات جلية باتجاه تعاهد السلم ، وتأسيس قواعد ثابتة لإستدامة منطق السلم والموادعة .
الرابع : هل الدخول في السلم من الصراط المستقيم ، في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، أم أن المراد من الصراط المستقيم العبادة والنسك والقرآن ، المختار هو الأول ، لأن لفظ (ادخلوا) بصيغة الأمر ولدلالة الآية على تجلي ووضوح السلم والطريق إليه ، وماهية مناهجه من جهات :
الأولى : الوئام .
الثانية : الصلح .
الثالثة : الموادعة .
الرابعة : التنازل عن بعض الشروط .
الخامسة : الرضا ببعض شروط الغير .
السادسة : الوفاء بالعهود والمواثيق ، قال تعالى [وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً]( ).
السابعة : ترك وهجران مقدمات القتال والمناجاة والدعوة إليه ، وهو لا يتعارض مع أخذ الحائطة والحذر ، كما في قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
الثامنة : ترك قعقعة السلاح ولغة التهديد والوعيد .
التاسعة : من الدخول في السلم تعاهد سنن التقوى والصلاح.
و(عن جابر بن عبد الله قال : كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخط خطاً هكذا أمامه فقال : هذا سبيل الله ، وخطين عن يمينه وخطين عن شماله وقال : هذا سبيل الشيطان . ثم وضع يده في الخط الأوسط وتلا وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ( ).
الخامس : من إعجاز آية البحث اجتماع كل من :
أولاً : نداء الإكرام .
ثانياً : الأمر بالدخول .
ثالثاً : لغة العموم (كافة) وتعني جميعاً من غير استثناء.
رابعاً : النهي من اتباع خطوات الشيطان وأسباب المعاصي.
خامساً : الجملة الخبرية ببيان عداوة الشيطان للمسلمين مجتمعين ومتفرقين ، وأنها ظاهرة جلية ولكن رحمة الله أقرب للمسلمين والناس جميعاً من إغواء الشيطان ، قال تعالى [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
وقد تكرر لفظ (عدو مبين) سبع مرات في القرآن كلها بخصوص الشيطان وذمه ، ولم تنحصر عداوته بالمسلمين إنما هو عدو للناس جميعاً بما فيهم آدم أبو البشر ، ويدل عليه قوله تعالى [إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
ومن إعجاز القرآن بيانه لتحذير وإنذار الله عز وجل لآدم وحواء من الشيطان ووسوسته وإغوائه ، قال تعالى [أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )، وبواسطتهما إنذار وتحذير ذريتهما جميعاً .
وقد ورد لفظ [وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ]( )، خمس مرات في أربع آيات من القرآن وهي :
الأولى : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ).
الثانية :قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
الثالثة :قوله تعالى [وَمِنْ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).

قانون آية السلم رحمة عامة
من كنوز القرآن دعوة آياته الى السلم المجتمعي واستدامة الأمن ، وتنشيط التجارات ، وعمارة الأسواق ونزل قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )، لبيان فضل الله عز وجل على قريش بالتجارات ، ودعوة المسلمين ليرثوا هذه النعمة بايمانهم وينشطوا التجارة العالمية ، ويكونوا رواداً فيها.
فان قلت وإن دخلت قريش الإسلام ، الجواب نعم ، فالأرض كلها لله عز وجل ولا يختص موضوع الآية القرآنية بزمان دون آخر.
وتتصف خزائن الله عز وجل بالزيادة المتصلة مع كثرة الأخذ والنهل منها من قبل الملائكة والناس والجن وعامة الخلائق.
وبين خزائن الله كما في قوله تعالى [أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ]( )، وبين خزائن السموات والأرض في قوله تعالى [وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ]( )، عموم وخصوص مطلق .
أما النسبة بين خزائن السموات والأرض ، وخزائن رحمة الله كما في قوله تعالى [قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ]( )، عموم وخصوص مطلق ، فخزائن الرحمة أعم وأعظم ، وسيأتي قانون الخزائن .
وقد يكون فرد واحد من هذه الخزائن ، ومنه آية البحث فهي من خزائن الله ، ومن خزائن رحمة الله عز وجل ، ولا يعلم منافع هذه الآية كماً وكيفاً من حيث نزولها إلى الآن وفي الأزمنة اللاحقة إلا الله عز وجل ، ومنها :
الأول : تشريف المسلمين بنزول آية السلم من عند الله.
الثاني : ابتداء الآية بنداء الإيمان ومن معانيه جهات :
الأولى : ادخلوا في السلم فيما بينكم.
الثانية : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم رجالاً ونساءاً.
الثالثة : كونوا الأئمة في المبادرة إلى السلم ، وفي تعاهده.
الرابعة : بيان قانون وهو القرآن كتاب السلم.
الخامسة : إمكان الجمع بين آية السلم هذه، وبين آيات كثيرة من القرآن واستنباط القوانين منها.
وقد صدر لي والحمد لله في الجمع بين آيتين من القرآن أجزاء متعددة .
وهل يصح تقدير آية البحث (ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة كما دخله الرسل والمؤمنون من قبلكم) الجواب نعم.
وقد تقدم الكلام في الجزء الثالث والأربعين في تفسير قوله تعالى [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ]( ).
وتشمل أحكام الآية كلاَ من :
الأول : قانون الألفة بين المسلمين .
و(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)( ).
وعن (أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) ( ).
الثاني : نهي المسلمين عن إتباع خطوات الشيطان وأسباب الفتنة وإثارة النعرات الطائفية والعصبية القبلية , وفي أسباب نزول قوله تعالى [وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
(قال أبو جبير بن الضحّاك : فينا نزلت هذه الآية في بني سلمة، قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، وما منّا رجل إلاّ له اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعا الرجل الرجل باسم، قلنا : يا رسول الله، إنّه يغضب من هذا. فأنزل الله عزّ وجلّ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ( ).
السادسة : قبول كل الصحابة بالسلم والصلح الذي يعقده أو يمضيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , فلا تثار نعرات , ولا يطلب مسلم الثأر من مشرك بعد الصلح , ولا يتعرض المسلمون لأموالهم وقوافلهم .
ليكون من إعجاز قوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( )، ضبط السلوك العام للمسلمين وفق القواعد والأنظمة .
السابعة : في الآية مقدمة لقبول المسلمين بصلح الحديبية وشروطها , بل ومنعهم من الحيلولة دون مفاوضات وحوار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع وفود قريش التي توالت في الحديبية.
ومع هذا فحينما تم الصلح اعترض بعض الصحابة فنزل التعضيد من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ) ويمكن استقراء عدة مسائل وقوانين ومعجزات حسية من مضامين هذه الآية ورشحاتها .
قانون الأنبياء أئمة السلم
من إعجاز القرآن تفضل الله عز وجل ببيان وظائف الأنبياء وصبرهم , ومنه قوله تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( )، ويدل في مفهومه على عصمة الأنبياء من الغزو ومن القتل بغير حق .
وحينما أخبر الله عز وجل الملائكة عن جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) احتجوا بفساده في الأرض وسفك الدماء , فأجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) , ومنه تفضل الله تعالى ببعث الأنبياء ليؤسس كل نبي لأمة تقيم الصلاة , وتعمل بالمعروف وتجتنب الفساد وسفك الدماء .
لبيان قانون وهو عدم اختصاص بعثة الأنبياء بأشخاصهم وجهادهم , بل يتصل سعيهم من بعدهم بأنصارهم وأتباعهم , وهو من إعجاز القرآن في بيانه وتوثيقه لقصص وسيرة ومنهاج الأنبياء .
ترى لماذا لم يذكر في القرآن سوى خمسة وعشرين اسماَ من أسماء الأنبياء والرسل , الجواب إنه من مصاديق قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( )، وقوله تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ) ، ولبيان نكتة عقائدية وقانون وهو قصص هؤلاء الأنبياء مرآة لقصص عموم الأنبياء ، وفيها كفاية للمسلمين في الإتعاظ من سيرتهم الزاكية.
وتحتمل عائدية الضمير (هم) في قصصهم أعلاه وجوهاَ :
الأول : يعود إلى يوسف عليه السلام وإخوته , ومصيبة يعقوب النبي عليه السلام بفقد يوسف .
الثاني : يعود إلى خصوص الأنبياء والرسل الذين ذكروا في القرآن .
الثالث : إرادة قصص القرآن بما فيها قصة موسى عليه السلام وفرعون ، وقصة إبراهيم عليه السلام ، ونمرود.
والمختار هو الثالث , تدل عليه الآية السابقة , قال تعالى [حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ]( ) .
وتدل هذه الآية على تعاهد الأنبياء لمفاهيم السلم ، وقيامهم بالتبليغ وبذل الوسع في الدعوة إلى الله عز وجل , ولم يجدوا من أكثر الناس إلا الإعراض والصدود فلم يقوموا بالغزو وكاد اليأس أن يدب إلى جماعتهم , فجاء النصر من عند الله عز وجل .
ولا يعني هذا وقوع النصر بالغزو والهجوم إنما هو بآية وفضل من عند الله عز وجل , ومن الشواهد عليه النصر بالفتح في صلح الحديبية , إذ نزل فيه قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ) .
ومن الشواهد على سعي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مسالك السلم واجتنابه الغزو أنه كان يحضّ أصحابه على الإمتناع عن الرغبة في القتال , إذ ورد عنه أنه قال (لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاثبتوا)( ).
ليدل الحديث أعلاه على الدفاع الإضطراري وقلة وقوعه , ومن الشواهد عليه أن المشركين هم الذين كانوا يطلبون المبارزة وسط الميدان كما تقدم بخصوص تقدم عتبة بن ربيعة , وأخيه شيبة وابنه الوليد بن عتبة في معركة بدر , وكما في طلب طلحة بن أبي طلحة وإخوته من بني عبد الدار حملة لواء المشركين يوم معركة أحد المبارزة فقتلهم الإمام علي عليه السلام.
و(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِىِّ – صلى الله عليه وآله وسلم – أُجَاهِدُ .
قَالَ : لَكَ أَبَوَانِ. قَالَ نَعَمْ . قَالَ : فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ) ( ).
لبيان أن الجهاد أعم من القتال وأن الأولوية فيه لبر الوالدين , وتعاهد شؤون الأسرة , وطلب المعيشة .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الأضداد والإختلاف والنزاع بينها وهو من ضروب الإبتلاء والإمتحان بما يؤدي إلى الهدى والإيمان والفوز بالأجر والثواب للمؤمنين ، فتجد الباطل إلى جانب الحق ولكن من غير أن يضره ويدفعه عن الصدارة ، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ]( ).
وتجد الشر إلى جانب الخير ، وجعل الله عز وجل العقول تميل إلى الخير ، وحببه الله إلى النفوس , وهذا اللطف من مصاديق قوله تعالى [حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ]( ) .
ومن ضروب التضاد في الدنيا التنافي والتضاد بين حال الحرب والسلم وبعث الله الأنبياء لهداية الناس إلى الإيمان وفعل الخير وتثبيت السلم والأمن في الأرض وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وانطباق صفة الخليفة على أشخاص الأنبياء.
بداية علم المنطق في الجنة
وعلم المنطق قديم ، وهو مصاحب للإنسان من حين خلق الله عز وجل آدم في الجنة ، ومنه قوله تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) لبيان الفصل بين الاسم والمسمى ، والدلالة الوضعية التصويرية والتصديقية ، وإقامة الحجة والبرهان على الملائكة بقوله تعالى [قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ] ( ) لبيان أن الله عز وجل جعل شاهداً عند الملائكة بأن الإنسان يهبط إلى الأرض خليفة بالميزان وعلم المنطق ، فاطمأن الملائكة وسجدوا لآدم عندما أمرهم الله عز وجل .
وحينما أكل آدم وحواء من الشجرة التي نهاهم الله عز وجل عن الإقتراب منها آخذهما على مخالفة الميزان والآلة التي تعصم مراعاتها الذهن عن الوقوع في الخطأ ، وإتباع إغواء إبليس.
وهذا القول منا في المقام يخالف الإجماع بعودة علم المنطق إلى أيام فلاسفة اليونان ، وقبل ولادة المسيح بنحو أربعمائة سنة ، وذكر أن الذي وضع علم المنطق هو الفيلسوف اليوناني أرسطو مستفيداً من استاذه سقراط الحكيم ، ومن قبله افلاطون .
في الرد على الفكر السفسطائي الشائع آنذاك ، ومضمونه أنه لا وجود لحقائق خارج الذهن ، وأن الحقيقة هي التي توجد داخل وعي ذات الفرد ، فأظهر علم المنطق وجود حقيقة خارج ذهن الإنسان يمكن السعي والوصول إليها .
وان كانت هذه الحقيقة حاضرة ومدركة من أيام ابينا آدم فهي من المسلمات ، ويدل عليها قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( )، والذي يدل بالدلالة التضمنية على وجود حقائق وأعيان ومسميات خارج الوجود الذهني.
وترجم هذا المنطق إلى العربية حنين بن إسحاق وهو طبيب عربي مسيحي من أهل الحيرة ولد عام 194 هجرية -810 م ، وكان يدفع له بعض الذهب لقاء ما يقوم به من الترجمة إلى العربية.
وكان يحسن العربية والفارسية واليونانية والسريانية ، صيدلاني وطبيب عيون ، وهو طبيب المتوكل ، عاصر تسعة من خلفاء بني العباس ، توفى في سامراء سنة 260 هجرية -873 م ، ولا يختص علم المنطق بأهل لغة دون أخرى .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن أول شيء خلق الله القلم ، ثم خلق النون ، وهي الدواة ، ثم قال له : اكتب قال : وما أكتب.
قال : ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة ، من عمل أو أثر أو رزق ، فكتب ما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة ، وذلك قوله : { ن والقلم وما يسطرون}( ).
ثم ختم على في القلم فلم ينطق ، ولا ينطق إلى يوم القيامة ، ثم خلق الله العقل ، فقال : وعزتي لأكملنك فيمن أحببت ولأنقصنك فيمن أبغضت) ( ).
وعن ابي سعيد الخدري (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : قسم الله العقل على ثلاثة أجزاء ، فمن كن فيه فهو العاقل ومن لم يكن فيه فلا عقل له : حسن المعرفة بالله ، وحسن الطاعة لله ، وحسن الصبر لله) ( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (لما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك، بك آخذ، وبك اعطي، وعليك اثيب)( ).
والمنطق وظيفة العقل ، وآله صدور فعل اللسان والجوارح ، فقد رزق الله عز وجل آدم وحواء اللبث القليل في الجنة ، وجعلهما مؤهلين للعمل وفق قواعد المنطق ، ولزوم إجتناب اتباع الهوى قبل الهبوط إلى الأرض ، وسمي علم المنطق قانوناً لأن مسائله قواعد كلية تنطبق على مصاديقها وجزئياتها ، وهي إدراكات كلية ، ولأنه يبحث في وظائف المعاني بضوابط محدودة .
وقال ابن صلاح والنووي : يحرم الإشتغال (بعلم المنطق)( ).
والمختار جواز الإشتغال بعلم المنطق كغيره من العلوم دون الخروج عن الكتاب والسنة والمدركات العقلية .
وتقسم العلوم على أقسام :
الأول : تعلم ما هو واجب عيني كأجزاء وأركان الصلاة وأحكام الصيام والزكاة والحج والخمس .
الثاني : فرض عين على خصوص بعض الأفراد في علوم أو علم معين كالفقهاء في التبليغ ، قال تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] ( ) فالنفر لطلب العلم كفائي ، ولكن التبليغ من بعده عيني ، وكذا بالنسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( )، فقد ورد لفظ (أمة) على نحو التنكير وليس التعيين.
الثالث : التعلم المستحب في أمور الدين والدنيا كتعلم مناسك الحج من قبل غير المستطيع ليعلمها لمن وجب عليه الحج ، وتعلم أحكام الصيام من قبل المريض العاجز عن الصيام على مدار السنة ، قال تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ..] ( ) وقال تعالى [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ…]( ).
الرابع : تعلم ما هو مباح من أمور الدين والدنيا منها الأطعمة والأغذية النافعة ، ومنها القواعد الفقهية مما لا يحتاج إليه وبعض الحرف والصناعات .
الخامس : التعلم المكروه وهو التعليم للجدال ومباهاة العلماء .
السادس : التعلم الحرام مثل التعلم من أجل المغالطة وقلب الحقائق ، وأكل أموال الناس بالباطل والسحر والشعوذة ، وإيجاد ثغرة بالقانون لجعل الحق باطلاً ، والباطل حقاً .
ومن إكرام الله عز وجل للإنسان أن أول تعلم كان تعليم آدم في الجنة ، ومن قبل الله عز وجل نفسه ، كما وردت في التنزيل [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) يوم لم تكن الملائكة تعلم هذه الأسماء ، وأول آية انزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( ).
وقد اتقن آدم تعلم الأسماء ودلالتها على المسميات ووجوه التمييز بين كل من :
الأول : الأسماء والمسميات .
الثاني : وضع الأسماء أزاء معانيها .
الثالث : الدلالة والرابطة بين الاسم والمسمى .
الرابع : الفصل والتمييز بين أفراد الأسماء .
الخامس : التمييز بين أفراد المسميات .
السادس : استدامة حفظ آدم للأسماء ومسمياتها .
وكل فرد من هذه الوجوه أساس لعلم المنطق ، ومما ينطبق عليه تعريف علم المنطق بأنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن من الوقوع في الخطأ .
وهل أكل آدم وحواء من الشجرة من مصاديق عدم مراعاة علم المنطق ، الجواب نعم ، ولكن عدم المراعاة هذه من طرف إبليس لذا نسب الله عز وجل الإزلال والتغزير له بقوله تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ..]( ).
ومن إعجاز القرآن تسمية إبليس باسمه عندما امتنع عن السجود لآدم مع أن هذا السجود جحود واستكبار .
ولكنه قضية شخصية واثم خاص به ، كما في قوله تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ] ( )، أما حينما أغوى وأزل آدم وحواء سمّاه الله الشيطان لإرتكابه الظلم لنفسه ولغيره ، وهل هو من الشواهد على أنه كان خارج الجنة ساعة الإغواء ، المختار نعم.
وقد أغوى رؤساء الشرك طائفة من الناس ورجال القبائل لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقيام بغزو المدينة ، ليتوالى نزول الآيات التي تدعو الناس للإيمان .
ويظهر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الصبر ، ويدافعون عن كلمة التوحيد والتنزيل ، إلى أن جاء النصر من عند الله ، وهل هذا النصر دفعي أم تدريجي.
الجواب هو الثاني ، فمع تسمية نتيجة معركة بدر نصراً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) فان المعارك استمرت إلى أن تم فتح مكة ، ويتبادر إلى الذهن إنقطاع المعارك بعده لأن مشركي قريش هم الذين كانوا يجهزون الجيوش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولقوله تعالى [وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( ).
ولكن يتفاجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهجوم سريع ومباغت في السابع من شهر شوال من السنة الثامنة من قبل عشرين ألف مشرك من هوازن وثقيف ، وقيل كان عددهم ثلاثين ألفاً .
وموضوع علم المنطق ما يبحث عن عوارضه الذاتية من حيث الأمور التصويرية والتصديقية وأحوالها للتوصل إلى المجهولات .
والكلمة مثلاً موضوع لعلم النحو من جهة ما يعرض لها من الإعراب والبناء.
وموضوع علم البلاغة المعنى الواضح ، والعبارة الفصيحة ومناسبة الكلام للحال ، وإيصال المعلومة والخبر بأحسن صيغة ،وهو على أقسام :
الأول : علم المعاني .
الثاني : علم البيان .
الثالث : علم البديع .
وعلم الصرف علم أصل وقوانين الكتابة.
وموضوع علم الفقه أفعال المكلفين سواء الأفعال العبادية أو أحكام المعاملات مع الناس.
وموضوع علم أصول الفقه هو القواعد الكلية التي يتوصل بها لإستنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية الصحيحة .
وكما يضبط علم النحو المنطق والكتاب بميزان يمنع من الخطأ فان علم الأصول يضبط منهاج الفقيه في الفتوى الفرعية معاشاً ومعاداً من الخطأ والزلل في الإستنباط .
وقيل : من حُرم الأصول حرم الوصول .
وصحيح أن الصحابة والتابعين لم يستدلوا بمصطلحات علم الأصول إلا أن معانيها حاضرة عندهم من القرآن والسنة النبوية ، فيكون موضوع علم الأصول سابقاً لتدوينه ، من قبل بعض تابعي التابعين .
وهو ظاهر في أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام ، وعلم المنطق مصاحب للإنسان من أول ما نطق آدم ، وكان اختيار اسم المنطق كمصدر ميمي للنطق السليم .
وتنشأ الدلالة الوضعية من وضع اللفظ أزاء معنى مخصوص ، وتحتمل وجهين :
الأول : إنها دلالة تصورية بالإنتقال من اللفظ إلى المعنى بحصول المعنى المراد في الذهن عند إطلاق اللفظ .
الثاني : إرادة الدلالة التصديقية أي أن المتكلم أراد تفهيم المعنى من اللفظ .
وهذا المبحث من مباحث علوم الأصول أيضاً ، والمشهور والمختار أن الدلالة الوضعية دلالة تصورية ، غاية ما في الأمر حضور صورة المعنى عند إطلاق اللفظ .
الصناعات الخمس
في منهاج علم المنطق ، مبحث الصناعات وهي خمسة :
الأولى : صناعة البرهان ، وهو مقدمة القياس اليقيني لتأليف قضية يقينية ، لإثبات حق ، وهي ستة أنواع :
الأول : الأوليات وهي التي يقطع العقل بها بمجرد تصورها ، مثل وجوب عبادة الله ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثاني : المحسوسات : وهي التي يدركها الإنسان بالحواس الظاهرية مثل : ظلمة الليل وهلال رمضان ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ) أو بالحس الباطني مثل : الجوع والعطش ، ومنه بركة الإيمان ، والسكينة التي تصاحب التقوى .
الثالث : التجريبيات : وهي التي يتعلمها الإنسان بالتجربة مثل الصحة والعافية عند الصيام ، قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : صوموا تصحوا ) ( ) وكذا في المعارف المكتسبة بالسفر ، وعن ابن عمر قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “سافروا تصحوا وتغنموا”)( ) وروي عن ابن عباس .
ومثل العسل حلو المذاق .
الرابع : الحدسيات : وهي التي يتوصل إليها الإنسان بالحدس والفطنة ، وهي تختلف عن التجريبيات بادراكها من غير فعل من الإنسان ، إن حصلت أيضاً بالتكرار مثل إدراك الإنسان بأن الكسوف والخسوف آية من عند الله ، ومناسبة للدعاء وأداء صلاة الآيات .
وجاء العلم الحديث ليبين السبب العلمي للكسوف بصيرورة القمر برزخاً وحاجباً بين الشمس وبين الأرض ، أما خسوف القمر فهو لحيلولة الأرض بين الشمس والقمر لأنه يقتبس نوره من الشمس ، وهو لا يتعارض مع الحاجة إلى صلاة الآيات بل دلالة وجوبها أكثر وضوحاً ، لأن أفراد عالم الفلك وعالم الكون ملك لله عز وجل ، وأنها تجري بنظام دقيق قال تعالى [لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ]( ).
ويدل ما يخرج عن هذا النظام كالكسوف والخسوف على أن الله عز وجل لم يترك السموات والأرض وشأنها بعد أن خلقها بل هو ممسكها في كل لحظة ومدبر أمورها .
ويرى الناس من آياتها تخويفاً ولزيادة إيمان المؤمنين ، وزجر إنذار الكافرين ، ومنه زجر المشركين عن الهجوم على المدينة المنورة لإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
(عن أبي مسعود الانصاري قال انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال الناس انكسفت الشمس لموت إبراهيم.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله وإلى الصلاة)( ).
لذا شرعت الصلاة الآيات في الكسوف والخسوف , وأطراف كل منها هي :
الأول : الشمس .
الثاني : القمر .
الثالث : الأرض .
الخامس : المتواترات : وهي القضايا التي أخبر عنها جماعة بحيث يُقطع بعدم تواطئهم على الكذب ، ومنها الوقائع والأحداث في الأمم السابقة ، ومنها ما يكون في الزمن الحاضر مثل شروق الشمس لأشهر في القطب الجنوبي لتتعقبه شهور من الظلمة .
ومثل هذا النوع من القضايا بالحديث المتواتر الذي نقله جماعة عن جماعة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحيث يقطع بعدم تواطئهم على الكذب في مقابل خبر الواحد الذي اختلف في حجيته ، والمختار أنه حجة مع القرينة ، وعدم معارضته للكتاب والسنة .
وهل عدم غزو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحداً من المتواترات ، الجواب نعم ، إذ تشهد له آيات القرآن ، وأخبار السنة النبوية عند التدبر .
وهل آيات القرآن من المتواترات ، الجواب إنها بمرتبة أعلى من المتواترات لإخبارها بالذات عن نزولها من عند الله عز وجل ، ونقل أمة من الصحابة لها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم أمة عن أمة ، قال تعالى [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
السادس : الفطريات : وهي القضايا التي يعرفها الإنسان بالفطرة ،وما رزقه الله من العقل النوعي العام ، مثل نعم الله ظاهرة وباطنة ، والسلام جميل ، والإحسان حسن ، والظلم قبيح .
الثانية : الجدل : وهو الصناعة الثانية في منهاج علم المنطق ، ومنه آداب المناظرة ، قال تعالى [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
والجدل صناعة علمية يستحضر بها الإنسان الحجة من المقدمات للمطلوب الذي يراد بحسب الإمكان , وقيد حسب الإمكان لإن الذي يجادل يعجز عن استحضار كل المطالب والأدلة ، وقد يفوته الأهم منها نسياناً أو سهواً مع إحاطته به ، أو مع الجهل به .
وهو لا يضر في إحتسابه صاحب صناعة كما في عجز الطبيب عن معالجة بعض الأمراض حتى في اختصاصه ، فانه لا ينفي عنه صفة الطبيب ، ولا يتم الجدل إلا بين طرفين بينهما خلاف ونزاع .
أحدهما : يسعى في الحفاظ على وضع وهيئة لإلزام الغير أو السلامة من إفحامه ، ويسمى (المجيب) ويحتاج استحضار المشهورات.
الثاني : وهو الذي يسعى لنقض قول وحجة المجيب ، وبيان الخلل في مقدماته ،ولو بالمغالطة ، ويسمى (السائل).
ويسمى كل من المجيب والسائل (جدلي)
ويتم الجدل في الغالب بصيغة السؤال ، وقد يقع بين أكثر من طرفين.
ومن إعجاز القرآن لغة الجدل فيه ، مثل الجدل الذي دار بين الأنبياء وقومهم ، ومنه جدال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع المشركين ، قال تعالى [وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
وقد ورد لفظ (قل) في القرآن (332) مرة كلها موجهة من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باستثناء أربعة منها ، وكثير من لفظ (قل) في باب الجدل والإحتجاج على الكفار وهو من الشواهد على صبغة السلم في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فكان سلاح الجدل الحسن والإحتجاج أعظم الأسلحة للهداية ، وهو وسيلة لإمتناع طائفة من الناس من محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل ساعد هذا الجدل على دخول الناس في الإسلام ، وعلى إنحسار غزو المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم .
لأن جدل القرآن حجة وبرهان وفضح لمغالطات المشركين.
وأيهما أكثر ورود الجدل في السور المكية أو المدنية ، الجواب هذا سؤال مستحدث يستلزم التحقيق والتتبع للآيات ،وإحصاء مواضيع الجدل في السور .
والمختار أن الجدل في السور المكية هو الأكثر مع قلة آياتها وكلماتها بالنسبة للسورة المدنية ، إذ أن أكثر جدال الأنبياء مع قومهم في السور المكية ، كما ورد جدال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع المشركين .
وتمتاز السور المكية بورود لفظ (كلا) فيها ، وهو لفظ لم يرد إلا في النصف الأخير من القرآن ، ومن آيات الجدال والبرهان التي تجمع لفظ (قل) و(كلا) قوله تعالى [قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ).
ومقدمات الجدل على قسمين :
الأول : المشهورات ،وهي القضايا التي يتفق عليها الجميع مثل (شكر المنعم واجب)(العدل حسن) (السلم المجتمعي حاجة) أو تتفق عليه فرقة أو طائفة مثل هل ساعة الفجر من النهار أو لا .
الثاني : المسلمات : وهي القضايا التي يسلم لها الخصم الذي تناظره ، وإن لم يقل ويؤمن بها المستدل سواء كان السائل أو المجيب ، مثل إذا ثبت الهلال في مصر فانه يثبت في الأمصار الأخرى أو مثل لكل بلد رؤيته .
وهل قانون آيات السلم محكمة غير منسوخة الذي هو موضوع هذا الجزء من المشهورات أم من المسلمات أم ليس منهما .
المختار أنه من المشهورات ، ولكن مع البيان والجدل والبرهان .
وقد يلجأ الجدلي إلى المظنونات ، وهي أقل مرتبة من المشهورات والمسلمات ، إذ أن البرهان يتألف من مقدمات يقينية نظرية كانت أو ضرورية ، والمظنونات يرجح فيها أحد الطرفين أو القولين ، مع جواز الطرف أو القول الثاني .
فالظن هو ترجيح من غير قطع أو جزم ، فتأتي الأخبار بأن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خرج بأصحابه في كتيبة فيظن بعضهم أنه في غزو ، ولكن عند تتبع الخبر وسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ثم عودتهم من غير أن يلقوا كيداً يتبين أنه ليس غزواً إنما هي كتيبة استطلاع ، وتبليغ نوعي خارج المدينة.
وهل أغاظ قريشاً هذا الأمر ، وصاروا يجادلون فيه ويحسبونه تحدياً لهم ، الجواب نعم .
ومنها المقبولات ، وهي التي يتلقاها الناس من الفقهاء والعلماء ، وذوي الخبرة ، وكالقضايا والنصائح التي يأخذها الناس والمرضى خاصة من الأطباء .
ومن الذين يوثق به وأن كان من غير ملة أو طائفة أو مذهب ، ومنه المراسيل.
ومن المقبولات الحياة في عالم البرزخ ، وحياة القبر ، قال تعالى [وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ]( ).
ومنه إخبار الثقة للمسافر ونحوه عن جهة القبلة ، ورأي الخبير والطبيب الحاذق ، ونصيحة المصلح ، وقد تقدم ذكر المقبولات .
الثالثة : الخطابة : وهي الصناعة التي يراد منها إقناع الخصم ، وتكون في الأمور الجزئية غالباً ، وعدم الإرتقاء إلى الكليات التي تستلزم البرهان والجدال ، وتتألف من وجهين :
الأول : المقبولات وهي التي يتم تلقيها ممن يرجع إليه الناس مثل الأنبياء والأئمة عليهم السلام والحكماء وذوي الإختصاص ، والخطابة وسيلة للإقناع ، والجدل أكثر أثراً في الإلزام ، والنسبة بين الجدل والخطابة عموم وخصوص من وجه، إذ تتقوم الخطابة بالوعظ والأمل ، والتخويف ، ونحوه من رسائل الإقناع .
والغاية من الخطابة الترغيب والترهيب ، الترغيب بالمنافع والمحاسن ، والتخويف من الأضرار في النشأتين.
الثاني : المظنونات : وهي التي يكون فيها الحكم والترجيح لأحد الطرفين من غير قطع أو جزم .
وقد يكون الظن خاطئاً بترجيح المرجوح كما ورد في ذم طائفة من المنافقين بقوله تعالى [بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا] ( ) والآية من الإعجاز إذ وصفت هذا الظن بأنه ظن سوء وغلبة للوهم والحسد .
(قالوا : إنَّ محمّداً وأصحابه أكلة رأس فلا يرجعون ، فأين تذهبون ، انتظروا ما يكون من أمرهم)( ).
والمراد من (أكلة رأس) أي جماعة قليلة إجتمعت على أكل رأس بعير سرعان ما ينتهون من أكله ، كذلك ظنوا بأن النبي وأصحابه سرعان ما يقتلهم المشركون وهم في طريقهم إلى مكة لأداء العمرة في السنة السادسة للهجرة ، وكان عددهم ألف وأربعمائة ، فانعم الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يومئذ بصلح الحديبية ، ونزل قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ) .
الرابعة : صناعة الشعر : وهي في إصطلاح أهل الميزان والمنطق الكلام المنحوت في القضايا العاطفية التي لا تترشح عن العقل ، وعن حكمة ، ولكنها تؤثر في النفس ، وتلزم الإنشراح أو قبض النفس ، وإذا اقترن الشعر بالوزن والقافية أو السجع كان أثره في النفس أشد ، وتميل له الأسماع ، وإن كان من المخيلات التي هي من نسج الخيال ، سواء كانت للترغيب أو للترهيب ، ومن ترغيب المشركين بالربا ورد عنهم حكاية في التنزيل [قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا]( ).
لتبين آيات القرآن الأخرى حرمة الربا ، وضرره ، قال تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( )، وقال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
أما الشعر في إصطلاح البلاغة فهو أعم ، ومنه ما هو حق وصدق ، وقد كان حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقوله حق ، وقابل وفضح شعر الكذب والإفتراء والتفاخر المذموم من قبل المشركين ، قال تعالى [وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ* أَلَمْ تَرَى أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ] ( ).
ويتجلى تفسير الوعيد في آية أخرى بقوله تعالى [فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ] ( ) .
الخامسة : صناعة المغالطة : وهي حجة واهية يتخذها المتحدث للبرهنة على صدقه ، وتوجيه الجدال لها ، وهي لا تفيد القطع واليقين ، إنما المراد إرباك وإحراج الخصم ، ولا أصل لها ,
وإن سلم بها الخصم ، وعجز عن ردها وإبطالها ، وهي على قسمين :
الأول : الوهميات : وهي القضايا الكاذبة التي تتقوم بالوهم في المحسوسات مما لا أصل له عقلاً وواقعاً .
الثاني : المشبهات : وهي القضايا الكاذبة التي تشبه القضايا الصادقة ، لكنها شبهة بدوية تزول بالتدبر وبالتأمل .
وإذا وقعت المغالطة من العالم والحكيم تسمى سفسطة ومن غير العالم والحكيم تسمى (مشاغبة).
وذكر القرآن مغالطات الكفار والجاحدين بالنبوة ، ومنكري البعث منها [قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ] ( ).
ومن إعجاز القرآن تعقب الرد على المغالطة ، للبيان وإعانة المسلمين في صناعة البرهان والجدل والخطابة ، والتنزه عن المغالطة ، ويكون تقسيم الصناعات الخمس بلحاظ التباين في المقدمات أو المادة أو الغاية والنتيجة هل هي اليقين أم الظن .
قانون تلقي رمضان بالشوق معجزة حسية سنوية
هل الصيام مما يحب المسلمون مع ما فيه من التكليف ، الجواب نعم , وهناك تباين موضوعي بين القتال والصيام , قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ]( ).
ويستقبل المسلمون والمسلمات شهر رمضان بالشوق والغبطة والرضا , لتكون هذه الغبطة الجلية والظاهرة معجزة متجددة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي من مصاديق ترشح المعجزات الحسية عن المعجزة العقلية ، فنزلت آية الصيام وهي معجزة عقلية ، ليكون تعاهد المسلمين والمسلمات لها كل عام معجزة حسية متجددة.
وشهر رمضان دعوة للمسلم , وواقية من القتال , إذ يتصف شهر رمضان بالبركة والفيض , فهو شهر العبادة , وأوان التقرب إلى الله عز وجل , وينفرد من بين الشهور بجمعه بين الصلاة والصيام والخلق الحميد , ولا يتخلف أحد من المسلمين عن الصلاة في وجوبها العيني ، أما الصيام فيستثنى منه المريض والمسافر , قال تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]( ).
ومن الفطرة والإيمان استقبال المسلمين شهر رمضان بالشوق ، وفيه ترغيب بالسلم والسعي إليه ، ونشر شآبيب المودة بين الناس.
قانون الصيام أمن وسلم
من خصائص الصيام أنه خير محض , وقد أخبر الله عز وجل بقوله تعالى [وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
والخير عنوان لما فيه النفع والصلاح وما يرغب فيه الناس , ويتمنون المسارعة والسبق فيه في الجملة .
ويكون من معاني وتقدير الآية أعلاه وجوه :
الأول : وإن تصوموا خير لكم في أنفسكم وأهليكم .
الثاني : وإن تصوموا خير لكم في أرزاقكم .
الثالث : وإن تصوموا خير لكم في المنتديات والمجتمعات الخاصة والعامة .
الرابع : وإن تصوموا خير لكم عند الله عز وجل .
وورد لفظ (خير لكم) تسع عشرة مرة في القرآن منها قوله تعالى [وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ]( ) وقوله تعالى [وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
ويمكن تأسيس مدرسة كلامية اسمها (مدرسة خير لكم) والتي تشمل أبواب العقائد والعبادات والمعاملات ، وأمور الدنيا والآخرة ، وقصص الأنبياء والتأسي بهم ، قال تعالى [وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
والنسبة بين الصبر والصيام عموم وخصوص مطلق , فالصبر أعم .
ومن الصبر العمل بمضامين آيات السلم وتعاهد مضامينها , وجاءت السنة بالحضّ على صوم الجوارح في شهر رمضان , و(عن أنس مرفوعاً : خيرة الله من الشهور شهر رجب وهو شهر الله ، من عظم شهر رجب فقد عظم أمر الله ، ومن عظم أمر الله أدخله جنات النعيم وأوجب له رضوانه الأكبر ، وشعبان شهري فمن عظم شهر شعبان فقد عظم أمري ، ومن عظم أمري كنت له فرطاً وذخراً يوم القيامة ، وشهر رمضان شهر أمتي فمن عظم شهر رمضان وعظم حرمته ولم ينتهكه ، وصام نهاره ، وقام ليله ، وحفظ جوارحه ، خرج من رمضان وليس عليه ذنب يطلبه الله به)( ).

التقوى خاتمة آية الصيام
من الإعجاز في المقام اختتام آية الصيام بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ) , ويقال اتقيته , تقى وتقية , وتقاء : أي حذرته وخشيت جانبه .
والتقوى في الإصطلاح , طاعة الله والتقيد بأحكام الشريعة , والخوف والخشية من الله عز وجل في السر والعلن , والإمتناع عما نهى الله عز وجل عنه , واتقاء المعاصي , قال تعالى [وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ) .
وفي قوله تعالى أعلاه نهي عن القتال كونه سبباَ ومباشرة لسفك الدماء وإزهاق الأرواح , وقد تقدم في الجزء الواحد والثلاثين من هذا السِفر :
(واذا تمكنت التقوى من القلب واستولت على آفاقه ظهرت آثارها في الأركان وانفعلت بصفاتها أفعال الجوارح وليقترن ذكره تعالى بشكره والمجاهدة في طاعته) ( ) .
و(عن الحسين بن علي عليهما السلام قال : سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لي: إعمل بفرائض الله تكن أتقى الناس، وارض بقسم الله تكن أغنى الناس، وكف عن محارم الله تكن أورع الناس، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مؤمنا ، وأحسن مصاحبة من صاحبك تكن مسلما) ( ).
الخامس : تجدد رفع ألوية السلم والأمن المجتمعي عند حلول شهر رمضان في كل سنة , ومن خصائص شهر رمضان الجمع والتداخل بين قوانين :
الأول : قانون اجتناب الخصومة والفتنة مقدمة للدخول في شهر رمضان .
الثاني : قانون مجئ رمضان والصيام فيه على الخصومة السابقة.
الثالث : قانون كل يوم من أيام الصيام دعوة للإحسان والتكافل الإجتماعي .
الرابع : قانون منع شهر رمضان والصيام فيه من الإقتتال اثناءه وبعده .
وهل من صلة بين قوله تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ]( ) وبين قانون (لم يغزُ النبي”ص” أحداَ)( ) الجواب نعم .

قانون السلام جامع بين آيات نداء الإيمان
قد تقدمت الإشارة إلى هذا العنوان في الجزء الثالث والثلاثين بعد المائتين من هذا السِفر.
وآيات نداء الإيمان مصطلح مستحدث في هذا التفسير والمراد هي الآيات التي تتضمن نداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا] وعددها تسع وثمانون آية ، وفيه مسائل :
الأولى : تشريف وإكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بان تفضل الله عز وجل بتسمية المسلمين بصفة الإيمان .
الثانية : البشارة للمؤمنين والمؤمنات في الأجر والثواب في الآخرة .
الثالثة : النجاة من عذاب البرزخ ، لأن الذي يسميه الله عز وجل مؤمناً لا يعذبه .
الرابعة : أكرام المسلمين والمسلمات .
الخامسة : التبكيت والذم للمشركين والمنافقين ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( ).
السادسة : وجود خصوصية وموضوعية للموضوع والحكم الذي تتضمنه آية نداء الإيمان .
وقد يشمل الآية أو الآيات التي بعدها أيضاً لقراءة وتفسير الآية بذاتها ، وباضافة نداء الإيمان لها ، فمثلاً قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
فمع قصر الآية ، وقلة كلماتها فانها تدعو المسلمين إلى الإستعانة بالصبر في طاعة الله ، وفي تحمل الأذى في مرضاته ، وفي الصبر عن المعصية ، ومن وجوه الصبر في الآية إختيار السلم ، والسعي لتثبيت الأمن العام في الأرض، وكذا بالنسبة للجوء إلى الصلاة وإتخاذها شعارها للهدى ولواء للسلم.
وآيات النداء وفق نظم القرآن هي :
الأولى : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
الثانية : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
السادسة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
السابعة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
الثامنة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
التاسعة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ]( ).
العاشرة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
الحادية عشرة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
الثانية عشرة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ]( ).
الثالثة عشرة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
الرابعة عشرة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
الخامسة عشرة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
السادسة عشرة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]( ).
السابعة عشرة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ).
الثامنة عشرة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
التاسعة عشرة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا]( ).
العشرون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا]( ).
الواحدة والعشرون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا]( ).
الثانية والعشرون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً]( ).
الثالثة والعشرون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا]( ).
الرابعة والعشرون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا]( ).
الخامسة والعشرون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا]( ).
السادسة والعشرون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا]( ).
السابعة والعشرون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا]( ).
الثامنة والعشرون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ]( ).
التاسعة والعشرون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
الثلاثون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الواحدة والثلاثون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
الثانية والثلاثون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
الثالثة والثلاثون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الرابعة والثلاثون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ]( ).
الخامسة والثلاثون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
السادسة والثلاثون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
السابعة والثلاثون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
الثامنة والثلاثون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
التاسعة والثلاثون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
الأربعون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ]( ).
الواحدة والأربعون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ]( ).
الثانية والأربعون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
الثالثة والأربعون : قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنْ الآثِمِينَ]( ).
الرابعة والأربعون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ]( ).
الخامسة والأربعون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ]( ).
السادسة والأربعون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ]( ).
السابعة والأربعون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
الثامنة والأربعون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( ).
التاسعة والأربعون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الخمسون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
الواحدة والخمسون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
الثانية والخمسون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]( ).
الثالثة والخمسون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ]( ).
الرابعة والخمسون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ]( ).
الخامسة والخمسون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
السادسة والخمسون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
السابعة والخمسون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الثامنة والخمسون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]( ).
التاسعة والخمسون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
الستون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا]( ).
الواحدة والستون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا]( ).
الثانية والستون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً]( ).
الثالثة والستون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا]( ).
الرابعة والستون : قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( ).
الخامسة والستون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا]( ).
السادسة والستون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا]( ).
السابعة والستون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ]( ).
الثامنة والستون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ]( ).
التاسعة والستون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
السبعون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ).
الواحدة والسبعون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( ).
الثانية والسبعون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
الثالثة والسبعون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ]( ).
الرابعة والسبعون : قوله تعالى [َاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الخامسة والسبعون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ]( ).
السادسة والسبعون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ]( ).
السابعة والسبعون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الثامنة والسبعون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
التاسعة والسبعون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ]( ).
الثمانون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
الواحدة والثمانون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ]( ).
الثانية والثمانون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ]( ).
الثالثة والثمانون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ]( ).
الرابعة والثمانون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ]( ).
الخامسة والثمانون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
السادسة والثمانون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ]( ).
السابعة والثمانون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الثامنة والثمانون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
التاسعة والثمانون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
ووردت آيات النداء من سورة البقرة إلى سورة التحريم ، وتضمنت سورة المائدة التي هي آخر سور القرآن نزولاً أكثر عدداً من آيات النداء بالنسبة للسور الأخرى وهي كالآتي:
السورة عدد المرات
سورة البقرة 11
سورة آل عمران 7
سورة النساء 9
سورة المائدة 16
سورة الأنفال 6
سورة التوبة 6
سورة الحج 1
سورة النور 3
سورة الأحزاب 7
سورة محمد 2
سورة الحجرات 5
سورة الحديد 1
سورة المجادلة 3
سورة الحشر 1
سورة الممتحنة 3
سورة الصف 3
سورة الجمعة 1
سورة المنافقون 1
سورة التغابن 1
سورة التحريم 2
لقد جعل الله عز وجل آيات نداء الإيمان وثائق سماوية تبين أحكام الشريعة ، وصدق إيمان المسلمين ، وتعاهدهم العمل بمضامينها القدسية.
ومن خصائص هذه الآيات منعها المسلم من الإبتعاد أو الإعراض عنها ، أو العزوف عن سننها .
وهل ينحصر الخطاب إلى المسلمين في القرآن بنداء الإيمان ، الجواب لا ، ويمكن القول بقانون كل آية من القرآن هي خطاب للمسلمين والمسلمات سواء في المنطوق أو المفهوم ، وهي مناسبة لإقتباسهم المواعظ منها.
ويمكن التحقيق وتأويل آيات نداء الإيمان بلحاظ القوانين الأصلية في ذات منهاج هذا التفسير فتضمن هذا الجزء دراسة عدد من هذه الآيات بلحاظ قانون هذا الجزء وهو (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
تقدير آية [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ]( )
ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : كتب عليكم القتال دفاعاَ , وهو المعنى المتبادر والظاهر من الآية , ويفسر القرآن بعضه بعضاَ , قال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ) لبيان قانون وهو إذا لم يقاتل المشركون المسلمين فليس من قتال.
الثاني : كتب عليكم القتال القليل ليكون مانعاً من القتال المستمر , وزجراَ للمشركين عن الإستمرار بالهجوم على المدينة .
الثالث : قانون كتب عليكم القتال لتثبيت السلم في الأرض .
الرابع : كتب عليكم القتال كي تستريحوا ويخفف عنكم القتال.
وتدل آيات القرآن على إنقطاع القتال , وعدم استدامته ، قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( ) .
ولم تقل الآية : كتب عليكم القتال وهو كره) وتقف عند الكره ، إنما أضافت الكره إلى المسلمين لبيان عدم إنحصار معنى الآية بكراهية القتال من جهة الطبع وما فيه من المشقة والأذى والخسارة الفادحة , وفقد الأحبة , وكثرة الجراحات والعاهات , وقطع الأيدي أو الأرجل .
فهذا الأذى عام لأطراف القتال مطلقاَ سواء المسلمين أو غيرهم , إنما تشمل الآية معنى إضافياً آخر , وهو قانون التباين والتضاد بين الإيمان والرغبة في القتال .
وهل تدل الآية على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج للقتال في معركة بدر , الجواب نعم .
وتدل عليه الشواهد التأريخية , ومنه إعتذار وجهاء من المدينة عند عودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المعركة بأنهم لم يعلموا بوقوع قتال في خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ولهذا لم يخرجوا معه , إذ لاقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند (الروحاء رءوس الناس يهنئون بما فتح الله عليه.
فقال له أسيد بن الحضير: يا رسول الله الحمد لله الذى أظفرك وأقر عينك، والله يا رسول الله ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدوا، ولكن ظننت أنها عير، ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت.
فقال له رسول الله : صدقت)( ) .
وقال (رَاجِزٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ – قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يُقَالُ إنّهُ عَدِيّ بْنُ أَبِي الزّغْبَاءِ :
أَقِمْ لَهَا صُدُورَهَا يَا بَسْبَسُ … أَلَيْسَ بِذِي الطّلْحِ لَهَا مُعَرّسُ
وَلَا بِصَحْرَاءِ غُمَيْرٍ مَحْبَسُ … إنّ مَطَايَا الْقَوْمِ لَا تُخَيّسُ
فَحَمَلَهَا عَلَى الطّرِيقِ أَكْيَسُ … قَدْ نَصَرَ اللّهُ وَفَرّ الْأَخْنَسُ) ( ) .
مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعلن النفير عند خروجه من المدينة إلى معركة بدر , إنما كان في كتيبة استطلاع , ودعوة إلى الإسلام , ولكن المشركين هم الذين أعلنوا النفير في مكة , وجهزوا الجيوش للقتال .
الخامس : قانون كتب عليكم القتال لإتصاف المشركين بالظلم والتعدي .
السادس : كتب عليكم القتال وسينصركم الله عز وجل , قال تعالى [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ]( ) .
السابع : قانون كتب عليكم القتال فلا تتخلفوا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأن حب الراحة والقعود يؤدي إلى اقتحام المشركين المدينة , لذا فمن معاني كتب عليكم القتال , أي فرض عليكم الدفاع .
الثامن : كتب عليكم القتال كما كتب على المؤمنين من قبل , قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ) .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان واختبار وابتلاء , قال تعالى [وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ]( ) .
وقال تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] ( ) .
إذ تدل الآية أعلاه على أن الأنبياء والمؤمنين قبل الإسلام لم يكونوا يغزون ويهجمون إنما كانوا في حال دفاع .
و(قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل)( ) .
التاسع : تُرى ما هي النسبة بين الجهاد والدفاع , الجواب هو العموم والخصوص المطلق , فالجهاد أعم ولا يدل على إرادة الغزو والهجوم من الجهاد , فمن معاني الجهاد الدفاع وصد المشركين , والصبر وتحمل الأذى وجهاد الكسب والمعيشة , قال تعالى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ]( ) .
وقال تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] ( ) .
العاشر : لم يرد لفظ (كُرْهٌ) في القرآن إلا في آية البحث , فمع ورود هذا الرسم عشر مرات في القرآن منها [لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( )، [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ]( )، إلا أن المقصود من المصدر بمعنى الوصف لم يرد إلا في آية البحث لبيان شدة كراهية القتال في نفوس المسلمين وأنهم عندما دخلوا الإسلام طلباَ للعافية والأمن في النشأتين .
و(عن عكرمة في قوله {وهو كره لكم}( ) قال : نسختها هذه الآية {وقالوا سمعنا وأطعنا}( )، وأخرجه ابن جرير موصولاً عن عكرمة عن ابن عباس)( ) .
والمختار أنها غير منسوخة فقوله تعالى [وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( )، من مصاديق السلم والأمن ، ومن الشواهد على أن المسلمين لا يلجأون إلى القتال إلا للضرورة.
وهناك تباين موضوعي بين الكره وهو كيفية نفسانية وبين (سمعنا واطعنا) وهو قول وفعل.
و(قال ابن جريج قلت لعطاء : قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ}( ) أواجب الغزو على الناس من أجلها أو كتب على أولئك حينئذ ، وأجرى بعضهم الآية على ظاهرها فقال : الغزو فرض واجب على المسلمين كلّهم إلى قيام الساعة)( ).
ولا دليل على هذا القول ولا تعني الآية الأمر بالغزو , و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ثلاث من أصل الإيمان : الكفّ عمّن قال : لا إله إلاّ الله ما لم يره بذنب ، ولا يخرجه من الاسلام بعمل ، والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أُمتي الدّجال لا يبطنه ضنّ ولا شك ، والإيمان بالأقدار)( ).
ولم يقل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (الغزو ماض) إنما ذكر الجهاد والجهاد لغة بذل الجهد والوسع والطاقة , ولقاء المشقة والعناء , فهو عام يشمل حياة الفرد والجماعة والإبتلاء والسعي في أمور الدين والدنيا , لذا سمي الجهاد الأكبر .
ومن أظهر وجوه الجهاد , مجاهدة النفس , والإمتناع عن اتباع الشهوات , ومن وجوه الجهاد ضد المشركين الإحتجاج , قال تعالى [فَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا] ( ).
لم يقع قتال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلا بإصرار المشركين على القتال وإرادتهم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهل يعني هذا أن قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ]( )، أي أن المشركين هم الذين فرضوا القتال.
الجواب لا , إنما فرض كتابة القتال من عند الله عز وجل دفاعاً وضرورة ، وتقدير الآية على وجوه :
الحادي عشر : كتب الله عليكم القتال دفاعاَ , ولو شاء الله عز وجل لم يقع قتال بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين , ولكن كتابة وفرض القتال من جهات :
الأولى : بيان معجزة متعددة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية .
الثانية : إقامة الحجة على المشركين في الدنيا والآخرة بأنهم معتدون .
الثالثة : تثبيت سنن الإيمان في الأرض بأحكام الشريعة السماوية .
الرابعة : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل وسط الميدان مع قرب القتل منه , ولم يفصل سيوف المشركين عنه يوم معركة أحد إلا بضع أمتار , وكانت حجارتهم تصل إليه , وتعدد جراحاته يومئذ بسبب رميه بالحجارة من قبل المشركين .
و(عن ابى طلحة غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه وكان يوم يوم بلاء وتمحيص اكرم الله فيه من اكرم من المسلمين بالشهادة حتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقذف بالحجارة حتى وقع لشقه واصيبت رباعيته وشج في وجهه وكلمت شفته وكان الذى اصابه عتبة بن ابي وقاص) ( ).
وكسرت الرباعية من أسنان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسال الدم من وجهه فصار يمسحه (وَهُوَ يَقُولُ كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَبُوا وَجْهَ نَبِيّهِمْ ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلَى رَبّهِمْ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِي ذَلِكَ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنّهُمْ ظَالِمُونَ }( ))( ).
الثاني عشر : فرض عليكم القتال في سبيل الله ، وفي القرآن مطلق ومقيد ، ومنه تقييد آيات القتال بأنه في سبيل الله ، وبقصد القربة ، إذ قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ]( ).
الثالث عشر : بينما ذكر في آية الصيام [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )، لم تذكر آية القتال الذين من قبلنا ، وهو من إعجاز القرآن وبيان أنه ليس كل الأنبياء وأمم المسلمين فرض عليهم القتال ، كما في عيسى عليه السلام.
ويمكن تأسيس علم جديد وهو (علم المقارنة بين آيات نداء الإيمان) .
الرابع عشر : كتب عليكم القتال [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
الخامس عشر : كتب عليكم القتال [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]( ).
السادس عشر : كتب عليكم القتال [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
السابع عشر : كتب عليكم القتال [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
الثامن عشر: كتب عليكم القتال ليكون [الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ]( ).
التاسع عشر : كتب عليكم القتال المحدود لتثبيت السلم والأمن للأجيال اللاحقة ، فما أن تم صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة النبوية حتى انقطع القتال بين الصحابة والمشركين ، وقد تبدد قبله الغزو بين القبائل وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
العشرون : كتب الله عليكم قتال المشركين لإحقاق الحق , وتثبيت السلم والأمن في الأرض.
آية الوصية
قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ] ( )، هذه الآية الثانية من آيات (كتب عليكم) وفق نظم القرآن .
والخير هو المال , قال تعالى [وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ]( ) .
وعن الإمام علي عليه السلام (الف درهم فصاعداَ , فلا وصية في أقل) , و(عن عروة أن الإمام علي عليه السلام دخل على مولى لهم في الموت ، وله سبعمائة درهم أو ستمائة درهم فقال : ألا أوصي قال : لا إنما قال الله { إن ترك خيراً } وليس لك كثير مال ، فدع مالك لورثتك)( ).
وهل تدخل فيه دار السكن المختار لا , لأنه سكن للعائلة , وكذا السيارة من المؤونة , إنما المراد من الخير في الآية هو الزائد عن المؤونة , ولو دار الأمر في المال ومقداره بين حاجة العيال وبين الوصية تقدم حاجة ومؤونة العيال .
وكان العرب قبل الإسلام يوصون بأموالهم للرؤساء وأصحابهم من وجهاء القوم , لتكون آية البحث وموضوعها والمقاصد السامية منها من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإرادة العدل وتفقه الناس في الدين .
ومعرفة قياس الأولوية , وتنمية ملكة صلة القربى , وعدم مغادرة المسلم الحياة الدنيا إلا ببر الوالدين .
ولتكون العناية بالأولاد وحسن تربيتهم وترك الوأد من باب الأولوية في الوصية لذوي القربى , قال تعالى [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ( ) .
(عن ابن عباس في قوله { إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين }( ) قال : فكانت الوصية لذلك حين نسختها آية الميراث .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : نسخ من يرث ، ولم ينسخ الأقربين الذين لا يرثون .
وأخرج وكيع وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن عمر . أنه سئل عن هذه الآية { الوصية للوالدين والأقربين }( ) قال : نسختها آية الميراث) ( ) ويدل عليه وجود حصة ثابتة للوالدين في الميراث وهما وفق المرتبة الأولى في الميراث , لكل منهما السدس مع وجود الوالد , قال تعالى [وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ]( ).
وفي الوصية للوارث كالوالد أو الابن وجوه :
الأول : لا وصية لوارث , إنما يأخذ حقه في الميراث ، وهو مشهور الإسلام , واستدل عليه بقول للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إن الله اعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث)( ) أي نسخ الوصية للوارث , ولكنها بقيت للأقربين من ذوي الحاجة والفاقة .
وورد هذا الحديث بعدة طرق منها ما هو ضعيف سنداَ , منها حديث عمرو بن خارجة يرفعه , إذ يروي قتادة عن شهر بن حوشب وهو ضعيف لسوء حفظه , وقيل روى حديث ابن عباس عن عطاء الخراساني وهو لم يسمع من ابن عباس , وهو غير عطاء بن أبي رباح .
ومنه الزيادة بإجازة الورثة , عن (ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : لاَ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ.
عَطَاءٌ هَذَا هُوَابْنُ الْخُرَاسَانِىُّ لَمْ يُدْرِكِ ابْنَ عَبَّاسٍ وَلَمْ يَرَهُ قَالَهُ أَبُو دَاوُدَ السَّجِسْتَانِىُّ وَغَيْرُهُ)( ).
ومنه الزيادة التي رواها عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده .
الثاني : لم تُنسخ آية البحث , ويجوز جمع الوارث بين الوصية والميراث , وهو المختار على أن لا تزيد الوصية مطلقاً عن ثلث التركة.
وليس من تعارض بين الآيتين , ولقانون أسسته في مباحث التفسير , وهو لو دار الأمر بين كون الآية منسوخة أو لا ، فالأصل هو عدم النسخ خاصة مع وجود الراجح في الوصية لبعض الورثة كالمستضعف , وطالب العلم والفقير المحتاج ونحوه .
الثالث : المنسوخ هو الفرض دون الندب والإستحباب .
ومن إعجاز آية القصاص العفو بقوله تعالى [فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ]( ) ومن العفو قبول الدية في قتل العمد .
و(عن ابن عباس قال : كان في بني إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية فقال الله لهذه الأمة [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى]( )، إلى قوله [فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ]( )، فالعفو أن تقبل الدية في العمد [فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ] يتبع الطالب بالمعروف ويؤدي إليه المطلوب بإحسان [ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ] مما كتب على من كان قبلكم [فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ]( ) قتل بعد قبول الدية {فله عذاب أليم } ( ))( ).
دلالات الكلمة القرآنية
يمكن تأسيس علم جديد وهو تتبع كثير من الكلمات في القرآن مع التحقيق بخصوص كل كلمة منها من جهات :
الأولى : عدد المرات التي ذكرت فيها .
الثانية : مضمون الآية التي وردت فيها هذه الكلمة .
الثالثة : نظم الآيات .
الرابعة : المعنى اللغوي لذات الكلمة .
الخامسة : أسباب مجئ الكلمة في القرآن ، وهو فرع أسباب النزول .
السادسة : موضوعية هذه الكلمة في الواقع اليومي للمسلمين أمس واليوم وغداً .
السابعة : منافع ورود هذه الكلمات في القرآن .
الثامنة : الكلمات التي تؤكد القوانين التي وردت عناوين لأجزاء من هذا التفسير منها :
الأول : قانون لم يغز النبي (ص) أحدا ، صدرت بخصوصه الأجزاء (159-160-161-163-164-165-166-167-169-171-172-173-175-176-177-178-182-185-188-192-200-208-212-218-226-228-238).
الثاني : قانون التضاد بين القرآن والإرهاب ، وصدرت بخصوصه (179-180-183-191-194-195-198-206-207-216-234-235-237).
الثالث : قانون آيات السلم محكمة غير منسوخة ، وصدرت بخصوصه (202-203-204-210-211-231-240).
الرابع : قانون النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب، وصدرت بخصوصه (220-221-222-225-227).
الخامس : قانون آيات الدفاع سلام دائم، وصدرت بخصوصه (201-214-215-228-230).
التاسعة : موضوعية الكلمة القرآنية في قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
العاشرة : ذكر الكلمات التي تدل على أن المشركين هم الغزاة المعتدون الذين أرادوا الإبادة العامة للمسلمين .
الحادية عشرة : كلمات السلم والصلح ، والموادعة وسلامتها من النسخ خاصة التي وردت في السور المدنية ،ومنها سورة المائدة .
الثانية عشرة : إتخاذ المسلمين الكلمة القرآنية ضياءً .
الثالثة عشرة : إعجاز الكلمة القرآنية من وجوه :
الأول : ذات الكلمة رسماً ولفظاً ودلالة.
الثاني : موضوعية الكلمة في ذات الآية القرآنية التي نزلت فيها .
الثالث : صبغة التنزيل للكلمة القرآنية ودلالاتها اللامتناهية بلحاظ موضوعها ونظم الآيات ، قال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الرابع : أثر الكلمة القرآنية في الواقع العملي ، إذ أن الكلمة القرآنية شاهد على التأريخ وسبيل صلاح ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
لبيان معجزة للقرآن وهي تجدد إرتقاء المسلمين مجتمعين ومتفرقين بالقرآن والصدور عنه ، فكلما ارتقوا إلى مرتبة يخبرهم الله عز وجل بأنه يهديهم بالقرآن إلى التي أقوم وأسمى وأعلى منها.
معجزة فور ماء البئر
لقد نزل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة مع قلة الماء في الموضع وكثرة الصحابة الحضور إذ كانوا ألفاً وأربعمائة.
و(عن جابر بن عبد الله قال : كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنتم خير أهل الأرض)( ).
ولا تكفي البئر في ذات الموضع لحاجتهم في الشرب وحده خاصة وأنه لم يمروا عليها مروراً إنما سيقيمون في الموضع نحو عشرين يوماً ومع قلة الماء تحرك النفاق.
وعن (أَبِي قَتَادَةَ : لَمّا نَزَلْنَا عَلَى الْحُدَيْبِيَةِ، وَالْمَاءُ قَلِيلٌ سَمِعْت الْجَدّ بْنَ قَيْسٍ يَقُولُ: مَا كَانَ خُرُوجُنَا إلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ بِشَيْءٍ نَمُوتُ مِنْ الْعَطَشِ عَنْ آخِرِنَا)( )، لتتجلى المعجزة .
فان قلت كيف ظن موتهم مع أنهم لا يبعدون عن مكة إلا نحو عشرين كيلو متر يستطيع الجمل قطعها في نصف ساعة تقريباً ، الجواب إنه بنى ظنه على قيام أهل مكة بمنع دخولهم إليها ، أو حتى محاصرتهم في الموضع ، بدليل اشارته في كلامه لقريش وأنهم يحسبون مجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حرباً عليهم.
وحينما سمعه أبو قتادة أظهر الحلم وتحلى بالصبر والرضا بقضاء الله ، وقال لا تقل هذا يا أيا عبد الله فلمَ خرجت .
بلحاظ أن هذا الخروج جهاد في سبيل الله , ويحتمل المسلم فيه الموت أو القتل ، ولكن الجد بن قيس أجابه بأنه خرج مع قومه ، لم يشأ أن يتخلف عنهم .
ولم يقل أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو استجابة لندائه.
قال أبو قتادة : فلمَ تخرج معتمراً؟
فقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المدينة يوم الاثنين غرة ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ومعه زوجته أم سلمة ، وليس معهم إلا سلاح الراكب ، السيوف في القرب.
ولما وصلوا إلى ميقات ذي الحليفة ويبعد عن المسجد النبوي (7)كم وفيه مسجد الشجرة قلّد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الهدي( )، وأشعره( ) وأحرم للعمرة ليبعث رسالة أمن وسلام إلى قريش والناس جميعاً ، وهكذا نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كلها سلام ونبذ للإرهاب ، ومنع من إخافة عامة الناس في الجادة والطرق والمنتديات والقرى والمدن والمساكن.
وكان أبو قتادة يظن أن الجد بن قيس قد أحرم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مسجد الشجرة ولكنه أجابه : لا والله ما أحرمت .
ثم سأله أبو قتادة : ولا نويت العمرة .
قال : لا .
وحدث جريان ونبع الماء من البئر بلطف وفضل من الله بطريقين كل واحد منهما معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم :
الأول : فور الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ركوة وهي قدح فيه ماء ، إذ ورد عن جابر بن عبد الله الأنصاري يوم الحديبية و(عن سلمة ابن الاكوع قالا: عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة، وقال جابر في رواية وقد حضر العصر، وليس معنا ماء غير فضلة، فجعل في اناء فاتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ منها، ثم اقبل الناس نحوه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما لكم ، قالوا : يا رسول الله، ليس عندنا ماء نتوضأ به، ولا نشرب الا ما في ركوتك فأفرغتها في قدح، ووضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده في القدح، فجعل الماء يفور من بين اصابعه كامثال العيون، فشربنا وتوضأنا، فقال سالم بن أبي الجعد: فقلت لجابر: كم كنتم يومئذ ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة)( ).
الثاني : جريان ماء بئر الحديبية بالماء بلطف من الله وبركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع احتجاج على رؤوس المنافقين .
إيذاء المشركين للنبوة قبل الهجرة
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يسمى في مكة (الصادق الأمين) وهذه التسمية ثمرة حسن السمت والسيرة ليكون من مصاديق وتقدير قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ) أمور :
الأول : وإنك لعلى خلق عظيم قبل أن يأتيك الوحي .
الثاني : وإنك لعلى خلق عظيم في الصدق والأمانة والوفاء .
الثالث : وإنك لعلى خلق عظيم بعد البعثة والنبوة .
الرابع : وإنك لعلى خلق عظيم بالوحي والتنزيل .
الخامس : وإنك لعلى خلق عظيم مع عيالك وأصحابك والناس جميعاً.
ومن خصائص خلافة الإنسان في الأرض الحسن الذاتي للصدق والأمانة ، وميل الناس للصادق الأمين ذي الشمائل الأخلاقية الحميدة ، فكان الناس يميلون إلى شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويودعون عنده أماناتهم ، ويسعون للمضاربة والتجارة معه .
وكانت هذه الخصال من أسباب زواجه من خديجة عليها السلام التي كانت ذات تجارة ، خرج بها مضاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجاء بالأرباح المضاعفة .
لتمر الأيام وتنفق أموالها في الدعوة إلى الله ، ليس هذا فحسب بل عانت من حصار قريش لبني هاشم ، وهو من المعجزات الغيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشواهد على صدق نبوته بتحمل أهل بيته الأذى على نبوته لما فيه من إقرارهم بها ، ولبيان أن أذى المشركين كان على أقسام :
الأول : أذى مشركي قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إيذاء مشركي قريش لأهل البيت .
الثالث : إيذاء المشركين للصحابة الأوائل رجالاً ونساءً قبل الهجرة ، أي لم يكن في البين اسم المهاجرين والأنصار واضطرار رهج منهم بالهجرة إلى الحبشة بتوجيه من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذيهو فرع الوحي ، ولم تتركهم قريش بل بعثت خلفهم لطلبهم من النجاشي والإتيان بهم أسرى مقيدين بالحبال ولكن النجاشي رفض تسليمهم ، قال ابن إسحاق (فَلَمّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَدْ أَمِنُوا وَاطْمَأَنّوا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَأَنّهُمْ قَدْ أَصَابُوا بِهَا دَارًا وَقَرَارًا ، ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنّ يَبْعَثُوا فِيهِمْ مِنْهُمْ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ جَلْدَيْنِ إلَى النّجَاشِيّ ، فَيَرُدّهُمْ عَلَيْهِمْ لِيَفْتِنُوهُمْ فِي دِينِهِمْ وَيُخْرِجُوهُمْ مِنْ دَارِهِمْ الّتِي اطْمَأَنّوا بِهَا وَأَمِنُوا فِيهَا ؛ فَبَعَثُوا عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ وَجَمَعُوا لَهُمَا هَدَايَا لِلنّجَاشِيّ وَلِبَطَارِقَتِهِ ثُمّ بَعَثُوهُمَا إلَيْهِ فِيهِمْ)( ).
الرابع : سعي المشركين لقتل المهاجرين والأنصار وما يسمى الإبادة العامة .
وهذه الأقسام متداخلة ، وكل فرد منها هو ايذاء للجميع ، فايذاء المشركين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إيذاء وحرقة وألم لأهل البيت والصحابة ، وإيذاء الصحابة إيذاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت ، وفيه باب لتعجيل الفرج من عند الله سبحانه .
وعن (ابن إسحاق قال : فحدثني رجال من آل عمار بن ياسر أن سمية أم عمار عذبها هذا الحي من بني المغيرة بن عبد الله بن مخزوم على الإسلام و هي تأبى غيره حتى قتلوها و كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمر بعمار و بأمه و هم يعذبون بالأبطح في رمضاء مكة فيقول : صبرا آل ياسر موعدكم الجنة.
حدثنا أحمد حدثنا يونس عن ابن إسحاق قال : و كان ياسر عبدا لبني بكر من بني الأشجع بن ليث فاشتروه منهم فزوجوه سمية أم عمار فولدت عمارا وكانت سمية أمة لهم فأعتقوا سمية و عمارا و ياسرا)( ).
وفي أسباب نزول قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً]( )، ذكر (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية فيها عمار بن ياسر (وأميرها خالد بن الوليد ، فقصدوا قوماً من العرب ، فأتاهم نذير فهربوا تحت الليل وجاء منهم رجل إلى عسكر خالد ، فدخل إلى عمار فقال : يا أبا اليقظان ، إن قومي قد فروا ، وإني قد أسلمت ، فإن كان ينفعني إسلامي بقيت ، وإلا فررت ، فقال له عمار : هو ينفعك ، فأقم .
فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد سوى الرجل المذكور فأخذه وأخذ ماله، فجاء عمار فقال : خلّ عن الرجل فإنه قد أسلم وإنه في أمان مني ، فقال خالد : وأنت تجير؟ فاستبّا وارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأجاز أمان عمار ، ونهاه أن يجير الثانية على أمير ، واستبّا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال خالد : يا رسول الله أتترك هذا العبد الأجدع يسبني؟ .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا خالد لا تسب عماراً ، فإنه من سب عماراً سبه الله ، ومن أبغض عماراً أبغضه الله ، ومن لعن عماراً لعنه الله ، فغضب عمار ، فقام فذهب ، فتبعه خالد حتى اعتذر إليه فتراضيا ، فأنزل الله عز وجل قوله : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم }( ) وطاعة الرسول هي اتباع سنته ، قاله عطاء وغيره ، وقال ابن زيد : معنى الآية {وأطيعوا الرسول}( )) ( ).
وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي( )، وقد ذكرت هذه الرواية في الجزء الثالث من كتابي الموسوم (معراج الأصول) وهو من تقريرات بحثنا الخارج على فضلاء الحوزة العلمية.
هذا وقد سبقت البشارات إلى قريش بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من طرق متعددة ليتعظوا وينصروه ، ويتجنبوا إيذاءه ، ولا تختص هذه البشارات بالكتب أو أنهم يجدونها في بلاد الشام أو اليمن بل كانت بين ظهرانيهم.
تقدير (خير الماكرين)
ورد هذا اللفظ في القرآن في آيتين هما :
الأولى : قال تعالى [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ) إذ مكروا لتدبير قتل عيسى عليه السلام , ومكر الله عز وجل بخيبتهم وإلقاء صورة المسيح على غيره .
و(قال أهل التواريخ : حملت مريم بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة ودارت بعيسى بيت اللحم من أرض أورشليم لمضي خمسة وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل. ولإحدى وخمسين سنة مضت من ملك الكلدانيين وأوحى اللّه عز وجّل لأُمّه على رأس ثلاثين سنة ، ورفعه إليه من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاثين سنة وكانت نبوّته ثلاث سنين ، وعاشت أُمّه مريم بعد رفعه ستّ سنين.)( ).
الثانية : قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
والآية خطاب من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذكر لفظ (اللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) بخصوص الرسول عيسى عليه السلام والرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم شاهد على اتحاد سنخية النبوة ، ووحدة الحكم بالنسبة للرسل .
وأن الله عز وجل ينجيهم من مكر المشركين ويؤاخذ ويعاقب المشركين .
ومن الإعجاز في المقارنة بين الآيتين مجئ الآية بخصوص عيسى عليه السلام بصيغة الماضي [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ] بينما وردت بصيغة المضارع (ويمكرون) بالنسبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإفادة توالي واتصال واستمرار مكر المشركين .
وتحتمل الآية أعلاه وجوهاَ :
الأول : إنقطاع مكر المشركين للهجرة النبوية .
الثاني : إنقطاع مكر المشركين بانتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
الثالث : استمرار مكر الكفار حتى بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والمختار هو الأخير لأصالة الإطلاق , وتجلي شواهد المكر والخبث في محاربة النبوة في كل زمان , والآية بشارة بحضور اللطف والمدد والنصر من عند الله عز وجل في كل زمان .
وتقدير خاتمة الآية الثانية أعلاه على وجوه منها :
الأول : والله خير الماكرين بصرف أذى المشركين بلطف ورحمة منه تعالى .
الثاني : والله خير الماكرين , إذ يأمرك الله بالهجرة في ذات الليلة التي يريدون فيها قتلك .
الثالث : والله خير الماكرين إذ يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإمتناع عن الغزو والإغارة على المدن والقرى .
الرابع : والله خير الماكرين فيحفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من السجن الذي أراده له المشركون , لتكون سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من السجن والقتل من مصاديق قوله تعالى [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ).
فيحفظ الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بمعجزة وفي هذا الحفظ رحمة للمسلمين والناس جميعاً ، بمصاديق لا يقدر عليها غير الله سبحانه.
ومن هذا الحفظ سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل في غزوات المشركين المتكررة ليجتمع للنبي محمد الحفظ من والعصمة من عند الله بقوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
الخامس : (والله خير الماكرين) في إعلاء كلمة التوحيد واظهار الحق .
السادس : من خصائص مكر الله عز وجل إتصافه باللطف والتخفيف عن الناس جميعاَ , وفي قوم صالح ورد قوله تعالى [وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ*فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ]( ).
تدل الآية أعلاه على تعدد مكر الله ومنه العقوبة وسوء عاقبة قوم صالح , وشدة العقاب من مكر الله عز وجل في المقام .
ومنه (ومكرنا مكراَ) وهو أن رماهم الله عز وجل بصخرة فاهلكتهم( ) لأنهم همّوا بقتل صالح عليه السلام .
(قوله عز وجل {وَمَكَرُواْ مَكْراً } يعني : أرادوا قتل صالح {وَمَكَرْنَا مَكْراً } ، يعني : جثم عليهم الجبل ، فماتوا كلهم ويقال : رجمتهم الملائكة عليهم السلام بالحجارة ، فماتوا فذلك قوله تعالى : { وَمَكَرُواْ مَكْراً } أي : أرادوا قتل صالح ، { وَمَكَرْنَا مَكْراً } يعني : أراد الله عز وجل قتلهم جزاء لأعمالهم ، { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } ، بأن الملائكة يحرسون صالحاً في داره) ( ).
و(عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ اللَّهُ (وَمَكَرُوا مَكْرًا) قَالَ : مَكْرُهُمُ الَّذِي أَرَادُوا بِصَالِحٍ، وَقَوْلُهُ(وَمَكَرْنَا مَكْرًا) قَالَ : مَكْرُ اللَّهِ الَّذِي مَكَرَ بِهِمْ أَنْ رَمَاهُمُ بِصَخْرَةٍ فَأَهْمَدَتْهُمْ) ( ).
ومصاديق مكر الله عز وجل في الآية أعلاه أكثر من أن تحصى لأن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى , ومنه الأمور الشخصية والعامة المصاحبة آنذاك , ومنه ذات الناقة وفصيلها , والإحتجاج على المشركين في قتلهما وكون حليب الناقة يكفي البلدة جميعاَ في يوم ورودها , فهو حجة ودعوة يومية متجددة للتصديق برسالة صالح عليه السلام ومنه نجاة صالح والذين آمنوا معه من القتل ، ومنه العقاب العام الذي نزل بأهل البلدة .
السابع : (والله خير الماكرين) الذي فضح مكر الذين كفروا ورد كيدهم .
الثامن : والله خير الماكرين إذ بات الإمام علي عليه السلام في فراش النبي فكانت سلامة النبي والإمام معاَ .
التاسع : والله خير الماكرين ينصرك ويحفظك في طريق الهجرة ، قال تعالى [ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ).
العاشر : والله خير الماكرين باصلاح الأنصار لإيواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدفاع عنه , قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ]( ).
الثاني عشر : والله خير الماكرين بانزال ملائكته لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وأحد والخندق .
الثالث عشر : والله خير الماكرين بدخول أفواج من الناس في الإسلام .
الرابع عشر : والله خير الماكرين لما فيه هداية وصلاح الناس .
الخامس عشر : والله خير الماكرين بحضور رحمته وفضله في كل حين ، وفي التنزيل [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
السادس عشر : والله خير الماكرين فيمنع المشركين من حبس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو قتله .
السابع عشر : والله خير الماكرين فلم يجعل المشركين يخرجون النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الجهة التي يبغون .
ولو أخرج المشركون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من مكة لتعرض للمخاطر ، ولأغروا به القبائل ، ولكثر الإفتراء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولقيل أنه طريد قريش.
ولا يعلم الأذى والمآخذ التي صرفها الله عز وجل بمنع قريش من إخراج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلا الله عز وجل مع تفضله بتوثيق عزمهم على هذا الإخراج [أَوْ يُخْرِجُوكَ]( )، كيلا تنسى أجيال المسلمين عزم وسعي قريش لإخراج النبي محمد إلى الفلوات .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعو القبائل في موسم الحج إيوائه وحمايته من قريش للشهادة بأنه يريد الخروج من مكة ومغادرتها.
الثامن عشر : والله خير الماكرين الذي يرد كيد المشركين إلى نحورهم ويحول بينهم وبين الإضرار بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
و(عن ابن عباس قال : قال أبو جهل : لئن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لأطأن عنقه .
فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : لو فعل لأخذته الملائكة عياناً) ( ).
عمرة الحديبية سلام
لقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه ألف وأربعمائة من أصحابه من المدينة يريدون العمرة وهم في حال حرب وقتال مع مشركي مكة ومن والاهم من القبائل.
ليكون هذا الخروج معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاهداَ على الوحي من عند الله عز وجل , فلا يمكن أن يقع وفق حسابات الجيوش والأمم المتناحرة , لذا امتنعت طائفة من الأعراب وغيرهم عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحديبية خشية إجهاز قريش وحلفائها عليهم .
وعندما اقترب الجمع المبارك من مكة ووصلوا إلى عسفان لقيهم بشر بن سفيان الكعبي (فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ هَذِهِ قُرَيْشٌ ، قَدْ سَمِعْت بِمَسِيرِك ، فَخَرَجُوا مَعَهُمْ الْعُوذُ ( ) الْمَطَافِيلُ( ) قَدْ لَبِسُوا جُلُودَ النّمُورِ وَقَدْ نَزَلُوا بِذِي طُوًى ، يُعَاهِدُونَ اللّهَ لَا تَدْخُلُهَا عَلَيْهِمْ أَبَدًا ، وَهَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي خَيْلِهِمْ قَدْ قَدّمُوهَا إلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ) ( ) .
لإرادة إخافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , وصدهم عن البيت الحرام , وبعث الصحابة على المناجاة بالعودة من حيث أتوا , خاصة وأنه لم يكن معهم إلا سلاح الراكب , سيوف صغيرة في القرب .
فكان جواب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة في الصبر والدفاع بانتقاله بالقول إلى شدّ عضد أصحابه وتقوية قلوبهم وإظهار ضعف قريش إذ قال (يَا وَيْحَ قُرَيْشٍ لَقَدْ أَكَلَتْهُمْ الْحَرْبُ ، مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلّوْا بَيْنِي وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ ، فَإِنْ هُمْ أَصَابُونِي كَانَ الّذِي أَرَادُوا ، وَإِنْ أَظْهَرَنِي اللّهُ عَلَيْهِمْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَافِرِينَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوّةٌ فَمَا تَظُنّ قُرَيْشٌ ، فَوَاَللّهِ لَا أَزَالُ أُجَاهِدُ عَلَى الّذِي بَعَثَنِي اللّهُ بِهِ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السّالِفَةُ) ( ).
لقد أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن إضرار قريش بانفسهم بكثرة الحروب والمعارك والإنفاق عليها من أموال التجارة وهلاك طائفة منهم بالمعارك .
ليكون قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا تفسيراَ لقوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) .
وعندما سمع الصحابة هذا القول أدركوا أنهم متوجهون إلى مكة من غير خشية من المشركين , وفيه بيان نبوي بعدم الإلتفات إلى التخويف والوعيد الذي تضمنه قول بشر بن سفيان وحال النفير عندهم خصوصا وأنه ينحصر بقوله (يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبداَ) .
وهذا القول شاهد على الضعف الذي أصاب المشركين بعد معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، وظهور عجزهم عن الهجوم والغزو وإكتفائهم بالإمتناع عن دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى مكة معتمرين .
والأصل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد دخول مكة قهراَ على قريش , مع أنه وأصحابه أحق بها ليكون صبره عن دخول مكة وهو فرع الوحي من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
ثم اتجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى التخفيف عن أصحابه وعن المشركين بأن قال (مَنْ رَجُلٌ يَخْرَجُ بِنَا عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ طَرِيقِهِمْ الّتِي هُمْ بِهَا) ( ).
فسار في طريق وعرة فيها صعود ونزول وشق على الصحابة إلى أن وصلوا إلى أرض سهلة في آخر الوادي مما اضطر خيل المشركين برئاسة خالد بن الوليد للرجوع إلى مكة مسرعين ، ووصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحديبية , فبركت ناقته قبل الدخول في الحرم لأن الحديبية خارج الحرم وفي أطرافه .
ثم اتجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بعث السكينة في نفوس أصحابه وتهيئة اذهانهم للصلح : إذ قال (لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها) ( ).
وهل فيه شاهد على أن آيات السلم محكمة غير منسوخة خصوصاَ وأن صلح الحديبية تعقب هذا القول وفي ذات الموضع ، الجواب نعم , لبيان قانون من جهات :
الأولى : قانون السنة النبوية بيان للقرآن .
الثانية : قانون نفي السنة النبوية للقول بنسخ آيات السلم والصلح .
الثالثة : قانون تجلي النفع العام بالسلم والصلح في كل زمان .
الرابعة : قانون من الشواهد على صدق النبوة ميل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصلح والتعجيل بوقف القتال .
ومن بنود صلح الحديبية يأتي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للعمرة في العام التالي ، وهو السابع للهجرة ، و(يكون بينهم صلح متصل عشرة أعوام، يتداخل فيها الناس ويأمن بعضهم بعضاً) ( ).
قانون موضوعية الخندق في الحديبية
هل كانت موضوعية لمعركة الخندق في عقد وإمضاء صلح الحديبية وعمل المشركين بمضامينه وبنوده , الجواب نعم , لبيان النفع العظيم لصبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في ملاقاة جيوش المشركين من وجوه :
الأول : قانون كل معركة دفاعية للمسلمين تزيدهم إيماناً وتقوي شوكتهم .
الثاني : قانون مع كل معركة يدخل رهط من الناس الإسلام .
الثالث : قانون ضعف ووهن المشركين عقب كل معركة .
الرابع : قانون فضح المشركين بأنهم الغزاة في كل معركة .
الخامس : قانون النقص المتصل والمتتالي في أموال المشركين وإبلهم الخاصة بالتجارة في رحلة الشتاء إلى اليمن ، ورحلة الصيف إلى الشام .
لقد كان جهد وتخطيط قريش في محاربة النبوة والتنزيل دقيقاَ ومخيفاَ ومنه التصاعد في أعداد جيوشهم وأسلحتهم وخيلهم وإصرارهم على القتال من جهات وفق الترتيب الزماني :
الأولى : وقعت معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة , وعدد جيش المشركين فيها نحو ألف ومعهم مائة فرس .
الثانية : معركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة وزحف فيها نحو المدينة ثلاثة آلاف رجل ومعهم مائتا فرس .
الثالثة : معركة الخندق في شوال من السنة الخامسة للهجرة , وزحف فيها عشرة آلاف رجل من قريش وحلفائها في سابقة في الجزيرة لم تحدث من قبل لبيان شدة الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتجلي معجزة له في السنة الدفاعية وهي أن حفظه وسلامته والصحابة بفضل ورحمة من عند الله عز وجل.
وكان مجموع الصحابة بنحو ثلث هذا العدد أو أقل منه , ومنهم من يتعذر عليه القتال , وحينما حفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الخندق حول المدينة بقوا محاصرين داخله , وتأتي ليالي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس معه خلف الخندق سوى مائتين أو ثلاثمائة من الصحابة .
(قال ابن إسحاق : فأقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرابطا، وأقام المشركون يحاصرونه بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر، ولم يكن بينهم حرب إلا الرميا بالنبل) ( ).
ولم تكتف قريش بالرمي بل قام نفر من شجعانهم بعبور الخندق من مكان ضيق منهم :
عمرو بن عبد ود من بني عامر بن لؤي , فكانت المبارزة الخالدة بينه وبين الإمام علي عليه السلام فقتله الإمام علي عليه السلام ، ونزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
وتتجلى موضوعية معركة الخندق في عقد صلح الحديبية من طرفين :
الأول : طرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وفيه جهات :
الأولى : زيادة عدد المسلمين بعد معركة الخندق .
الثانية : ثبات المهاجرين والأنصار في مقامات الإيمان مع شدة الأذى من الكفار , قال تعالى [هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا] ( ).
الثالثة : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من قصد المشركين الإبادة العامة لهم .
الرابعة : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المدينة في كتائب وسرايا في دعوة للإيمان والرشاد والهدى , منها خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني قريظة .
وذكر ابن إسحاق من غير سند أن قتلى اليهود فيها ستمائة , وقيل سبعمائة , بينما قال ابن شهاب بسنده قتل منهم أربعون رجلاَ , ومن المقاتلة وهو الأقرب وإلا فقد يكون العدد أقل كثيراَ لأن جميع الأسرى جمعوا في بيت واحد من بيوت المدينة , مما يدل على قلة عددهم , بينما ورد في سفر التثنية (و اما النساء و الاطفال و البهائم و كل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك و تأكل غنيمة أعدائك التي اعطاك الرب الهك هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الامم هنا و اما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب الهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما) ( ).
وقد أشرت إلى قلة هذا العدد في الجزء الرابع والستين بعد المائة من هذا السِفر في باب جدول وكتائب وسرايا أيام النبوة وعدد القتلى فيها .
(ويكون مجموع القتلى من حين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وله وسلم وهو في سن الأربعين وفي سنة 610م إلى إنتقاله إلى الرفيق الأعلى في السنة العاشرة للهجرة كالآتي:
الأول : عدد الشهداء من المسلمين هو: 234
الثاني : عدد القتلى من المشركين هو: 212
الثالث : عدد القتلى من اليهود هو: 69
ويكون المجموع الكلي في ثلاث وعشرين سنة هو : 515
خمسمائة وخمسة عشر من المسلمين والمشركين واليهود.
مع جعل هامش بمقدار العشر بلحاظ بعض الروايات والأخبار التي لا تخلو من المبالغة في عدد قتلى الطرف الآخر وتقادم الزمان في الرواية إذ أن ابن إسحاق مثلا متأخر في زمانه (85-151) هجرية ,وكان جده من سبي عين التمر التي فتحها المسلمون سنة 12 للهجرة وشرع في كتابة السيرة النبوية في أيام أبي جعفر المنصور الذي تولى الحكم سنة (136-158) هجرية)( ).
الخامسة : توالي نزول آيات القرآن التي تدعو إلى الصبر وتبين الأحكام الشرعية , وتذم المنافقين والكافرين , قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
وهل قوله تعالى [وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ]( ) من مصاديق جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم للكفار والمنافقين .
الجواب نعم , وهو من إعجاز القرآن بأن تكون الآية القرآنية مادة الجهاد , وهي آية سماوية تحقق أهدافها كاملة , ولا ينحصر موضوعها بزمان دون آخر , إنما هي سلاح رحمة ولطف متجدد إلى يوم القيامة .
ومن خصائص معالم الإيمان هذا تضمن تفسير كل آية لباب مستقل اسمه (الآية سلاح)
الثاني : طرف المشركين وفيه جهات :
الأولى : رجوع المشركين من معركة الخندق خائبين لم ينالوا شيئاَ .
الثانية : كثرة انفاق قريش في الهجوم على المدينة وتحملهم أعباء الديون .
الثالثة : قتل بعض صناديد وشجعان قريش مثل عمرو بن عبد ود العامري ليكون قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، حكماً عاماً لا يختص بمعركة أحد إنما هل يشمل كل معارك الإسلام اللاحقة ، الجواب نعم .
لتكون الآية أعلاه على وجوه :
الأول: الإخبار عن وقائع معركة أحد .
الثاني : إنذار الكفار من العودة إلى القتال فانهم سيلقون القتل والحزن والخيبة والخسران .
الثالث : دعوة الناس لعدم الخوف والخشية من رؤساء الكفر ، وجعل هذا الخوف سبباً للعزوف عن دخول الإسلام ، أو للخروج مع جيوش المشركين لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فاذا كان في ناحية المسلمين منافقون ومنافقات فان في طرف المشركين أناس كثيرون يبغون دخول الإسلام ، ويخشون من المشركين ، فجاءت خيبتهم في معركة الخندق إزاحة لهذه الخشية ، وهو من أسباب تعجيل المشركين بالموافقة على صلح الحديبية والهدنة لعشر سنوات .
ولم يؤجلوا عقد صلح الحديبية إلى عمرة القضاء ، كما أنهم يعلمون أن الذين يدخلون الإسلام في سني الهدنة أكثر منهم في سني الحرب والخوف من رؤساء الشرك وضلالة وقهر الآباء .
الرابع : خسارة الكفار للأموال الطائلة في الإعداد لمعركة الخندق ، والإنفاق على المحاربين وإطعامهم مدة حصارهم للمدينة نحو شهر من الزمان، وتهيئة الإبل لركوبهم والسيوف والرماح والنبال لقتالهم ، وهم يمنون أنفسهم بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد أخبر الله عز وجل عن نزول الملائكة والريح لحفظه وأصحابه وتشريد الذين كفروا ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا] ( ).
الخامس : دخول الإسلام إلى بيوت رؤساء الكفر بإيمان شطر من أبنائهم وبناتهم ، وهجرة عدد منهم إلى المدينة .
ومنهم من هاجر بعد صلح الحديبية أيضاً ، كما في هجرة أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط فأتى أخواها عمارة والوليد إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة لردها.
فأبى الله عز وجل رد النساء إنما كان الشرط بخصوص الرجال ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ] ( ).
السادس : تخلي أكثر القبائل عن نصرة قريش ، وظهر هذا في المفاوضات مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل توقيع الصلح ، ولأن كثيراً من أفراد القبائل دخلوا الإسلام .
قانون الإقتراب أعم من الأكل
لقد خلق الله عز وجل آدم في الجنة [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( )، وخلق زوجته حواء معه ، وقد نهاهما الله عز وجل عن الإقتراب من شجرة مخصوصة بقوله تعالى [وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ]( ).
وقد تكرر هذا اللفظ في سورة الأعراف ، وهل لهذا التكرار مفهوم ، أم ليس للعدد مفهوم كما ذهب إليه مشهور الأصوليين ، الجواب للعدد والتكرار في القرآن مفهوم ومعنى ودلالة متعددة ، ومنها في المقام التأكيد على أمر الله عز وجل وأنه يحمل على وجوه:
الأول : النهي عن الإقتراب والدنو من الشجرة وليس كراهة هذا الإقتراب .
الثاني : المنع المولوي وليس المنع الإرشادي ، وقيل أنه نهي تنزيه وليس نهي تحريم ، لمقام النبوة وللإقامة في الجنة .
الثالث : العزيمة والوجوب والقطع .
الرابع : إرادة قانون سد الذرائع لأولوية النهي عن الأكل من الشجرة.
الخامس : لحاظ نظم وسياق الآيات بخصوص كل من آيتي النهي عن الإقتراب.
وجاء النهي بخصوص الإقتراب من الشجرة والنسبة بينه وبين الأكل منها عموم وخصوص مطلق ، فالإقتراب أعم والأكل فرع الإقتراب ، والشجرة هي شجرة متعددة الثمر ففيها الحنطة والعنب والتين .
وهناك مسائل :
الأولى : لو اقترب آدم وحواء من الشجرة ، ولم يأكلا منها.
الثانية : لو اقترب واحد فقط إما آدم أو حواء من الشجرة .
الثالثة : لو أكل آدم أو حواء من الشجرة وامتنع الآخر عن الأكل .
أما المسألة الأولى فان الإقتراب وحده ليس علة تامة للهبوط إلى الأرض بدليل قوله تعالى [فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى]( ).
وأما المسألة الثانية فيمهلان في الجنة [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
وأما المسألة الثالثة فيتجدد الإمتحان على الآخر ليمضي القضاء بهبوطهما إلى الأرض ، لقوله تعالى عند خلق آدم [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
وهناك مسألة هل يمكن هبوط آدم وحده إلى الأرض لو امتنعت حواء عن الأكل ولم تمتحن باغواء آخر من إبليس أو أنه كرر الإغواء ولم يفلح معها ، الجواب لا .
لدلالة إخبار الملائكة على وقوع الفساد من بني آدم والقتل كما في قوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، ويدل سفك الدماء على وجود قاتل ومقتول من بني آدم مما يدل على علم الملائكة عند خلق آدم بأنه ستكون له زوجة في الأرض يتكاثر الناس بواسطته وزوجته من جنس البشر ، قال تعالى [وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا]( ).
وقيل أن المراد من قوله تعالى [وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ]( )، أي ولا تأكلا منها( ).
والمختار حمل الكلام على حقيقته لأصالة الظاهر وأن الله عز وجل نهى آدم وحواء عن ذات الإقتراب من الشجرة ، رأفة بهما وكيلا يكون هذا الإقتراب مقدمة للأكل.
و(عن النعمان بن بشير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)( ).
و(قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : وإن لكل ملك حمى ، وإن حمى الله محارمه ، ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه)( ).
والمختار أن الجنة التي كان فيها آدم وحواء هي في السماء ، وهو مشهور علماء الإسلام ، وقيل أنها جنة الخلد .
وانشغل كثير من المفسرين بجنس الشجرة التي أكل منها آدم وحواء ووقف عنده بعضهم ، وذكرت فيه نحو عشرة وجوه وهو أمر حسن ، ولكن الأولوية لأمور :
الأول : معنى الإقتراب والدنو .
الثاني : النسبة بين الإقتراب وبين الأكل .
الثالث : ماهية النهي .
الرابع : كيفية وسوسة إبليس لآدم وحواء.
ومن الإعجاز أن إبليس لم يشر على آدم وحواء بالإقتراب من الشجرة أو بالأكل منها ، ولا يحق له الأمر بخلاف ما نهى الله عز وجل عنه ، ولكنه أشار إلى الشجرة وأوهم أنها شجرة الخلد لأنه علم أن آدم يحب الخلد والبقاء الدائم في الجنة ، قال تعالى [فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى]( ).
الخامس : سياق الأمر والعهد ، قال تعالى [وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا]( ).
ولم يرد لفظ (نجد) في القرآن إلا في الآية أعلاه.
السادس : اللطف الإلهي باقامة آدم وحواء في الجنة برهة وساعات ، وفيه بشارة العودة إلى الجنة بالتقوى والعمل الصالح.
السابع : صيرورة الأكل من الشجرة علة وسبباً لهبوط آدم وحواء إلى الأرض.
الثامن : لماذا نهى الله عز وجل عن الإقتراب وليس عن الأكل ، وهل علم آدم وحواء ، الجواب أن هذا النهي يقتضي بالأولوية القطعية المنع من الأكل من الشجرة ، ودلالة النهي عن المقدمة النهي عن ذيها.
ويرد في علم الأصول الأمر بالشئ يستلزم الأمر بمقدمته ولكن ليس من ملازمة بين إتيان المقدمة وفعل ذيها فقد يتوضأ المسلم مثلاً ولكنه لا يصلي بهذا الوضوء وان كان ناوياً جعله مقدمة لصلاة واجبة أو مستحبة .
لقد ابتلى الله عز وجل الملائكة بالسجود لآدم فاجتازوا هذا الإمتحان بحسن الإمتثال الا ابليس [أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ]( )، ولم يستطع إبليس الوسوسة أو التأثير على الملائكة ، وهو من الشواهد على قولهم [وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ).
ثم ابتلى الله آدم وحواء بالمنع من الإقتراب من الشجرة .
فاقتربا منها ، واكلا منها بإغواء إبليس ، قال تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ]( ).
وفيه إكرام لآدم وحواء بنسبة سبب الأكل إلى إبليس .
وعن (وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ، يَقُولُ : “لَمَّا أَسْكَنَ اللَّهُ تَعَالَى آدم وَزَوْجَهُ الْجَنَّةَ، نَهَاهُ عَنِ الشَّجَرَةِ، وَكَانَتْ شَجَرَةٌ غُصُونُهَا مُتَشَّعِبٌ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، وَكَانَ لَهَا ثَمَرٌ تَأْكُلُهُ الْمَلائِكَةُ لِخُلْدِهِمْ، وَهِيَ الثَّمَرَةُ الَّتِي نَهَا اللَّهُ عَنْهَا آدم وَزَوْجَهُ)( ).
ولم يثبت أن الملائكة يأكلون من هذه الشجرة ، والأصل عدمه ، لقد كان غذاؤهم التسبيح.
آية الصلاة على النبي
يأتي نداء الإيمان في أول الآيات باستثناء آية واحدة وهو قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( )، ولم يرد لفظ (يصلون) (صلوا) (سلموا) في القرآن إلا في آية البحث.
لبيان خصوصية وموضوعية للصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السموات والأرض ، وفيه دلالة على رفعة وعلو منزلته ، ولزوم طاعته وإتباعه .
وتبعث هذه الآية الصحابة على الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ملاقاة غزو المشركين ، وهي أمان وسلام وسلم لأنها لا تأمر المسلمين بالقتال ولا الهجوم والغزو إنما تتضمن الأمر بالصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والسلام عليه ، وهو لا يتعارض مع آيات الدفاع.
وعن الإمام الصادق عليه السلام في الآية (الصلاة عليه والتسليم له في كل شئ جاء به)( ).
والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، إذ ورد تفسير للآية أعلاه بقوله تعالى [فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( ).
وقال الشافعي بوجوب الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة ، وانها تبطل بتركها ، وذهب مالك إلى القول بأنها سنة .
وقد ورد في صيغتها (عن كعب بن عجرة قال : لما نزلت [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( )، قلنا : يا رسول الله قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك .
قال قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنك حميد مجيد)( ).
و(عن طلحة بن عبيد الله قال : أتى رجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : سمعت الله يقول [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ]( ) فكيف الصلاة عليك؟ قال قل اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد)( ).
والله عز وجل لا يصلي ولكن المراد من صلاته في الآية رحمته ومغفرته ورضوانه ، وصلاة الملائكة الإستغفار والدعاء.
و(عن ابن عباس : أن بني إسرائيل قالوا لموسى عليه السلام : هل يصلي ربك؟ فناداه ربه يا موسى إن سألوك هل يصلي ربك؟ فقل : نعم . أنا أصلي وملائكتي على أنبيائي ورسلي فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ( ).
وصلاة المسلمين على النبي طاعتهم له ، واستغفارهم ، وهل من صلاة الملاكة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نزولهم في معركة بدر وأحد والخندق وحنين للذب عنه ، وإعانته ودفع المشركين عنه ، ونصرته.
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( )، الجواب نعم ، إذ أن وسائل ووسائط وصيغ هذه الكفاية من اللامتناهي ، فتأتي من وجوه حسية وعقلية وظاهرة وخفية .
وورد ذكر النبي في الآية بصيغة لام العهد (يصلون على النبي) والمراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتدل عليه خاتمة الآية والضمير الهاء في (صلوا عليه) كما تدل عليه الأخبار المتواترة وإجابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن الصلاة عليه.
(عن زياد عن إبراهيم في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ]الآية، قالوا: يا رسول الله هذا السلام قد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: قولوا “اللهم صلِّ على محمد عبدك ورسولك وأهل بيته كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد)( ).
و(عن قتادة، قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( ) قال: لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله، قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال: “قولوا: اللهم صلِّ على محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد كما باركت على إبراهيم”. وقال الحسن: اللهم اجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد، كما جعلتها على إبراهيم، إنك حميد مجيد)( ).
ويحتمل الأمر المتعدد في الآية وجوهاً :
الأول : وجوب الصلاة والتسليم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : وجوب أحدهما واستحباب الآخر.
الثالث : استحباب كل من الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتسليم عليه .
والصحيح هو الأول من جهات :
الأولى : الأصل في الأمر هو الوجوب ، ولا ينتقل إلى الإستحباب إلا مع القرينة ، وهي مفقودة هنا .
الثانية : ظاهر الأحاديث النبوية (قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد) الوجوب .
الثالثة : تبادر الوجوب من صيغة الأمر في المقام .
الرابعة : الأجر والثواب في إمتثال المسلمين لمضامين آية البحث.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين إكرام النبوة والتنزيل بالصلاة على النبي ، ولا تختص أحكام الآية بالصحابة بل هي مستمرة إلى يوم القيامة .
وهل تكفي الصلاة على النبي محمد مرة واحدة أم تكفي مرة واحدة في المجلس ، أم أنها تلزم عند ذكر اسمه ، مع استحباب الإكثار منها يوم الجمعة.
وعن (عبد الله بن عمرو يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول وصلوا علي فإنه من صلى علي صلى الله عليه عشرا ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة)( ).
نسب إلى أبي ضيف ومالك وجوبها مرة واحدة في العمر ، وبه قال الأوزاعي ، والقاضي عياض ، والشيخ الطوسي ولفظ الصلاة في المقام (صلوا عليه) وقرينة الصلاة خمس مرات في اليوم صيغة المضارع في الآية ، وفيوضات وثواب هذه الصلاة موانع دون كفاية وجوبها المرة الواحدة في العمر.
والقول بالوجوب مرة واحدة لا يتعارض مع استحبابها ، واختلف في وجوب الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة ، وهل هي واجبة أم مستحبة ، والمختار الوجوب في التشهد .
ومن صيغ الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة الإبراهيمية ويأتي بها مشهور المسلمين في التشهد الأخير من الصلاة وهي على صيغ متقاربة لورود النص ، منها (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد) ومنها (اللهم صل على محمد وآل محمد) أي بحذف حر الجر مع بقاء الجر وموضوعه.
كما في قوله تعالى [وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا]( )، أي من قومه فلما حذف حرف الجر انتصب كالمفعول به.
مثل ماورد عن عبد الله بن مسعود (أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ صَلَاةُ الْجَمِيعِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ ضِعْفًا كُلُّهَا مِثْلُ صَلَاتِهِ)( )، أي بخمس وعشرين .
ومن إعجاز القرآن أن الله عز وجل أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصلي على المسلمين ، مثلما هم يصلون عليه ، قال تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
ومن معاني (وصل عليهم) وجوه :
الأول : ادع لهم .
الثاني : استغفر لهم ، عن ابن عباس( ).
الثالث : ترحم عليهم .
وعن (عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فِي قَوْلِ اللَّهِ [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ]( )، قَالَ : هَؤُلاءِ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، مِمَّنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، اعْتَرَفُوا بِالنِّفَاقِ، وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدِ ارْتَبْنَا وَنَافَقْنَا وَشَكَكْنَا، وَلَكِنْ تَوْبَةٌ جَدِيدَةٌ وَصَدَقَةٌ نُخْرِجُهَا مِنْ أَمْوَالِنَا لِلَّهِ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا])( ).
وموضوع الآية أعم ، وفيه أمر من الله عز وجل إلى النبي محمد بالدعاء للمسلمين والمسلمات والإستغفار لهم ، وكان المسلم إذا جاء بصدقة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : اللهم صل على آل فلان ، أي أنه لا يحصر الدعاء بالذي يأتي بالصدقة بل يشمل به أهله وعياله ، وهو من الطاف النبوة .
و(عن عبدالله بن أبي أوفى قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى بصدقة قال : اللهمَّ صل على آل فلان . فأتاه أبي بصدقته فقال : اللهم صل على آل أبي أوفي)( ).
ومن معاني سكن لهم : رحمة لهم ، عن ابن عباس .
و(عَنْ قَتَادَةَ : [إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ] قَالَ :أَمْنٌ لَهُمْ)( )، وعنه أيضاً ، وقار لهم .
ويستحب استحباباً مؤكداً للعالم عندما يستلم الزكاة أو الخمس أو مطلق الحقوق الشرعية الدعاء لصاحبها.
ولا تنحصر صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين لمن يأتي له بالصدقة ، لإطلاق الآية أعلاه ، ورأفته بالمسلمين ، ففي الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
و(عن جابر بن عبدالله قال : أتانا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت له امرأتي : يا رسول الله صل علي وعلى زوجي . فقال صلى الله عليك وعلى زوجك)( ).
فهذه الصلاة من غير صدقة ولا مال يدفع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويبين إدراك المسلمين للحاجة لصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم مجتمعين ومتفرقين.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع عظيم منزلته ، ووظائف النبوة والتبليغ يحرص على الصلاة على من يموت من أهل المدينة ذكراً أو انثى ولا يرد دعوة الذي يسأله الصلاة على الميت .
و(عن خارجة بن زيد عن عمه يزيد بن ثابت وكان أكبر من زيد قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما وردنا البقيع إذا هو بقبر جديد فسأل عنه فقالوا فلانة فعرفها قال فقال أفلا آذنتموني بها قالوا كنت قائلا صائما فكرهنا أن نؤذنك فقال لا تفعلوا لا اعرفن ما مات منكم ميت ما كنت بين أظهركم إلا آذنتموني به فإن صلاتي عليه له رحمة)( ).
وفيه دليل على جواز الصلاة على القبر بعد الدفن عند عدم أداء الصلاة على الميت قبل الدفن.
ومن لطف الله عز وجل بالمسلمين صلاته عليهم ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا]( ).
وذكرت هذه الآية صلاة الله وصلاة ملائكته على المسلمين والمسلمات ، بينما ذكرت الآية أعلاه (صل عليهم) الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة الحاضرة على المسلمين ، فتجتمع صلاة الله وصلاة الملائكة وصلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين مثلما يصلي الله عز وجل والملائكة والمسلمون على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لبيان أن النبي محمداً أمة بشخصه ونبوته ، وفي إبراهيم عليه السلام ورد قوله تعالى [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ]( ).
مسائل في الصلاة على النبي (ص)
وهناك مسائل :
الأولى : هل صلاة الله عز وجل على المسلمين مثل صلاته على النبي محمد كماً وكيفاً أم أن الأمر كمراتب الجنة .
الثانية : هل صلى الله عز وجل على الأنبياء السابقين .
الثالثة : هل تشمل منافع صلاة الله والملائكة المؤمنين في الدنيا والآخرة.
الرابعة : هل تستمر هذه الصلاة أم تنقطع .
الخامسة : هل من صلة بين صلاة الله وملائكته على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وبين نزول الملائكة مدداً للنبي محمد في معركة بدر وأحد ، والأحزاب .
أما المسألة الأولى فالمختار نعم ، فان الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى.
ومن مصاديق صلاة الله على النبي صلاته على أمته وانتفاعهم من الصلاة عليه ، وكذا العكس فان صلاة الله عز وجل على المسلمين ينتفع منها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد ذكر القرآن منافع هذه الصلاة بهداية المسلمين وسلامتهم وحفظهم في نفوسهم ودينهم وباخراجهم من الظلمات إلى النور ، وهذه الصلاة فرع رحمة الله بالمؤمنين ، لبيان عدم إنحصارها بالمسلمين بل شملت المؤمنين من الأمم السابقة ، وفيه ترغيب بالإيمان وزجر للمنافقين ليكفوا عن إلنفاق ويتنزهوا عن إخفاء الكفر .
أما المسألة الثانية فالمختار نعم ، لوحدة الموضوع في تنقيح المناط فكما يصلي الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه صلى على الأنبياء السابقين ، وللأولوية القطعية بالنسبة لصلاة الله على المسلمين والمسلمات ، قال تعالى [فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
أما المسألة الثالثة فالجواب نعم ، فمنافع صلاة الله والملائكة على الفرد والجماعة أكثر من أن تحصى سواء تلك التي في الدنيا أم التي في الآخرة وحاجة الناس إلى صلاة الله وملائكته عليهم في الآخرة أكبر وأعظم.
وهل يكون من مصاديق صلاة الملائكة على المؤمنين رأفتهم بهم في مواطن الآخرة ، الجواب نعم لتكون هذه الصلاة واقية وحرزاً.
أما المسألة الرابعة ، فالمختار استمرار صلاة الله وملائكته على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى ، وهو من أسرار مجئ الآية بصيغة المضارع [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( )، والملازمة بين صلاة الله وصلاة الملائكة وصلاة أجيال المسلمين المتعاقبة على النبي.
وهل يمكن القول بأنه إذا صلى المسلمون والمسلمات على النبي صلى الله عليه ، الجواب نعم ، من غير حصر لصلاة الله والملائكة بها ، لإستدامة وتجدد صلاة الله عز وجل على النبي محمد في كل ساعة من ساعات الليل والنهار ، وهو من أسباب البركة وأسباب نشر السلام في ربوع الأرض ، فهذه الصلاة من رشحات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وأما المسألة الخامسة فالجواب نعم ، فمن صلاة الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعضيده ونصرته ، ومدد بالتمكين في تبليغ رسالته ، وكف أيدي المشركين عنه.
ليتضمن قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( )، في مفهومه الإنذار والوعيد للمشركين من محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن الله وملائكته يصلون عليه فعندما ينشب القتال بينه وبين المشركين يستأذن الملائكة الله عز وجل لنصرته فيأذن لهم ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
ليكون من معاني الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إشاعة السلم والتراحم بين الناس ، والدعوة العامة إلى الصدور عن النبوة والتنزيل .
التسليم على النبي
لم ينحصر موضوع الآية بالصلاة على النبي إنما يشمل الأمر بالتسليم والسلام عليه ليكون من معاني (وسلموا تسليما) وجوه :
الأول : قول ودعاء اللهم سلم على محمد .
الثاني : اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد .
الثالث : السلام عليك يا رسول الله ، والسلام عليك يا نبي الله، ولا يصح القول السلام عليك يا محمد ، إذ وردت الآية بصفة النبوة .
الرابع : الإستجابة والإمتثال لما يأمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أحكام الشريعة .
الخامس : الشكر لله عز وجل على نعمة النبوة والسلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : الإنقياد لأوامر النبي ، وبه تعاهد للسلم ، وإجتناب الغزو والقتال وسفك الدماء .
السابع : كما يصلي الله وملائكته على النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه أيضاً ، مع القيام بالتسليم عليه .
ولا يختص هذا التسليم بعهد الصحابة بل هو متجدد في أجيال المسلمين ، لأصالة العموم في الخطاب القرآني لذا يقول المسلم في التشهد في الصلاة (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته).
وكما يبادل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بالصلاة عليهم فانه يقابلهم بالسلام أيضاً ، قال تعالى [وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ]( ).
و(عن جابر بن سليم الهجيمي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض طرق المدينة قلت : عليك السلام يا رسول الله ، فقال : عليك السلام تحية الميت ، سلام عليكم ، سلام عليكم ، سلام عليكم ، أي هكذا فقل)( ).
ويحكي الهجيمي هذا قصة قدومه من البادية إلى المدينة ، وأول رؤيته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُحْتَبٍ بِشَمْلَة، وقد وقع هُدْبها على قدميه، فقلت: أيكم محمد أو: رسول الله؟ -فأومأ بيده إلى نفسه.
فقلت: يا رسول الله، أنا من أهل البادية، وفِيَّ جفاؤهم، فأوصني.
فقال : لا تحقرَنّ من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك ووجهك مُنْبَسط، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي، وإن امرؤ شَتَمك بما يعلم فيك فلا تشتمه بما تعلم فيه، فإنه يكون لك أجره وعليه وزْرُه.
وإياك وإسبال الإزار، فإن إسبال الإزار من المَخيلَة، وإن الله لا يحب المخيلة، ولا تَسُبَّنّ أحدًا”. قال: فما سببت بعده أحدًا، ولا شاة ولا بعيرًا)( ).
لقد أوصاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمكارم الأخلاق ، والصبر على أذى الغير سواء كان مسلماً أو غير مسلم لقوله (وإن امرؤ شَتَمك).
وفيه شاهد بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى السلم والأمن العام ، ويوصي أصحابه بالسكينة والإمتناع عن التكبر والتعالي على الناس ، وعن شتم أحد ، وتقيدهم بما يأمرهم به .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يذّكر الناس بيوم القيامة ويبين لهم بعض ما يقع في عرصاتها من الأهوال ، ويدل توثيق أهل البيت والصحابة لأحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الخصوص على إتعاظهم وانتفاعهم منها .
و(عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا جمع الله الناس في صعيد واحد يوم القيامة ، أقبلت النار يركب بعضها بعضاً ، وخزنتها يكفونها وهي تقول : وعزة ربي لتخلن بيتي وبين أزواجي أو لأغشيّن الناس عنقاً واحداً . فيقولون : ومن أزواجك؟ فتقول كل متكبر جبار ، فتخرج لسانها فتلقطهم به من بين ظهراني الناس ، فتقذفهم في جوفها ثم تستأخر ، ثم تقبل يركب بعضها بعضاً وخزنتها يكفونها وهي تقول : وعزة ربي لتخلي بيني وبين أزواجي أو لأغشين الناس عنقاً واحداً . فيقولون : ومن أزواجك؟ فتقول : كل مختال فخور ، فتلقطهم بلسانها من بين ظهراني الناس فتقذفهم في جوفها ، ثم تستأخر ويقضي الله بين العباد)( ).
وهل حفظ وتدوين ونقل أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( )، الجواب نعم ، وفيه الأجر والثواب.
وآية الصلاة على النبي محكمة غير منسوخة ، ومتجددة في موضوعها ، وفيها نفع عام ، وصرف عن القتال ، ودعوة للمسلمين للإجتهاد بالدعاء والصلاة على النبي ، والإستعداد للآخرة .
ومن إعجاز آية صلاة الله عز وجل على المسلمين إخراجهم من الظلمات إلى النور ، من الجهالة إلى الفقاهة ، ومن الفقر إلى الغنى ، ومن الإستضعاف والذل إلى العز ، ومن الخوف إلى الأمن لقوله تعالى في ذات الآية [لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ]( ).
وفيه شاهد بأن صلاة الله عز وجل على المؤمنين حاجة لهم وسبب لصلاحهم ، وأن تسليمهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعاهد للإيمان والهدى ، ونوع تجديد للبيعة مع النبي والعمل بسنته ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
آية [قُولُوا انظُرْنَا] دعوة للسلم والصبر
قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
هذه الآية هي أول آية في نظم القرآن تتضمن نداء الإيمان ، وبعد سورة الفاتحة وأكثر من مائة آية من سورة البقرة وفيها :
الأول : نهي ومنع من قول مخصوص .
الثاني : أمران بعطف أحدهما على الآخر ، وهما [قُولُوا انظُرْنَا] [اسْمَعُوا] .
الثالث : جملة خبرية هي قانون من الإرادة التكوينية .
الرابع : التباين الموضوعي بين أول وآخر الآية مع قلة كلماتها ، وقد تقدم تفسير هذه الآية في الجزء السابع عشر من هذا السِفر ، كما تقدمت قراءة في هذه الآية في الجزء الثالث والثلاثين بعد المائة في باب (تفسير نداء الإيمان- القسم الأول).
أما في المقام فتذكر المعاني القدسية في دعوتها إلى السلم والأمن ، بلحاظ أمور :
الأول : قانون نداء الإيمان سلام .
الثاني : قانون نداء الإيمان إصلاح .
الثالث : قانون آيات نداء الإيمان تثبيت للأمن العام والسلم المجتمعي ، ومعالم الإيمان في الأرض .
وليس في هذه الآية كلمة لم ترد في غيرها من آيات القرآن حتى كلمة (راعنا) وردت مرة أخرى ، ولكن في ذم قوم ، كما في قوله تعالى [وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ]( )، لبيان أن مخاطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكلمة (راعنا) لا يناسب مقام النبوة ، وأنهم يتخذون هذه الكلمة للإستهزاء فنهى الله عز وجل المسلمين في محاكاتهم بالتلفظ بها ، وإن كان المعنى مختلفاً تماماً.
فلا يقصد المسلمون الإستهزاء إنما يرجون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إمهالهم ، فأمرهم الله عز وجل باختيار أحسن الألفاظ في مخاطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومخاطبة الناس عموماً ، وفيه دعوة للأمن العام ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا]( ).
و(عن ابن عباس في قوله {لا تقولوا راعنا} أي ارعنا سمعك .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله {لا تقولوا راعنا} قال : خلافاً .
وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله {لا تقولوا راعنا} لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك {وقولوا انظرنا} أفهِمنا ، بيّن لنا .
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية قال : إن مشركي العرب كانوا إذا حدث بعضهم بعضاً يقول أحدهم لصاحبه : ارعني سمعك . فنهوا عن ذلك .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والنحاس في ناسخه عن عطاء في قوله {لا تقولوا راعنا} قال : كانت لغة في الأنصار في الجاهلية ونهاهم الله أن يقولوها ، وقال {قولوا انظرنا واسمعوا})( ).
ومن معاني نهي المسلمين عن قول راعنا (أنها كلمة كانت اليهود تقولها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على وجه الاستهزاء والسب؛ كما قالوا سمعنا وعصينا ، واسمع غير مسمع ، وراعنا ليّاً بألسنتهم ، فَنُهِيَ المسلمون عن قولها ، وهذا قول ابن عباس وقتادة)( ).
ويتجلى مصاديق السلم والدعوة إلى الأمن العام في آية البحث من وجوه :
الأول : نداء الإيمان الذي يتضمن الثناء على المسلمين بالهداية إلى سبل الرشاد ، والتقيد بسنن الإيمان .
الثاني : نزول النهي من الله عز وجل عن مخاطبة النبي محمد بكلمة لاتتناسب ومقام النبوة فقد يصح قول أحدهم للآخر راعني ، وراعنا ، ولكنه لا يصح مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، كما في قوله تعالى [لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا]( ).
وفي رواية أبي الجارود عن الإمام الباقر عليه السلام في الآية قال (لا تقولوا: يا محمد، ولا يا أبا القاسم، ولكن قولوا يا نبي الله، ويا رسول الله)( ).
وروي مثله عن ابن عباس( ).
بعد أن ذكر الرواية أعلاه ان ذيل الآية لا يلائم هذا المعنى تلك اللائمة).
ولكن الآية تنزل وأولها في شئ وأوسطها في شئ ، وذيلها في شئ آخر ، ولابد من وجود صلة ورابطة بين هذه الجهات الثلاث وهو من إعجاز القرآن وتمام الآية هو [لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
ويتعلق موضوع خاتمة الآية بذم المنافقين بمغادرة المسجد أثناء خطبة الجمعة بأن يلوذوا ببعض الصحابة ليخرجوا من غير استئذان والعرف آنذاك أن الذي يريد المغادرة يؤشر باصبعه ، مستأذناً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيأذن له بلغة الإشارة أو يقف بمرأى من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يدل على إرادة وسؤال الإستئذان .
و(عن مقاتل قال : كان لا يخرج أحد لرعاف ، أو إحداث ، حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بأصبعه التي تلي الابهام ، فيأذن له النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بيده ، وكان من المنافقين من يثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد ، فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه يستتر به حتى يخرج ، فأنزل الله قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا( ).
فيكون من معاني الربط بين أول وآخر الآية حسن الأدب مع مقام النبوة ، والإنتفاع الأمثل من وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم ، والإنصات له ، لذا ورد في آية البحث [وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا]( ).
وهل تشمل مضامين الآية حفر الخندق ، والمرابطة خلفه وإيجاد المنافقين الأعذار واللواذ بالآخرين للمغادرة وترك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، إذ أن المدار على عموم المعنى وليس أسباب النزول وحدها .
وبعد أن نهى الله عز وجل المسلمين قول (راعنا) للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يتركهم من غير بديل لهذه الكلمة ، إنما أمرهم بكلمة بديلة لها ، شبيهة لها في المعنى والدلالة ، وبعدد الحروف [قُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا]( )، وهو من الآيات في تأديب المسلمين والمنع من إتخاذ الكافرين صيغ المعاملة بينهم وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مادة للإستهزاء ، وعدم الوقوف عند هذا المنع بل في الآية بناء لصرح عقائدي ، ومناسبة لتفقه المسلمين في الدين ، بالجمع بين قول [انظُرْنَا وَاسْمَعُوا] ومن معاني أنظرنا وجوه :
الأول : سؤال المسلمين النبي محمداً الرفق واللطف ، وهو من الدلائل على عزم المسلمين على قبول أحكام الشريعة كاملة ، والتقيد بها والإستجابة والإمتثال للأوامر الإلهية والإستعداد للعمل بقوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الثاني : إرادة امهال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم في اتيان الوظائف العبادية على نحو الدقة والتمام ، فالناس على مراتب في التعلم وتلقي الأحكام وحفظ آيات القرآن .
ومن الإعجاز في اتصاف السور المكية بالقصر في ذاتها ، وقلة كلمات آياتها سرعة حفظ عامة الناس لها ، وعدم نسيان وفد الحج لها عند مغادرة مكة إلى أهليهم .
لتنزل الآية والآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ، ويتلوها على الوافدين إلى مكة لينقلوها إلى القرى والبلدان ويتلوها المسافرون والناس في المنتديات والأسواق ، وربات الحجال لتكون كل آية سفيراً لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل من الإعجاز أن هذا القصد وقلة الكلمات من مقدمات إسلام الأنصار وإيوائهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين ، الجواب نعم .
الثالث : قول [انظُرْنَا وَاسْمَعُوا] من الدلائل على الإعجاز في نزول القرآن منجماً على نحو التتابع والتعاقب في مدة ثلاث وعشرين سنة ، وعدم نزوله دفعة واحدة مثل سائر الكتب السماوية السابقة ، قال تعالى [وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً] ( ) .
الرابع : من معاني الآية التطلع إلى النسخ وما فيه من التخفيف ، وهذا التطلع من مراتب الفقاهة ، ومعرفة اللطف الإلهي في التخفيف عن المسلمين ، فنزلت آية [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ]( )وهي من آيات نداء الإيمان لينزل بعدها قوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ]( ).
ونزل قوله تعالى [ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا]( )، وبينت الآية أن في الخمر والقمار معصية وإثماً كبيرا، ثم نزل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ…] ( )، فاظهرت الآية قدسية الصلاة ووجوب مصاحبة الطهارة لها ، فاجتنب المسلمون الخمر اثناء الصلاة .
فلا ينحصر موضوع الآية أعلاه بخصوص النهي عن شرب الخمر ، بل هي مدرسة فقهية وعقائدية في بيان وجوب العناية بالصلاة ، والإقبال عليها بالقلب والعقل والجوارح ، وجعل موضوعية لها في السلوك اليومي للمسلم ، وأن يستعد لها بالإمتناع عن الخمر والرذائل والمعاصي.
ثم نزل تحريم الخمر في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
الخامس : من معاني [انظُرْنَا] إرجاء الخروج في السرايا ودفع لقاء العدو ، والإنصراف عن القتال.
وعلى فرض صحة هذا التأويل فهل هو لإرادة القعود ، الجواب لا ، إنما هو على جهات :
الأولى :رجاء دخول أفواج من الناس الإسلام ، إذ يدرك الصحابة من المهاجرين والأنصار أن الأسباب العقلية والنقلية التي قادتهم لدخول الإسلام هي ذاتها قريبة من عامة الناس ، وتدعوهم كل يوم للإيمان .
وهو من أسرار كون معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة عقلية ، وهي من آيات القرآن إلى جانب معجزاته الحسية الكثيرة.
ومنها تلك التي وقعت في مكة كحديث الإسراء ، وإنشقاق القمر و(عن ابن مسعود قال : رأيت القمر منشقّاً شقتين بمكة قبل أن يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم شقة على أبي قبيس وشقة على السويداء ، فقالوا : سحر القمر ، فنزلت {اقتربت الساعة وانشق القمر }( ))( ).
فكما أن انشقاق القمر حدث بمعجزة وآية من عند الله ، فكذا بالنسبة لوقوع يوم القيامة ، واقتراب أوانه ، ومن أسمائه الساعة ، ولابد من علة لذكرها بهذا الاسم في الآية أعلاه ، لبيان ليس ثمة زمان طويل يفصل الناس عن يوم القيامة ، وكان الصحابة من المهاجرين والأنصار يحبون قراءة هذه السورة في الصلاة وخارجها .
و(عن بريدة أن معاذاً بن جبل صلى بأصحابه صلاة العشاء فقرأ فيها { اقتربت الساعة } فقام رجل من قبل أن يفرغ فصلى وذهب ، فقال له معاذ قولاً شديداً فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاعتذر إليه فقال : إني كنت أعمل في نخل وخفت على الماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صلي بالشمس وضحاها ونحوها من السور) ( ).
ومن المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة وبعد الهجرة ما ورد (عن جابر بن سمرة قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إني لأعرف حجرا كان يسلم علي قبل أن أبعث ، إني لأعرفه الآن)( ).
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن”)( ).
أما معجزاته الحسية في المدينة فهي كثيرة , ومنها ما لم تذكر في كتب التفسير والحديث , وفي باب المعجزات الحسية , ولكنها تستقرأ من آيات القرآن والوقائع والأحداث وأحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , لذا ورد في تفسيرنا هذا بيان مئات المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها معجزاته في السنة الدفاعية , ومنها المعجزات الحسية التي تتعلق بأسباب نزول القرآنية أو تتفرع عنها , وفيها دعوة للسلم والأمن , وبعث على الصبر , ومن خصائص المعجزة النبوية أنها رحمة عامة ، ودعوة الناس لنبذ الحروب والإقتتال .
علم ترشح المعجزات الحسية عن المعجزة العقلية
من خصائص النبوة المعجزة التي تصاحب النبي والرسول ، وتكون دعوة للناس للتصديق بنبوته , والإمتناع عن الإضرار به , والمعجزة أمر خارق للعادة , مقرون بالتحدي وسالم من المعارضة.
وليس من حد وحصر لصيغة وكيفية وكم المعجزة فهي هبة من الله عز وجل للأنبياء والناس جميعاَ.
والمعجزة حجة على الناس فهي إخبار عملي عن صدق البعثة والرسالة , وفيها إكرام للنبي ولأهل زمانه جميعاَ , لأنها مدد وعون للإقرار بالتوحيد , وبتلقي هذا الإكرام بالقبول والرضا من الذي يستجيب للمعجزة يُنال الفوز بالثواب العظيم .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، في خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعدد معجزاته العقلية والحسية من جهات :
الأولى : كل آية قرآنية معجزة .
الثانية : تعدد المعجزة في ذات الآية القرآنية , فتجد أولها معجزة , ووسطها معجزة , وذيلها معجزة أخرى .
الثالثة : تعدد الإعجاز في الآيات كثيرة الكلمات , وأكبر آية في القرآن هي آية الدين [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ]( )، وعدد كلماتها هو (129) كلمة وعدد حروفها (551) حرفاً.
ولا بأس بتسميتها آية المداينة , فقد يقرأ بعضهم آية الديْن ويظنها آية الدِين – بكسر الدال .
لقد كانت معجزات الأنبياء السابقين حسية مثل سفينة نوح , وناقة صالح , وعصا موسى , وفي عيسى عليه السلام ورد قوله تعالى [وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ]( ).
أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد رزقه الله عز وجل المعجزة العقلية وهو القرآن ومن إعجازه توثيق معجزات الأنبياء السابقين إلى يوم القيامة , وهو من مصاديق سلامة القرآن من التحريف والتغيير والتبديل , قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( ).
ولم يرد كل من لفظ (قَصَصِهِمْ) و (نَقْصُصْ)( ) و (نَقْصُصْهُمْ)( ) في القرآن إلا مرة واحدة , وكلها تتعلق بقصص الأنبياء .
الرابعة : ترتيب سور القرآن من حيث كثرة آياتها , وإن تباين عدد كلماتها , فتجد سورة قرآنية أكثر عدداَ في آياتها من سورة أخرى ولكنها أقل كلمات منها .
فسورة الشعراء مثلاَ ثاني أكثر سور القرآن عدداَ في الآيات ولكن كلماتها أقل من نصف كلمات سورة الأعراف التي هي أقل منها بعدد الآيات.
وعدد آيات سورة الشعراء (227) آية وعدد كلماتها (1318).
أما عدد آيات سورة الأعراف فهو (206) آية وعدد كلماتها (3320) كلمة ، أي أكثر من ضعف كلمات سورة الشعراء.
ومن الإعجاز انفراد سورة البقرة بأمور :
الأول : إنها أكبر سور القرآن ، وعدد آياتها (286) آية .
الثاني : هي أكثر سور القرآن كلمات , وعدد كلماتها (6117) كلمة .
الثالث : تتضمن سورة البقرة أطول آية في القرآن وهي آية الدَيْن , كما تتضمن آية الكرسي .
الرابع : مجئ سورة البقرة في أول ترتيب سور القرآن بعد سورة الفاتحة , وثاني أطول سورة من جهة عدد الكلمات والمساحة والصفحات في المصحف هي سورة النساء , وعدد كلماتها (3748) كلمة مع ان ترتيبها من جهة طول السورة مبين أدناه .

ويكون ترتيب السور العشرة الأوائل من القرآن من جهة كثرة الآيات كالآتي:
التسلسل السورة عدد الآيات عدد الكلمات
1 سورة البقرة 286 6121
2 سورة الشعراء 227 1318
3 سورة الأعراف 206 3320
4 سورة آل عمران 200 3481
5 سورة الصافات 182 861
6 سورة النساء 176 3748
7 سورة الأنعام 165 3052
8 سورة طه 135 1354 ( )
9 سورة التوبة 129 2506
10 سورة النحل 128 1845
وجملة عدد حروف القرآن على ما روي عن ابن مسعود (ثلاثمائة ألف وأربعة آلاف وسبعمائة وأربعون وقيل ثلاثمائة ألف وعشرون ألفا ومئتان واحد عشر ألفا وقيل غير ذلك .
وعدد كلماته على ما روى ابن مسعود سبع وسبعون ألفا وتسعمائة وأربع وثلاثون)( ).
وهناك أقوال متعددة في عدد كلمات القرآن , فمثلاَ في سورة البقرة وعدد آياتها , قال الفيروز آبادي( ) .
(وعدد آباتها مائتان وست وثمانون آية (فى عدِّ) الكوفيِّين، وسبع (فى عدِّ) البصريِّين، وخمس (فى عدِّ) الْحجاز، وأَربع (فى عدِّ) الشاميِّين. وأَعلى الرّوايات وأَصحُّها العَدّ الكوفيُّ، فإِنَّ إِسناده متَّصل بعليّ بن أَبي طالب عليه السلام.
وعدد كلماته ستَّة آلاف كلمة، ومائة وإِحدى وعشرون كلمة.
وحروفها خمس وعشرون أَلفاً وخَمْسمائة حرف)( ).
علم جديد في الإعجاز
علم ترشح واقتباس المعجزات الحسية من الآية القرآنية وفيه تثوير لعلم التفسير والتأويل ، هو فيض وبركة وضياء ومناسبة لإستقراء كنوز علمية من الآية القرآنية ، وبيان لشواهد من السنة النبوية والتأريخ ، تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتتبين موضوعيته بقراءة الآية القرآنية والتدبر فيها ، وتجلي واستقراء أمور :
الأول : قانون الإعجاز الذاتي لذات الآية .
الثاني : الإعجاز الغيري للآية القرآنية ، والنسبة بينه وبين قانون ترشح المعجزة الحسية عن المعجزة العقلية عموم وخصوص مطلق .
الثالث : السنة النبوية القولية المتفرعة عن ذات الآية .
الرابع : السنة النبوية الفعلية التي ترشحت عن ذات الآية القرآنية .
الخامس : الصلة بين الوحي والتنزيل ، والنسبة بينهما عموم وخصوص مطلق ، فالوحي أعم ، وذات سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي ، والمراد من التنزيل هو آيات القرآن .
ومن العلوم المستقرأة من هذا القانون بيان قانون وهو أن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آلافاً من المعجزات الحسية ، وأنها لا تقف عند العدد المحدد والمعدود الذي تذكره كتب السيرة .
وإذ أن تفسيرنا هذا وصل إلى الجزء الأربعين بعد المائتين وورد في فصول عديدة منه ذكر معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية , وعدم الوقوف عند ذكر خصوص المعجزات التي وردت في كتب السيرة مثل حديث الإسراء ، انشقاق القمر , قال تعالى [اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ]( )، والمعجزات الحسية المترشحة عن هذه الآية مركبة من قسمين :
الأول : اقتراب يوم القيامة .
الثاني : إنشقاق القمر .
وحدث انشقاق القمر فعلاً ، أما إقتراب الساعة فيمكن تلمس العلامات والشواهد التي ذكرها النبي عن قرب يوم القيامة .
وتكثير الطعام القليل فأشبع العدد الكثير , ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة يوم الحديبية , والمسلمون يومئذ في أشد الحاجة إلى الماء .
و(عن جابر قال عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين يديه ركوة فتوضأ منها ثم أقبل على الناس فقال ما لكم قالوا ليس عندنا ماء نتوضأ به ولا نشرب إلا ما في ركوتك فوضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأنا فقلت لجابر كم كنتم يومئذ قال لو كنا مائة ألف لكفانا كنا خمس عشرة مائة له طرق عن جابر قال البيهقي وغيره نبع الماء من الأصابع الشريفة وقع مرات متعددة)( ).
فتفضل الله عز وجل علينا فذكرت في ثنايا هذا التفسير وأجزائه المتعاقبة المئات من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم استقراء وتأسيساً وكشفاً .
ويمكن تخصيص دراسات ماجستير أو دكتوراه بعنوان المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معالم الإيمان , مع شواهد من الآيات التي ترد في هذا التفسير بخصوص هذا القانون.
منها مثلاَ آيات (قل) وما يترشح عنها إذ ورد لفظ (قل) بصيغة الأمر (332) مرة في القرآن , منها (328) خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قانون المعجزة الحسية في ثنايا المعجزة العقلية
ليس من حد للمواضيع والأحكام التي تتجلى فيها رحمة الله ، وكل ما في الوجود من مظاهر رحمته تعالى ، ومنها النبوة ومصاحبة المعجزة لها.
ولما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين تفضل الله عز وجل بتوثيق معجزات الأنبياء برسالته ومعجزته لبيان قانون معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حفظ وتوثيق سماوي لمعجزات الأنبياء ، وفيه مسائل:
الأولى : إكرام للأنبياء وثناء عليهم من الله عز وجل في الدنيا .
الثانية : دعوة المسلمين وأهل الكتاب في كل زمان الى التصديق بالنبوة .
الثالثة : حاجة الناس لحفظ القرآن وآياته من الضياع والتحريف والتغيير ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
الرابعة : بيان حب الله للأنبياء ، وتوثيق ذكرهم في كل زمان إلى يوم القيامة بلحاظ أن شريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باقية في الأرض، وقانون عصمة الفرائض العبادية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من التحريف والتغيير سواء من جهة الكلي الطبيعي وهو الماهية لا بشرط مقسمي ، أو بخصوص مقدمات وشروط وأجزاء وأركان هذه الفرائض ، ومن المقدمات مثلاً وجوب الوضوء لوجوب ذيه وهي الصلاة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ومن أجزاء الصلاة القراءة في كل ركعة من ركعاتها ، وهو من الإعجاز التشريعي في حفظ وسلامة القرآن من التحريف ، فمثلاً كان مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة آلاف من الصحابة على تعدد الروايات منهم من قال كانوا أربعين ألفاً ، ومنهم من قال تسعين ألفاً ، وأوصل بعضهم عدد الصحابة الذين حضروا حجة الوداع إلى مائة ألف ، وكل فرد من هؤلاء يقرأ القرآن سبع عشرة مرة في اليوم والليلة ، وبحال خشوع وخضوع وضبط لمخارج الحروف والحركات ، وهو من المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حفظ التنزيل والإستقامة ، والحرص على العمل بمضامينه القدسية .
الخامسة : منع الناس من إدعاء النبوة كذباً وزوراً ، لبيان قانون المعجزة واقية من الإفتراء على الله ، لينزل القرآن بما يمنع من هذا الإفتراء إلى يوم القيامة من جهات :
الأولى : الدلائل العقلية على نزول القرآن من عند الله تعالى .
الثانية : إخبار القرآن بأن النبي محمداً خاتم النبيين ، قال تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( ).
الثالثة : بيان القرآن وفي آيات متعددة بقانون الملازمة بين النبوة والمعجزة.
الرابعة : إعجاز القرآن دعوة للناس للصدور عنه ، وفيه شاهد بانقطاع المعجزة بانتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
(وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما مِنْ نبي إلا وقد أعطي ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا)( ).
كل آية قرآنية تترشح عنها معجزة أو معجزات حسية متعددة ولإختصاص هذا الجزء بقانون (آيات محكمة غير منسوخة) نأخذ مثالاَ قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ) إذ تترشح عنه معجزات حسية متعددة منها :
الأول : قانون نداء الإيمان في أول الآية شاهد على دخول أفواج من الناس في الإسلام , ويؤكد كثرتهم قوله تعالى في ذات الآية (كافة) وهو سور الموجبة الكلية , وبمعنى جميع , ولا يدخل عليها التعريف بالألف واللام , ولا تكون مضافة لغيرها , إنما تكون منصوبة على الحال , تقول حضر الحجيج كافة عرفات .
الثاني : من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلوغ آية البحث إلى أجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة , وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا في زمان النبوة والتابعين وفي كل جيل إلى يوم القيامة , وبلوغ النداء القرآني إلى المليارات من المسلمين والمسلمات في الأجيال المتعاقبة من غير تحريف ولا تبديل من المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية المترشحة عن هذه الآية على جهات :
الأولى : تقيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمضامين هذه الآية
الثانية : قانون إجتناب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغزو والهجوم على بلدان المشركين .
الثالثة : قانون سعي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السلم والمسالمة والصلح مع المشركين , كما حدث في صلح الحديبية.
وعندما وصل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحديبية بركت به راحلته في أمارة على الإقامة في المقام ، والتوقف وعدم الدخول إلى الحرم مع أن خيالة المشركين بقيادة خالد بن الوليد قريبة منهم .
فقال بعض الصحابة (خلأت القصواء خلأت القصواء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل ثم قال والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء)( ).
وفي الحديث أعلاه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله (لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها .
ثم زجرها فوثبت فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء) .
ففيه بشارة عدم وقوع قتال يومئذ مع أن مائتين من خيل لها المشركين تحيط بهم مع قرب مكة وسرعة مجئ المدد له منها فهي لا تبعد سوى عشرين كيلو متر عنها .

قانون نداء الإيمان كنز متجدد
من خصائص الآية القرآنية أنها كنز يفيض بالدرر واللآلئ بما يهدي الناس ، ويصلح المجتمعات ، ومنه خطابات القرآن ، ويشمل نداء (يا أيها الذين آمنوا) النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم , إذ أن تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله والمعاد , والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أول من آمن وأول المسلمين , وهذا القول لا يتعارض مع ما ورد عن ابن عباس (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما أنزل الله آية فيها {يا أيها الذين آمنوا} إلا وعليّ رأسها وأميرها)( ).
إذ أن المراد من الحديث رأس المؤمنين والصحابة الذين صدقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يستقرأ عدم التعارض مع تسمية الإمام علي عليه السلام نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ] ( ).
ولم يرد لفظ (ادخلوا في) في القرآن إلا مرتين , إحداهما في آية البحث والأخرى في الوعيد للذين كفروا بسوء العاقبة وشدة العذاب يوم القيامة [قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا]( ) .
وفي الجمع بين الآيتين , والتباين الموضوعي بينهما معجزة إذ يتعلق موضوع آية البحث بالحياة الدنيا وهي نداء خاص للذين آمنوا لينتفع الناس جميعاَ من دخولهم في السلم .
أما الآية أعلاه فتتضمن ذم الذين كفروا من أجيال الناس المتعاقبة على جحودهم , وامتناعهم عن الإنقياد للأوامر الإلهية , وما جاء به الأنبياء من عند الله عز وجل .
الخامس : تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا من المهاجرين والأنصار والتابعين وتابعي التابعين , وهذا التتابع وتوارث الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم القيامة معجزة حسية له متجددة في كل زمان : يحسها ويدركها كل إنسان مسلماَ أو كتابياَ أو غيرهم.
السادس : يا أيها المليارات من الذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل هذه المعجزة الحسية يومية متجددة ، الجواب نعم , ترى ما هي الصلة بين آية البحث وقوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً]( ) الجواب من جهات :
الأولى : النسبة بين السعي في مسالك السلم وبين التقية عموم وخصوص مطلق , فالسلم أعم.
الثانية : قد يقال أن القدر المتيقن من التقية في الآية أعلاه هو تولي المؤمن للكافر للخشية وصرف الأذى , والجواب مو ضوع التقية أعم.
الثالثة : قد يلزم الجمع بين أحكام الآيتين بأن يدخل المسلمون في السلم تقية من الذين كفروا وحفاظاَ على السلم المجتمعي , ومنعاَ من سفك الدماء وتعرض المسلمين للضرر الشديد .
الرابعة : الدخول في السلم في المقام من مصاديق قوله تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا]( ) وقوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ).
قانون الجمع بين نداء الإيمان والسلم
لقد تضمنت آية [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( )، النداء التشريفي لأجيال المسلمين والمسلمات , وهو معجزة عقلية , فما هي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية بخصوصه .
وهل تختص هذه المعجزات بأيام النبوة ، الجواب لا تختص هذه المعجزات بأيام النبوة , بل هي متصلة ومتجددة إلى يوم القيامة .
وهل كانت خطب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتضمن النداء من عنده [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا]كما لو قال : يا أيها الذين آمنوا أطيعوني , أم أنه لم يذكر هذا النداء إلا ما ورد في آيات القرآن .
لابد من الرجوع إلى أحاديث السنة النبوية ولم أجد هذه العجالة ما يدل على تضمن خطب النبي هذا النداء , إنما كان يتلو آيات نداء الإيمان ، وينادي بالأعم (أيها الناس).
و(عن أنس بن مالك قال : بعثتني أم سليم برطب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طبق ، أول ما أينع ثمر النخل قال : دخلت عليه ، فوضعت بين يديه ، فأصاب منه ، ثم أخذ بيدي ، فخرجنا ، وكان حديث عهد بعرس زينب بنت جحش ، فمر بنساء من نسائه ، وعندهن رجال يتحدثون، فهنأنه وهنأه الناس.
فقالوا : الحمد لله الذي أقر بعينك يا رسول الله ، فمضى حتى أتى عائشة ، وإذا عندها رجلان ، فكره ذلك ، وكان إذا كره الشيء عرف ذلك في وجهه ، فأتيت أم سليم ، فأخبرتها.
فقال أبو طلحة : لئن كان كما قال ابنك حقا ليحدثن أمرا ، فلما كان من العشي : خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فصعد المنبر ، قال هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم( ))( ).
وفي الآية مسائل :
الأولى : جاء بعد نداء الإيمان مباشرة الأمر الإلهي (ادخلوا في السلم كافة) ويحتمل وجهين :
الأول : الدخول العام والدائم, وفي الفلسفة قيل ما من عام إلا وقد خص , فهل هناك استثناء لطائفة من المسلمين.
الثاني : خصوص صيرورة المسلمين في حال قوة ومنعة كما عن بعض العلماء.
المختار الأول , لجهات :
الأولى : أصالة الإطلاق .
الثانية : السلم خير محض .
الثالثة : تقييد الآية بسور الموجبة الكلية (كافة) وهو حجة في كل زمان , ويشمل الآمر والمأمور.
الرابعة : الحسن الذاتي لحال السلم والنفع العام في انبساطه على الأرض.
فإن قلت : قد ورد قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ) والجواب هناك تباين رتبي بين الدخول في السلم وبين الدعوة إليه , ويبقى الأصل هو الدخول في السلم .
والقدر المتيقن هو حال الحرب والقتال , ولا يكون الصحابة أول الجمعين الذي يدعو إلى السلم والموادعة , فتكون مناسبة للكفار لإملاء شروطهم .
وقد دعا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السلم والمسالمة يوم الحديبية , إذ لم يكن في حال قتال , وهل كان المسلمون يومئذ هم الأعلون من جهة الكثرة والقوة والسلاح , المختار لا .
فقد كانوا ألفاً وأربعمائة عزلاَ من السيوف والرماح إلا سلاح الراكب السيوف في أغمادها .
نعم كان سلاحهم الإيمان , ونداء لبيك اللهم لبيك , لبيك لا شريك لك لبيك , بينما كان الكفار يشركون الأوثان في تلبيتهم , وكل قبيلة لها تلبية خاصة .
و(عن الضحاك في قوله [وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ]( )، قال : كانوا يشركون به في تلبيتهم ، يقولون : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك ، تملكه وما ملك)( ).
ولكن موضوع الآية أعم ، ولا دلالة على كون هذه التلبية سبباً لنزول الآية .
وعن ابن عباس (قال : كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون : لبيك لا شريك لك لبيك . فيقول النبي صلى الله عليه وسلم : قد ، قد . ويقولون : لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك ، ويقولون : غفرانك غفرانك . فأنزل الله تعالى [وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ…]( )، الآية .
فقال ابن عباس : كان فيهم أمانان النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار ، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ]( )، قال : هو عذاب الآخرة وذلك عذاب الدنيا)( ).
و(عن مجاهد { ولا تهنوا } قال : لا تضعفوا { وأنتم الأعلون}( ) قال : الغالبون) ( ).
ولكن معنى الأعلون أعم ولا ينحصر بالغلبة , إنما يشمل رجحان الكفة في الميزان أو خارجه بالتعبئة والتحشيد والأسلحة والظهر.
ولو دار الأمر بين القتال مع هذا الرجحان وتحقيق النصر على المشركين , وبين الدخول في السلم كما أمرت آية البحث .
فالأصل هو الثاني , وهو من معاني الإطلاق والعموم في الدخول في السلم , وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة حتى في حال انكم الأعلون .
ولبيان قانون وهو مجئ المعجزة العقلية والحسية لجذب الناس إلى الإيمان وهو من المصاديق والمنافع العامة لعلم ترشح المعجزات الحسية عن المعجزة العقلية.
فهذا الترشح طريق مبارك لدخول الناس إلى الإسلام من غير خروج عن السلم المجتمعي الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذي هو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية في المقام عدم المناجاة بالحرب والقتال عند إزدياد أعداد المسلمين وظهورهم على مشركي مكة وحلفائهم .
الثانية : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تطلبوا الثأر لتشمل بدر ومعركة أحد .
الثالثة : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تكونوا كالذين [خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا]( )، بلحاظ أن اتباع خطوات الشيطان من العمل السيئ لذا تضمنت الآية النهي عنه .
الرابعة : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة واشكروا الله على تنزهكم من حمية الجاهلية ، قال تعالى [إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( )، ولم يرد لفظ (حمية) في القرآن إلا في الآية أعلاه وعلى نحو مكرر.
وهل يدل قوله تعالى [فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ] على كون آيات السلم محكمة غير منسوخة ، الجواب نعم.
معجزة الصبر على خسارة أحد
لقد كانت خسارة المسلمين يوم معركة أحد بالغة إذ سقط سبعون شهيداَ منهم أربعة من المهاجرين هم :
الأول : حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قتله وحشي .
الثاني : عبد الله بن جحش , وهو من بني أمية قتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق .
الثالث : مصعب بن عمير , وهو من بني عبد الدار قتله ابن قمئة .
الرابع : شَمّاسُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ الشّرِيدِ, وهو من بني مخزوم , قَتَلَهُ أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ ( ).
وباقي الشهداء وعددهم ستة وستون من الأنصار , وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : ترك المهاجرين منازلهم وأموالهم وهجرتهم إلى المدينة معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : في الهجرة المتعددة إلى الحبشة والمدينة شاهد على تصديق أولي الألباب برسالته.
الثالثة : يأتي قتالهم دفاعاَ عن النبوة والتنزيل معجزة حسية أخرى , ثم فوزهم بمرتبة الشهادة في نصرة البعثة النبوية , وإعلاء كلمة التوحيد .
و(عن ابن عباس قال : قتل تميم بن الحمام ببدر وفيه وفي غيره نزلت { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات . . . }( ) الآية) ( ).
الرابعة : إيواء الانصار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتحملهم الأذى والقتل في سبيل الله ودفاعاَ عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة حسية خالدة له .
ويمكن القول بقانون من جهات :
الأولى : قانون كل هجرة صحابي معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : قانون كل خروج لمهاجر في كتيبة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم معجزة حسية .
الثالثة : قانون كل خروج لمهاجر في سرية معجزة حسية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ترى ما هي النسبة بين الجهة الثانية والثالثة أعلاه هل هي التساوي الجواب لا , فالخروج في كتيبة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلى مرتبة في باب المعجزة لمصاحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السفر , ولقيام المهاجرين بتعاهد سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الليل والنهار .
الرابعة : قانون كل فرد دخل الإسلام من الأنصار وغيرهم معجزة حسية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : قانون كل فرد من الأنصار خرج في كتيبة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو سرية وبعث معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادسة : قانون وقوف الصحابي في الميدان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم معجزة حسية له , وهو من مصاديق قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
السابعة : قانون سقوط شهيد في ميدان المعركة من أظهر المعجزات الغيرية الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذا البشارة السماوية بحياته حال قتله ، وقد وردت آيتان بخصوص الشهيد :
الأولى : بصيغة الماضي في قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ).
الثانية : بصيغة الفعل المضارع [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ).
وهو من إعجاز القرآن لبيان اتصال الشهادة ، وهو لا يتعارض مع السعي في الدخول في السلم فهذا الدخول مانع من تجدد القتال وإشاعة القتل .
لذا أختتمت الآية بالنهي عن اتباع خطوات الشيطان والأخلاق المذمومة والفتنة التي يسعى إليها بين الأفراد والجماعات والطوائف والأمم.
إتباع النبوة دخول في السلم
من معاني البيان في النداء التشريفي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] التقيد بآداب وسنن الهداية والرشاد التي جاء بها التنزيل ومنها تغليب لغة الحوار وإدراك أن الإحتجاج وسيلة لجذب الناس إلى الإيمان وهي افضل وأحسن من الإقتتال ، وفيه شاهد على حسن سمت اتباع الأنبياء.
ومن وجوه تقدير آية السلم : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ليكون دخولكم هذا شاهداَ على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات:
الأولى : قانون الملازمة بين النبوة والدخول في السلم .
الثانية : طاعة المسلمين لله ولرسوله بالدخول في السلم معجزة حسية غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : قانون دخول المسلمين في السلم والمصالحة مناسبة لتجلي المعجزات العقلية والحسية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وقيل (ادخلوا في السلم) أي في الإسلام , ولكنه من تحصيل لما هو حاصل , إذ يدل نداء يا أيها الذين آمنوا , على إرادة المسلمين ، وصفة (الذين آمنوا) مدح للمسلمين , وهي كاللقب لهم وعنوان صلة وأخوة بينهم.
ومن معاني قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، تعاهد السلم والمحافظة على سنن التقوى كسور جامع ، وسلام دائم .
ليكون المراد من السلم جهات :
الأولى : إجتناب الغزو .
الثانية : صرف القتال مع الإمكان .
الثالثة : الإستعداد للصلح والموادعة مع المشركين .
الرابعة : عقد الصلح والعهود.
الخامسة : الأمر بالسلم والمبادرة إليه , والنهي عن الإبتداء بالقتال , لذا ورد قوله تعالى [وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
وهذه الآية من المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فالمسلمون لا يقاتلون الكافرين إبتداء , ولا يغزونهم , ومن معاني الجمع بين الآيتين مسائل :
الأولى : ادخلوا في السلم كافة إلا حال تعدي وهجوم وغزو المشركين كما حصل في معركة بدر , ومعركة أحد , ومعركة الخندق , ومعركة حنين.
الثانية : يا أيها الذين آمنوا اقتدوا بالمؤمنين من الأمم السابقة بالدفاع عن النبوة ، قال تعالى وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.
الثالثة : الدفاع عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قتال في سبيل الله ، وشاهد على صدق الإيمان ، ودعوة إلى السلم ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ]( ).
قانون الصلة بين المعجزة العقلية والحسية
علم ترشح المعجزات الحسية عن المعجزة العقلية ، هو علم جديد وفرع كون السنة النبوية بياناً وتفسيراً للقرآن ، وبهذا العلم تستقرأ آلاف المعجزات الحسية المستحدثة والمستقرأة من أمور :
الأول : الصلة بين القرآن والسنة .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق بين الوحي والتنزيل .
الثالث : سيرة أهل البيت والصحابة والتابعين وأجيال المسلمين المتعاقبة وهي من أظهر موارد هذا العلم لماهية التجدد والتجلي والشواهد بالحس والوجدان لأفراده.
ومن أبواب هذا العلم المستحدث استحضار وذكر الآية القرآنية ثم ينظر ما تفرع عنها من السنة النبوية القولية والفعلية.
وقد يتحد موضوع الآية كما في الإنفاق وتعدد آياته فيمكن توزيع الأحاديث النبوية في المقام على هذه الآيات بلحاظ ضوابط معينة منها ذكر الآية وما يتفرع عنها :
الأول : سياق الآيات .
الثاني : سبب النزول .
الثالث : موضوع الآية ، ولم يرد لفظ إنفاق في القرآن إلا مرة واحدة بقوله تعالى [قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا]( )، ولكن آيات الإنفاق كثيرة وهو من اللطف الإلهي لما فيها من التراحم في الدنيا ، والأجر والثواب في الآخرة.
الرابع : مضامين الآية غير الإنفاق من الأوامر والنواهي والخبر والعاقبة ونحوها .
الخامس : مناسبة حديث أو فعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس : الأثر المترتب على السنة النبوية في المقام .
السابع : سيرة المسلمين .
وعدد آيات القرآن (6236) آية وكل آية تتضمن الإعجاز المتعدد في نظمها ومضمونها ودلالاتها.
أما المعجزات الحسية المترشحة عنها فهي توليدية ومتجددة إلى يوم القيامة.
وأرجو أن أفرد لهذا العلم جزءً مستقلاً يكون نواة ومصدراً للمحققين والمؤمنين , واستحدث هذا العلم في الجزء الأربعين بعد المائتين من تفسيري وأسأل الله أن أقوم بتخصيص جزء كامل لهذا العلم.
وهل هذا العلم من المتناهي أم من اللامتناهي ، الجواب هو الثاني.
لقد كانت معجزات الأنبياء حسية ، ورزقه الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم المعجزة الحسية والعقلية .
تقسيم المعجزات
يمكن تقسيم معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المترشحة عن آيات القرآن عدة تقسيمات حسب الزمان والموضوع ، منها :
الأول : المعجزات المترشحة عن السور المكية والتي تتصف بالقصر وفيها مضامين التخويف والوعيد للذين كفروا.
الثاني : المعجزات المترشحة عن السور المدنية وما فيها من الأحكام ، وتقيد المسلمين بها ، ومنها :
الأول : المعجزات الحسية المترشحة عن المعجزة العقلية قبل الهجرة.
الثاني : المعجزات الحسية المترشحة عن المعجزة العقلية بعد الهجرة.
ومنها :
الأول : المعجزات الحسية المترشحة عن المعجزة العقلية في العبادات .
الثاني : المعجزات الحسية المترشحة عن المعجزة العقلية في المعاملات.
الثالث : المعجزات الحسية المترشحة عن المعجزة العقلية في الأحكام .
ومنها :
الأول : المعجزات الحسية المترشحة عن المعجزة العقلية في حال السلم .
الثاني : المعجزات الحسية المترشحة عن المعجزة العقلية في حال الدفاع.
ومنها :
الأول : المعجزات الذاتية .
الثاني : المعجزات الغيرية في سيرة المسلمين والمسلمات وأهل الكتاب والمشركين .
الثالث : هجرة وصبر وجهاد كل مهاجر .
الرابع : إيمان وجهاد كل انصاري ، قال تعالى [وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الخامس : تضحية كل شهيد .
ومنها :
الأول : المعجزات الحسية الراتبة .
الثاني : المعجزات الحسية المتغيرة والمتجددة.
وهل وقف الوأد من المعجزات الحسية المترشحة عن المعجزة العقلية ، الجواب نعم.
وهل قول النبي يوم غدير خم (من كنت مولاه فهذا علي مولاه) من المعجزات الحسية، المترشحة عن المعجزة العقلية [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( )، الجواب نعم ، كما أن المعجزات المترشحة عن قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ). مستمرة ومتجددة.
و(عن البراء قال : لما نزلنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع كنّا بغدير خم فنادى إن الصلاة جامعة وكسح رسول اللّه عليه الصلاة والسلام تحت شجرتين وأخذ بيد علي.
فقال : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
قالوا : بلى يا رسول اللّه.
قال : ألست أولى بكل مؤمن من نفسه.
قالوا : بلى يا رسول اللّه،
قال : هذا مولى من أنا مولاه اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه.
قال : فلقيه عمر فقال : هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة)( ).
ولا يختص الأمر بالخطبة النبوية وإن كانت معجزة مترشحة عن الآية القرآنية إنما تشمل المعجزة الحسية أموراً تبدأ بنصب النبي صلى الله عليه وآله وسلم خيمة لأمير المؤمنين ودخول الصحابة للسلام عليه بالأمرة وأول من دخل أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ كن جميعاً معه في حجة الوداع ، ثم دخل الصحابة ومنهم أبو بكر وعمر بن الخطاب .
وهل من المعجزات الحسية تجدد إحياء ذكرى الغدير في الثامن عشر من شهر ذي الحجة من كل عام ، المختار نعم.
هل وقف الغزو بين القبائل من المعجزات ، الجواب نعم .
وقد تعطلت تجارة قريش المذكورة والموثقة بقوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )، بسبب إنفاقهم الأموال ونحرهم إبل التجارة في محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، وهو من المعجزات الحسية الغيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل صيام المسلمين شهر رمضان كل سنة من المعجزات الحسية المترشحة عن المعجزة العقلية ، الجواب نعم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
ويمكن تقسيم المعجزات الحسية الخاصة بالصيام على آيات الصيام.
وكذا بالنسبة لصلاة أجيال المسلمين المتعاقبة جماعة وفرادى وهو من أسرار قانون أن علم ترشح المعجزات الحسية عن المعجزة العقلية من اللامتناهي.
والمعجزة العقلية ثابتة من جهة العدد وهي (6236) آية ولكن علومها من اللامتناهي.
وكذا بالنسبة للمعجزات الحسية المترشحة عنها ، ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إتصاف معجزاته العقلية وكذا معجزاته الحسية باللامتناهي .
قانون موضوعية السؤال في التنزيل
لقد أكثر المسلمون وغيرهم سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن آيات القرآن ودلائل الإعجاز فيها , وقد ورد لفظ (يسألونك) خمس عشرة مرة في القرآن , ولا ينحصر سؤال الناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الأسئلة عدداَ وكماَ وموضوعاَ , وهناك مسائل :
الأولى : دلالة كثرة لفظ (يسألونك) في القرآن على تعدد وكثرة الأسئلة الموجهة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : من خصائص النبوة وخصال النبي قانون توجه الأسئلة له من الناس لأن ذات السؤال وجوابه من الشواهد على صدق النبوة .
الثالثة : مجئ السنة النبوية والقولية والفعلية بما يدل على أن الأسئلة الموجهة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر بكثير مما ورد في القرآن ومنها ما يتعلق بالعبادات مثلاً سأل رجل (النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن رمي الجمار وما لنا فيه؟ فسمعته يقول : تجد ذلك عند ربك أحوج ما تكون إليه)( ).
للدلالة على أن العبادات توقيفية ومنها ما لا يعلم الحكمة والمنافع العظيمة لها إلا الله عز وجل .
ومن الأسئلة ما يتعلق بأسباب نزول الآيات , أو يكون سبباَ لنزول الآية .
و(عن نافع عن ابن عمر : أنه قال : يا نافع أمسك على المصحف ، فقرأ حتى بلغ { نساؤكم حرث لكم . . . }( ) الآية .
فقال : يا نافع أتدري فيم أنزلت هذه الآية؟
قلت : لا . قال : نزلت في رجل من الأنصار ، أصاب امرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك ، فسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأنزل الله الآية ، قال الدارقطني : هذا ثابت عن مالك ، وقال ابن عبد البر : الرواية عن ابن عمر بهذا المعنى صحيحة معروفة عنه مشهورة) ( ).
و(عن معاوية بن حيدة القشيري : أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما حق المرأة على الزوج؟
قال : أن تطعمها إذا طعمت ، وأن تكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في البيت) ( ).
ومنها ما يتعلق بعالم الأكوان و(عن أبي ذر : أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الكرسي فقال : يا أبا ذر ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة) ( ).
و(في خبر عبد الله بن سلام أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله عن أول أشراط الساعة، فقال: نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب)( ).
وقد تأتي الأسئلة من الملوك والأمراء لإختبار النبوة والإنتفاع من علومها .
(وروي أن رسول هرقل سأل النبي صلى الله عليه وآله فقال إنك تدعو إلى جنة عرضها السماوات والارض اعدت للمتقين فأين النار.
فقال النبي صلى الله عليه وآله : سبحانه الله ! فأين الليل إذا جاء النهار)( ).
وتتضمن السنة النبوية أسئلة كثيرة من يهود المدينة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها ما ورد (عن جابر، قال : سأل النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم رجلٌ من اليهود يقال له بستان ، فقال : يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف ساجدة له ما أسماؤها , فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : هل أنت مؤمن إن أخبرتُ بأسمائها.
قال : نعم ، فقال : حرثان والطارق والذيال وذو النقاب وقابس ووثاب وعمودان والمصبح والفليق والضروح وذو الفرغ ، رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء فسجدن له فقال اليهودي : إي والله إنها لأسماؤها)( ).
وكما سأل المشركون الأنبياء أسئلة إعجازية وجحدوا بها , فقد سأل المشركون النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنشقاق القمر ووقعت المعجزة وجحدوا بها , كما سألت قريش النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم أن يحول جبل الصفا ذهباَ .
ولم تم تحويله ذهباَ لكسروه بالفؤوس ثم قالوا إنه سحر , وتأتي أجيال بعدهم لتنكر المعجزة والواقعة من الأصل , ثم أن ذات الجبل من شعائر الله عز وجل لقوله تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ]( ) .
فلا يجوز سؤالهم هذا لأنه خلاف الإرادة التكوينية وتمر الأيام ويصبح جبل الصفا ذهباَ في كل سنة لأهل مكة وما حولها بملايين الوافدين للحج والعمرة وكثرة إنفاقهم , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
وقد تأتي آية قرآنية جواباَ لسؤال من المسلمين أو أهل الكتاب أو غيرهم من غير أن تتضمن لفظ (يسألونك) أو معنى السؤال , و(عن أبي العالية قال : إن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم زماناً عن أمور من التوراة لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوا عنه فيخصمهم ، فلما رأوا ذلك قالوا هذا أعلم بما أنزل علينا منا ، وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به ، فأنزل الله { واتبعوا ما تتلوا الشياطين . . . }( ) الآية .
وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك ، فدفنوه تحت مجلس سليمان ، وكان سليمان لا يعلم الغيب ، فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا به الناس .
وقالوا : هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه ، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث ، فرجعوا من عنده) ( ) .
قانون آية (وأعدوا لهم) سلام وأمن
قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ) معجزة عقلية من جهات :
الأولى : ابتداء الآية بالأمر العام (واعدوا) للمسلمين , وهل يشمل المسلمات أم ينحصر هذا الإعداد بالرجال لأن القتال أمر مفروض عليهم , وهو ساقط عن النساء , المختار هو الأول من وجوه:
الأول : التباين بين إعداد القوة وبين القتال .
الثاني : إرادة بذل الجهد والمال في سبيل الله , وهو الذي تدل عليه خاتمة الآية .
الثالث : إصلاح الأمهات والأبناء للدفاع .
الرابع : عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشاملة للنساء , وقانون الإمتثال لأحكام الآية القرآنية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامس : من وجوه تقدير قوله تعالى [وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ]( )،الخطاب إلى المسلمات أيضاً (وما تنفقن من شئ) .
الثانية : عائدية الضمير (هم) في [وَأَعِدُّوا لَهُمْ]( ) للكفار لقوله تعالى في الآية السابقة [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ]( ) وفيه نهي عن القتال بين المسلمين وقتال أهل الكتاب وعامة الذين لم يقاتلوا المسلمين.
ويظهر هذا التقييد في آيات متعددة منها قوله تعالى [لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ]( ).
الثالثة : إنحصار موضوع إعداد القوة بإرهاب عدو الله وعدو المسلمين ليخرج أهل الكتاب والذين لم يحاربوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ولم يسعوا في محاربة المسلمين .
الرابعة : التهيئ والإعداد في الآية للدفاع خاصة لزجر المشركين عن القتال , لتترشح المعجزات الحسية المتعددة .
الخامسة : دلالة آية البحث على قانون إخافة المشركين سلام لما فيها من زجرهم عن التعدي والهجوم .
السادسة : بلوغ المسلمين مرتبة الإعداد للدفاع بالسلاح والخيل والرجال , فقد ورد بخصوص معركة بدر وصف المسلمين بالذلة , ومجئ النصر من عند الله عز وجل , إذ قال سبحانه [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ليكون من معاني قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ]( )، قانون دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على الإرتقاء عن مرتبة الذلة .
وهل ينصرهم الله عز وجل في حال الأهلية للإعداد للدفاع أم تنحصر نصرة الله عز وجل لهم بحال الذلة أي الضعف والنقص في الرجال والسلاح .
الجواب هو الأول ، لأصالة الإطلاق .
السابعة : تتجلى في تجارب الدول أن الإستعداد للدفاع وسيلة لإجتناب القتال , ولكن هذا لا يعني السباق في التسلح بما يؤدي إلى الضرر العام والتوتر , ونقص الميزانية والإعمار بسبب الإنفاق على السلاح .
ومن إعجاز آية البحث تقييدها الإعداد للدفاع بالإستطاعة بقوله تعالى [مَا اسْتَطَعْتُمْ]( ) لبيان موضوعية أوان الوجوب أو الواجب عند مداهمة العدو لثغر الإسلام المدينة وضواحيها أو التمادي في التهديد , ودق المشركين طبول الحرب كما في إعدادهم لمعركة أحد سنة كاملة , وبعثهم رسائل التهديد إلى المهاجرين والأنصار , والمناجاة بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلقاء الأشعار التي تسيء إلى شخصه الكريم وإلى المسلمين والمسلمات .
وتتألف الضابطة في الإعداد من :
الأول : القوة .
الثاني : رباط الخيل , مع بيان السنة النبوية , لمعنى القوة , و(عن عقبة بن عامر الجهني : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل }( ) ألا إن القوّة الرمي ثلاثاً ، إن الأرض ستفتح لكم وتكفون المؤنة ، فلا يعجزنَّ أحدكم أن يلهو باسهمه)( ).
و(عن عكرمة في قوله { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل }( ) قال : القوّة ذكور الخيل ، والرباط الإِناث)( ).
وهو بعيد ومخالف لما روي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , لأن لفظ الخيل مطلق يشمل المذكر والمؤنث , وهو عنوان لواسطة النقل وآلة في الحرب , والمشركون لا يخافون من الخيل وحدها ذكوراَ وإناثاَ .
وكانت خيلهم في كل معركة أضعاف خيل المسلمين ، كما في بدر ، وأحد، والخندق ، وحنين .
إذ يدل الحديث النبوي أعلاه على استمرار التمرين على السلاح وأفعال القوة حتى في حال السلم والأمن .
وهل يدل على أن وجوب الإعداد والتهيء والتمرين على السلاح كفائي ونوع اختصاص ووظيفة ، الجواب نعم ، إلا مع الدليل أو الحاجة.
قانون تقدير آية [تُرْهِبُونَ]
من وجوه تقدير قوله تعالى [تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]( ) :
الأول : ترهبون به عدو الله وعدوكم فلا يهجمون عليكم .
الثاني : ترهبون به عدو الله من مشركي قريش .
الثالث : ترهبون به عدو الله فلا يقع قتال .
والآية مصداق وبيان لقوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ) فمن معاني إرهاب المشركين إمتناع القتال بين المسلمين وبينهم .
الرابع : ترهبون عدو الله وعدوكم حرباَ على الإرهاب , ومنعاَ منه , فمن باب إعجاز آية البحث نهيها عن الإرهاب موضوعاَ وحكماَ , وبيان أن الإرهاب محرم وإن اختلفت جهة الصدور .
الخامس : ترهبون عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم في دعوة لهم للإسلام , والتوبة والإنابة وهو الذي تجلى بقبول المشركين بصلح الحديبية .
السادس : ترهبون عدو الله وعدوكم فلا يرهبونكم ولا يهجمون عليكم .
السابع : ترهبون عدو الله وعدوكم ليتوبوا إذ أن الإقامة على المناجاة في الكفر ومفاهيم الشرك غشاوة على البصيرة والأبصار فأراد الله عز وجل إزاحة هذه الغشاوة وهداية الناس إلى الإيمان .
الثامن : ترهبون عدو الله وعدوكم ليتوالى نزول آيات القرآن والبيان السماوي لأحكام الشريعة .
التاسع : ترهبون عدو الله وعدوكم كيلا يقع قتال معهم .
معجزة قصر المدة بين معركة الأحزاب وصلح الحديبية
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية عدم وجود مدة مديدة بين هجوم المشركين في معركة الأحزاب بعشرة آلاف رجل وصلح الحديبية .
وكانوا يرمون بهجومهم في الأحزاب أموراَ :
الأول : قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : منع توالي نزول آيات القرآن , وما فيها من ذم للكفر , والأمر بالصلاة والصيام والفرائض العبادية الأخرى , والنهي عن المعاصي والسيئات , ولغة الإنذار والوعيد باللبث الدائم في النار جزاء على الكفر .
الثالث : قتل طائفة من المهاجرين وأسر طائفة أخرى , بغية إدخالهم مكة مقيدين بالحبال في أيديهم وأعناقهم .
الرابع : الإنتقام من الأنصار بالقتل وسبي النساء والصبيان لأنهم آووا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقاتلوا تحت لوائه .
الخامس : محاولة إستئصال الإسلام [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
السادس : تأديب قبائل العرب , وتقوية شأن وجاه كفار قريش عندهم .
السابع : محاربة ذم عبادة الأوثان وجعل يوم الأحزاب مناسبة شؤم على المسلمين .
وقبل معركة الأحزاب ومن ضمن استعداد قريش لها , قيامهم باحصاء عدد المسلمين في المدينة وإجمالية عدد المقاتلين خاصة , ولا يبلغ عددهم ثلاثة آلاف رجل لاسيما وأن عدد الذين حضروا ميدان معركة أحد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو سبعمائة ووقعت معركة الأحزاب بعدها بسنتين , لذا جاءت قريش بعشرة آلاف مقاتل ليكونوا أكثر من ثلاثة أضعاف عدد المسلمين .
ولكن المدد من عند الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كان حاجزاَ , والذي بينّه القرآن كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ]( ).
وتدل معركة الأحزاب وكل معركة من معارك الإسلام على حاجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لقوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] ( ).
وهل من القوة زيادة الإيمان والصبر والتحمل في طاعة الله عز وجل , الجواب نعم , لقانون الثبات على الإيمان إنذار للذين كفروا وحجة عليهم , فمن معاني [تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]( ) ترسيخ مفاهيم الأمن والسلام في الأرض , فهذه الآية حرب على الإرهاب إلى يوم القيامة بالإستعداد والتهيئ له , والمنع منه , والزجر عنه .
من الإعجاز الحسي لآية [وَأَعِدُّوا لَهُمْ]
قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( )، معجزة عقلية وآية نازلة من عند الله عز وجل تتضمن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والمسلمات , لتترشح عنها معجزات حسية متجددة إلى يوم القيامة منها :
الأولى : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لآية (وَأَعِدُّوا لَهُمْ) في الصلاة وخارجها .
الثانية : التدبر العام في آية البحث .
الثالثة : استنهاض المسلمين للإعداد للقاء العدو , وكأنه يغزو المدينة غداَ .
وهذا الإستنهاض معجزة حسية لم تتم إلا بنزول القرآن .
الرابعة : اتصال وتجدد فطنة ويقظة الصحابة , والحيطة والحذر من شرور المشركين , وهو من المعجزات الحسية التي تترشح عن الجمع بين آيتين أو أكثر .
فمع آية البحث وردت آيات القرآن بوجوب صلاة كل مسلم ومسلمة خمس مرات في اليوم , وتلاوة القرآن في الصلاة ، ومنه آية البحث (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ).
وهو من الإعجاز في فرض قراءة القرآن في الصلاة اليومية لما فيها من الذكرى والبعث للعمل بأحكام آيات القرآن , ولا يختص العمل بخصوص الآية التي تقرأ في الصلاة لقانون قراءة آية القرآن باعث للعمل بكل آيات القرآن .
الخامسة : من المعجزات الحسية لآية البحث صيرورة المسلمين في حال قوة ومنعة يخشى عامة المشركين الإعتداء عليهم , والإستيلاء على ثغورهم , لذا لم ينحصر موضوع الآية بالمشركين الذين يحاربون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بل يشمل الذين من خلفهم من القبائل .
السادسة : سيادة حال السلم والأمن في المجتمعات لإمتناع القتال لقانون إذا امتنع المشركون عن الهجوم والغزو لا يقع قتال , وتقدير الآية على وجوه :
الأول : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة كي يسود السلم .
الثاني : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة كي تؤدوا الصلاة والفرائض العبادية الأخرى بأمان.
الثالث : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة إنفاقاَ في سبيل الله ليترشح الثواب على هذا الإنفاق , قال تعالى الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ.
الرابع : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل كي يرضوا بصلح الحديبية , خاصة وأن ذات خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه معجزة حسية .
فمع مرور سنة واحدة على معركة الأحزاب التي زحف فيها عشرة آلاف من المشركين على المدينة توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه ألف وأربعمائة من أصحابه إلى عقر دارهم في مكة بقصد العمرة من غير أن يحملوا أسلحة للقتال , ولا إعداد قوة أو رباط خيل مما ذكرته آية البحث .
تأليف مجلدات الجواب النبوي
لقد أنعم الله عز وجل على الناس عامة والمسلمين خاصة بنزول القرآن وجعله [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) .
ومن معاني الآية أعلاه وجوه :
الأول : اللجوء إلى القرآن في الأمور العامة والخاصة .
الثاني : الصدور عن القرآن .
الثالث : تفقه المسلمين في أحكام العبادات والمعاملات , وهو من أسرار قراءة كل واحد منهم ذكراَ أو أنثى آيات من القرآن خمس مرات في الصلاة اليومية وعلى نحو الوجوب العيني , لتكون هذه القراءة والتفقه من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ) .
الرابع : استنباط الأحكام من القرآن .
الخامس : وجوب تعاهد سلامة القرآن من التحريف أو الزيادة أو النقيصة.
لقد كانت الأسئلة توجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات متعددة منها :
الأول : أهل البيت .
الثاني : الصحابة من المهاجرين والأنصار رجالاً ونساءً.
الثالث : المنافقون .
الرابع : الأعراب .
الخامس :أهل الكتاب من اليهود والنصارى .
السادس : المشركون .
ولا تختص هذه الأسئلة بالرجال بل تأتي من النساء أيضاً ، ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إجابته على الأسئلة ، وعدم امتناعه أو اعراضه عن طائفة أو شطر منها ، وتأتي الإجابة النبوية على وجوه :
الأول : نزول قرآن بالإجابة ، وقد تكرر لفظ (يسألونك) في آية قرآنية واحدة مرتين ، كما في قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ]( )، وكذا تكرر في الآية (187) من سورة الأعراف مع الإختلاف ، ففي الآية أعلاه تعدد موضوع السؤال بتعدد السؤال أما في سورة الأعراف فموضوع السؤالين متحد لموضوعية وعظيم شأن يوم القيامة ، إذ قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
الثاني : نزول الوحي من عند الله عز وجل بنص الإجابة أو مضمونها وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الثالث : حضور الوحي عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ذات الإجابة قبل أن يتوجه السؤال إليه ، وهو من معجزاته.
وهل يمكن القول بقسيم رابع وهو إجابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عنده واجتهاده ، الجواب لا .
وقد اختلف في قوله في المباحات كالأكل والشرب واللبس وكيفية النوم ونحوه ، إذ ورد عن بعض المعتزلة لزوم التعبد بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل شئ حتى المباحات كالأكل والشرب والقيام والقعود ومشهور الإسلام التعبد بمحاكاته في العبادات كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رايتموني أصلي) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم (لتأخذوا عني مناسككم)( ).
وموضوع إجابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عامة الأسئلة مختلف من التأسي به في المباحات ، لأن هذه الإجابات أعظم وأرفع مرتبة من الفتوى في الإصطلاح الفقهي ، فهي حكم باق إلى يوم القيامة.
لذا ليس فيها برأي واجتهاد من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والذين يتوجهون إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال يبتغون أموراً :
الأول : رجاء الجواب النبوي .
الثاني : صلتهم مع الوحي والتنزيل .
الثالث : التفقه في الدين.
الرابع : الطمأنينة إلى صدق النبوة والرسالة .
الخامس : الإحتجاج على الذين كفروا .
السادس : تفويض الأمور إلى الله عز وجل , وطرد الشك .
السابع : النهل من فيض النبوة , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الثامن : الإرتقاء العام في سلم المعرفة .
التاسع : طلب الحكم والفصل , قال تعالى [سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ]( ).
وتتضمن مدرسة الإجابات النبوية كنوزاَ من العلوم والمعارف , ولابد من تخصيص دراسات لها , وتدخل فيها آيات (قل) التي تخص الإجابات كما في قوله تعالى [وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ) , وقال تعالى [فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ] ( ).
جنة آدم في السماء
من بديع صنع الله عز وجل تفضله بخلق آدم وحواء في الجنة ، وعليه الكتاب والسنة والإجماع ، وفيه إكرام لآدم وذريته من بين الخلائق إلى يوم القيامة .
ولابد من الوقوف عند هذه النعمة والآيات التي تتعلق بموضوعها وأحكامها وما تمليه على الناس من سنن التقوى والصلاح ولقاعدة تقديم الأهم على المهم.
أيهما أعم لماذا خلق الله آدم في الجنة أم هل هذه الجنة في السماء أم في الأرض.
الجواب هو الأول ، ويجب إعداد رسائل خاصة في آدم من جهات:
الأولى : النفخ من روح الله في آدم واللطف الإلهي ، والمنافع المترشحة عنه في الدنيا والآخرة ، وهل إنفرد آدم بالنفخ فيه من روح الله من بين الخلائق ، أم فاز الملائكة أو غيرهم بهذه النعمة ، قال تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
الثانية : إحصاء وجمع الآيات التي تتضمن الإخبار عن جنة آدم ، وحواره مع الملائكة وهبوطه إلى الأرض ، وسيأتي ان شاء الله في جزء لاحق.
منها قوله تعالى [قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ]( ).
[وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ]( ).
[وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ]( ).
لقد وردت النصوص المتعددة بسكن آدم في الجنة ثم خروجه منها ، ومن لطف الله عز وجل نسبة إخراجه وحواء منها إلى إزلال وإغواء إبليس وبعد تحذير الله عز وجل لهما بقوله تعالى [فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى]( ).
والمختار أن جنة آدم في السماء ومن النصوص الدالة عليه ما ورد عن حذيفة قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجمع الله تبارك وتعالى الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم لست بصاحب ذلك اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله.
قال فيقول إبراهيم لست بصاحب ذلك إنما كنت خليلا من وراء وراء اعمدوا إلى موسى صلى الله عليه وآله وسلم الذي كلمه الله تكليما.
فيأتون موسى صلى الله عليه وآله وسلم فيقول لست بصاحب ذلك اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه فيقول عيسى صلى الله عليه وآله وسلم لست بصاحب ذلك.
فيأتون محمدا صلى الله عليه وآله وسلم فيقوم فيؤذن له وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا فيمر أولكم كالبرق.
قلت بأبي أنت وأمي أي شيء كمر البرق ؟ قال ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين ؟ ثم كمر الريح ثم كمر الطير وشد الرجال تجري بهم أعمالهم ، ونبيكم قائم على الصراط يقول رب سلم سلم حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا.
قال وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به فمخدوش ناج ومكدوس في النار)( ).
و(عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : احتج آدم وموسى . فقال موسى : أنت خلقك الله بيده ، أسكنك جنته ، وأسجد لك ملائكته ، فأخرجت ذريتك من الجنة ، وأشقيتهم؟ فقال آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه ورسالاته ، تلومني في شيء وجدته قد قدر عليّ قبل أن أخلق؟ فحج آدم موسى)( ).
ومنها ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قال (لقد طاف آدم عليه السلام بالبيت مائة عام ما ينظر إلى حواء.
ولقد بكى على الجنة حتى صار على خديه مثل النهرين العجاجين العظيمين من الدموع، ثم أتاه جبرئيل عليه السلام فقال: حياك الله وبياك فلما أن قال له: حياك الله تبلج وجهه فرحا ” وعلم أن الله قد رضي عنه، قال: وبياك فضحك – وبياك: أضحكك.
قال: ولقد قام على باب الكعبة ثيابه جلود الإبل والبقر فقال: ” اللهم أقلني عثرتي، واغفر لي ذنبي، و أعدني إلى الدار التي أخرجتني منها.
فقال الله عز وجل: قد أقلتك عثرتك، وغفرت لك ذنبك، وساعيدك إلى الدار التي أخرجتك منها)( ).
ويدل هذا الحديث على عودة آدم إلى الجنة التي أخرج منها.
و(عن مسعدة بن صدقة، عن الإمام الصادق عليه السلام رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله أن موسى سأل ربه أن يجمع بينه وبين أبيه آدم حيث عرج إلى السماء في أمر الصلاة ففعل، فقال له موسى: يا آدم أنت الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته .
وأباح لك جنته.
وأسكنك جواره، وكلمك قبلا، ثم نهاك عن شجرة واحدة فلم تصبر عنها حتى اهبطت إلى الأرض بسببها فلم تستطع أن تضبط نفسك عنها حتى أغراك إبليس فأطعته، فأنت الذي أخرجتنا من الجنة بمعصيتك. فقال له آدم: ارفق بأبيك أي بني فيما لقي في أمر هذه الشجرة .
يا بني إن عدوي أتاني من وجه المكر والخديعة فحلف لي بالله إنه في مشورته علي إنه لمن الناصحين .
وذلك إنه قال لي منتصحا: إني لشأنك يا آدم لمغموم، قلت: وكيف ؟ قال: قد كنت آنست بك وبقربك مني، وأنت تخرج مما أنت فيه إلى ما ستكرهه، فقلت له: وما الحيلة .
فقال: إن الحيلة هوذا هو معك، أفلا أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ؟ فكلا منها أنت و زوجك فتصيرا معي في الجنة أبدا ” من الخالدين، وحلف لي بالله كاذبا ” إنه لمن الناصحين، ولم أظن يا موسى أن أحدا ” يحلف بالله كاذبا ” فوثقت بيمينه، فهذا عذري، فأخبرني يا بني هل تجد فيما أنزل الله إليك أن خطيئتي كائنة من قبل أن اخلق .
قال له موسى: بدهر طويل. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: فحج آدم موسى ، قال ذلك ثلاثا)( ).
وفي الحديث أعلاه (واسكنك جواره) والذي يدل على إرادة جنة السماء ، وسئل الإمام الصادق عليه السلام (كم لبث آدم وزوجه في الجنة حتى أخرجهما منها خطيئتهما .
فقال: إن الله تبارك وتعالى نفخ في آدم روحه بعد زوال الشمس من يوم الجمعة، ثم برأ زوجته من أسفل أضلاعه، ثم أسجد له ملائكته وأسكنه جنته من يوم ذلك، فوالله ما استقر فيها إلا ست ساعات في يومه ذلك حتى عصى الله فأخرجهما الله منها بعد غروب الشمس، وما باتا فيها وصيرا بفناء الجنة حتى أصبحا فبدت لهما سوآتهما وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكم الشجرة ؟ فاستحيى آدم من ربه وخضع.
وقال: ربنا ظلمنا أنفسنا واعترفنا بذنوبنا فاغفر لنا، قال الله لهما: اهبطا من سماواتي إلى الأرض فإنه لا يجاورني في جنتي عاص ولا في سماواتي.
إن آدم لما أكل من الشجرة ذكر ما نهاه الله عنها فندم فذهب ليتنحى من الشجرة فأخذت الشجرة برأسه فجرته إليها.
وقالت له: أفلا كان فرار من قبل أن تأكل مني) ( ).
وقال المجلسي : هذا الخبر مصرح بكون جنتهما في السماء.
و(عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : التقى آدم وموسى عليهما السلام فقال له موسى : أنت آدم الذي خلقك الله بيده ، وأسجد لك ملائكته ، وأدخلك جنته ، ثم أخرجتنا منها؟ فقال له آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته ، وقربك نجيا ، وأنزل عليك التوراة ، فأسألك بالذي أعطاك ذلك بكم تجده كتب عليّ قبل أن أخلق؟ قال : أجده كتب عليك بالتوراة بألفي عام فحج آدم موسى)( ).
ويدل قول موسى : ثم أخرجتنا منها أي من جنة السماء ، وأي بستان وجنان في الدنيا لا ترقى إليها ، كما أن موسى تلقى وقومه المن والسلوى من السماء ومع هذا يحتج على آدم مما يدل على أن المراد من الجنة هي جنة السماء.
وفي الجنة التي أخرج منها آدم وجوه :
الأول : إنها جنة الخلد .
الثاني : إنها جنة من جنان السماء .
الثالث : إنها بستان من بساتين الدنيا .
والمختار هو الثاني من جهات :
الأولى : إرادة العهد من الألف واللام في (الجنة) والتبادر من علامات الحقيقة .
الثانية : الحوار المتكرر والمتعدد بين آدم وملائكة السماء ، وما يدل من الأخبار أعلاه وغيرها أن آدم كان يتخاطب معهم وهم في مسكنهم الذي هو في السماء ، وليس من قرينة على هبوطهم إلى الأرض لحديثهم معه .
الثالثة : حمل الهبوط على الحقيقة بقوله تعالى [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا]( )، وأنه هبوط من السماء إلى الأرض .
وفي حديث الشامي (أنه سأل أمير المؤمنين عليه السلام عن أكرم واد على وجه الأرض، فقال له: واد يقال له: سرنديب سقط فيه آدم من السماء)( ).
الرابعة : إذا اعطى الله فانه سبحانه يعطي بالأوفى والأتم ، ولما أخبر عن إقامة آدم في الجنة فانها جنة في السماء تعمرها الملائكة بالتسبيح والذكر والتقديس لمقام الربوبية ، لذا احتجوا على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، بالقول [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الخامسة : ورود الأخبار باقامة إبليس في الجنة مع الملائكة وإن كان ذا منزلة رفيعة بينهم ، منها ما ورد (عن ابن عباس قال : كان إبليس من أشرف الملائكة ومن أكبرهم قبيلة ، وكان من خازن الجنان ، وكان له سلطان سماء الدنيا ، وسلطان الأرض . فرأى أن لذلك له عظمة وسلطاناً على أهل السموات ، فاضمر في قلبه من ذلك كبراً لم يعلمه إلا الله ، فلما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم خرج كبره الذي كان يسر)( ).
وعن (ابن عباس : كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن، خُلقوا من نار السّموم، وخلق الملائكة من نور غير هذا الحي. وكان اسمه بالسريانية عزازيل وبالعربية الحارث، وكان من خزان الجنّة، وكان رئيس ملائكة الدنيا، وكان له سلطان سماء الدنيا وسلطان الأرض، وكان من أشد الملائكة حلماً وأكثرهم علماً، وكان يسوس ما بين السماء والأرض فرأى بذلك لنفسه شرفاً وعظمة فذلك الذي دعاه إلى الكبر، فعصى فمسخه الله شيطاناً رجيماً ملعوناً. فإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجُه، وإن كانت خطيئته في معصية فارجُه، وكانت خطيئة آدم معصية، وخطيئة إبليس كبراً)( ).
ومن معاني الحديث أعلاه أن إبليس ليس من الجن إنما هو من طائفة من الملائكة كالقبيلة تسمى الجن ، أي ليس بين إبليس والجن نسب إلا تشابه الأسماء ، ووردت بعض الأخبار عن ابن عباس أنه من فصيلة الجن ، قال تعالى في وصف إبليس [كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً]( )، وهو المختار للتبادر ، وأصالة الحقيقة ، والنصوص وانتفاء صفة الملائكة عنه في طاعتها المطلقة لله عز وجل.
السادسة : هبوط آدم ومعه رائحة الجنة مما يدل على أنها جنة السماء لينبت عطرها وطيبها إلى مسافات في الأرض ويعلق بالأشجار.
وذكر ابن حبان (وقيل : كان هذا الهبوط الأول من الجنة إلى سماء الدنيا . وقيل : لما نزل آدم بسرنديب من الهند ومعه ريح الجنة ، علق بشجرها وأوديتها ، فامتلأ ما هناك طيباً ، فمن ثم يؤتى بالطيب من ريح آدم عليه السلام)( ).
وتدل هذه الأخبار مجتمعة ومتفرقة على أن آدم وحواء أقاما في جنة من جنان السماء .
(وروي أن آدم نزل على جبل من جبال سرنديب وأن حواء نزلت بجدة ، وأن الحية نزلت بأصبهان ، وقيل بميسان ، وأن إبليس نزل على الأبلة)( ).
والأبلة مدينة مجاورة وأقدم منها ، ودخلت في هذا الزمان في محلات وأحياء البصرة.
السابعة : أيهما أحسن لآدم وحواء الإقامة في جنة من جنان السماء أم الأرض ، الجواب هو الأول ، ولا يعطي الله عز وجل إلا بالأحسن والأتم ، وهو لايتعارض مع قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، إذ وردت الآية باسم الفاعل (جاعل) وهو مشتق من الفعل المبني للمعلوم (جعل) للدلالة على الحدوث ، ولا يعني سبق الوقوع وتقديره : أني ساجعل في الأرض خليفة ، بدليل قوله تعالى [فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ]( ).
الثامنة : تعدد جنان السماء منها ما ورد ذكره كجنة الخلد ، جنة النعيم ، جنة عدن ، ومنها ما لم يعلمه إلا الله عز وجل .
(وروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبدالله بن قسط قال : سمعت سعيد بن المسيّب يحلف بالله ما يستثني : ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ولكن حوّاء سقته الخمر حتى إذا سكر قادته اليها فأكل ، فلمّا أكلا تهافتت عنهما ثيابهما وبدت سوءاتهما وأخرجا من الجنة)( ).
وهذا الحديث بعيد دراية ورواية ، من جهات :
الأول : لم يثبت عن سعيد بن المسيب ، وعلى فرض الثبوت فانه ليس بحجة فهو تابعي ولم يرفع الحديث.
الثاني : إنه مخالف لآيات القرآن والنصوص باسناد إغوائهما وزللهما إلى إبليس ، قال تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا ر بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ]( )، وقوله تعالى [مِمَّا كَانَا فِيهِ] أي النعيم وليس فيه سكر وفقدان للعقل .
الثالث : ورد النهي من عند الله عز وجل بعدم إقتراب آدم وحواء إلى تلك الشجرة على نحو الإطلاق وتدل مؤاخذتهما على حدوث الأكل بكامل قواهما العقلية ، وهو من أسباب إقامة الحجة عليهما .
وهل من صلة بين سكن آدم وحواء في الجنة وموضوع هذا الجزء وهو (آيات السلم محكمة غير منسوخة) الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : إبتداء إقامة الإنسان في الجنة دعوة عامة للسلم والأمن.
الثانية : السلم والأمن مقدمة لخلافة الإنسان في الأرض.
الثالثة : تأديب آدم وحواء وبواسطتهما ذريتهما على السلم والأمن.
الرابعة : لزوم الإنتفاع من النعم ، وعدم تسخيرها للحروب والإقتتال.
الخامسة : اقتباس الناس من الملائكة حياة السلم والتوادد ، والإنقطاع إلى الذكر .
السادسة : الإستحياء من الله عز وجل بالهبوط إلى الأرض للإقتتال فيها .
السابعة : استصحاب حياة الأمن والسلم في الجنة عند الهبوط إلى الأرض.
الثامنة : إفتخار الناس باقامة أبويهم في الجنة ، لذا تجد أخبار هذه الإقامة في الكتب السماوية والملل السابقة ، وليس عندهم هذا الإختلاف الشديد هل جنة آدم في السماء أو الأرض ، وظاهر التوراة أن جنة آدم في الأرض .
وفي سفر التكوين (2: 7 وجبل الرب الاله ادم ترابا من الارض ونفخ في انفه نسمة حياة فصار ادم نفسا حية.
2: 8 وغرس الرب الاله جنة في عدن شرقا ووضع هناك ادم الذي جبله.
2: 9 وانبت الرب الاله من الارض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للاكل و شجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشر.
2: 10 وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة ومن هناك ينقسم فيصير اربعة رؤوس.
2: 11 اسم الواحد فيشون وهو المحيط بجميع ارض الحويلة حيث الذهب.
2: 12 وذهب تلك الارض جيد هناك المقل وحجر الجزع.
2: 13 واسم النهر الثاني جيحون وهو المحيط بجميع ارض كوش.
2: 14 واسم النهر الثالث حداقل وهو الجاري شرقي اشور والنهر الرابع الفرات.
2: 15 واخذ الرب الإله آدم و وضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها.
2: 16 واوصى الرب الاله ادم قائلا من جميع شجر الجنة تاكل اكلا.
2: 17 واما شجرة معرفة الخير و الشر فلا تاكل منها لانك يوم تاكل منها موتا تموت)( ).
وظاهر أنجيل برنابا أن جنة آدم في السماء : فجاء تلاميذ يسوع (ليصغوا إلى كلامه ، حينئذ قال يسوع : انه لما أكل آدم الإنسان الأول الطعام الذي نهاه الله عنه في الفردوس مخدوعا من الشيطان عصى جسده الروح)( ).
وقال برنابا أنه من الحواريين الذين اختارهم السيد المسيح ولكن حذف اسمه من الإناجيل الأربعة .
ومعنى برنابا (ابن الواعظ).
وانجيل برنابا كتبه عن قصة المسيح عليه السلام وليس بوحي ، ويقول أن المسيح مخلوق ونبي رسول وليس إلهاً ، وقد ورد ذكر برنابا عدة مرات في العهد الجديد وأعمال الرسل ، كما في الإصحاح الرابع والأصحاح التاسع ، والإصحاح الثاني عشر ، والثالث عشر ، ولا تعترف الكنيسة بانجيل برنابا.
كيف وسوس إبليس لآدم
كيفية وسوسة إبليس لآدم وحواء على وجوه منها :
الأول : كانت جنة آدم في الأرض وليس هي جنة الخلد ، مما يسهل على إبليس الوصول إليها ، والمختار أنها في السماء لأصالة الإطلاق ، وحمل اسم الجنة على الحقيقة ومصاحبته الملائكة ، وتعددت الروايات في المقام .
الثاني : دخل إبليس الجنة في فم الحية ، فمرت على الخزنة وهم لا يعلمون ، واشكل عليه من جهتين دلالة ظاهر الآيات على المشافهة ، وقيل أنه من الإسرائيليات ، وإذا مرت الحية على الخزنة فان الله عز وجل يعلم بها ، والجواب على فرض الحدوث فان الله عز وجل يجري الأمور بمقاديرها.
الثالث : الوعد من الله بتسليط إبليس على بني آدم بعد امهاله [إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ]( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام (فأول من قاس إبليس واستكبر، والاستكبار هو أول معصية عصي الله بها، قال: فقال إبليس: يا رب اعفني من السجود لآدم وأنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرب ولا نبي مرسل.
فقال الله: لا حاجة لي إلى عبادتك، إنما اريد أن اعبد من حيث اريد لا من حيث تريد، فأبى ان يسجد.
فقال الله تبارك وتعالى [فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ]( ) قال إبليس: يا رب فكيف وأنت العدل الذي لا تجور فثواب عملي بطل.
قال: لا ولكن سلني من أمر الدنيا ما شئت ثوابا ” لعملك اعطك، فأول ما سأل البقاء إلى يوم الدين، فقال الله: قد أعطيتك، قال: سلطني على ولد آدم، قال: سلطتك.
قال: أجرني فيهم مجرى الدم في العروق، قال: قد أجريتك، قال: لا يولد لهم واحد إلا ولد لي إثنان، و أراهم ولا يروني، وأتصور لهم في كل صورة شئت، فقال: قد أعطيتك، قال: يا رب زدني.
قال: قد جعلت لك ولذريتك صدورهم أوطانا “، قال: رب حسبي، قال إبليس عند ذلك [فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ]( ) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ( ).
الرابع : إرادة وجود فترة بين خروج إبليس من الجنة وبين هبوطه إلى الأرض ، فكان آدم يخرج إلى باب الجنة فيدنو منه إبليس فيكلمه ، ونسبه في البحار إلى القيل( )، وهو تضعيف له .
الخامس : كان ابليس يكلم آدم وحواء عن بُعد من الأرض فيصل كلامه إليهما ، واستدل عليه بقوله تعالى [وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ]( )، والمختار أنه قياس مع الفارق.
السادس : هل يحتمل أن إبليس رغّب آدم وحواء بالأكل من الشجرة قبل أن يهبط من الأرض بأنها شجرة الخلود ، وبقي كلامه حاضراً في الوجود الذهني لآدم وحواء ، ويتناجيان فيه مرة بالقبول وأخرى بالإعراض عنه ، إلى أن غلبت الشهوة والوسوسة فاكلا منها وهذا القول مستحدث هنا.
والجواب إنه خلاف نظم آيات القرآن ، ومقام الفاء المتكرر الذي يفيد التعقيب وعدم الإبطاء في قوله تعالى [فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى * فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى]( ).
وقد ذكرت الحية في بعض أخبار الهبوط من الجنة .
و(عن ابن عباس في قوله [وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ] ( )، قال : آدم وحوّاء ، وإبليس والحية [وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ] ( )، قال : القبور [وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ]( )، قال : الحياة)( ).
وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على العداوة المتأصلة بين الإنسان والحية ، إذ ورد عن ابن عباس قال (سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل الحيات؟ فقال : خلقت هي والإِنسان كل واحد منهما عدوّ لصاحبه . إن رآها أفزعته ، وإن لدغته أوجعته . فاقتلها حيث وجدتها)( ).
السابع : دخول ابليس على نحو عرضي إلى الجنة مادام فيها آدم وحواء لأنه استأذن من الله عز وجل باغواء بني آدم ، فبعد أن هبط آدم وحواء لا يستطيع إبليس دخول الجنة .
الثامن : تفويض الأمر في كيفية وسوسة إبليس لآدم وحواء إلى الله عز وجل ، وكأنه من المغيبات فلا نتكلف الوقوف الكثير عندها بالتحليل والإستقراء [لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ]( )، فقد أراد الله عز وجل امتحان آدم وحواء بفرد جامع من إبليس والشجرة ، فلم يجتازا هذا الإمتحان ، ففقدا أهلية الإقامة في الجنة فهبطا إلى محل سكناهم الذي أراده الله لهما بعز وكرامة وخلافة في الأرض.
التاسع : لقد اتخذ إبليس المكر والدهاء والخداع لإغواء آدم وحواء واستعمل صيغة الإستفهام التشويقي [فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى]( )، ويبعث هذا السؤال الشوق لمعرفة ما هو آت وهو ضد الإستفهام الإنكاري.
والمختار وسوسة إبليس لآدم وحواء من خارج الجنة من وجوه:
الأول : ورود لفظ (فوسوس) أي أن إبليس لم يكلم آدم على نحو مباشر وقبلا إنما بالوسوسة وهو من الضعف والوهن الذي أصاب ابليس بعد امتناعه عن السجود لآدم.
ولم يرد لفظ (وسوس) في القرآن إلا مرتين في ذات الموضوع المتحد وهما :
الأولى : قوله تعالى [فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى]( ).
الثاني : الإذن من الله عز وجل لإبليس باغواء الناس مع استثناء المخلصين لقوله تعالى [قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ]( ).
الثالث :إسماع إبليس وسوسته لآدم وحواء.
قانون استقراء استدامة السلم من آيات (قل)
من كنوز القرآن آيات (قل) التي نزلت خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعددها (328) آية وفيه إعجاز من جهات :
الأولى : ذات كثرة آيات (قل).
الثانية : التعدد والتباين الموضوعي في آيات (قل).
الثالثة : صيغة الأمر (قل) والتي تحمل على الوجوب إلا مع القرينة التي تدل على الإستحباب ، وهي معدومة في المقام ، فلابد أن يقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما يأمره الله.
ومن الإعجاز في المقام عدم ثمة فاصلة ووقت بين الأمر وبين إمتثال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم له ، فحالما ينزل جبرئيل بآية (قل) يقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوتها والأمر إلى كتاب الوحي بتدوينها .
الرابعة : تلاوة المسلمين لآيات (قل) .
ولو دار الأمر بين شمول المسلمين بالأمر (قل) أو أنه من مختصات النبي صلى الله عليه وآله وسلم فالأصل والأكثر هو الأول إلا مع الدليل على إرادة النبي وحده ، أما [قُلْ لِأَزْوَاجِكَ] في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( )، فهي عامة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
ومن مصاديق [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( )، وتقديرها على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا قولوا لازواجكم وبناتكم ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن….
الثاني : يا أيتها اللائي آمنّ قلن لبناتكن ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن….
الثالث : يا أيتها التي آمنت أدن عليك من جلابيبكِ….
الرابع : يا أيتها اللائي أمنّ من أجيال المسلمات المتعاقبة إن النبي يأمركن بان تلقين عليكن من جلابيبكن…
وهل تعرف المسلمات هذا التقدير للآية ، أم لابد من البيان والتفسير من العلماء ، الجواب هو الأول وهو من إعجاز القرآن ، وظاهر بالوجدان والشواهد اليومية وهو من أسرار وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة آيات وسور من القرآن في الصلاة اليومية ، فحالما تقرأ أو تسمع المسلمة هذه الآية تدرك أن الله عز وجل هو الذي يأمرها بالحجاب.
والجمع والتفريق في المعنى والدلالة للفظ [قُلْ لِأَزْوَاجِكَ]( ) في الآيتين أعلاه معجزة للنبي محمد وتعدد وظائف الرسالة وليكون بين (قل) في الآيتين عموم وخصوص مطلق ، فالخطاب في آية الأحزاب أعم موضوعاً وحكماً .
ولكن هل يشمل الخطاب الخاص [قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا]( )، المسلمات في كل زمان ، الجواب نعم ، ففيه بعث على التقوى ، وبناء الأسرة المسلمة على الخشية من الله وحفظ الفروج ، والصبر ، وطاعة الله ورسوله ، واجتناب الحدة والسخط والخصومة ، ودفع النفرة ونحوها من مقدمات الطلاق.

مفهوم كثرة (قل)
هل من مفهوم لكثرة آيات (قل) الجواب نعم ، من وجوه :
الأول : آيات (قل) شاهد على حضور النبوة في أمور الحياة اليومية للمسلمين والناس جميعاً .
الثاني : دعوة المسلمين للصدور عن القرآن في السراء والضراء.
الثالث : تنمية ملكة التوكل على الله عند المسلمين ، وفي التنزيل [قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
وقد تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمحاولات إغتيال متعددة ، وينجيه الله سبحانه بالمعجزة الحسية ، و(قاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محارب خصفة بنخل فرأوا من المسلمين غره فجاء رجل منهم يقال له عورث بن الحارث حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف فقال من يمنعك مني قال الله فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال من يمنعك مني قال كن خير آخذ فخلى سبيله فأتى أصحابه وقال جئتكم من عند خير الناس ثم ذكر صلاة الخوف)( ).
و(عن جابر قال خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صفر فقال( ) تحت شجرة وعلق سيفه بها فجاء أعرابي فسل السيف فقام به على رأسه فقال يا محمد من يمنعك مني فاستيقط فقال الله فأخذه واجف فوضع السيف وانطلق)( ).
الرابع : تأديب المسلمين وتفقهم في أمور الدين والدنيا.
الخامس : كثرة الأمر من الله (قل) مصداق لقوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وبلحاظ الآية أعلاه هل يمكن القول أن كل آية من آيات (قل) رحمة ، الجواب نعم ، وهي رحمة للمسلمين والناس جميعاً لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ].
السادس : آيات (قل) دعوة إلى السلم ونبذ الحرب والقتال ، فهناك تباين بين القول ولمعان السيوف.
قانون (قل) إنذار للكافرين
في باب قراءة في آيات السلم مثلاً [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ]( )، فبينما يجهز المشركون الجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فان الله عز وجل يأمره بانذارهم واخبارهم بالهزيمة وفيه مسائل :
الأولى : قانون عدم الملازمة بين كثرة الجنود والنصر إنما المدار على نصر الله عز وجل ، وفي التنزيل [وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ]( ).
الثانية : موضوعية الإحتجاج في صرف الحرب والقتال .
الثالثة : منافع الإنذار في صدّ المشركين .
الرابعة : إنذارات القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمشركين رحمة دعوة لهم للكف عن القتال , ومن مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
الخامسة : إنصات الذين كفروا لآيات القرآن وما فيها من البشارة والإنذار والوعيد طوعاَ وقهراَ وانطباقاَ , وفيه وجوه :
الأول : بعث الخوف والفزع في قلوب المشركين .
الثاني : حضّ المشركين على التخلي عن الكفر ومفاهيم الشرك وعبادة الأوثان .
الثالث : حضور آيات القرآن في الوجود الذهني للذين كفروا حتى في ميدان القتال , وهو من أسباب سرعة إنسحابهم من المعركة , فمع قدوم ثلاثة آلاف رجل منهم في معركة أحد.
وكانت الريح لهم وانسحبوا من ميدان المعركة في نفس اليوم متوجهين إلى مكة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) ( ).
الرابع : حدوث الخلاف والخصومة بين المشركين للتباين الذي تحدثه آيات القرآن بينهم .
وهو من أسرار نزول أكثر سور القرآن في مكة قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة وتلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الآيات على الناس خاصة في موسم الحج لأسباب:
الأول : يصادف موسم الحج في الأشهر الحرم ذي القعدة , وذي الحجة , ومحرم فقد يتأخر بعض الحجيج في مغادرة مكة وفي الطريق إلى أهليهم مشياَ على الأقدام.
فكان شهر محرم من الأشهر الحرم مع أنه ليس من أشهر الحج بينما شهر شوال من أشهر الحج , ليكون هذا النظام السماوي الدقيق دعوة للناس خاصة من يخشى الثأر والغزو ليكون تقسيم أشهر السنة إلى أربعة حرم وثمانية حل , كما في قوله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
الثاني : إنه من إعجاز القرآن وفيه دعوة إلى السلم المجتمعي , وفي هذا النظام دعوة للناس للإيمان , وهو من مصاديق قوله تعالى [مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى]( ).
الثالث : ينقل وفد الحاج معهم آيات القرآن ، وهو بشارة إشاعة السلم في المجتمعات , وتأسيس لقواعد الأمن بين الناس إلى يوم القيامة وينشغل الناس بتفسيرها وبلاغتها ودلالاتها .
والصلة والتداخل بينها , والتطلع إلى المزيد لعلمهم بتوالي نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الليل والنهار , وفي الحضر والسفر , وقبل الهجرة وبعدها , ومن إعجاز القرآن أن هذا الإنشغال باب لهداية القلوب والرشاد وتنمية لملكة التراحم بين الناس .
الرابع : المقدمة العقائدية والإجتماعية لهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة.
فمن خصائص بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها حرب على العصبية القبلية التي كانت سائدة في المجتمعات , فكان القتل والسبي والنهب هي السمات التي تحكم الصلات بين القبائل , وليس من دولة وقانون عام يتغشاها.
إذ أن الدول الكبرى المجاورة للجزيرة كدولة الروم , وفارس , والحبشة , تخشى الغوص في رمال الجزيرة وتخاف غدر هذه القبائل , وليس من مصلحة ونفع في احتلالها , فلم تكن أرضاَ زراعية.
ولو كانت تلك الدول تعلم أن خزائن الأرض من النفط والغاز ستكون في جزيرة العرب بعد نحو ألف وأربعمائة سنة , فهل تتوجه جيوشهم لإحتلالها , وهل تسكن بعض الطوائف من شعوبهم وابنائهم فيها , وهل يتقاتلون عليها سواء قبل فترة النبوة أو بعدها.
الجواب نعم , لبيان فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بكفايتهم من أذى وسلطان الدول الكبرى .
وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( )، ولأن الله عز وجل أراد بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم سيادة السلام , ونزول آيات السلم وسلامتها من النسخ أو التحريف .

أجزاء الصلة بين الآيات
الحمد لله على سابغ النعم ، وتوالي الفضل والإحسان برحمته تعالى ، الذي تفضل و[عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( )، وقد صدرت أجزاء من هذا السِفر بالصلة بين شطر من آيتين أو بين آيتين أو الصلة بين بضعة آيات ، إلى جانب باب في نظام الآيات في كل تفسير لآية من آيات سورة البقرة وآل عمران التي بلغها التفسير الترتيبي إلى الآن ، وهذه الأجزاء هي

  • الجزء السادس والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 64-69 من سورة آل عمران.
  • الجزء السابع والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات70-77 من سورة آل عمران.
  • الجزء الثامن والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 78-84 من سورة آل عمران.
  • الجزء التاسع والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 85-93 من سورة آل عمران.
  • الجزء الثمانون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 94-102 من سورة آل عمران .
  • الجزء الواحد والثمانون ،ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 101-109 من سورة آل عمران .
  • الجزء السادس والعشرون بعد المائة ، ويختص بصلة الآية (152) بالآية التي قبلها من سورة آل عمران.
  • الجزء السابع والعشرون بعد المائة وهو القسم الأول من تفسير الآية153 ,ويختص بصلة شطر من الآية 153 بشطرمن الآية 151 من سورة آل عمران.
  • الجزء التاسع والعشرون بعد المائة , وهو القسم الأول من تفسير الآية 154 , ويختص بصلة شطر من الآية بشطر من الآية 153 من سورة آل عمران.
  • الجزء الواحد والخمسون بعد المائة ، ويختص بالصلة بين شطر من الآية 161 بشطر من 164 من سورة آل عمران .
  • الجزء الواحد والتسعون بعد المائة , ويختص بالصلة بين الآية 180 والآية 181 من آل عمران .
    أجزاء (آيات السلم)
    قالوا أن آية السيف وهي [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، نسخت أكثر من مائة آية من آيات السلم ، ولا دليل عليه فصدرت أجزاء متعددة من هذا السِفر لنفي هذا النسخ وهي :
    الأول : الجزء السادس بعد المائتين ويتضمن عدة قوانين ، وبياناً وشواهد على عدم نسخ كل من الآية الأولى وهي :
    الأولى : قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ] ( ).
    الثانية : قوله تعالى [فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ]وتمام الآية هو [وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
    الثالثة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ( ).
    الرابعة : قوله تعالى [فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
    الخامسة : قوله تعالى [اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ).
    السادسة : قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] ( ).
    السابعة : قوله تعالى [وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ] ( ).
    الثامنة : قوله تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ] ( ).
    التاسعة : قوله تعالى [وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ).
    الثاني : الجزء السابع بعد المائتين ويتضمن بياناً وقراءة في الآيات:
    الأولى : قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
    الثانية : قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
    الثالثة : قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ] ( ).
    الرابعة : : قوله تعالى [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( ).
    الثالث : الجزء الثامن بعد المائتين ويتضمن بياناً وتفسيراً للآيتين:
    الأولى : قوله تعالى [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( ).
    الثانية : قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
    الرابع : الجزء الرابع عشر بعد المائتين ويتضمن تفسيراً وبياناً لقوله تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً]( ).
    الخامس : الجزء الخامس عشر بعد المائتين الذي يبدأ بقانون كل نبي حامل للواء السلم ، وقانون ذم عبادة الأوثان سلم وارتقاء ، وقانون الحنيفية سلم ولطف ، وقانون بركات النبوة .
    السادس : الجزء الثالث والثلاثون بعد المائتين ، ويتضمن بياناً لعدم نسخ قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( ).
    سيادة السلم
    تضمن هذا الجزء بياناَ وتفسيراَ لقوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( ) ليكون التهيئ لهجوم العدو مقدمة للدخول في السلم , إذ أن السلم نوع مفاعلة بين طرفين أو أكثر .
    فلا يصح دخول طرف في السلم , بينما يريد الطرف الآخر القتال والغزو والهجوم كما حصل في معركة بدر وأحد والخندق.
    فنزلت آية [وَأَعِدُّوا لَهُمْ]( ) لمنع المشركين من تكرار الهجوم على المدينة فإن قيل لماذا لا يمنعهم الله عز وجل بقدرته , ويشغلهم بأنفسهم.
    الجواب قد تفضل الله عز وجل وصرفهم عن الهجوم والقتال في مواطن عديدة ، والدنيا دار إمتحان وإختبار ، قال تعالى [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ]( ).
    وما إعداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحاب القوة للتصدي لهم وزجرهم إلا من بديع قدرة الله عز وجل بان جعلهم مؤهلين وقادرين على جمع القوة والعدد والخيل.
    وتقدير الآية قد جعلتكم قادرين على إعداد القوة الكافية لمنع المشركين من الهجوم عليكم فكونوا يقظين وفي حيطة وحذر .
    لقد أراد الله عز وجل للمسلمين العصمة من التفريط ومن الغفلة , قال تعالى [وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً]( ) .
    وتكشف الآية أعلاه حاجة المسلمين للتهيئ للدفاع , ومن مصاديق قوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( ) عدم نزول أمر من الله عز وجل بالهجوم على المشركين , وغزوهم في عقر دارهم قبل أن يميلوا ميلة واحدة على المسلمين , إنما تفضل الله عز وجل بالأمر للمسلمين بالبقاء في منازلهم , والإقامة في المدينة والتحلي بالصبر ، مع الحيطة واليقظة والتمرين على السلاح .
    وهو من مصاديق [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( ) لأن [وَأَعِدُّوا لَهُمْ]( ) من أبهى معاني السلم الأهلي , ونبذ الحروب والإقتتال .
    ومن بديع قدرة الله عز وجل في المقام بيان إمكان كثرة الخيل عند المسلمين لقوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( ).
    وهل فيه تذكير بحال الذل التي كان عليها المسلمون يوم بدر إذ لم يكن معهم إلا فرسان , وقيل فرس واحدة , بينما كان مع المشركين يومئذ مائة فرس ، الجواب نعم , قال تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn

مواضيع ﺫات صلة