معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 219

المقدمــــــــة
الحمد لله الذي جعل الحمد له سبحانه مصاحباً لساعات وأيام الحياة الدنيا ، وليس من دقيقة تمر على أهل الأرض إلا وتجري على ألسنة رهط من الناس كلمات الحمد والشكر له سبحانه في المشرق والمغرب ، وفي دور العبادة وخارجها ، وفيه دعوة للتآلف والوفاق ، ونبذ الإرهاب بلحاظ أن (الحمد لله) سور الموجبة الكلية الذي يلتقي عنده البشر .
وعندما أخبر الله عز وجل الملائكة عن جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( )، فأجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ليكون من مضامين احتجاج الله عز وجل على الملائكة علمه الذي أحاط بكل شئ ، ومنه وجود أمة وأفراد في كل زمان تشكر وتحمد الله عز وجل ، وحتى الذين يتقاتلون بينهم فقد يجمع بينهم لواء الحمد لله ، والشكر له سبحانه.
وهو من الأسرار في كل من :
الأول : وجوب الصلاة على كل مكلف ، ذكراً أو أنثى ويؤتى بالصلاة على كل حال ، إذ أنها واجب مطلق غير مشروط ولم يقيد بقيد مخصوص.
الثاني : تعد فريضة الصلاة اليومية إذ يجب أن يؤديها المكلف خمس مرات متفرقة في اليوم ، قال تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ]( ).
الثالث : تعيين أوقات الصلاة مع جعلها من الواجب الموسع ضمن وقت محدود ، كما في صلاة الصبح فان وقتها بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، قال تعالى [وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( )، وفي ذات الصلاة دعاء وتسبيح وحمد لله بالقول والفعل .
الرابع : تحديد وقت كل فرد من الصلوات اليومية بآية كونية من جهات:
الأولى : ابتداء صلاة الصبح بطلوع الفجر .
الثانية : ابتداء صلاة الظهر بزوال الشمس عن كبد السماء .
الثالثة : مجئ وقت صلاة المغرب بسقوط قرص الشمس .
الرابعة : أداء الصلاة من الواجب الموسع ، وليس الواجب المضيق ، إذ أن وقت إتيانها أعم وأوسع من أدائها في دقائق قليلة .
ومن بديع صنع الله عز وجل التباين في أوقات الصلاة بين بقاع وأمصار الأرض ، فكل بلدة وكل قرية يكون للفريضة اليومية فيها وقت يختلف عن غيره ، وكأن الشمس تجري لتعيين وقت الصلاة للناس المنتشرين في ربوعها .
وهل من موضوعية لهذا التباين في أداء الصلاة في سير الشمس ، وتعاقب الليل والنهار ، بحيث جعل الله عز وجل حركة الشمس من أجل أداء الناس الصلاة واللهج بالحمد له سبحانه على نحو الوجوب في كل دقيقة من النهار.
الجواب ليس من دليل عليه ، ولكنه من فضل الله عز وجل على الناس ، وهو من أسباب استدامة الحياة على الأرض ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
ومن الآيات في المقام وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة سورة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة ، والتي تبدأ بالبسملة ثم قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
وقد ورد عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لاصلاة لمن لم يقرأ بقاتحة الكتاب( ).
وسيأتي باب وجوب قراءة سورة الفاتحة بالعربية في الصلاة .
وفي الحديث القدسي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال الله جل وعلا : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فنصفها لي ، ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل)( ).
لتكون تلاوة سورة الفاتحة أو سماعها دعوة سماوية لإستحضار نعم الله ، ووجوب الشكر عليها ، وفيه دعوة للتعايش السلمي ، وحجب عن الإضرار العام ، وظلم الغير ، وهي مناسبة للتدبر بالحاجة الخاصة والعامة إلى رحمة الله ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( ).
لقد كانت الأجيال تمر على مفردة الإرهاب بالعرض ، وفجأة برزت في هذا الزمان ظاهرة الإرهاب وصار معناه مركباً ، وهو سور السالبة الكلية للعنف والقتل العشوائي والتفجيرات وإخافة الناس الآمنين وإرادة من يتخذ العنف والرهاب والبطش لتحقيق غايات وأغراض سياسية أو للثأر والإنتقام.
وسيأتي في هذا الجزء ذكر آيات تنهى عن الإرهاب سواء في منطوقها أو مفهومها أو دلالتها.
وبلحاظ موضوع هذا الجزء وهو التضاد بين القرآن والإرهاب فان القرآن ينأى بنفسه وآياته وتأويله ، ويُبعد المسلمين عن الإرهاب والرِهاب.
وسيأتي قانون النأي الذاتي والغيري عن الإرهاب، وهذا النأي فرع الإعجاز الذاتي والغيري للقرآن ، إذ لا يصح الوقوف عند شطر آية ، أو آية واحدة واستقراء حكم عام منها بينما جاءت آيات أخرى في ذات الموضوع والحكم .
فمن إعجاز القرآن بيان وتفسير بعضه لبعض ، وما من موضوع تذكره آية قرآنية إلا وتجد آيات أخرى تذكر أو تشير إلى ذات الموضوع في منطوقها أو مفهومها ، وهو من إعجاز القرآن.
وعن ابن عباس في قوله [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، المحكمات : ناسخه ، وحلالُه، وحرَامه، وحدوده وفرائضُه، وما يؤمن به ويعمل به.
قال : وأخر متشابهات ، والمتشابهات: منسوخه، ومقدّمه ومؤخره، وأمثاله وأقسامه، وما يؤمن به ولا يُعمل به( ).
ويدعو القرآن إلى التدبر بالسنة النبوية والإقتباس منها ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، وتجد آيات القرآن تنهى عن الإرهاب وتحرّمه .
وأسأل الله التوفيق لإصدار أجزاء من هذا السِفر بعنوان (السنة النبوية زاجر عن الإرهاب) تكون رديفاً وعضداً للأجزاء التي صدرت بعنوان هذا الجزء من التفسير.
وتمنع آيات القرآن والسنة النبوية من سفك الدماء ، ومنه التفجيرات العشوائية من باب الأولوية القطعية ، إذ ينهى القرآن عن القتل على نحو القضية الشخصية كما في ذم قتل قابيل لأخيه هابيل بينما تأتي التفجيرات واستعمال البنادق في ازهاق الأرواح بغير حق ، وما تسببه الحادثة الواحدة من الخوف والفزع في عموم الأرض بالضرر العام بما يتبرأ منه القرآن والإسلام ، ومنهاج النبوة الذي ورد بقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
لتكون اثارة الخوف في قلوب الناس ضداً للآية أعلاه لذا فان الإرهاب العام والخاص لا يجوز ، وهو ضد للقرآن سواء بمعنى الضد العام الذي هو بمعنى النقيض ، أو الضد الخاص وهو الضد المنطقي.
والإرهاب نادر ولكنه أصبح ظاهرة ، ولكن الإعلام أعطاه مساحة ، لمنع الأذى والضرر العام على الناس والحالة النفسية في المجتمعات ، ولتكون هذه المساحة سبباً لعلاجه واستئصاله بصيغ التثقيف والتعليم والإرشاد والبيان ، ومنه ذكر الدلائل التي تفيد دعوة القرآن للتنزه عن الإرهاب ، وخلوه من مفاهيمه ، كما يأتي في قانون : تنزه القرآن عن الإرهاب( ) .
ومن إعجاز القرآن دعوته لكل إنسان لقراءته والتدبر فيه ، من جهات :
الأولى : الغوص في مضامين وكنوز الآية القرآنية ودلالالتها .
الثانية : استحضار أسباب نزول الآية القرآنية ،وإن كان المدار على عموم المعنى وليس سبب النزول .
الثالثة : الجمع بين آيات القرآن ذات الموضوع المتحد ، كما في الجمع بين آيات الصلاة ، أو آيات الميراث .
وبين الآيات في الموضوع المختلف كما في الجمع بين آيات السلم وآيات القتال ، ليتجلى قانون وهو أن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه دفاع محض ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( ).
ويدعو الإسلام إلى السلم ، وينشر السلم المجتمعي ، وإلى نبذ العنف والقتال ومفاهيم الإرهاب .
وينهى القرآن عن النظر إلى بعض آياته دون بعض ، قال تعالى [فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ].
الرابعة : دراسة السنة النبوية بلحاظ أنها المصدر الثاني للتشريع ، ومرآة للقرآن ، وكيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتجنب القتال ، والإبتداء به ، إنما كان يحب لغة الحوار حتى مع أعدائه.
وكان المشركون يأتون إلى المدينة ، ويدخلون المسجد النبوي ، ويسألون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويجيبهم من غير أن يتعرض لهم أحد من الصحابة.
نعم مع الحذر والحيطة من بعضهم ممن يخشى غدره ، قال تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
وسيأتي قانون الحوار في القرآن منطوقاً ومفهوماً.
وليس في القرآن ما يدعو إلى التخريب أو التعذيب ، إنما نزل القرآن لإنتزاع وتثبيت حقوق الإنسان ، وللقضاء على الإرهاب ، ومنه إرهاب مشركي قريش ، وغزو القبائل بعضها بعضاً ، والسبي ووأد البنات.
وينبذ الإسلام لغة العنف والكره ، وينهى عن زرع مفاهيم التطرف ، فكل أداء لفريضة الصلاة دعوة للرحمة والتسامح بين الناس ، وإدراك لقانون بأن الأرض وما عليها لله عز وجل ، وهو ملك تصرف مطلق .
لقد دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أول معارك الإسلام وهي معركة بدر مكرهين على القتال ، ومضطرين إلى الدفاع ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ).
ومن الآيات التي تبين أنهم كانوا يومئذ في حال دفاع واضطرار قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( )، فالإستغاثة من المحتاج المضطر الذي يرجو رحمة الله لإنقاذه من البلاء أو الفتنة أو القتال ، وكانت الإستغاثة واللجوء إلى الله مطلقاً ، ومنها رجاء سلامة أصحابه وكان من دعائه يوم بدر (اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد) ( ).
أي أنه سأل الله عز وجل نجاته ونجاة أصحابه سواء بعدم وقوع قتال أو بالخروج بسلام من القتال إن أصرت قريش عليه ، ويدل عليه قوله تعالى [وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ] ( ) أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يقصدوا القتال ، ولم يتهيئوا له .
ولا دليل على إرادتهم الإستيلاء على قافلة أبي سفيان ، لأن الأمر لا يعدو كونه وداً ، وهذا الود كيفية نفسانية عند شطر من الصحابة ، وليس عند الجميع .
وفي هذا الزمان تجلت الحاجة إلى الفتوى التي تدعو إلى الألفة والوئام والرفق العام والتعايش السلمي ، وإجتناب التمييز الذي يرتكز عليه العنف ويولد من رحمه الإرهاب ، وهل هذا النوع من الفتوى في مصلحة الإسلام ، الجواب نعم ، وإن خالف في مضمونه فتاوى لعلماء سابقين .
وفتوى التسامح وطرد الكراهية والبغض لعامة الناس مستقرأة من القرآن ، وهي موافقة للكمالات الأخلاقية التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
و(عن كعب بن مالك : أن رجلاً من بني سلمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فقال : حسن الخلق . ثم راجعه الرجل فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : حسن الخلق . حتى بلغ خمس مرات)( ).
لقد قابل المشركون دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتوحيد بأمور من العنف والكراهية والإرهاب ، مثل :
الأول : إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في جسده .
الثاني : نعت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه ساحر وكذاب ، وأنه مجنون.
الثالث : ضرب الحصار الإقتصادي والإجتماعي والنفسي على بني هاشم .
الرابع : إيذاء وتعذيب الذي يدخل الإسلام.
ومن معجزات النبوة أن كثيراً من الأنبياء نعتهم كفار قومهم بهذا الوصف (عن ابن عباس . أن نوحاً بعث في الألف الثاني ، وأن آدم لم يمت حتى ولد له نوح في آخر الألف الأول ، وكان قد فشت فيهم المعاصي ، وكثرت الجبابرة ، وعتوا عتوّاً كبيراً .
وكان نوح يدعوهم ليلاً ونهاراً ، سراً وعلانية ، صبوراً حليماً ولم يلق أحد من الأنبياء أشد مما لقي نوح ، فكانوا يدخول عليه فيخنقونه ويضرب في المجالس ويطرد .
وكان لا يدع على ما يصنع به أن يدعوهم ، ويقول : يا رب اغفر لقومي فانهم لا يعلمون ، فكان لا يزيدهم ذلك إلا فراراً منه.
حتى إنه ليكلم الرجل منهم فيلف رأسه بثوبه ويجعل أصابعه في أذنيه لكيلا يسمع شيئاً من كلامه ، فذلك قوله الله { جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم }( ) ثم قاموا من المجلس فاسرعوا المشي ، وقالوا : امضوا فإنه كذاب .
واشتد عليه البلاء ، وكان ينتظر القرن بعد القرن ، والجيل بعد الجيل ، فلا يأتي قرن إلا وهو أخبث من الأول وأعتى من الأول ، ويقول الرجل منهم : قد كان هذا( ) مع آبائنا وأجدادنا ، فلم يزل هكذا مجنوناً.
وكان الرجل منهم إذا أوصى عند الوفاة يقول لأولاده : احذروا هذا المجنون فإنه قد حدثني آبائي : إن هلاك الناس على يدي هذا) ( ).
وكان قومه يضحكون حينما يرون نوحاً يصنع سفينة كبيرة ويقولون أين الماء ، إنه لمجنون ، وقد ورد في التنزيل [وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ] ( ) وقال تعالى [كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ] ( ).
وعن السدي (قال : لما خرج إبراهيم من النار أدخلوه على الملك ولم يكن قبل ذلك دخل عليه ، فكلمه وقال له : من ربك؟
قال : ربي الذي يحيي ويميت .
قال نمرود : أنا أحيي وأميت ، أنا أدخل أربعة نفر بيتاً فلا يطعمون ولا يسقون حتى إذا هلكوا من الجوع أطعمت اثنين وسقيتهما فعاشا وتركت اثنين فماتا ، فعرف إبراهيم أنه يفعل ذلك قال له : فإن ربي الذي يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ، فبهت الذي كفر وقال : إن هذا إنسان مجنون فأخرجوه ، ألا ترون أنه من جنونه اجترأ على آلهتكم فكسرها ، وإن النار لم تأكله ، وخشي أن يفتضح في قومه) ( ).
إذ أراد منع قومه من التدبر في معجزة نجاة إبراهيم من النار ودخولهم الإسلام .
وبخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورد (عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم وقد حضر الموسم فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فاجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيُكَذِّب بعضكم بعضاً .
فقالوا : أنت فقل ، وأتم لنا به رأياً نقول به .
قال : لا ، بل أنتم قولوا لأسمع .
قالوا : نقول كاهن .
قال : ما هو بكاهن . . . لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكهان ولا بسجعهم .
قالوا : فنقول مجنون .
قال : ما هو بمجنون . . . لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا بحائحه ولا وسوسته .
قالوا : فنقول شاعر .
قال : ما هو بشاعر . . . . لقد عرفنا الشعر كله ، رَجَزه وهَزَجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر .
قالوا : فنقول ساحر .
قال : ما هو بساحر لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثه ولا بعقده .
قالوا : فماذا نقول.
قال : والله إن لقوله حلاوة؛ وإن عليه طلاوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناء ، فما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول أن تقولوا هو ساحر ، يفرق بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجه ، وبين المرء وعشيرته) ( ).
لقد ورثت قريش سدانة وولاية البيت الحرام ، وتولت العناية بوفد الحاج والمعتمرين ، مما زاد من شأنها بين القبائل ، فانتفعت من هذه المنزلة بأن زاولت التجارة ، لتجوب قوافلها شمال وجنوب الجزيرة العربية ولا يستطيع غيرهم الفوز بمرور تجارته بأراضي القبائل المختلفة من غير أن يتعرضوا لنهبها وسلبها ، خاصة مع العداء المتجدد بين القبائل.
وكانت كل من ولاية البيت وقوافل التجارة مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولهذه المقدمة رشحات منها هلاك أبرهة وجنوده عندما أرادوا هدم الكعبة ، لذا يتجلى العطف والتعليل بين سورة الفيل وسورة قريش ، فكانت خاتمة سورة الفيل [فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ]( )، وإبتدأت سورة قريش بحرف التعليل اللام [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ]( ).
(عن إبن عباس قال قدم رجل من أزد شنوءة يقال له ضماد مكة معتمرا فسمع كفار قريش يقولون محمد مجنون .
فقال لو أتيت هذا الرجل فداويته فجاءه فقال له : يا محمد إني أداوي من الريح ، فإن شئت داويتك لعل الله ينفعك ، فتشهد رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم وحمد الله ، وتكلم بكلمات ، فأعجب ذلك ضمادا .
فقال أعدها علي فأعادها عليه فقال لم أسمع مثل هذا الكلام قط لقد سمعت كلام الكهنة والسحرة والشعراء فما سمعت مثل هذا قط لقد بلغ قاموس البحر يعني قعره فاسلم وشهد شهادة الحق وبايعه على نفسه وعلى قومه.
فخرج علي بن أبي طالب بعد ذلك في سرية الى اليمن فأصابوا إداوة( ) فقال ردوها فإنها إداوة قوم ضماد ، ويقال بل أصابوا عشرين بعيرا بموضع فاستوفوها فبلغ عليا أنها لقوم ضماد ، فقال ردوها إليهم فردت إليهم)( ).
وهل نعت الكفار النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأنه مجنون من الإرهاب.
الجواب نعم ، وهذا الإرهاب موجه إلى كل من :
الأول : شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : أهل البيت من جهات :
الأولى : التهديد والوعيد لأهل البيت مجتمعين ومتفرقين .
الثانية : فرض حصار اقتصادي واجتماعي ونفسي على أهل البيت استمر ثلاث سنوات.
الثالثة : طلب قريش من أبي طالب تسليم النبي لإرادة قتله .
الرابعة : التعريض ببني هاشم وتبكيتهم في دعوى النبوة .
الخامسة : لحوق الخوف والرعب بأهل البيت خاصة أيام الحصار لأنهم يخشون هجوم قريش في الليل لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى تحقق هذا الأمر في ليلة الهجرة.
الثالث : إيذاء صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الرجال والنساء بتعذيبهم واضطهادهم .
لقد أظهر المشركون أشد ضروب الإرهاب ، وعندما فتح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة فتحها من غير إراقة دماء تذكر.
ولاقى المشركين بالعفو والصفح عنهم ، ليكون هذا العفو دعوة للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة بالتنزه عن الإرهاب والعنف .
ويوم فتح مكة حضر المشركون إلى المسجد الحرام ، وهم يخشون عدم رفع السيف عنهم (فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت فصلى ركعتين ، ثم أتى الكعبة ، فأخذ بعضادتي الباب فقال : ما تَقُولُونَ وَمَا تَظُنُّونَ ، قالوا : نقول أخ كريم ، وابن عم حليم رحيم . قال : أقول كما قال يوسف [لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ]( ).
قال : فخرجوا كأنما نشروا من القبور ودخلوا في الإسلام؛ وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الباب الذي يلي الصفا ، فخطب والأنصار أسفل منه .
فقالت الأنصار بعضهم لبعض : أما إن الرجل أخذته الرأفة بقومه ، وأدركته الرغبة في قرابته .
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أَقُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا ، وَالله إِنِّي رَسُولُ الله حَقّاً . إِنَّ المَحْيَا لَمَحْيَاكُمْ ، وَإِنَّ المَمَاتَ لَمَمَاتُكُمْ ، فقالوا : يا رسول الله قلنا مخافة أن تفارقنا ضناً بك .
قال : أَنْتُمْ الصَّادِقُونَ عِنْدَ الله وَعِنْدَ رَسُولِهِ)( ).
الرابع : إخافة الذين يرومون دخول الإسلام سواء من أهل مكة أو من القرى والمدن وأفراد القبائل ، وتهديدهم بالمنع من دخول مكة وعدم إقراضهم أو تذكيرهم بالأحلاف التي بينهم وبين قريش.
فلم تكن هذه الإخافة والتهديد برزخاً دون إسلام طائفة من الناس واتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من الشواهد على المدد من عند الله عز وجل للنبي بالمعجزة والبرهان الذي يدل على صدق نبوته.
ليكون من أسرار ومعاني تسمية المعجزة عجز المشركين وان اجتهدوا وبذلوا عن منع دخول الناس في الإسلام ، وعن إستعداد المسلمين للدفاع عن النبوة والوحي، وعن دخولهم المعارك للقتال دون النبي وهو الذي تجلى في الكتاب والسنة ، أما في الكتاب ففي آيات منها قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
وصيغة الجمع في الإخبار الإلهي عن النصر في معركة بدر ، إذ قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، والتوثيق السماوي لخروج المهاجرين والأنصار إلى معركة أحد بقصد طاعة لله ورسوله ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
وأما في السنة ، فاعلان الأنصار عشية يوم بدر الإستعداد للدفاع عن النبوة والتنزيل ، مع أن بيعة العقبة تضمنت النص والشرط بأنهم يذبون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند وصوله إلى المدينة (يثرب).
فعندما رآى الأنصار عشية معركة بدر كثرة طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصحابة المشورة ظنوا أنه يريد أن يسمع قولهم.
فقال سعد بن معاذ وهو من رؤساء الأنصار (لعلك يا رسول الله تخشى أن لا تكون الأنصار يريدون مواساتك ولا يرونها حقا عليهم إلا بأن يروا عدوا في بيوتهم وأولادهم ونسائهم.
وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم : يا رسول الله فاظعن حيث شئت وخذ من أموالنا ما شئت ثم أعطنا ما شئت وما أخذته منا أحب إلينا مما تركت وما ائتمرت من أمر فأمرنا بأمرك فيه تبع فوالله لو سرت حتى تبلغ البركة من ذي يمن لسرنا معك) ( ).
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الى الله بالبينة والبرهان ، ويمتنع عن العنف والتعدي.
وهو موافق لقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، وقاعدة نفي الحرج في الدين ، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا) .
وعن المقدام بن معدي كرب قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إذا حدثتم الناس عن ربهم، فلا تحدثوهم بما يفزعهم ويشق عليهم)( ).
لقد جاء القرآن بدعوة المسلمين والمسلمات إلى الإكثار من ذكر الله ، ومنه تعاهد الفرائض في أوقاتها ، وهذا الذكر باب لنزول شآبيب الرحمة ، ونوع طريق لدفع الضرر والكيد ، وفيه سيادة للأخلاق الحميدة ، وتثبيت للسلم المجتمعي ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً]( ).
من إعجاز القرآن الغيري أنه يدعو إلى السلم والألفة , وينآى بنفسه وبالسنة النبوية عن العنف والإرهاب , قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) .
وهذا الجزء هو التاسع عشر بعد المائتين من تفسيري الموسوم (معالم الإيمان في تفسير القرآن ) ويتعلق موضوعه بقانون ( التضاد بين القرآن والإرهاب ) هذا القانون الذي صدرت بخصوصه كل من :
الأول : الجزء الرابع والثمانون بعد المائة .
الثاني : الجزء الخامس والثمانون بعد المائة .
الثالث : الجزء الثامن والثمانون بعد المائة .
الرابع : الجزء الخامس والتسعون بعد المائة .
الخامس : الجزء الثامن والتسعون بعد المائة .
السادس : الجزء التاسع والتسعون بعد المائة .
السابع : الجزء الثالث بعد المائتين .
الثامن : الجزء العاشر بعد المائتين .
التاسع : الجزء الحادي عشر بعد المائتين .
ليكون هذا الجزء هو العاشر في هذه الموسوعة العلمية ، والدراسة القرآنية المباركة ، وجاء بلغة عامة لا تتعلق باشخاص ، إنما هو قراءة في آيات القرآن ، وإستقراء للمسائل واستنباط للقوانين ، وإقتباس للمواعظ منها .
وجميع أجزاء التفسير وكتبي الفقهية والأصولية معروضة على موقعنا WWW.MARJAIAA.COM .
ومن إعجاز القرآن شهادة آياته على التأريخ وحضورها في الوقائع والأحداث ، وبما ينفع في تهذيب النفوس ، وإصلاح المجتمعات ، ونشر مفاهيم الرحمة والرأفة بين الناس ، وجني الحسنات بهذا النشر الذي هو فرع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ.
لقد بعث الله عز وجل الأنبياء وأنزل الكتب السماوية ليكونوا واقية من الخصومة والنزاع بين الناس ، ولإيجاد الحلول المناسبة لكل خلاف.
وستبقى ظاهرة الإرهاب محدودة في كل من :
الأول : الأشخاص .
الثاني : الفعل .
الثالث :المحل .
الرابع : الأثر .
وهي أمر طارئ وليس متأصلاً .
ومن خصائص الأمر الطارئ إذا لم يرتكز على قواعد ثابتة يصاب بالإضمحلال وسرعة الزوال ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام بالرحمة والرأفة والصبر على الأذى .
ومن خصائص النبوة الملازمة بينها وبين الصبر ، ليتبع المؤمنون نهج الأنبياء بالإحسان في القول والعمل ، ونشر مفاهيم الود والرفق، قال تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ] ( ).

حرر في الخامس عشر من شهر رمضان 1442
28/4/2021 
قانون العصمة الغيرية
وهذا الإصطلاح مستحدث منا في المقام ومما يدل عليه قوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] ( ).
إذ أمر الله عز وجل السوء بالإنصراف عن يوسف عليه السلام ، وهو من مصاديق العصمة الغيرية ، وفيه بيان للطف الإلهي، وتعدد وجوه عصمة الأنبياء منها :
الأولى : العصمة الذاتية والإقبال على الطاعات ، والإمتناع عن السيئات .
الثانية : العصمة الغيرية وهي مجئ شآبيب الرحمة للنبي والمعصوم والأولياء .
الثالثة : صرف الشر وأسباب الأذى ومقدمات الفتنة والإفتتان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : العصمة المصاحبة .
الخامسة : العصمة الطارئة .
وكان الزاجر المتعدد يأتي للمشركين في كل معركة لأنهم هم المعتدون الذين يصرون على القتال فيها .
وسيأتي البيان في الجزء التالي إن شاء الله , قال تعالى [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ]( ).
ومن العصمة الغيرية
الأول : بيت العنكبوت في هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : فرس سراقة .
الثالث سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من إرادة ابن قَمئة قتله يوم أحد ، وقيامه برميه بالحجر ، وظنه أنه قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
و(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَاتَلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ دُونَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ حَتّى قُتِلَ وَكَانَ الّذِي قَتَلَهُ ابْنُ قَمِئَةَ اللّيْثِيّ وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَرَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ قَتَلْتُ مُحَمّدًا .
فَلَمّا قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ أَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ اللّوَاءَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ .
وَقَاتَلَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَرِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي مَسْلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ الْمَازِنِيّ ، قَالَ لَمّا اشْتَدّ الْقِتَالُ يَوْمَ أُحُدٍ ، جَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ تَحْتَ رَايَةِ الْأَنْصَارِ .
وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ أَنْ قَدّمَ الرّايَة فَتَقَدّمَ عَلِيّ ، فَقَالَ أَنَا أَبُو الْفُصَمِ وَيُقَالُ أَبُو الْقُصَمِ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ – فَنَادَاهُ أَبُو سَعْدِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، وَهُوَ صَاحِبُ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ هَلْ لَك يَا أَبَا الْقُصَمِ فِي الْبِرَازِ مِنْ حَاجَةٍ ؟
قَالَ نَعَمْ . فَبَرَزَا بَيْن الصّفّيْنِ فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَضَرَبَهُ عَلِيّ فَصَرَعَهُ ثُمّ انْصَرَفَ عَنْهُ وَلَمْ يُجْهَزْ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ أَفَلَا أُجْهِزْت عَلَيْهِ ؟
فَقَالَ إنّهُ اسْتَقْبَلَنِي بِعَوْرَتِهِ ، فَعَطَفَتْنِي عَنْهُ الرّحِمُ وَعَرَفْتُ أَنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ قَتَلَهُ) ( ).
وهناك مسألتان :
الأولى : ظن ابن قمئَة بأنه قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكر الله عز وجل به وبالمشركين ، ومن أسباب نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : نسبة الإمام علي عليه السلام قتل حامل لواء المشركين إلى الله عز وجل ثناء على الله عز وجل ، وإقرار بفضله وبيان للمدد من عنده سبحانه .
وكذا محاولات الإغتيال المتعددة .
وإذا كانت المعجزة الذاتية تتعلق بزمان حدوثها فان أثرها باق ومتجدد ، وهو من أسرار توثيق القرآن لمعجزات الأنبياء ، إذ أنها تتلى كل يوم إلى يوم القيامة ، وهو من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتجتمع المعجزة الذاتية والغيرية في إصلاح الناس ، وبعث روح التعاون في الصالحات بينهم .
قانون الرهبة من الله إمتناع عن الإرهاب
قال تعالى [فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ]( ).
من بديع صنع الله أن الخلائق مجتمعة ومتفرقة محتاجة إليه في وجودها واستدامته ومنهم بنو آدم وهذه الحاجة قانون من الإرادة التكوينية لملازمتها لعلم الإمكان ، وهي وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : كل ممكن محتاج .
الصغرى : بنو آدم من الممكن .
النتيجة : بنو آدم محتاجون .
وتكون الحاجة على نحو القضية الشخصية لإنسان محتاج بذاته ، والجماعة والطائفة والأمة محتاجة في إجتماعها وتفرقها ، وكذا الأسرة فانها محتاجة وإن كانت أسرة أنبياء ، لذا تفاجئ إبراهيم بامرأته سارة بأنها عاقر مع شدة جمالها وحبه لها ، فلم يطلقها إنما توجه إلى الدعاء .
فرزقه الله عز وجل إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب نافلة وزيادة لتثبيت كلمة التوحيد في الأرض ، لذا حينما حضرت المنية يعقوب النبي أوصى أولاده بالتوحيد بصيغة الإستفهام التقريري ، كما ورد في التنزيل في خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وغيرهم [أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] ( ).
والرهبة أشد من الخوف .
(ورَهِبَ الرجلُ يرهَب رَهْباً ورَهَباً، إذا خاف، ومنه اشتقاق الرّاهب. والاسم الرَّهْبَة. ومثل من أمثالهم : رَهَبُوت خير من رَحَمُوتٍ ” ، أي تُرهب خير من أن ترحم.
ويقال في هذا أيضاً : رَهَبُوتَى خير من رَحَمُوتَى) ( ).
والنسبة بين الرهبة والخوف هي العموم والخصوص المطلق .
فالرهبة أشد لبيان أن تسمية الإرهاب في هذا الزمان أمارة على الرعب الذي يملأ قلوب عامة الناس من الرمي العشوائي والتفجيرات والخطف ونحوها .
ولم يرد لفظ (رغباً ) و(رهباً ) في القرآن إلا في هذه الآية لبيان عظيم منزلة الأنبياء ، وإخلاصهم ، وإجتهادهم في الدعاء ، وإتقانهم لشرائطه ، وتفقههم في الدين ، ومعرفة مقدمات استجابة الدعاء .
و[رغباً]و[رهباً ] مصدران في محل حال أي راغبين ومرهوبين .
والرغبة : الرجاء والطمع والأمل
والرهب : الخوف والإستغاثة .
(وقيل الرغب أن ترفع إلى السماء بطون الأيدي والرهب أن ترفع ظهورها) ( ).
ولكن الرغبة والرهبة كيفية نفسانية تتجلى بالقول والفعل ، وخالص الدعاء ، وفي حديث ضعيف السند (عن عياض بن سليمان وكانت له صحبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : خيار أمتي فيما أنبأني الملأ الأعلى ، قوم يضحكون جهراً في سعة رحمة ربهم .
ويبكون سراً من خوف عذاب ربهم ، يذكرون ربهم بالغداة والعشي في البيوت الطيبة والمساجد ، ويدعونه بألسنتهم رغباً ورهباً ، ويسألونه بأيديهم خفضاً ورفعاً ، ويقبلون بقلوبهم عوداً وبدءاً ، فمؤنتهم على الناس خفيفة ، وعلى أنفسهم ثقيلة .
يدبّون في الليل حفاة على أقدامهم كدبيب النمل ، بلا مرح ولا بذخ.
يقرؤون القرآن ويقربون القربان ويلبسون الخلقان ، عليهم من الله تعالى شهود حاضرة وعين حافظة ، يتوسمون العباد ويتفكرون في البلاد ، أرواحهم في الدنيا وقلوبهم في الآخرة ، ليس لهم هم إلا أمامهم .
أعدوا الجواز لقبورهم والجواز لسبلهم ، والاستعداد لمقامهم .
ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد}( ))( ).
ومن معاني الرغبة في المقام :
الأول : الإنقطاع إلى الله ، وعدم الإنشغال بغيره .
الثاني : من الرغبة الإيمان بأن مقاليد الأمور كلها بيد الله عز وجل ، وهو الوهاب الذي يعطي ويرزق الإنسان مؤمناً أو غير مؤمن من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب .
الثالث : إقتران الدعاء بالرضا والشكر لله على فضله .
الرابع : من الرغبة في الدعاء رجاء قرب الإستجابة .
الخامس : الرغبة بما عند الله دليل على حسن التوكل عليه سبحانه ، قال تعالى [الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( ).
السادس : اللجوء إلى الله عز وجل في المسألة مع الخشية والخضوع له سبحانه .
السابع : إظهار الخشية والخوف من الله أثناء الدعاء وإستحضار عظيم سلطان وقدرة الله عز وجل ، وأنه سبحانه رب السموات والأرض الذي [إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] ( ).
ومن إعجاز الآية الجمع بين الرغبة والرهبة في الدعاء والمسألة ، ولم ترد الرغبة وحدها ، إنما هي مقرونة مع الخشية والخوف من الله عز وجل ، ولا ينحصر موضوع الرهبة بالحياة الدنيا ، إنما يشمل عالم الآخرة .
فيسأل الإنسان الله عز وجل حاجته من الولد والمال والجاه ، والعافية وطول العمر.
وهو لا يعلم هل هذه الأمور والمكاسب ذات نفع مطلق أم فيها إبتلاء وإمتحان لا يقدر عليه .
وهل من موضوعية للرغبة والرهبة حال الدعاء في الإستجابة له.
والجواب نعم ، وهو الذي تدل عليه أول الآية [فَاسْتَجَبْنَا لَهُ] وقوله تعالى [إِنَّهُمْ] إذ يفيد الحرف المشبه بالفعل (إن) معنى التوكيد وأن خبرها محقق ، وليس فيه شك ، ووردت في آية البحث للتوكيد والتفسير ، والإشارة إلى علة استجابة الله لدعاء زكريا ، إذ أن هذه الإستجابة معجزة من جهتين :
الأولى : كبر عمر زكريا .
الثانية : صيرورة زوجة زكريا ولوداً بعد أن كانت تتصف بالعقم ، وهو مصداق قوله تعالى [وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ] ( ) واسم زوجته (أشياع) ( ).
(عن عطاء بن أبي رباح في قوله {وأصلحنا له زوجه } قال : كان في خلقها سوء وفي لسانها طول – وهو البذاء – فأصلح الله ذلك منها .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر ، عن محمد بن كعب القرظي في قوله {وأصلحنا له زوجه}( ) قال : كان في خلقها شيء .
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن عساكر ، عن سعيد بن جبير في قوله {وأصلحنا له زوجه } قال : كانت لا تلد .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله {وأصلحنا له زوجه } قال : كانت لا تلد .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله {وأصلحنا له زوجه } قال : وهبنا له ولداً منها) ( ).
ولا مانع من إجتماع الأمرين في معنى الإصلاح , وقوله تعالى [كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] ( ) شاهد على سلامتها من سوء الخلق ، ولأن نعمة الولد شاملة للأب والأم .
وترد مسألتان :
الأولى : لماذا ورد ذكر ولادة يحيى قبل إصلاح الزوجة ، بلحاظ أن الهبة في المقام هي الولادة ، كما في قوله تعالى [فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ] ( ).
الثانية : إذا كانت نعمة الولد للأب والأم فلماذا قال الله تعالى [وَأَصْلَحْنَا لَهُ]( ) وإن الإصلاح بنسبته زكريا كزوج ولم تقل الآية (وأصلحنا زوجة ) .
والجواب المراد استجابة دعاء زكريا , والهبة في الآية هي تنجز الولادة ، ولكن إصلاح الزوجة أعم في موضوعه ، يشمل صلاح الزوجة ورحمها لولادة وتربية يحيى ، وتعضيدها لزكريا ، لأن قوله تعالى [فَاسْتَجَبْنَا لَهُ] أعم من أن يختص بولادة يحيى ، فيشمل سلامة زكريا واستدامة الوحي وحسن المعاشرة ، وصدّ الإرهاب عن زكريا ، ونشأة يحيى بما يوهله لوارثة النبوة .
وفي الآية بشارة علاج أمراض العقم كما هو في هذا الزمان , وأكثر منه في الأزمنة اللاحقة بالنسبة للإرتقاء في عالم الطب.
وذكر زكريا في سورة آل عمران ، مريم ، الأنبياء ، ووردت الأخبار بمقتله .
(وأخرج ابن عساكر من طريق علي بن زيد بن جدعان ، عن علي بن الحسين ، عن الحسين بن علي عليه السلام قال : كان ملك مات وترك امرأته وابنته ، فورث ملكه أخوه ، فأراد أن يتزوج امرأة أخيه ، فاستشار يحيى بن زكريا في ذلك ، وكانت الملوك في ذلك الزمان يعملون بأمر الأنبياء .
فقال له : لا تتزوّجها فإنها بغي ، فبلغ المرأة ذلك .
فقالت : ليقتلن يحيى أو ليخرجن من ملكه .
فعمدت إلى ابنتها فصيغتها ، ثم قالت اذهبي إلى عمك عند الملأ ، فإنه إذا رآك سيدعوك ، ويجلسك في حجره ويقول : سليني ما شئت ، فإنك لن تسأليني شيئاً إلا أعطيتك ، فإذا قال لك قولي : فقولي لا أسألك شيئاً إلا رأس يحيى .
وكانت الملوك إذا تكلم أحدهم بشيء على رؤوس الملأ ، ثم لم يمض له ، نزع من ملكه .
ففعلت ذلك ، فجعل يأتيه الموت من قتله يحيى ، وجعل يأتيه الموت من خروجه من ملكه ، فاختار ملكه ، فقتله ، فساخت بأمها الأرض .
قال ابن جدعان : فحدثت بهذا الحديث ابن المسيب ، فقال : أما أخبرك كيف كان قتل زكريا؟
قلت : لا . قال : إن زكريا حيث قتل ابنه ، انطلق هارباً منهم ، واتبعوه حتى أتى على شجرة ذات ساق ، فدعته إليها فانطوت عليه ، وبقيت من ثوبه هدبة تلعبها الريح ، فانطلقوا إلى الشجرة فلم يجدوا أثره عندها ، فنظروا تلك الهدبة ، فدعوا المنشار ، فقطعوا الشجرة فقطعوه فيها)( ).
وقد ورد حديث مقتل زكريا عن بعض التابعين ، كما عن المسيب في الحديث أعلاه ، وورد عن قتادة ، وبعضهم تلقاه بالقبول ، لما ذكره القرآن من قتل عدد من الأنبياء ، كما في قوله تعالى [قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
ووردت هذه الآية بخصوص زكريا وزوجه وولدهما يحيى عليهم السلام ، وكانت عاقرا ، رزقها الله ولداً وهو يحيى يوم كان عمر زكريا (بضعاً وسبعين سنة)( ).
ومن إعجاز الآية إخبارها عن الإستجابة لدعاء زكريا مع أن علة وموضوع هذه الإستجابة أعم ، بدليل ورودها بصيغة الجمع ، ويحتمل المقصود من واو الجماعة في ( إنهم كانوا ) :
الأول : زكريا وحده ، وجاءت صيغة الجمع إكراماً له ، والمختار أن صيغة الجمع التي يراد منها المفرد لا تأتي في القرآن إلا لله عز وجل .
الثاني : المراد زكريا وزوجته بلحاظ أن الاثنين أقل الجمع .
الثالث : المراد زكريا وزوجته ويحيى عليه السلام ، وهو من أسرار ذكره بالاسم في ذات آية البحث .
الرابع : المراد أعم من الذين ذكرتهم الآية الكريمة ، فيشمل الأنبياء الذين ذكرتهم الآيات السابقة , وهم كل من : نوح ، إدريس ، إبراهيم ، لوط ، إسماعيل ، إسحاق ، يعقوب ، داود ، سليمان ، أيوب ، ذو الكفل ، ذو النون .
الخامس : إرادة جميع الأنبياء والمرسلين ، وورد ذكر عدد من الأنبياء في هذه الآيات المتجاورة من باب المثال .
والمختار هو الرابع أعلاه ، وقال جمع باختصاص الآية بآل زكريا .
ومن الإعجاز مجئ هذه الآية من سورة الأنبياء وذكرت الآية السابقة استجابة الله عز وجل لذي النون ، وهو نبي الله يونس عليه السلام صاحب الحوت ، كما في قوله تعالى [وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
وذهب مغاضباً أي ساخطاً على قومه لطول دعوته لهم للإيمان ، والحاحه عليهم لمسالك الهدى وإخبارهم بأنه رسول الله ، ولكنهم أصروا على الكفر والجحود ، فخرج مغاضباً هاجرا لهم بضجر قبل أن يأمره الله بالهجرة .
وكان نداء ذي النون من بطن الحوت ، وذكر أن قومه تدارسوا إنذاره ووعيده لهم بالعذاب ، فتابوا إلى الله عز وجل ، وهو لا يعلم بتوبتهم لمغادرته لهم .
وعن (ابن عباس قال : لما دعا يونس قومه أوحى الله إليه أن العذاب يصبحهم ، فقال لهم فقالوا : ما كذب يونس وليصبحنا العذاب ، فتعالوا حتى نخرج سخال كل شيء فنجعلها من أولادنا لعل الله أن يرحمهم . فأخرجوا النساء مع الولدان .
وأخرجوا الإبل مع فصلانها ، وأخرجوا البقر مع عجاجيلها .
وأخرجوا الغنم مع سخالها , فجعلوها أمامهم ، وأقبل العذاب.
فلما رأوه جأروا إلى الله ودعوا ، وبكى النساء والولدان ورغت الإبل وفصلانها وخارت البقر وعجاجيلها وثغت الغنم وسخالها فرحمهم الله فصرف ذلك العذاب عنهم .
وغضب يونس فقال : كذبت ، فهو قوله : { إذ ذهب مغاضباً }( ) فمضى إلى البحر .
وقوم رست سفينتهم فقال : احملوني معكم فحملوه .
فأخرج الجعل فأبوا أن يقبلوه منه فقال : إذاً أخرج عنكم . فقبلوه .
فلما لجت السفينة في البحر أخذهم البحر والأمواج ، فقال لهم يونس: اطرحوني تنجوا .
قالوا : بل نمسكك ننجوا . قال : فساهموني – يعني قارعوني – فساهموه ثلاثاً فوقعت عليه القرعة ، فأوحى الله إلى سمكة يقال لها النجم من البحر الأخضر ، أن شقي البحار حتى تأخذي يونس ، فليس يونس لك رزقاً ولكن بطنك له سجن .
فلا تخدشي له جلداً ولا تكسري له عظماً فجاءت حتى استقبلت السفينة .
فقارعوه الثالثة فوقعت عليه القرعة فاقتحم الماء ، فالتقمته السمكة فشقت به البحار حتى انتهت به إلى البحر الأخضر) ( ).
وتضمنت هذه الآيات الثناء على الأنبياء والرسل , وتدل في مفهومها على دعوته للصبر , وتنزههم من الإرهاب , وتمدحهم من جهات :
الأولى : نجاة إبراهيم ولوط من القوم الكافرين ، كما في قوله تعالى [وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الثانية : فضل الله على إبراهيم في ولادة إسحاق مع أن عمر إبراهيم يومئذ مائة سنة ، وزوجه سارة تسعين سنة ، أي أن معجزة إنجاب إسحاق أعظم من معجزة يحيى من جهة عمر الزوجين .
الثالثة : ولادة يعقوب من إسحاق ناقلة أيضاً في الدلالة على تعاقب ذرية إسحاق ، وعدم إنقطاعها ، وهو ظاهر في بني إسرائيل.
الرابعة : نيل اسحاق ويعقوب مرتبة النبوة والشهادة من الله لهما بالصلاح والفلاح ، وكل فرد من الصلاح ضد للإرهاب ، وإرادة القتل وإشعال الحرب .
الخامسة : بيان وظائف النبوة من وجوه :
الأول :دعوة الناس للإيمان .
الثاني : الإجتهاد في فعل الخير ، وعمل الصالحات بوحي وتيسير من الله عز وجل ، لقوله تعالى [وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ] ( ).
الثالث : تعاهد الأنبياء للصلاة والزكاة والفرائض العبادية الأخرى ، ومنها الصيام ، ويدل عليه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) ، وإجتهادهم في عبادة الله بأتيان الفرائض والمستحبات وإجتناب المحرمات ، فحتى لو لم يستجب لهم الناس فأنهم بأدائهم الصلاة والزكاة والصيام يكونون دعاة إلى الله بالفعل وأئمة للناس في الصالحات .
الرابع : إفراد هذه الآية لذكر لوط بآية مستقلة ، وكيف أن الله عز وجل نجّاه من القوم الذين يصرون على إرتكاب الفواحش والخبائث ، لبيان أن نجاة لوط عليه السلام منهم هي غير موضوع نزول العذاب بهم .
الخامس : قانون إذا أعطى الله عز وجل فانه يعطي بالأوفى والأتم ، فلم تكن نجاة لوط من أهل الفسوق مجردة ، أو لا إلى جهة ، إنما كانت إلى الأرض التي تتغشاها البركة إلى يوم القيامة ، وهي الشام ،وتتصف بخصوبة الأرض وكثرة الأمطار ، ووفرة المياه ، وعذوبة الهواء ، ويستطيع الفقير والغني العيش فيها ، وبيت المقدس وأرض فلسطين من الشام .
ومن معاني البركة في المقام الأمن والسلامة للوط وأهله ، ويدل على هذه البركة قوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ] ( ).
ومن فضل الله عز وجل عدم إنحصار البركة في موضع وبلد واحد من الأرض ، ومنها مكة ، قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ] ( ) كما تنزل البركة على الذين آمنوا وقاموا بأداء الفرائض العبادية في أي مكان كانوا من العالم .
وهل تكون البركة حينئذ خاصة بهم ، أم تشمل الذين من حولهم ، وإن لم يكونوا مؤمنين ، أم هناك تفصيل فمرة تنزل البركة بخصوص المؤمنين ، وأخرى عامة لهم ولمن حولهم ، المختار هو الثاني وإن كانت البركة في المقام من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة .
وذات أشخاص الأنبياء مباركة في الحل والترحال ، كما ورد عن عيسى عليه السلام ، وفي التنزيل حكاية عنه [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنت وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا] ( ).
وتتجلى هذه البركة في هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، والنعمة الكثيرة العاجلة والآجلة التي فازت بها من بين مدن الأرض كلها ، وسيأتي قانون نعمة هجرة النبي على المدينة .
ترى ما هي النسبة بين البركة والإرهاب ، الجواب إنها التضاد ، فمن مصاديق البركة والأمن والطمأنينة والسلامة من الكآبة والقتل وسفك الدماء ، وحوادث التفجيرات ، ولا يجلب الإرهاب إلا الأذى والضرر الخاص والعام ، مع كثرة الإنفاق على السلامة وحفظ الأمن ، وزيادة أعداد وأفراد القوى الأمنية ، والإكثار من أسلحتها وتنوعها واستنفارها ، وإجهادها بهذا الإستنفار وما يترشح عن هذا الإجهاد من العواقب العرضية ، وأسباب الشقاق.
والبركة حسنة ذاتاً ، ومحبوبة بأثرها وتواتر نفعها ، وتجليه للعيان ، ومنا ما يكون من عمل الإنسان ، قال تعالى [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ).
والبركة نعمة من عند الله عز وجل ، أي أن الناس ينالونها بفضل من عنده سبحانه ، وباخلاص العبادة لله عز وجل ، ولا يكون الإرهاب من أسباب وموارد طلب البركة .
وسيأتي كل من :
الأول : قانون التضاد بين البركة والإرهاب .
الثاني : أقسام البركة .
الثالث : قانون حاجة الناس إلى البركة .
والبركة عنوان عام في الخير ، فيشمل :
الأول : نزول الفضل الإلهي .
الثاني : ثبوت النعمة ، ويقال برك البعير إذا استقر على الأرض.
الثالث : تجلي النعمة بمظهر خارجي تدركه الحواس .
الرابع : النماء والزيادة .
الخامس : اليُمْنُ والرشاد والتوفيق (والبَرَكَةُ: النماءُ والزيادةُ. والتَبْريكُ: الدعاءُ بالبَرَكَةِ. وطعامٌ بَريكٌ، كأنه مبارَكٌ.
ويقال: بارَكَ الله لك وفيك وعليك، وبارَككَ. وقال تعالى: ” أن بورِكَ مَنْ في النارِ ” ( ). وتَبارَكَ الله، أي بارَكَ، مثل قاتَلَ وتَقاتَلَ، إلاَّ أن فاعَلَ يتعدّى وتفاعل لا يتعدّى. وتَبَرَّكْتُ به، أي تَيَمَّنْتُ به) ( ).
ومن حب الله عز وجل للعبد أن يجعله مباركاً أو أن تناله بركة المحل ، أو دعاء الصالحين ، أو حسن السمت والسيرة ، ومن البركة تحقيق الغايات الحميدة للمؤمن من غير اللجوء إلى العنف والبطش.
ومن قوانين الحياة الدنيا : مصاحبة البركة للخلق الحميد ، لذا قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
وتحتمل كيفية وصفة الدعاء في الآية وجوهاً :
الأول : مرة يأتي الدعاء رغبة ورجاء .
الثاني : مجئ الدعاء خوفاً وخشية من الله .
الثالث : إتخاذ الدعاء حرزاً من الآفات وإضرار العدو ، ويكون تقدير الآية : ورهباً أي رهباً من المشركين وعامة الأعداء .
الرابع : إجتماع الرغبة والرهبة من الله في كل فرد من أفراد الدعاء ، وهو لا يمنع من تقدير الآية على نحو الفصل بين الرغبة والرهبة في الدعاء .
والمختار هو الأخير ، لبيان منهاج الأنبياء في الدعاء بما يفيد تأديب وإصلاح المسلمين للدعاء ، وجاءت الآية لتخبر عن إصلاح زوج زكريا له ، وفضل الله في ولادة يحيى خرقاً لقاعدة الأسباب المادية.
لتكون هذه الآية إصلاحاً للمسلمين والمسلمات في مضمار الدعاء ، ولزوم إتخاذهم له سبيلاً للنجاة ، ومناسبة لإظهار الإخلاص في الإيمان ، والتنزه عن الإرهاب ، لقانون من يكون مشغولاً بالرهبة من الله لا يسعى في إرهاب الناس ، وكذا قانون من يرغب بما عند الله لا يتخذ الإرهاب بلغة لتحقيق الغايات .
إذ تدل الآية المسلمين والناس جميعاً على طريق الهداية بالمسارعة في الخيرات ، والنسبة بين الخيرات والإرهاب هو التضاد .
لقد تضمنت الآية الثناء على الأنبياء وذويهم وذكرت المسارعة في الخيرات ، والمبادرة إلى ما ينفع الناس ، وهل أداء الصلاة في أول وقتها من الخيرات الجواب نعم .
ولم تقل الآية ويسارعون (إلى) إنما ذكرت حرف (في) الذي يفيد الظرفية لبيان ثباتهم في مسالك الهدى والخير لإحرازهم ملكة فعل الخير فهم يتناجون بها ، ويتولون الأمر بها ، والنهي عن السوء ، وعن المسارعة في الكفر والضلالة .
ويجمع الخير على : خيور ، وخيرات ، وهو جمع نادر ويكون أيضاً جمعاً لخيرّة أي ذات خير.
والمتبادر من لفظ الخيرات والمسارعة فيها أنها نوع مفاعلة ، والمراد الإحسان إلى الآخرين سواء فيما يخص الحياة الدنيا أم الآخرة ، كما تشمل العبادات وأداء الفرائض ومنه الإنفاق في سبيل الله فمن معاني الخير المال كما في قوله تعالى [إِنْ تَرَكَ خَيْرًا]( )، أي مالاً.
وقال ابن زيد : سمّى اللّه المال خيراً وعسى أن يكون خبيثاً وحراماً، ولكن الناس يعدّونه خيراً فسمّاه اللّه خيراً ؛ لأن الناس يسمّونه خيراً وسمي الجهاد سوءاً فقال {فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}( ) أي قتال. وليس هو عند اللّه بسوء ولكن سمّاه اللّه سوءاً ، لأنّ الناس يسمّونه سوءاً( ).
ولكن السوء الذي تذكره الآية هو الضرر وليس الجهاد ، كما أن القتال نوع مفاعلة بين طرفين أو أكثر ، وقد يأت الضرر من غير قتال .
فجاءت الآية أعلاه لبيان سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وعودتهم من كتيبة حمراء الأسد بسلام ، هذه الكتيبة التي خرجت بامامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة بعد يوم واحد من معركة أحد ، مع شدة الجراحات التي أصابت النبي وأصحابه.
الخصال الحميدة زاجر عن الإرهاب
يبين قوله تعالى [كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ]( )، مع قلة كلمات الآية خصالا كريمة ، وكل خصلة تزجر عن الإرهاب ، وتدعو وتحض للإمتناع عن إرهاب المسلم وغير المسلم , وإدخال الرعب إلى البيوت , خاصة وأن الآية وردت بخصوص آل زكريا ، لبيان اشتراك الناس في ميراث النبوة ولزوم الإقتباس منها .
وهذه الخصال هي :
الأولى : المسارعة في الخيرات ، والتسابق في فعل الصالحات ، وإعانة الأخرين والإحسان إليهم ، لبيان صفحة مشرقة عن الإيمان ، لتكون سيرة الأنبياء من مصاديق قوله تعالى [حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ]( ).
وهل المسارعة في الخيرات من علامات النبوة ، الجواب يشترك فيها النبي وأتباعه وأنصاره ، بدليل هذه الآية وإخبارها عن قيام زكريا وآل زكريا بالمسارعة في الخيرات ، فلم تنحصر هذه المسارعة بزكريا النبي وحده ، نعم الأنبياء أسوة للناس .
وتبين الآية حقيقة وهي إذا كان ذوو المؤمن مجتهدين في طاعة الله فانه سبحانه يستجيب دعاءهم ، وينزل عليهم البركة ، بما يكون أعظم من قاعدة السبب والمسبَبَ .
وكما كانت ولادة النبي يحيى بمعجزة ، فكذا ولادة إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام بمعجزة أيضاً ، وهي أكبر من جهة العمر ، فقد كان عمر إبراهيم يوم ولد له إسحاق مائة سنة ، وعمر سارة يومئذ تسعين سنة .
وفيه بشارة للناس بأن نعمة علاج العقم والولادة عن كبر بالنسبة للرجل والمرأة أمر ممكن ، وليس مستحيلاً بلحاظ قانون وهو إذا أنعم الله عز وجل نعمة على أهل الأرض فانه أكرم من أن يرفعها ، فحدثت ولادة إسحاق ثم يحيى بالمعجزة ، لما فيه حاجة الناس إلى النبوة ، ويأتي هذا الزمان زمان التكنولوجيا والإرتقاء العلمي السريع .
ويمكن إنشاء قانون وهو إنقطاع إلى فعل مانع من ضده ، فالمسارعة في الخيرات ضد الإرهاب ، وكذا الإحسان إلى الأخرين .
الثانية : إنقطاع آل زكريا إلى الدعاء والمسألة ، وفي التنزيل [وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) والآية مطلقة من جهة الوعد من عند الله عز وجل ، لبيان قانون وهو : الدنيا دار الإستجابة .
وهل الإستجابة من عند الله مانع من الإرهاب ، الجواب نعم ، فمن كانت عنده غاية يسعى إليها يتخذ الدعاء بلغة ووسيلة ، وليس الإرهاب .
ليكون من معاني قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ] ( ) أي يمحو الله ما يشاء بالدعاء ، ويثبت بالدعاء ، ولو سألت أي إنسان لو دار الأمر في المحو والإثبات بين الدعاء وبين العنف والإرهاب في تحقيق الغايات يكون الجواب بالدعاء ، وهو خال من الضرر على الذات والغير .
وستأتي قاعدة لا ضرر ولا ضرار مانع من الإرهاب ، وهل الدعاء مانع من قيام ذات الإنسان بالإرهاب وحده ، أم هو مانع للغير أيضاً من القيام بأرهاب المؤمنين ، المختار هو الثاني ، ولو على نحو الموجبة الجزئية بالنسبة للغير .
الثالثة : الدعاء رغبة ورجاء لفضل الله مما يأتي بالأسباب أو من غير سبب ، إذ يدرك آل زكريا وعموم المؤمنين أن مقاليد الأمور بيد الله عز وجل ، وأنه يهب ويعطي ما يشاء ، وفي التنزيل [لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ] ( ) ومنه يهب لمن يشاء الذكور وإن كان عقيماً .
والرغبة بما عند الله برزخ دون الإرهاب ، بغض النظر عن الذي يقوم به أو غاياته من الإرهاب .
ومن أسرار آية البحث أنها تحض المسلمين على الدعاء رغبة ورهبة ، وترشدهم إلى أفضل صيغ الدعاء .
الرابعة : الدعاء رهبة وخوفاً من عند الله ، يتعلق موضوع الدعاء بمسائل :
الأولى : مقدمات الدعاء .
الثانية : كيفية وصيغة الدعاء .
الثالثة : التضرع والتوسل وإظهار الخشوع والخضوع لله عز وجل في الدعاء ، ويتجلى بقوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) إذ كانت إستغاثة وإجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء عشية ويوم بدر من أسباب نزول ألف من الملائكة لنصرته وأصحابه يومئذ ، وهل من موضوعية لهذه الإستغاثة في صيرورة عدد الملائكة ألفاً مع أن ملكاً واحداً يكفي لهزيمة جيش المشركين .
الجواب نعم ، لذا كان قوله تعالى [وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ..]( ) دعوة للمسلمين للإجتهاد وبذل الوسع في الدعاء ، والإنقطاع إليه ، وإخلاص النية واليقين بتحقق الإستجابة .
ويحتمل دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر وجوهاً :
الأول : إنه رغبة .
الثاني : الدعاء رهبة .
الثالث : إنه رغبة ورهبة .
الرابع : إنه دعاء مطلق ليس رغبة أو رهبة .
والصحيح هو الثالث أعلاه .
فلما نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المشركين وهم نحو ألف أي أكثر من ثلاث أضعاف عدد الصحابة الذين في ميدان المعركة ، استقبل القبلة (ثم مد يده وجعل يهتف بربه : اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام لا تعبد في الأرض .
فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه) ( ).
ليكون من معاني آية البحث ، يا أيها الذين آمنوا أدعو الله رغباً ورهباً .
وفي هذا الدعاء عصمة من الإرهاب ، وإعلان عن إجتناب الإستغناء عنه ، لقد أحبّ الله عز وجل المؤمنين وجعلهم أعزة وسادة ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ] ( ) ومن العزة التنزه عن الإرهاب وعدم وصول النوبة والحاجة إليه ، وقيل (أن رجلاًً جاء إلى عيسى فقال : يا معلم الخير كيف أكون تقياً لله كما ينبغي له؟
قال : بيسير من الأمر . تحب الله بقلبك كله ، وتعمل بكدحك وقوتك ما استطعت ، وترحم ابن جنسك كما ترحم نفسك .
قال : من ابن جنسي يا معلم الخير؟
قال : ولد آدم كلهم ، وما لا تحب أن يؤتى إليك فلا تأته إلى أحد فأنت تقي لله حقاً) ( ).
الخامسة : بذل الوسع في الدعاء بالجمع بين الرغبة في الحاجة والطلب والمسألة من الله ، وبين الخوف والخشية من عدم تحققها وتنجزها ، لذا قال زكريا [لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ] ( ) ، فالرهبة في الآية من الله عز وجل ومن الضرر من حال مخصوص يرجى بالدعاء رفعة ومحوه ، ويكون معنى ارهبه على وجوه :
الأول : رهبة من الله .
الثاني : رهبة من مقام الربوبية .
الثالث : رهبة من منازل العبودية والخشوع لله عز وجل .
الرابع : رهبة من نزول البلاء الذي هو بيد الله عز وجل ، قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ] ( ).
السادسة : الثبات في منازل الخشية والخضوع لله عز وجل في حال السراء والضراء ، إذ أن الدعاء لا يستغرق وقت الإنسان كله ، ومن خصائص الحياة الدنيا عمل الإنسان وصلاته مع الآخرين ، لتتضمن خاتمة الآية الكريمة خصلة دائمة عند آل زكريا وهي الإتصاف بالخشوع لله عز وجل على كل حال سواء استجاب لهم الله عز وجل بالدعاء بالوعد أو أنه سبحانه أستجاب لهم بغيره .
ومن خصائص المؤمنين ملازمة الخشية لله عز وجل في القول والعمل ، وهو من أسباب استجابة الدعاء ، وتقريب الأمل البعيد ، والخشوع لله عز وجل مانع من الإرهاب ، وإنشغال عنه ، وإنصراف عن مقدماته ، وباعث للنفرة منه ، ومن الإضرار بالآخرين .
قانون تعاهد خلافة الأرض بالتنزه عن الإرهاب
الخلافة لغة مصدر خلف ، والجمع خلفاء وخلائف ،وكلاهما ورد في القرآن وعلى نحو مكرر لكل منهما ، قال تعالى [وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ] ( )وقال تعالى [هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ] ( ) وورد على لسان موسى عليه السلام إلى هارون عليه السلام في التنزيل [وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي] ( ) (والخَلِيفةُ: مَن اسْتُخْلِف مكانَ مَنْ قَبْلَه.
وقَوْله تعالى: ” جَعَلَكُم خَلايِفَ الأرض “( ) أي مُسْتَخْلَفِيْنَ فيها.
والخِلِّيْفى: الخِلافَةُ.
واخْتَلَفْتُ فلاناً: كُنْت خَلِيْفَتَه من بَعْدِه.
وخَلَفَك اللهُّ في أهْلِك بأحْسَن الخِلافة.
وفلانٌ يَخْلُفُ فلاناً في أهْلِه وعِيَالِه خِلافَةً حَسَنَةً.
والخَلِيْفُ: الخَليفة، والجميع الخُلَفاء. وخَلَفَ الرجُلُ بعَقِب فلانٍ: أي خالَفَه إلى أهْلِه، واخْتَلَفَه كذلك، والاسْمُ الخِلْفَةُ.
والخالِفَةُ: الأمَّةً الباقِية بعد الأمَّة السالِفة) ( ).
لقد أكرم الله عز وجل الناس بخلقهم ، وجعلهم خلفاء في الأرض ، إذ تدل آيات القرآن على عدم حصر هذه الخلافة بآدم ، ولا الأنبياء أو بعضهم ، إنما وردت صيغة العموم في الإكرام على نحو متكرر كما في الآيات :
الأولى : قال تعالى[أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) في خطاب وإنذار من النبي هود عليه السلام إلى قومه عاد في الأحقاف باليمن ، والأحقاف : الرمال .
الثانية : قال تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ] ( ) في تخويف وإنذار من النبي صالح عليه السلام إلى قومه ثمود مع ذكره للنعم العظيمة التي رزقهم الله عز وجل .
الثالثة : قال تعالى [أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ] ( ) لتذكير المسلمين وهم قلة مستضعفون بما سينعم الله عز وجل من عمارة الأرض والحكم لإرادة البشارة وإصلاحهم للخلافة ، ليصاحب هذ التذكير أجيال المسلمين الى يوم القيامة ، وهو من معاني ودلالات كل من :
الأول : سلامة القرآن من التحريف ، وحاجة المسلمين والناس إلى هذه السلامة .
الثاني : تلاوة كل مسلم ومسلمة آيات القرآن في الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة ، لتكون هذه التلاوة تذكيراً وتسليما بالنعم ، وحضاً على تعاهدها بالتقوى ، وحسن الخلق ، والتنزه عن التعدي والظلم .
الثالث : تجدد النعم التي وردت في هذه الآيات بلطف ورحمة من عند الله عز وجل ، منها مثلاً المنّ والفضل من الله على المسلمين بالإيمان والهداية إلى الصلاح ، ومنها الوئام والأخوة بين المسلمين .
والنسبة بين الإسلام والإيمان هي العموم والخصوص المطلق ، فكل مؤمن هو مسلم وليس العكس .
ولم تقل الآية خلفاء في الأرض ، إنما قالت [خُلَفَاءَ الأَرْضِ] لبيان الإطلاق في التصرف فيها ، لوجوب الإجتهاد في عبادة الله ، والتنزه عن الظلم الذي أهلك الأمم السابقة ، وكأن الآية تقول للمسلمين تعاهدوا الخلافة بالتقوى جيلاً بعد جيل ، بعد أن ضيّعها الظالمون والفاسقون .
لبيان فضل الله في الإنتقال من حال الإستضعاف إلى الشأن والسلطان ، ولقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الأولى من الهجرة من مكة خائفاً من قريش وهم يريدون قتله في ذات ليلة الهجرة ، ليدخلها فاتحاً في السنة الثامنة للهجرة ومعه عشرة آلاف من المسلمين في معجزة له ، وشاهد على أن رهبة وخشية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الله عز وجل نوع طريق للفتح .
وعندما تم الفتح عفا النبي صلى عن ألد أعدائه المشركين الذين حاربوه.
وكانوا يقتلون عدداً من أصحابه في كل معركة وغزو لهم ، كما كانوا يقتلونهم خارج الميدان ، كما في بدايات الإسلام في مكة ، وفي شراء قريش لخُبيب بن عدي ، وزيد بن الدثنة ، وقتلهم لهما في التنعيم لإخراجهما من الحرم عند القتل ، وصلبوا خبيباً .
و(عن أبي إسحق قال : كان الذين اجلبوا على خبيب في قتله نفر من قريش عكرمة بن أبي جهل ، وسعيد بن عبد الله بن أبي قيس بن عبد ود ، والأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة ، وعبيدة بن حكيم بن أمية بن عبد شمس ، وأمية ابن أبي عتبة .) ( ).
واشترى صفوان بن أمية زيد بن الدثنة ثم (بعثه مع مولى له يسمى قسطاس إلى التنعيم ليقتله فاجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب.
فقال أبو سفيان لزيد حين قدم ليُقتَل أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمّداً عندنا الآن بمكانك نضرب عنقه وإنك في أهلك؟
فقال : والله ما أحب أن محمّداً الآن بمكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي.
فقال : أبو سفيان : ما رأيت من النّاس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمّد محمّداً،
ثمّ قتله قسطاس،) ( )
علماً بأنهما لم يكونوا في غزو أو هجوم ، إنما كانا في سرية فقاهة وتعليم للقرآن ، إذ بعثهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع مِرثد بن أبي مِرثد ، وعاصم بن ثابت وبعض الصحابة ( ) بناء على طلب من من عضل والقارة ثم غدروا بهم في الطريق (وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في نصف صفر، في آخر تمام السنة الثالثة من الهجرة نفر من عضل والقارة، وهم بنو الهون بن خزيمة بن مدركة، أخي بني أسد بن خزيمة. فذكروا له صلى الله عليه وآله وسلم أن فيهم إسلاماً، ورغبوا أن يبعث نفراً من المسلمين يفقهونهم في الدين.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معهم ستة رجال من أصحابه : مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وخالد بن البكير الليثي، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أحد بني عمرو بن عوف بن الأوس، وخبيب بن عدي أحد بني جحجبي بن كلفة بن عمرو بن عوف، وزيد بن الدقنة أحد بني بياضة بن عامر، وعبد الله بن طارق حليف بني ظفر.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرثد بن أبي مرثد ، ونهضوا مع القوم، حتى إذا صاروا بالرجيع ، ماء لهذيل بناحية الحجاز بالهدأة، غدروا بهم، واستصرخوا عليهم هذيلاً .
فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف وقد غشوهم .
فأخذ المسلمون سيوفهم لقاتلوهم، فأمنوهم، وخبروهم أنهم لا أرب لهم في قتلهم، وإنما يريدون أن يصيبوا بهم فداء من أهل مكة.
فأما مرثد وخالد بن البكير وعاصم بن ثابت فأبوا، وقالوا: والله لا قبلنا لمشرك عهداً أبداً. فقاتلوهم حتى قتلوا؛ وكان عاصم يكنى أبا سليمان، وكان قد قتل يوم أحد فتيين من بني عبد الدار، ابنين لسلافة ابنة سعد، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنها أن تشرب الخمر في قحفة .
فرأت بنو هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سُلافة بنت سعد بن شهيد، فأرسل الله تعالى الدبر فحمته، فقالت هذيل: إذا جاء الليل ذهب الدبر، فأرسل الله تعالى سيلاً لم يدر سببه، فحمله قبل أن يقطعوا رأسه، فلم يصلوا إليه، وكان قد نذر أن لا يمس مشركاً أبداً، فأبر الله تعالى قسمه بعد موته، رضوان الله عليه.
وأما زيد الدثنة، وخبيب بن عدي، وعبد الله بن طارق فأعطوا بأيديهم فأسروا، وخرجوا بهم إلى مكة، فلما صاروا بمر الظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القران، ثم أخذ سيفه، واستأخر عنه القوم، ورموه بالحجارة حتى مات، رضوان الله عليه، فقبره بمر الظهران.
وحملوا خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة، فباعوهما بمكة، فصلب خبيب بالتنعيم، رضوان الله عليهم؛ وهو القائل إذ قرب ليصلب :
ولست أبالي حين أقتل مسلماً … على أي شق كان في الله مضجعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ … يبارك على أوصال شلوٍ ممزع .
وهو أول من سن الركعتين عند القتال.) ( ).
الرابعة : قوله تعالى [قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ] ( ) أي يجعلكم خلفاء للظالمين بعد هلاكهم .
والألف و اللام للعهد أي خصوص الأرض التي لكم فيها الشأن والسلطان .
وهل هناك ملازمة بين الخلافة والحكم ، الجواب لا ، فالخلافة أعم ، وملاكها التصرف المطلق وإختيار الفعل.
قانون انحصار الرهبة بالله
قال تعالى [وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( )، وفي مبحث المعاني يدل تقديم المفعول على صيغة الحصر كما في قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، أي لا تعبد غيرك ، ولا نستعين إلا بك سبحانك .
المراد أمر الله عز وجل للناس بأن يخافوه وحده ، ولا يخافوا سواه من الخلائق ، وفيه دعوة للمسلمين وغيرهم بأن لا يكونوا سبباً للإرهاب ، وإخافة الناس من عملهم وتفجيراتهم ليكون من معاني قوله تعالى [فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( )، وجوه :
الأول : ليس من رهبة وخوف في الحياة الدنيا إلا من عند الله عز وجل.
الثاني : من وجوه الرهبة من الله في الدنيا استحضار أهوال الآخرة .
الثالث : من مصاديق الرهبة من الله الحرص على تعهد الوظائف العبادية .
الرابع : يتجلى من هذه الآية المعاني حصر الرهبة بأن الذي يرهب الله لا يرهب غيره من الناس .
الخامس : الرهبة من الله عز وجل واقية من الخوف والفزع من الإرهاب لبيان قانون وهو عدم ترتب النفع على الإرهاب لصاحبه ، فقد يسعى بواسطته لتحقيق مصالح دنيوية عاجلة ، ولكن قوله تعالى [فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( )، بيان وإخبار عن كون الناس يتصدون للإرهاب بشرط ألا يكون هذا التصدي بارهاب مواز مثله.
وهل تتضمن الآية أعلاه هذا الشرط ، الجواب نعم ، لأن الخطاب التكليفي بالرهبة من الله ، وإنحصارها بالفزع منه وحده تعالى عام وشامل للناس جميعاً .
السادس : فإياي فارهبون وأنا أرحم الراحمين.
السابع : فإياي فارهبون ، وفي هذه الرهبة الأجر والثواب .
الثامن : لا تخافوا الإرهاب فإياي فارهبون ، وقال تعالى [فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي]( ).
والمختار أن النسبة بين الخشية والإرهاب عموم وخصوص مطلق ، فالخشية أعم لتكون الرهبة من الله وحده من باب الأولوية القطعية .
التاسع : تبين الآية موضوع وعلة إنحصار الرهبة بالله عز وجل لأنه واحد ، ليس من إله غيره في السموات والأرض ، وما من شئ في الوجود إلا وهو منقاد له سبحانه ، لذا فان قيام الفرد بالإرهاب نقيض لهذا الإنقياد لما فيه من الخروج عن رهبة الله وحده ، ويتجلى هذا الخروج من جهات :
الأولى : إخافة الناس .
الثانية : إتخاذ الإنسان الذي يقوم بالإرهاب صفة المرِهب لغيره.
الثالثة : الرهبة من الله رحمة للناس جميعاً ، وسور الموجبة الكلية الذي يلتقي عنده الناس بما يبعث الأمن والسلم المجتمعي ، بينما الإرهاب إضافة لصاحبه والقريب والبعيد منه .
وفي قوله تعالى [فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] ( ) منع للفرد والجماعة من إرهاب الناس وإنذار للذين يرهبونهم بنزول البلاء بهم ، لأن الله عز وجل أمرهم أن يرهبوه ، ويخافوه فبدلاً منه قاموا أنفسهم ببث الخوف والذعر بين الناس ، وقتل أفراد وجماعات منهم ، والشواهد عليه عديدة .
وورد ذات الشطر في آية أخرى ، ولكن بحرف العطف الواو ، والخطاب لبني إسرائيل في قوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] ( ).
ومن معاني الجمع بين الآيتين تأكيد قانون وهو إستدامة قانون الرهبة من الله وحده ، في الأولين والآخرين ، وهو شعار أهل التوحيد من الأمم السابقة ، والتركة التي ورثها المسلمون ، ومنه مثلاً قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) فذكرت الآية وجوب الصيام على المسلمين ، مثلما كان واجباً على الأمم السابقة .
ترى ما هي النسبة بين الرهبة من الله وبين أداء الفرائض العبادية ، المختار هو العموم والخصوص المطلق ، فالرهبة والتقوى والخشية من الله أعم من أداء الفرائض .
قانون تعدد النعم أيام النبوة
يدل تعدد النعمة التي تفضل الله سبحانه بها على النبي وأصحابه أنهم قوم صالحون ، يتطلعون إلى فضل وإحسان الله عز وجل ، وأن النعم العظيمة التي أكرمهم بها الله عز وجل لم تزدهم إلا تقوى وصلاحاً ومسكنة , لقد كان المسلمون على وجوه :
الأول : قلة العدد .
الثاني : الإستضعاف في الأرض ، وذكر الأرض على نحو العموم أي وان كانوا في مكة أو المدينة أو الحبشة أو غيرها فانهم مستضعفون فيها .
الثالث : الخوف والخشية من كفار قريش وغيرهم ، سواء كان المسلمون في ديارهم أو عندما يضربون في الأرض ، وجاءت الألف واللام في الناس لبيان الجنس لعموم الناس لبيان أن المسلمين لا يقاتلون ولا يغزون أحداً لأنهم يخشون ويخافون من الله عز وجل .
كما تدل الآية على احتمال تحالف الكفار والمشركين للإجهاز على المدينة وأهلها ، مثلما زحف عشرة آلاف رجل في معركة الخندق ، إذ اشترك في الهجوم على المدينة كل من :
الأولى : قريش .
الثانية : عموم أهل مكة .
الثالثة : الأحابيش .
الرابعة : قبائل من كنانة .
الخامسة : فزارة .
السادسة : بنو مرة .
السابعة : أشجع .
الثامنة : بنو أسد .
التاسعة : سليم .
وليس من عداء بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأكثر هذه القبائل ، ولكنه من الشواهد على استضعافه وأصحابه ، وعلى أنه يسعى إلى السلم والموادعة ، مع تلقي الأذى الشديد من قريش .
ومن معجزات النبوة كثرة وتجدد البركة ونزول أفراد مستحدثة من الرحمة الإلهية ومنها هداية الناس للإيمان ، وكثرة الريع ، وصرف شر المشركين ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ).
ومن خصائص النعمة الإلهية دعوة الناس للإيمان ، والإمتناع عن اضرار بعضهم ببعض ، فيؤمن شطر من الناس ، فتنزل الرحمة التي ينتفع منها الجميع ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وقد تجلت بركات النبوة من حين ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأدركت مرضعته حليمة السعدية وقومها هذه البركة من حين أخذها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهله لرضاعته بزيادة الكلأ في ديارهم ، ديار بني سعد وزيادة اللبن وسمن وكثرة لحم الأنعام.
ومن الآيات في المقام تعدد شواهد البركة على أهل المدينة المنورة إلى يومنا هذا ، فكان أهلها في خلاف وقتال متجدد ، فانعم الله عز وجل عليهم بالإتحاد تحت لواء الإسلام ، وخلَدهم الله في القرآن باسم لم ينله أحد قبلهم ولا بعدهم ، وهو (الأنصار) وشهد لهم بالسبق إلى الإيمان من بين أهل الأرض ، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
كما ورد اسم أعم من الأنصار وهو (أهل المدينة) لبيان جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار في اصلاح المجتمع ونبذ العنف ، وطرد النفاق والختل ، قال تعالى [َما كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ]( )، وتدعو أفراد البركة على المسلمين وعامة الناس للإنتفاع الأمثل منها ، وإجتناب الإرهاب وأسباب الإقتتال.
قانون القراءة في الصلاة
في الصلاة لا تصح القراءة إلا بالعربية ، فلابد من تعلم سورة الفاتحة وسورة أخرى مثل سورة الإخلاص أو سورة الكوثر أو القدر ، قال تعالى في خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ] ( ) .
(عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا صلاة لمن لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب) ( ) .
وإجماع علماء الإسلام على عدم جواز القراءة في الصلاة إلا بالعربية ، فالقراءة واجبة.
وترجمة القرآن ليس بقرآن ، والعبادات توقيفية ، قال تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ( ) ولإصالة الإشتغال فالتأسي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإتيان بالصلاة بالعربية تحصيل لفراغ الذمة ، ولما ورد في حديث (مالك بن الحويرث صلوا كما رأيتموني اصلى (اخبرنا) أبو زكريا بن ابى اسحاق المزكي ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب انبأ الربيع بن سليمان المرادى انبأ الشافعي انبأ عبد الوهاب الثقفى عن ايوب عن ابى قلابة ثنا أبو سليمان مالك بن الحويرث قال :
قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلوا كما رأيتموني اصلي فإذا حضرت الصلوة فليؤذن لكم احدكم وليؤمكم اكبركم) ( )( ).
ويشعر كل مسلم ومسلمة بالغبطة عند التأسي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قراءة القرآن وإتيان الصلاة كاملة .
(عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : في كل صلاة قراءة : فاتحة الكتاب وما تيسر ، ومن لم يقرأ فهي خداج) ( ) والخداج الناقص غير التام .
لذا قيل بفساد الصلاة بالقراءة بغير العربية .
وأجاز أبو حنيفة القراءة بغير العربية للعاجز عنها ، وتبعه أصحابه بأن حكمه حكم الأمي الذي لا قراءة عليه.
ولا ملازمة بين الأمية وبين عدم قراءة الفاتحة إذ أنها تحفظ عن ظهر قلب ،وتجب القراءة على الأمي والمبادرة إلى تعلم الفاتحة وسورة ، ولم تعد القراءة بالعربية صعبة في هذا الزمان ، إذ يسهل تعلمها كما يجوز الإستعانة بالتسجيل والحاكية والترديد خلف التسجيل ، وتجوز القراءة عن لوحة معروضة أمام المصلي عند الحاجة ، إلى جانب الترغيب والثواب العظيم في صلاة الجماعة لمن لم يحسن العربية.
من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الملازمة بين بعثته وإقامة الصلاة ، بينما تأخر فرض الزكاة والصيام والخمس والحج إلى ما بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي نحو أربع عشرة سنة .
الفرق بين أوان فرض الصلاة وغيرها
وهل ابتدأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة بمفرده قبل أن يدخل غيره في الإسلام أم أن أول صلاة صلاها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد دخول خديجة والإمام علي عليهما السلام الإسلام ، خاصة وأن خديجة آمنت برسالته .
المختار هو الأول ، وإن كانت خديجة آمنت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في أول يوم للبعثة .
(قالت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم من الثناء عليها واستغفار فذكرها ذات يوم فاحتملتني الغيرة .
فقلت لقد عوضك الله من كبيرة السن قالت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غضب غضبا أسقطت في خلدي وقلت في نفسي اللهم إنك إن أذهبت غضب رسولك عني لم أعد أذكرها بسوء ما بقيت .
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لقيت قال كيف قلت والله لقد آمنت بي إذ كفر بي الناس وآوتني إذ رفضني الناس وصدقتني إذ كذبني الناس ورزقت مني الولد إذ حرمتموه مني قالت فغدا وراح علي بها شهرا) ( ).
وفي قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه (وصدقتني إذ كذبني الناس) دلالة على بطلان تقسيم الذين دخلوا الإسلام إلى :
الأول : أول امرأة .
الثاني : أول صبي .
الثالث : أول رجل .
إذ أن لفظ الناس عام وشامل للمسلمين من المهاجرين والأنصار وغيرهم .
(عن الزهري قال: مكث رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وخديجة يصليان سرا ما شاء الله) ( ).
والزهري تابعي ولم يرفع الحديث .
وهو محمد بن عبد الله بن شهاب من بني زهرة بن كلاب تابعي ولد في المدينة المنورة سنة 58 هجرية ، وتوفى سنة 124 هجرية .
لقد كانت صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته في البيت الحرام جهاداً في سبيل الله .
وكانت صلاة النبي في البيت الحرام رسالة عملية الناس لدخول الإسلام ، وليكون من عمومات خطاب الله عز وجل لإبراهيم عليه السلام في قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ) دعوة للناس إلى البيت الحرام ليروا صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند بعثته .
وتكون هذه الرؤية ترغيباً بالإسلام ، ودعوة لعبادة الله وحده ، وترك التزلف إلى الأصنام .
وفيها ترغيب بالسلام والأمن بين الأفراد والقبائل والأمم ، فكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما يصلي يقول للناس : جئتكم بالأمن والسلام والبركة والمحبة والوحدة في رضوان الله ، لذا شرّعت صلاة الجماعة ،وكانت أول صلاة جماعة في البيت الحرام بامامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخلفه خديجة والإمام علي عليه السلام ، كما كان الصحابة يخرجون إلى البطائح خارج مكة للتعبد والصلاة وتدارس القرآن .
وممن رآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في البيت الحرام عفيف الكندي ورد (عن ابن يحيى ابن عفيف عن جده عفيف الكندي قال: جئت في الجاهلية إلى مكة وأنا أريد أن ابتاع لأهلي من ثيابها وعطرها، فنزلت على العباس بن عبد المطلب، قال: فأنا عنده وأنا أنظر إلى الكعبة وقد حلقت الشمس فارتفعت إذ أقبل شاب حتى دنا من الكعبة فرفع رأسه إلى السماء فنظر ثم استقبل الكعبة قائما مستقبلها، إذ جاء غلام حتى قام عن يمينه، ثم يلبث إلا يسيرا حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما، ثم ركع
الشاب فركع الغلام وركعت المرأة، ثم رفع الشاب رأسه ورفع الغلام رأسه ورفعت المرأة رأسها، ثم خر الشاب ساجدا وخر الغلام ساجدا وخرت المرأة.
قال فقلت: يا عباس إني أرى أمرا عظيما.
فقال العباس: أمر عظيم، هل تدري من هذا الشاب؟
قلت: لا، ما أدري.
قال: هذا محمد ابن عبد الله ابن عبد المطلب ابن أخي.
هل تدري من هذا الغلام؟
قلت: لا، ما أدري.
قال: علي ابن أبي طالب ابن عبد المطلب ابن أخي.
هل تدري من هذه المرأة؟
قلت: لا، ما أدري.
قال: هذه خديجة بنت خويلد زوجة ابن أخي هذا. إن ابن أخي هذا الذي ترى حدثنا أن ربه رب السماوات والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه، فهو عليه، ولا والله ما علمت على ظهر الأرض كلها على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة.
قال عفيف: فتمنيت بعد أني كنت رابعهم.) ( ).
(محمد بن عمر، حدثني معمر ابن الراشد عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين) ( ).
وهو بعيد ، إذ أن خديجة توفيت في السنة العاشرة للنبوة ، ولعل المراد هو الصلاة على الجنازة إذ ورد (عن موسى ابن عقبة عن أبي حبيبة مولى الزبير قال: سمعت حكيم بن حزام يقول: توفيت خديجة بنت خويلد في شهر رمضان سنة عشر من النبوة وهي يومئذ بنت خمس وستين سنة، فخرجنا بها من منزلها حتى دفناها بالحجون .
ونزل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في حفرتها، ولم تكن يومئذ سنة الجنازة الصلاة عليها. قيل: ومتى ذلك يا أبا خالد؟
قال: قبل الهجرة بسنوات ثلاث أو نحوها وبعد خروج بني هاشم من الشعب بيسير) ( ).
قانون الآية معجزة مستقلة
من معاني كون الآية القرآنية معجزة عقلية في المقام وجوه :
الأول :قانون الآية القرآنية داعية إلى الهدى والإيمان .
الثاني : تكشف الآية القرآنية ضروباً من عالم الآخرة .
الثالث : قانون كل آية من القرآن بشارة وإنذار في منطوقها أو مفهومها .
الرابع : قانون كل آية تنزل من القرآن شاهد على حب الله عز وجل للناس جميعاً .
الخامس : الآية القرآنية تعضيد لدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فحينما أكثر الناس من سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن علوم الغيب وأوان يوم القيامة ويكثرون من المطالب تحدياً وعناداً مثل أجعل لنا جبل الصفا ذهباً نزل قوله تعالى [قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ]( ) أي أن الرسل من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يجيبوا إلا بما أوحى الله عز وجل لهم ، وأن النبي لا يقدر على ما لا يقدر عليه الرسل السابقون إلا أن يشاء الله ، وفي التنزيل [وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ] ( )
ومن وظائف النبوة بعث الناس إلى سنن الإيمان وتعاهد أداء الفرائض والإنشغال بالواجبات العبادية والمسارعة في الخيرات والمستحبات والتدبر في آيات التنزيل وإجتناب المعاصي وما نهى الله عز وجل عنه .
لقد أراد الله عز وجل للناس عدم الإنجرار وراء رؤساء الشرك من قريش ، الذين يسألونه مكابرة واستخفافاً ، وعندما هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة صاروا يجهزون الجيوش لغرض قتله ، ومنع توالي التنزيل ، وهم يظنون أنه يستمر في ذمهم ، إنما كانت أكثر الآيات والسور المدنية في بيان الأحكام الشرعية ، وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصداق لقوله تعالى [وَاذكروا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وأيهما أكثر نفعاً وتعضيداً الذب الشخصي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في دفاع ومنع عمه أبو طالب المشركين من الوصول إليه أم الآية القرآنية .
المختار هو الثاني ، لبقاء منافع الآية القرآنية تترى , وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن , خمس مرات في اليوم والليلة .
السادس : قانون نزول السور المكية واقية من شرور قريش ، وحصن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كيدهم ومكرهم ، وهل لهذا التوقي موضوعية في نزول الآية القرآنية ، الجواب نعم ، وهو من عمومات وأسرار أسباب نزول آيات القرآن ، خاصة وأن موضوع وسبب النزول قطعي الدخول في مضامين الآية ، فلا يصح إخراجها بمخصص .
من خصائص المعجزات أنها تبهر الناس ، وتجعلهم يتفكرون فيها ، فيدركون عجزهم مجتمعين ومتفرقين عن الإتيان بمثلها ، وفيها شاهد على عظيم قدرة الله ولزوم طاعته وإجتناب إثارة الفتن والإرهاب في الأرض خشية من الله عز وجل ، ورجاء نزول الخير والبركة بالألفة والوفاق والإيمان.
وهل يمكن القول بقانون وهو نزول الآية القرآنية استئصال للإرهاب ، الجواب نعم لما فيها من هداية القلوب ، والجذب إلى سبل الإيمان ، ومسالك الصلاح.
السابع : تنمي الآية القرآنية ملكة التقوى ، وهناك تضاد بين التقوى والإرهاب.

قانون آيات تنهى عن الإرهاب
من خصائص القرآن أنه جامع للأوامر والنواهي والتي تأتي على وجوه:
الأول : النص الصريح بالأمر أو النهي ، وقد تأتي آية جامعة لهما معاً ، وفيه مسائل :
الأولى : بيان إعجاز القرآن وتضمنه للأحكام .
الثانية : قانون إكرام المسلمين بالشهادة لهم بالجمع بين العمل بالأمر ، وإجتناب النهي ، قال تعالى [مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ( ).
الثالثة : التخفيف عن المسلمين .
الرابعة : إقامة الحجة على الناس .
الخامسة : قانون إعانة المسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
السادسة : تفقه المسلمين في الدين ، وتيسير معرفتهم لأحكام الحلال والحرام .
ومن الآيات التي تجمع بين الأمر والنهي وقوله تعالى [وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ) قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
ومنها ما يكون الأمر والنهي في موضوع واحد ، كما ورد بخصوص الإنفاق ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ]( )وقوله تعالى [وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ]( ).
الثالث : قد يأتي الأمر والنهي بصيغة الجملة الخبرية والشرطية ، كما في قوله تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَاب]( )، وبعد بيان وجوب الحج وشرائطه ، أختتمت الآية بأمرين:
أولاً : التزود والإكثار من فعل الصالحات ، ومنه الحرص على أداء حج البيت عند الإستطاعة .
ثانياً : الأمر بالتقوى والخشية من الله ، ومن التقوى إجتناب الإرهاب والإبتعاد عن سفك الدماء .
الرابع : الآيات التي تتضمن الأمر وحده ، ومنها التي تتضمن أمرا واحداً ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ] ( ) ومنها التي تجمع أوامر متعددة , مثل قوله تعالى [فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ]( ).
الخامس : الآيات التي تتضمن في نصها النهي وحده كما في قوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( )ومنه قوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ]( ) ومنه قوله تعالى [وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا]( ).
السادس : الجمع بين آيتين من القرآن بما يفيد الأمر أو النهي أو هما معاً.
السابع : ورود الآية بصيغة الجملة الخبرية ، وتدل على الأمر أو النهي ، ويأتي الأمر بصيغة (أفعل) ونحوها من مصاديق الطلب ، وقد يأتي بصيغة الخبر ، لإفادة المبالغة في الإيجاب ، وكان الفعل قد وقع والإستجابة قد حصلت ، كما في قوله تعالى [وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ] ( ) .
وصحيح أن مضمون الآية أعلاه بمعنى الخبر ، ولكنها تفيد الطلب ، ومن أسرار الخبر في الآية أعلاه عموم الأمر فيها للوالد والوالدة والحاكم وذوي القربى .
وفيه شاهد على إعجاز القرآن في تنظيم حياة الأسرة المسلمة ، ومنع الشقاق ، والحيلولة دون ترتب الضرر على الطلاق ، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (أبغض الحلال إلى الله عز وجل ، الطلاق) ( ).
وفي رواية أن من أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق( ) .
وكلاهما عن عبد الله بن عمر يرفعهما .
وقد يأتي النهي بصيغة الخبر أيضاً ومنه قوله تعالى [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] ( ) ومنه قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
لبيان الزجر عن التعدي على الناس وعلى أموالهم ، وعلى حقوقهم وعن الإرهاب ، وهل إخافة الناس الأمنين من التعدي أم لابد من فعل حسي ملموس للتعدي ، الجواب هو الأول .
الثامن : وقد تأتي صيغة الأمر ولكنها تفيد الخبر ، ومنه قوله تعالى [قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ]( ).
ويصعب إحصاء الآيات التي تنهى عن الإرهاب لكثرتها وسواء بمنطوقها أو دلالتها أو مفهومها ، وسيأتي قانون إحصاء آيات تنهى عن الإرهاب.
أجزاء في الجمع بين آيتين
بفضل ولطف من الله سبحانه صدرت أجزاء متعددة من هذا السِفر خاصة بالجمع بين آيتين أو أكثر في ذخائر علوم تفتح للعلماء لأول مرة من جهة إستنباط وإستقراء القوانين والقواعد من ذات الجمع وهي :
أولاً : الجزء الرابع والثمانون ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 101-109 من سورة آل عمران .
ثانياً : الجزء الخامس والثمانون ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 94-102 من سورة آل عمران .
ثالثاً : الجزء السادس والثمانون ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 85-93 من سورة آل عمران.
رابعاً : الجزء السابع والثمانون ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 78-84 من سورة آل عمران.
خامساً : الجزء الثامن والثمانون ويختص بصلة الآية 110 بالآيات70-77 من سورة آل عمران.
سادساً : الجزء الثالث والتسعون ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 64-69 من سورة آل عمران.
سابعاً : الجزء العشرون بعد المائة ويختص بصلة الآية (152) بالآية التي قبلها من سورة آل عمران.
ثامناً : الجزء الثاني والعشرون بعد المائة وهو القسم الأول من تفسير الآية153 ,ويختص بصلة شطر من الآية 153 بشطرمن الآية 151 من سورة آل عمران.
تاسعاً : الجزء الخامس والعشرون بعد المائة , وهو القسم الأول من تفسير الآية 154 , ويختص بصلة شطر من الآية بشطر من الآية 153 من سورة آل عمران.
عاشراً : الجزء الواحد والخمسون بعد المائة ويختص بالصلة بين شطر من الآية 161 بشطر من 164 من سورة آل عمران .
الحادي عشر : الجزء الواحد والتسعون بعد المائة , ويختص بالصلة بين الآية 180 والآية 181 من آل عمران .
من الآيات التي تنهى عن الإرهاب
الآيات التي تنهى عن الإرهاب سواء في منطوقها أو مفهومها أو دلالتها كثيرة ، منها :
الأولى : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الثالثة : قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ] ( ) وهذه السورة مكية .
لقد نزل القرآن بالإحتجاج والإجابة على عرض كفار قريش بأن يعبد النبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم آلهتهم سنة ، ويعبدون معه الله سنة.
وأشاروا إلى مسألة وهي إن وجدوا خيراً في الإسلام اتبعوه وتركوا عبادة الأوثان لترغيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعرض ، فنزلت هذه السورة بالتوحيد ، ومنع الإرتداد، وبالبراءة من الشرك .
لتكون هذه السورة مدداً وعوناً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
ولمنع بعض الصحابة أو أهل البيت من دعوتهم النبي قبول عرض قريش خاصة وأن الذين جاءوا بهذا الطلب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أشراف وسادة قريش وهم :
الأول :الحارث بن قيس السهمي .
الثاني : العاص بن وائل .
الثالث: الوليد بن المغيرة .
الرابع : الأسود بن عبد يغوث الزهري .
الخامس : الأسود بن المطلب بن أسد .
السادس : أميّة بن خلف( ).
لقد كانت هذه السورة فيصلاً بين المؤمنين والكفار ، وإخباراً سماوياً عن عدم الإلتقاء بينهم في العقيدة ، وليس فيها عنف أو إرهاب ، ولا تدعو للقتال والإغتيال ونحوه ، آيات قصيرة من سورة مكية بينت منهاجاً خالداً للإسلام فيه غنى عن الإرهاب ، وعدم الإضرار بالآخرين .
و(عن زر عن أبي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قرأ سورة {يا أيها الكافرون} فكأنما قرأ ربع القرآن .
وتباعدت عنه مردة الشياطين .
وبرئ من الشرك ويعافى من الفزع الأكبر.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مروا صبيانكم فليقرؤها عند المنام فلا يعرض لهم شيء.
وقال ابن عباس : ليس في القرآن سورة أشد لغيظ إبليس من هذه السورة لأنها توحيد وبراءة من الشرك) ( ).
وسئل الإمام جعفر الصادق عن سبب نزول هذه السورة وتكرارها فقال (إن قريشا قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله: تعبد إلهنا سنة، ونعبد إلهك سنة وتعبد إلهنا سنة ونعبد إلهك سنة، فأجابهم الله بمثل ما قالوا، فقال فيما قالوا: تعبد إلهنا سنة [قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ]( )، وفيما قالوا : ونعبد إلهك سنة [وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ]( )، وفيما قالوا: تعبد إلهنا سنة [وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ]( )، وفيما قالوا: ونعبد إلهك سنة [وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( ) ( ).
وأختلف في نسخ الآية على أقوال :
الأول : السورة كلها منسوخة بآية السيف ، وتتألف هذه السورة من ست آيات ، فاذا عدّت الآيات التي قيل أن آية السيف نسختها لابد أن تحسب هنا ست آيات .
الثاني : نسخ جزء من الآية .
الثالث : ما نسخ من السورة شئ لأنها خبر ( ).
والمختار الأخير أعلاه ، وأن آيات السورة غير منسوخة ، ولو تنزلنا وقلنا بالنسخ ، فهذا النسخ خاص بأهل مكة بعد الفتح ، فتداخل الأمصار والشعوب ، وتعدد الأنظمة والدساتير والقوانين الوضعية يجعل العمل بمضامين هذه السورة على وجوه :
الأول : إنه من إعجاز القرآن ، ومناسبة آيات القرآن لكل زمان ومكان.
الثاني : تجلي قانون من ثنايا الآية وهو إنعدام التنازل العقائدي من المؤمنين للذين كفروا.
الثالث : قانون تقديم الإحتجاج على الخصومة والشقاق حتى مع الذين كفروا.
الرابع : قانون صرف أذى الكفار بفضل وتلقين ووحي من عند الله عز وجل .
الخامس : كل آية من آيات هذه السورة الست تدعو إلى إجتناب القتال.
الرابعة : قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) .
وتتضمن الآية الإخبار السماوي بعدم الحاجة إليه ، ولا تصل النوبة إليه ، إلا عند إجتماع حال الدفاع والضرورة ، وقال بعض العلماء أن الضروريات خمس وهي :
الأول : حفظ الدين .
الثاني : حفظ النفس .
الثالث : حفظ العقل .
الرابع : حفظ النسل .
الخامس : حفظ المال .
وتجتمع هذه الأفراد في دفاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالإضافة إلى مسألة حالية أهم في الحفظ , من جهات :
الأولى : سلامة شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : تعاهد التنزيل ، فلا ينزل القرآن والوحي إلا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] ( ) أي [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ] فذبوا عنه ، وادفعوا عنه القتل، فلا ينخرم عمره ولا ينقطع التنزيل حتى يأتيه أجل الموت .
وقد تفانى طائفة من أهل البيت والصحابة من المهاجرين والأنصار في الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : حفظ النبوة بالدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد اجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حفظ آيات القرآن ، وتركها ميراثاً للمسلمين ، وتثبيت أحكام الشريعة ، وعمل المسلمين بها ، سواء في الفرائض والواجبات كالصلاة والزكاة والصيام والحج والخمس ، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لضرورة سلامة الإعتقاد ، والتنزه عن الشرك ومفاهيم الضلالة .
ولو ابتدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه القتال فانه لا يكون إلا في حال الضرورة والتي تقدر بقدرها ، والضرورات تبيح المحظورات.
فالإنسان إذا اضطر إلى تجاوز الحد أذن له في الفعل بالمقدار الذي يدفع عنه الضرر الفادح والهلاك ، قال تعالى [فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) وقال تعالى [وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ]( ).

لو تآلفت قريش
لقد كانت معركة بدر مفاجئة للصحابة إذ أنهم لم يخرجوا لقتال ، ولم يستعدوا له ، فقد كانوا في كتيبة استطلاع ، وحتى على القول بأنهم خرجوا لإعتراض قافلة أبي سفيان فان عدد الذين مع القافلة بين الثلاثين إلى أربعين (قال ابن اسحق: ثم ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمع بأبى سفيان بن حرب مقبلا من الشام في عير لقريش عظيمة فيها اموال لقريش وتجارة من تجارتهم وفيها ثلاثون رجلا من قريش أو اربعون منهم مخرمة بن نوفل وعمرو بن العاص.
وقال ابن عقبة وابن عائذ في اصحاب ابى سفيان هم سبعون رجلا وكانت عيرهم الف بعير ولم يكن لحويطب بن عبدالعزى فيها شئ فلذلك لم يخرج معهم) ( ).
والأرجح أنهم بين ثلاثين إلى أربعين رجلاً ، وقلة عدد حرس ومرافقي القافلة مع أنها تتألف من ألف بعير شاهد على الأمان الذي تتمتع به قوافل قريش ، إذ تسير في البراري والصحارى وديار القبائل العربية من غير أن يتعرضوا لها مع أن ملوك ذلك الزمان مثل كسرى وملك الروم يخشون إرسال جيوشهم في جزيرة العرب , خشية سطو شطار وذؤبان العرب عليهم ، وهذا الأمان من مصاديق قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) .
فالأصل أن يكون تآلف قريش على التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولو بادرت قبيلة قريش كلها للتصديق برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حال بعثته وتجلي المعجزات العقلية والحسية على يديه ، فهل تحاربه قبائل العرب الأخرى ، المختار لا , من جهات :
الأولى : إن معارك الإسلام الأولى وغزو المدينة كلها كانت من قريش ، وهي معركة بدر ، وأحد ، والخندق .
الثانية : كثير من القبائل العربية تتبع قريشا في اختيارها خاصة مع تجلي الحجة والبرهان على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : إقتران تصديق قريش برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكسر الأصنام التي في الكعبة .
الرابعة : بدخول قريش الإسلام تصبح هناك سعة ومندوحة للناس للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : كان بعضهم يمتنع عن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو يقاتله لأن عشيرته تكذبه .
ومن الشواهد على ما نذهب إليه هو دخول أفواج من الناس الإسلام بعد صلح الحديبية ، وكذا بعد فتح مكة ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).

قانون الجمع بين الكفر والتعدي قبيح
أيهما أكثر اعتداء وضرراً بالنسبة لرؤساء قريش وجمعهم يوم بدر :
الأول : الشرك بالله .
الثاني : الإعتداء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بوم بدر .
الجواب هو الأول لقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا]( ) لبيان أنه لما أضاف المشركون إعتداء ثانياً لأصل الإعتداء بالشرك الذي هو من أسباب الختم على قلوبهم ، وترشح إصرارهم على القتال عن الكفر والجحود نزل بهم عذاب الخيبة والهوان .
ومع أن المسلمين كانوا في هيئة دفاع في معركة بدر ، والذي هو في حال دفاع يكون أكثر تماسكاً وأرجح كفة مع التساوي بين الفريقين .
فوصفت آية البحث المسلمين يوم بدر بأنهم أذلة .
لبيان مسألة وهي أنهم حتى مع كونهم في دفاع وصدّ للمشركين فأنهم مستضعفون للنقص الظاهر في عددهم وعدتهم ، ولأن ميدان المعركة مكشوف ، ولم يدفع إيمانهم حال الذلة لأنها أمر مادي ظاهر ولكن دفعها الله عز وجل عنهم بنزول الملائكة لنصرتهم ، وتحقق النصر الحاسم لهم .
لقد خاضت قريش حروباً ومعارك متعددة في تأريخها ، فهل فقدت في معركة من صبيحة يوم واحد مثلما فقدته في بدر من جهات :
الأولى : سبعون قتيلاً وعدد منهم من رؤساء قريش مثل أبي جهل ، وعتبة بن ربيعة ، وأخيه شيبة بن ربيعة وأبي بن خلف ، وآخرين غيرهم ، وقتل الإمام علي عليه السلام منهم (21) رجلاً ، وقيل أكثر .
الثانية : وقوع سبعين أسيراً من قريش في أيدي المسلمين .
الثالثة : حصول غنائم كثيرة بأيدي المسلمين إذ إنهزم المشركون بأنفسهم منهم من اختفى في الأودية بانتظار الليل ليفر بنفسه .
الرابعة : حال الذل التي لحقت قريشاً يوم بدر , وانصراف العز عنهم .
المختار لا .
وفي طريق العودة إلى المدينة وعندما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى منطقة تسمى (الصفراء ) قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتقسيم الغنائم على أصحابه.
لقد كانت خصال الغزو والنهب سائدة في الجزيرة ، وكان الناس لا يأمنون على أنفسهم ولا عوائلهم ولا بيوتهم ، ومع أن أهل مكة أكثر أماناً ، وهم في حرز جوار البيت الحرام فقد بعث الله عز وجل النبي محمداً في مكة لتكون بعثته هداية وصلاحاً وتنقية للمجتمعات من الغدر والمباغتة بالهجوم والتفجير ونحوه.
وهو من مصاديق تسمية مكة أم القرى قال تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).

قانون إزاحة التنزيل للإرهاب
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً بالتنزيل الذي صاحب وجود الإنسان في الأرض ، فاول ما هبط إلى الأرض آدم وحواء ، قال تعالى [قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى]( ).
وتعود ألف الاثنين إلى آدم وحواء ، ليكون ابليس عدواً لآدم وحواء وذريتهما ، وهم أعداء له ، وجعل الله عز وجل النبوة والتنزيل حرزاً من شرور وعداوة إبليس ، وحجة يوم القيامة على الناس ، وباباً للأجر والثواب ليختتم التنزيل من السماء بالقرآن الذي يتصف بخصائص من الإعجاز منها :
الأول : القرآن كلام الله المنزل بواسطة الملك جبرئيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : لم ولن ينزل القرآن إلا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين الأولين والآخرين .
الثالث : إتصاف القرآن بالإعجاز ، أي أنه يعجز الناس .
الرابع : التعبد بتلاوة القرآن ، ففي قراءة كل حرف منه عشر حسنات سواء كانت هذه القراءة في الصلاة أو خارجها فاذا كانت الكلمة تتألف من خمسة حروف ففيها خمسون حسنة وتتألف سورة الفاتحة من (139) حرفاً.
ولا تنحصر منافع التلاوة بذات الحسنات أعلاه بل تترشح البركة والفيض عن التلاوة ، وبها جلب للمصلحة ومحو للأذى والضرر فمثلاً ورد بخصوص البسملة ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال : من أراد أن يُنجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}( )، فإنّها تسعة عشر حرفاً ليجعل الله له بكل حرف منها جنة من كلّ واحد( ).
ومن معاني التعبد بتلاوته أي أن تلاوة القرآن عبادة وطاعة وقربة إلى الله عز وجل ، ومنها أن تلاوة القرآن شرط في صحة الصلاة ، ولا تجزي عنها الأدعية والأذكار .
وقد ورد لفظ (ما تيسر) مرتين في القرآن وفي آية واحدة ، وكلاهما بخصوص تلاوة القرآن ، قال تعالى [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ]( )، وقال تعالى [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا]( ).
وهل تلاوة القرآن من القرض الذي تذكره الآية أعلاه الجواب : القدر المتيقن من القرض في الآية أعلاه هو سائر الصدقات الواجبة والمستحبة من مال طيب وأن يصل إلى أيدي الفقراء ومن غير منّ وتدل عليه آيات عديدة منها قوله تعالى [مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ]( ).
الخامس : القرآن منقول بالتواتر .
لقد شاء الله عز وجل أن يبقى التنزيل في الأرض إلى يوم القيامة رحمة بالناس لأنه خير صاحب للفرد والجماعة ، وينزه الناس عن أسباب الضلالة ، ويمنع من التعدي.
وتفضل الله عز وجل وحفظ القرآن من النقص والزيادة أو التحريف ، وفيه حفظ وتعاهد للتقوى واستقرارها في النفوس بما يجعلها تنفر من الظلم والإرهاب، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
قانون تواتر نقل الآيات
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ القرآن في كل أحواله، وهو في حال القيام أو القعود أو على الراحلة وسواء كان متوضئاً أم على غير وضوء ، ومرة يجهر بقراءته ، وأخرى يخفت بها ، وتتصف قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعذوبة حلاوة تلقي التنزيل من الملك من غير واسطة.
و(عن البراء بن عازب قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر ، فصلى العشاء ، فقرأ في إحدى الركعتين بـ {والتين والزيتون}( ) ، فما سمعت أحداً أحسن صوتاً أو قراءة منه)( ).
والمتواتر هو نقل جماعة للنص أو المعنى عن جماعة بما يقطع بصدق الصدور أو الخبر أو وقوع الحدث .
وعدم التواطئ على الكذب ، أو الشك في الصدور .
والتواتر على أقسام :
الأول : التواتر اللفظي .
الثاني : تواتر المعنى والمفهوم ، ومنه مثلاً أدعية النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشية ويوم بدر ، فقد تختلف باللفظ ولكن القدر المتيقن أنه صلى الله عليه وآله وسلم اجتهد بالدعاء حينئذ حتى نزل قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( )، وقد تقدم في الجزء السابق ان النسبة بين الإستغاثة والدعاء هي العموم والخصوص المطلق( ).
ومنه أحاديث الشفاعة والحوض ونحوها ، هذا في السنة النبوية ، أما في القرآن فهو متواتر باللفظ .
الثالث : التواتر باللفظ والمعنى.
والمراد في المقام هو الأول ، كما يشمل شطراً من الثالث .
والتواتر لغة هو التتابع والتتوالي ، قال تعالى [ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى]( ).
كيفية وكم هذا النقل من إعجاز القرآن ، والشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا يختص التواتر بطبقة دون طبقة ، والمراد من التواتر هو نقل جماعة عن جماعة بحيث يمتنع تواطؤهم على الكذب وبما يضمن القطع واليقين بالآية والحديث ، وبما ينتفي معه التشكيك.
أما القرآن فتواتره أمر رفيع وأعلى من التواتر بمفهومه المتعارف إذ ينفرد بما يدل على إعجازه من جهات :
الأولى : التواتر اللفظي : إذ تجتهد كل طبقة من المسلمين في الحرص على ضبط حروف وكلمات القرآن ، وليس من كتاب تجتمع الأمة على تعاهد حروفه مثل القرآن ، وهذا التعاهد من مصاديق قوله تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ) .
وهل المناجاة فيه ، والرقابة العامة فيه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الجواب نعم .
الثانية : التواتر في تعيين كلمات كل آية ، وفي استقلال كل آية بكلماتها ، وفي الفصل بين الآيات خاصة وأن عدد آيات القرآن ليس قليلاً ، إذ يبلغ عددها (6236) آية .
الثالثة : ضبط آيات كل سورة على نحو مستقل ، فلا تغادر كلمة الآية وتدخل عليها كلمة من آية أخرى .
الرابعة : كتابة آيات القرآن من أيام نزولها ، فحالما تنزل الآية يقوم عدد من الصحابة بكتابتها سواء على الأدم أو الورق أو جريد النخل أو العظام ، وابتدأت هذه الكتابة في مكة قبل الهجرة حتى في أيام كان المسلمون قلة وفي حال استضعاف .
الخامسة : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات وسور القرآن في الصلاة خمس مرات في اليوم بمرأى ومسمع من الصحابة وعامة من حضر المسجد النبوي.
السادسة : عدم ملائمة الالفاظ من الوجوه والنظائر للكلمة القرآنية والوجوه هو اللفظ المشترك الذي يستعمل في عة معان كلفظ الأمة ، فهي من المشترك للوجه الواحد فيكون اللفظ نطيراً وشبيهاً ومثيلاً لمعنى اللفظ في موضع آخر ، وكذا بالنسبة للآيات وقيل في تعريفه غير هذا.
السابعة : عناية المسلمين بتفسير آيات القرآن ، والتدبر في معانيها ، واستنباط القوانين منها واستقراء المسائل من أسباب النزول .
لقد انفرد القرآن بمعجزة غيرية وهي العناية العامة من ملايين المسلمين والمسلمات بتلاوته وحفظه ، وضبط كلماته وهو من الشواهد على صدق نزوله لأن البواعث النفسية العامة هذه بتوفيق ولطف من الله عز وجل .
ومع بدايات نزوله كان المسلمون يكتبونه في الرقاع والورق والأكتاف والعُسُب، إلى جانب حفظه في الصدور وسهولة هذا الحفظ من جهات :
الأولى : البيان والوضوح في آيات القرآن.
الثانية : تجلي مواضيع وأحكام القرآن .
الثالثة : معرفة المسلمين بأسباب النزول .
الرابعة : إتصاف العرب آنذاك بسرعة الحفظ خاصة مع قلة الزاد والأكل .
الخامسة : إعجاز القرآن في بيانه وفصاحة الفاظه ، وبدائع نظمه، وذخائر معانيه.
السادسة : اللطف الإلهي بتيسير حفظ القرآن.
إن الإعجاز البياني للقرآن دعوة يومية متجددة للإنصاف والرأفة ، وترك الغلظة وأسباب القهر والتخويف.
شيوع القتل والحروب قبل الإسلام
قال الشاعر :
إذا الجوزاء أردفت الثريا … ظننت بآل فاطمة الظنونا
ظننت بها وظن المرء حوب … وإن أوفى وإن سكن الحجونا
وحالت دون ذلك من هموم … هموم تخرج الداء الدفينا( ).
وقائل هذه الأبيات هو خزيمة بن نهد إذ عشق فاطمة بنت يذكر بن عنزة ، وخطبها فلم يرض أهلها ، فلما تصرّم الربيع رجعت مع أهلها إلى ديارهم وكانت العرب تنتشر إذا طلعت الجوزاء في شدة الحر فيتفرق أصحاب المواشي والإبل عن مياه الغدران فالشاعر لا يعلم أين توجه أهل فاطمة بنت يذكر.
وقيل خرج يذكر والد فاطمة هذه ومعه خزيمة فقمرا بقليب فاستقيا فسقطت الدلو ، فنزل يذكر ليخرجها ، فلما صار في البئر منعه خزيمة حبل الدلو (الرشا) وقال : زوجني فاطمة فقال : أعلى هذا الحال اقتساراً ، وتركه حتى مات في البئر ومن أجله وقعت الحرب بين بني نزار ( ).
لقد سالت دماء كثيرة في الجزيرة وغيرها أو لأسباب شخصية كما في حرب البسوس بين تغلب بن وائل وأحلافها ضد بني شيبان وأحلافها التي استمرت نحو أربعين سنة بسبب ناقة ضيف امرأة اسمها البسوس رماها كليب بن ربيعة ، وهو ملك على قومه ، فقتله الجساس بن مرة الشيباني ثأراً لخالته البسوس .
وتعددت أيام المعارك والقتال بينهم وهي أكثر من أيام اللقاء ومدتها بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين وهذا من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن معاركه كانت دفاعية محضة ، ومن أيام القتال في حرب البسوس :
الأول : يوم النهي .
الثاني : يوم زبيد .
الثالث : يوم الذنائب .
الرابع : يوم واردات .
الخامس : يوم عويرضات .
السادس : يوم أنيق .
السابع : يوم ضربة .
الثامن : يوم القصيبات .
التاسع : يوم تحلاق .
والأرجح أن موضع معركة البسوس في نجد ، وقيل في تهامة في وادي الخيطان .
وتهامة هي السهل الساحلي المحاذي للبحر الأحمر بين اقليم الحجاز واليمن ، وتهامة –بكسر التاء- من أسماء مكة لذا يقال للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تهامي لأنه من مكة ، وتِهامةُ : اسم مكّة ، والنّازل فيها : مُتْهِمٌ( ).
ومن مدن تهامة ، مكة المكرمة ، جدة ، ينبع ، جازان ، زبير ، وسميت تهامة لشدة حرها ، وركود ريحها .
أما نجد فهي لغة الأرض المرتفعة ، أما في الإصطلاح فهي المنطقة التي تقع شرقي الحجاز ، والتي ترتفع عن البحر نحو 2000 كم ، وتبدأ من ذات عرق (النخلة) .
وتعرف نجد بطيب هوائها ، ونباتها زكي الرائحة ، مثل العرار والخزامي والشيح والأقحوان ، وكثير من أهل نجد هم من سكان المدن والقرى ، ومن أهم مدنها الرياض ، القصيم ، ومنطقة حائل ، وحفر الباطن .
وتقع نجد بين أقليم الحجاز من الجهة الغربية من الجزيرة وبين صحراء الدهناء من الجهة الشرقية .
لقد كانت المعركة الواحدة بين بعض القبائل العربية تستمر لعشرين سنة أو أكثر ، كما في حرب البسوس التي جرت بين قبيلة تغلب بن وائل وحلفائها ، وبين بني شيبان من قبيلة بكر بن وائل وحلفائها .
وكان سبب المعركة رمي الملك كليب بن ربيعة التغلبي لناقة ضيف كان عند امرأة اسمها البسوس .
ليأتي الإسلام بنشر الرحمة بين الناس ، ومعاني الأخوة الإنسانية ، والأخوة الإيمانية ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
ولم يرض المشركون بأحكام العدل التي جاء بها الإسلام ، فقاموا بغزو المدينة في كل من :
الأولى : معركة بدر : في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، فصحيح أن هذه المعركة وقعت على بعد (150)كم عن المدينة ولكن المشركين كانوا يقصدون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإجهاز على الإسلام ، لبيان أن دفع شرورهم ، وسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة للمسلمين في كل زمان للتعايش السلمي والنهل من بركات الرسالة .
الثانية : معركة أحد : في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة إذ صار المشركون على بعد (5) كم من المسجد النبوي أي من وسط المدينة ، وتمر الأيام ليكون جبل أحد معلماً من معالم الإسلام ، تتجلى فيه مصاديق الدفاع عن بيضة الإسلام ، وهو شاهد على تعدي وظلم الكفار وأنهم هم الغزاة يومئذ.
لذا ورد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نظر إلى أحد فقال هذا جبل يحبنا ونحبه)( ).
الثالثة : معركة الخندق : إذ توجهت جيوش الكفار المؤلفة من عشرة آلاف رجل نحو المدينة في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة ، ليحاصروها بغية اقتحامها ، فرد الله كيدهم بمعجزة ولطف ، ليشكر المسلمون الله عز وجل لحفظ النبي وأهل بيته والإسلام ، ومن مصاديق الشكر في المقام إقامة الفرائض ونشر معاني الإحسان لعامة الناس ، وإجتناب الإرهاب .

قانون قول ( الحمد لله ) أمان للقائل والسامع
لقد أمر الله عز وجل المسلمين والمسلمات بالشكر له سبحانه ، ثم تفضل وأوجب على كل مكلف منهم قراءة قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) وهي الآية الثانية من سورة الفاتحة سبع عشرة مرة في اليوم وليلته ليتحقق الشكر لله من كل فرد منهم إنطباقاً وطوعاً .
(عن ابي سعيد قال امرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان نقرأ بفاتحة الكتاب وبما تيسر) ( ).
(عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا صلوة لمن لم يقرأ بام القرآن) ( ).
وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة بصحة الصلاة بقراءة الفاتحة أو غيرها من السور، وأن الواجب مطلق القراءة ، وأقله ثلاث آيات قصار أو آية طويلة ، واستدل بقوله تعالى [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ] ( ) واستدل عليه بما ورد في حديث المسيء صلاته وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم له (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن)( ).
ونشكل على تسمية المسيئ صلاته فالأولى أن يقال الناقص صلاته ، أو الذي بيَن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم كيفية الصلاة وهذا الحديث هو (دخل المسجد فدخل رجل وصلّى ثم جاء فسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ارجع فصلِّ ، فإنك لم تصلِّ حتى فعل ذلك ثلاث رات.
قال الرجل : والذي بعثك بالحق نبياً ما أحسن غير هذا، فعلِّمني. قال : إذا قمت إلى الصلاة فكبّر ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن ثم اركع)( ).
ولكنه يحمل على الرخصة الخاصة ، ونفي الحرج في الدين ، وأحكام الضرورة .
والسنة النبوية بيان ومرآة للقرآن ، وقد جاءت السنة النبوية القولية والعقلية بقراءة سورة الفاتحة في كل سورة ليبدأ كل مسلم ومسلمة نهارهما بقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) بصيغة القرآنية والخشوع إلى الله عز وجل ، وبه يختتمان يومهما ، ليكون من مصاديق قوله تعالى في خاتمة آية البحث [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج هي خداج ، غير تمام) ( ).
ومن أسرار تسمية سورة الفاتحة (المثاني ) أنها تثنى في كل صلاة ، وأنها مقسومة بين الله وبين العبد قسمين .
وملازمة النطق بالحمد لله لكل مسلم صارف عن القتال والتخطيط للغزو والهجوم ، وهو مانع من الإرهاب ومن سفك الدماء .
لقد أراد الله عز وجل عمارة الأرض بالشكر له سبحانه ، وهو من معاني قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) بأن شكر المؤمنين لله عز وجل وثناءهم عليه سبب لإزاحة الأخلاق المذمومة والعادات القبيحة ، وفيه تنزيه للأرض من الفساد وسفك الدماء ، لذا تجد نفوس المسلمين والناس تنفر من الإرهاب والإقتتال والقتل.
ويتلقى الناس في كل زمان وقف إطلاق للنار في ميدان معركة بالقبول والرضا والإرتياح ، إذ جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار السكينة .
ومن مصاديق وعلة وموضوع الشكر لله في آية البحث وجوه :
الأول : صرف شرور قريش .
الثاني : نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم بدر من القتل والأسر .
الثالث : الشكر لله على المدد السماوي .
الرابع : الهداية إلى الإيمان .
الخامس : الثبات على الإيمان مع حال الإستضعاف ، لقوله تعالى [وَاذكروا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ].
السادس : الثناء والوعد من الله عز وجل للمسلمين الأوائل من المهاجرين والأنصار لإختيارهم الإيمان مع ما يصاحبه من حال الإستضعاف وصحيح أن المراد من القليل في الآية هم المسلمون الأوائل الأقرب فالأقرب إلى بداية البعثة النبوية , إلا أن المراد في الخطاب وصيغة الأمر [وَاذكروا ] أجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، بلحاظ أن الجامع المشترك في المقام هو النطق بالشهادتين والإيمان .
السابع : بيان قانون وهو إنقطاع القلة والإستضعاف عن المسلمين إلى يوم القيامة .
لقد هدى الله عز وجل المسلمين والناس جميعاً إلى شكره والثناء عليه لتتوالي وتتضاعف عليهم النعم ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
لقد شاء الله عز وجل أن يجعل ركائز في الأرض جبالاً ثوابت تمنع الأرض من الإضطراب ، قال تعالى [وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ] ( ) ولمنع الزلازل العامة التي تحول دون إستدامة الحياة فيها ، ومن منافعها :
الأولى : من الجبال ما يكون عمقه وحجمه تحت الأرض أكثر مما هو فوقها مع شدة ارتفاعه .
الثانية : تقييد ضرر الزلازل .
الثالثة : صدّ الرياح العاتية والأعاصير والعواصف .
الرابعة : منع طغيان مياه البحار وإغراقها مساحات شاسعة من الأرض بالمد والجزر بمقاومة الجبال لجاذبية الشمس والقمر.
الخامسة : بيان عظيم صنع الله عز وجل والتنوع في الخلق حتى في الأرض ، قال تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ).
السادسة : تجلي منافع مستحدثة للجبال في كل زمان .
السابعة : دعوة الناس للتفكر في قدرة الله .
الثامنة : حضّ الناس على الشكر لله ، وقول الحمد لله عند رؤية بديع مخلوقاته .
التاسعة : نشر الرحمة والتراحم بين الناس .
ومن خصائص قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ]التسليم بالعبودية لله عز وجل ، ومن الآيات تلاوة كل مسلم لقول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) سبع عشرة مرة في اليوم والليلة في الصلاة الواجبة ، وكون التلاوة في الصلاة أي أنها تأتي في حال خشوع وخضوع لله عز وجل .
ليكون دعوة للمسلم للرأفة بالناس ومنع التطرف المقرون بالعنف والتخويف ,مع الشكر لله عز وجل على التوفيق إلى قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ].

قانون صرف الإستضعاف لإزاحة الإرهاب
قال تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
هذه الآية من سورة الأنفال ، التي هي مدنية والتاسعة في نظم القرآن ، ونزلت بعد معركة بدر ، وتتألف من (خمسة الآف ومئتان وأربعة وتسعون حرفاً، وألف ومئتان وإحدى وثلاثون كلمة
زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أُمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مَنْ قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له وشاهد يوم القيامة أنّه برئ من النفاق وأُعطي من الأجر بعدد كل منافق ومنافقة في دار الدنيا عشر حسنات ومُحي عنه عشر سيّئات ورُفع له عشر درجات وكان العرش وحملته يصلّون عليه أيام حياتهِ في الدنيا) ( ).
وتكرر فيها لفظ الجلالة ، ثماني وثمانين مرة في اثنتين وخمسين آية .
وقد جاءت في الجزء السابع عشر بعد المائتين قراءة في قوله تعالى وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
وكان موضوع القراءة هو آيات الدفاع سلام دائم ، وكيف أن المسلمين اجتهدوا بطاعة الله ، وجاهروا بنبذ الأوثان والعادات المذمومة .
فقام مشركو قريش بقتل عدد من الصحابة في مكة ، ومنهم سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر ، ثم عزموا على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم ايقنوا بأن الإسلام والتنزيل لم يتوقف إلا بقتله ، فأنجاه الله عز وجل بآية وعلى نحو فوري .
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية خروجه من مكة مهاجراً في ذات الليلة التي أراد المشركون فيها قتله في فراشه.
(عن إبن عباس في قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ]( ).
قال تشاورت قريش ليلة بمكة.
فقال بعضهم إذا أصبح أثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه وآله و سلم .
وقال بعضهم اقتلوه وقال بعضهم بل أخرجوه.
فاطلع الله نبيه على ذلك فبات علي على فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلك الليلة.
وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى لحق بالغار.
وبات المشركون يحرسون عليا يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما أصبحوا ثاروا إليه.
فلما رأوا عليا رد الله مكرهم فقالوا أين صاحبك هذا قال لا أدري.
فاقتصوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا لو دخل ها هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاثا) ( ).
ومن المعجزات أيضاً تفضل الله عز وجل باكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن تكون هجرته إلى المدينة حصينة ، وإلى أصحاب بايعوه على النصرة والذب عنه .
وبخصوص بيعة العقبة الثانية ورد (عن عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت : أن أسعد بن زرارة أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة فقال : يا أيها الناس هل تدرون علام تبايعون محمداً؟
إنكم تبايعونه على أن تحاربوا العرب والعجم والجن والإِنس كافة . فقالوا : نحن حرب لمن حارب وسلم لمن سالم .
فقال أسعد بن زرارة : يا رسول الله اشترط عليَّ ، فقال : تبايعوني على أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وإني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وتقيموا الصلاة ، وتؤتوا الزكاة ، والسمع والطاعة ، ولا تنازعوا الأمر أهله ، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم .
قالوا : نعم . قال قائل الأنصار : نعم هذا لك يا رسول الله فما لنا؟
قال : الجنة والنصر) ( ).
لتكون هذه البيعة مقدمة لقوله تعالى [فَآوَاكُمْ].
ووردت هذه الكلمة في القرآن بصيغة الجمع ، ولم يرد لفظ [فَآوَاكُمْ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وهو من مصاديق سلطان وعظيم قدرة الله في الأرض والسموات ، فبكلمة واحدة أخبر الله عز وجل عن حفظ النبي وأصحابه ، ترى من هم المخاطبون بالآية أعلاه ، يحتمل الجواب وجوهاً :
الأول : إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وردت صيغة الجمع لإكرامه .
الثاني : المراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرون .
الثالث : المقصود النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه من المهاجرين والأنصار .
الرابع : إرادة أجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
والمختار هو الأخير ، لتبقى نعمة الإيواء متجددة في الإسلام بذاتها ورشحاتها .
وفيه بلحاظ قانون التضاد بين القرآن والإرهاب مسائل :
الأولى : يتجدد خطاب هذه الآية للمسلمين والمسلمات في كل يوم وتقديره : يا أيها الذين آمنوا اذكروا إذ انتم مستضعفون.
الثانية : تأكيد إنتفاع المسلمين في كل زمان هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى المدينة ، ونجاته من مشركي قريش .
الثالثة : بعث المسلمين في كل زمان لشكر الله عز وجل على نعمة الإيواء.
الرابعة : تجدد نعمة الإيواء للمسلمين في مدنهم وقراهم في كل زمان ليتعاهدوا الفرائض وينفروا من الإرهاب والظلم الذي كان عليه كفار قريش.
لقد أخبرت آية البحث عن حال قلة واستضعاف كان عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ، وهذه الحال من الثابت والنص ، وتواترت فيه الأخبار لبيان مسألة كلامية وهي النفع العظيم من آيات الوعد والوعيد في السور التي نزلت عندما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة والتي تسمى في الإصطلاح السور المكية ، من جهات :
الأولى : دعوة آيات الوعد المسلمين إلى التحلي بالصبر ، وتحمل الأذى.
الثانية : استحضار المسلمين في الوجود الذهني لنعيم الجنة ، لذا تفضل الله عز وجل وأسرى بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت المقدس ، وعرج به إلى السماء ، ليكون زفاف المؤمنين والمؤمنات إلى الجنة ليس ببعيد ، قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ] ( ).
الثالثة : من إعجاز القرآن ان مصاديق الوعد أعم من أن تنحصر في عالم الآخرة ، إذ أنها تشمل أيام الحياة الدنيا ، فتكون أملاً وضياءَ ينير للصحابة ذكوراً وأناثاً سبل الهداية ، ويجعلهم يتطلعون إلى زيادة عددهم ، وإلى غياب حال الإستضعاف .
ومن هذه المصاديق سورة العصر التي تتضمن البشارة للمؤمنين ، وإصابة الكفار بالنقص والغبن والهلكة ، قال تعالى [وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] ( ) وورد لفظ الإنسان أعلاه بصيغة المفرد إلا أن المراد منه الجنس .
الرابعة : ترغيب الناس بدخول الإسلام ، إذ أن لغة الوعد تخاطب الناس جميعاً ، وهي من أسباب دخول طائفة وجماعات من الناس الإسلام.
الخامسة : آيات الوعيد إنذار من الإقامة على الكفر وزجر للذين كفروا.
السادسة : من خصائص آيات الوعيد أنها رادع للذين كفروا عن إرهاب المسلمين وإخافتهم ، والإضرار بهم ، ليكون تقدير قوله تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ] ( ) واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون وكانت آيات الوعد والوعيد عضداً لكم ، وحاجباً دون الإضرار بكم ، لبيان قانون وهو التذكير من الله باعث على الشكر له سبحانه.
وهو من عمومات قوله تعالى [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى] ( )وما ودعك أي ما تركك ، وما فارقك الوحي (عن جندب قال : احتبس جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالت بعض بنات عمه : ما أرى صاحبك إلا قد قلاك فنزلت [وَالضُّحى]( )، إلى [وَ ما قَلى]( ).
وأخرج الترمذي وصححه وابن أبي حاتم واللفظ له عن جندب قال : رُمي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحجر في أصبعه فقال : هل أنت إلا أصبع دميت ، وفي سبيل الله ما لقيت ، فمكث ليلتين أو ثلاثاً لا يقوم فقالت له امرأة : ما أرى شيطانك إلا قد تركك ، فنزلت وَالضُّحى* وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى * ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى.
امتحان اجتماع القلة والاستضعاف
هناك مسألتان :
الأولى : لماذا قدمت الآية القلة على الإستضعاف .
الثانية : لماذا ذكرت الآية [فِي الأَرْضِ] ولم تكتف بالقول [قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ] ( ) .
أما المسألة الأولى فان القلة بيان لعدد المسلمين ، ومفهوم العدد أظهر من حال الإستضعاف ، وقد يظن بعضهم أن قلة المسلمين ضعف ولا أصل له , إذ كانوا في حال عز ومنعة لعمومات قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ] ( )، وهناك فرق بين الضعف والإستضعاف ، فلم يكن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال ضعف إنما كانوا في عز وايمان وحسن توكل على الله ، ولكن المشركين استضعفوهم ، والإستضعاف نوع مفاعلة بين طرفين أو أكثر ، فقد يستضعف القويُ الضعيف وقد يستضعف الضعيفُ ضعيفاً مثله ، وقد يستضعف القوي قوياً مثله.
وهل يمكن تقدير قوله تعالى [قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ]( )، أي أنكم مستضعفون لانكم قلة الجواب نعم ، وإن كان موضوع الإستضعاف أعم ، لشدة بطش الذين كفروا ووجود الأحداث والأتباع عندهم.
وفي ذم وعوقبة التابع والمتبوع من الذين كفروا يوم القيامة ، قال تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ]( ).
فبينت الآية إجتماع الإستضعاف مع القلة ، ولا تنحصر علة هذا الإستضعاف بقلة العدد ، إنما يشمل توفر أسباب القوة والسلاح ، وكثرة الأتباع والعبيد عند المشركين وأعداء الإسلام .
وتدعو الآية إلى توثيق أسماء الصحابة الأوائل في الجملة في مكة وكيف أنهم كانوا في حال ضعف ، وإذا اجتمعت القلة مع الإستضعاف والخوف من الظالمين فان الجماعة تتفرق ، ويهجرون موضوع الإستضعاف ، ويبينون بالقول والعمل عجزهم عن الإستمرار في الأذى .
ولكن آية البحث أظهرت صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بثباته وأصحابه في مقامات الإيمان حتى في حال القلة والإستضعاف إلى أن ازداد عدد المسلمين ، وزالت حال الإستضعاف.
ومن معاني [َاذْكُرُوا] في القرآن الدعوة إلى شكر الله عز وجل بالقول والعمل ، وقال تعالى [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ] ( ).
وليس من حصر لصيغ الشكر لله عز وجل على نعمة كثرة المسلمين ، وزوال الإستضعاف ، ومنها :
الأول : إكثار كل مسلم ومسلمة الشكر والحمد لله ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ]( ).
الثاني : إظهار لغة التراحم والتوادد في الصلات الإجتماعية .
الثالث : التحلي بالأخلاق الحميدة ، ويتجلى بالجمع بين آيتين ففي خطاب الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، وقال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
الرابع : الدعوة إلى الله بذات الصيغة والنهج التي كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قلة مستضعفين فصاروا كثرة وهي الحجة والبرهان والصبر.
الخامس : اللهج بالدعاء ، وإقامة الصلاة ، والفرائض العبادية ، قال تعالى [فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
السادس : الإمتناع عن العنف والظلم والتعدي ، قال تعالى في خطاب للمسلمين [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
ليكون من إعجاز نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم استدامة الصبر والإقامة على التقوى ، وأصحابه في حال تتصف بوجوه :
الأول : قلة العدد .
الثاني : الإستضعاف والذي يدل بالدلالة الإلتزامية على وجود قوى عاتية تحارب الدعوة إلى الله .
الثالث : تلقي الأذى من المشركين ، وهذا الأذى من الكلي المشكك الذي كان على مراتب متفاوتة ، ومنهم من قتل تحت التعذيب ومنهم من آل ياسر العنسي ، وهم بطن من مراد ، وكان ياسر حليفاً لبني مخزوم ، فكانوا يخرجون عماراً وأباه وأمه إلى الأبطح ساعة تكون فيها الرمضاء قد حميت ، ويقيدون ، وتوضع على صدورهم صخور كبيرة ، على الطلب بأن يسبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويثنوا على الهتهم ، فيمتنعون ويأبون ذلك.
ومن الشواهد على القلة والإستضعاف من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمر عليهم وهم بهذه الحال ، فلا يستطيع إنقاذهم من أيدي الكفار من بني مخزوم كأبي جهل ، إنما يواسيهم ويبشرهم ويدعوهم للصبر .
(وروى البلاذري عن أم هانئ أن عمار بن ياسر وأباه ياسرا وأخاه عبد الله بن ياسر وسمية بن عمار كانوا يعذبون في الله فمر بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة.
فمات ياسر في العذاب وأغلظت سمية لأبي جهل فطعنها في قلبها فماتت، ورمي عبد الله فسقط) ( ).
(عن عثمان بن عفان ، قال : لقيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالبطحاء ، فأخذ بيدي ، فانطلقت معه ، فمر بعمار ، وأبي عمار ، وأم عمار ، وهم يعذبون فقال : صبرا آل ياسر ، فإن مصيركم إلى الجنة)( ).
وممن عذبه كفار قريش :
الأول : خبّاب بن الأرت .
الثاني : بلال الحبشي (وكان سادات بلال من بني جمح يأخذونه ويبطحونه على الرمضاء في حر مكة، يلقون على بطنه الصخرة العظيمة، ثم يأخذونه ويلبسونه في ذلك الحر الشديد درع حديد، ويضعون في عنقه حبلاً، ويسلمونه إلى الصبيان يطوفون به، وهو في كل ذلك صابر محتسب، لا يبالي بما لقى في ذات الله تعالى) ( ).
الثالث : صهيب بن سنان الرومي .
الرابع : عامر بن فهيره .
الخامس : عبد الله بن مسعود .
السادس : أبو ذر الغفاري .
السابع : بعض الأنصار.
ونزل أكثر وأشد التعذيب بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته ، كما كان ويحزن مع كل أذى يلحق أحد أصحابه ، ولكنه لا ينتقم من الظالمين ، إنما يتوجه إلى الله عز وجل بالدعاء ، وتنزل آيات القرآن تعضيداً له ودفاعاً عنه.
لقد كانت صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في البيت الحرام تغيظ الكفار ، فيقومون بايذائه بالقول والشتم والإستهزاء والإيذاء الجسدي.
وعن (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو عَنْ أَشَدِّ مَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : قَالَ رَأَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِى مُعَيْطٍ جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وآله وسلم وَهُوَ يُصَلِّى ، فَوَضَعَ رِدَاءَهُ فِى عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا)( ).
واختلف في ولادة عبد الله بن عمرو ، وذكر أنه ولد سنة (27) قبل الهجرة .
وأسلم وهاجر عبد الله بن عمرو في السنة السابعة للهجرة قبل أبيه .
كما أختلف في سنة وفاته على أقوال سنة (57, 63، 65، 67، 69، 73) كما أختلف في محل وفاته في كل من : الطائف ، مصر ، مكة ، الشام ، ناحية عسقلان ، وأختلف في عمره عند وفاته هل هو 72 سنة أم 92 سنة.
وخرج في معركة صفين في جيش معاوية باكراه من والده عمرو بن العاص ، إلا أنه لم يشارك في القتال ، ثم أظهر الندم الشديد على هذه المشاركة مع أنه كان في أيام حكم بني أمية ، وأصيب بالعمى آخر عمره .
وروى أحاديث عديدة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما روى عن بعض الصحابة ، وذكر أنه اسـتأذن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكتابة السنة القولية فأذن له .
(قال : يا رسول الله أكتب كل ما أسمع منك في الرضا والغضب قال : نعم فإني لا أقول إلا حقا)( ).
ولاه معاية الكوفة مدة قصيرة ، ثم ولاه مصر سنتين ، وأمتنع عن بيعة زيد عندما تولى ، فأحرق بيته فبايع على كره .
(قال أحمد بن حنبل: مات عبد الله بن عمرو بن العاص ليالي الحرة في ولاية يزيد بن معاوية وكانت الحرة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين. وقال غيره: مات بمكة سنة سبع وستين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. وقال غيره: مات سنة ثلاث وسبعين. وقال يحيى بن عبد الله بن بكير: مات بأرضه بالسبع من فلسطين سنة خمس وستين. وقيل: إن عبد الله بن عمرو بن العاص توفي سنة خمس وخمسين بالطائف. وقيل: إنه مات بمصر سنة خمس وستين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة) ( ).
وتدل ترجمة بعض الصحابة على حقيقة وهي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغادر الدنيا حتى صار عدد أصحابه بعشرات الآلاف ، وقد دخلت في الإسلام القبائل القريبة والبعيدة من مكة ومن المدينة ، ثم صار كثير من الصحابة أمراء وحكاماً في الأمصار ، وحلوا مكان الناس الذين كان المسلمون يخافون بطشهم ، كما في قوله تعالى [تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ] ( ).
قانون إنقطاع قلة وإستضعاف المؤمنين إلى يوم القيامة
لقد ذكرت آية البحث ثلاث حالات كان عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فيها مجتمعة ومتفرقة أذى شديد ، ولا تستمر الدعوة والتبليغ معها إلا بمعجزة من عند الله ، وهي :
الحالة الأولى : قلة عدد المسلمين بالذات ، وبالقياس مع غيرهم ، ويدل قوله تعالى [أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ] ( ) في مفهومه على كثرة عدد المشركين .
وهل المقصود مجموع المشركين في مكة وعموم الجزيرة أم بخصوص مكة ، الجواب لا تعارض بين الأمرين في المقام ، فالمسلمون قلة من وجوه :
الأول : عدد المسلمين قلة بالنسبة لعوائلهم وقبائلهم .
الثاني : المسلمون قلة بالنسبة لأهل مكة .
الثالث : المسلمون قلة بالنسبة لأهل الجزيرة العربية.
وتطل هذه الآية الكريمة على المسلمين كل يوم من أيام النبوة وإلى زمانكم هذا [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ]( )ليتعارفوا بين عدد المسلمين في بداية الدعوة وبلوغهم الملايين بعد إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى في السنة الحادية عشرة للهجرة ، لبيان الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته .
وسيأتي قانون معجزات النبي بعد وفاته دعوة للسلم والشكر لله عز وجل .
وتبين هذه المقارنة أن المدار ليس على أوان نزول الآية ، إنما موضوعها متجدد ، فمن الإعجاز في قوله تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ]( )أمور :
الأول : لا يرجع المسلمون إلى القلة في العدد ليس بخصوص أهل مكة ، وأعدادهم أيام التنزيل ، إنما لا يكونون قلة في زمن العولمة بالنسبة لأهل الملل الأخرى ، فمن إعجاز الآية أنها وعد من الله عز وجل يتجدد في كل زمان ، فلن يكون المسلمون قلة بالمقارنة مع غيرهم من أهل الملل مجتمعين ومتفرقين .
الثاني : لا يكون المسلمون مستضعفين بعد نزول آية البحث ، وهو من معاني مجئ الآية بصيغة الماضي .
الثالث : من إعجاز هذه الآية مجيؤها في سورة الأنفال التي تعني تحقيق النصر للمسلمين ووصول المكاسب والغنائم إلى أيديهم.
الرابع : من كرم الله عز وجل تذكير المسلمين والناس جميعاً وهم في حال النعمة بما كانوا عليه من الضعف والفاقة ، ليكون هذا التذكير مناسبة للتقيد بقواعد التقوى وإظهار الخشية من الله ، والإمتناع عن الظلم .
وهل في الآية تحذير للمسلمين بأنه كما كنتم قلة ومستضعفين ، فسيأتي غيركم من قلة وحال استضعاف وتكون السيادة والجاه والحكم لهم.
الجواب لا ، لأن انتقال المسلمين إلى حال الكثرة والعز والأمن بمعجزة مستديمة من الله ، ولإختيار طريق الهدى ، ولأن النبي محمداً هو خاتم الأنبياء والمرسلين ، وأن قيل ورد في التنزيل [وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] ( ).
والجواب هو الإستبدال الذاتي فيما بين المسلمين ، والمسارعة في الخيرات ، والتسابق في الصالحات بينهم ، وتعاهد أحكام الشريعة ، مع بقاء حال الكثرة والعز والمنعة لهم جميعاً : المتولى المستبدَل ، والمستبدَل به.
(عن أبي هريرة قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم }( ) فقالوا يا رسول الله : من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على منكب سلمان ثم قال : هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الإِيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس) ( ).
وفي كتيبة خيبر ورد(عن أبي هريرة، قال: ” لما افتتحنا خيبر مررنا بناس يهود يخبزون ملة( ) لهم، فطردناهم عنها ثم اقتسمنا، فأصابتني كسرة إن بعضها ليحترق.
قال: وقد كان بلغني أنه من أكل الخبز سمن، فأكلتها ثم نظرت في عطفي هل سمنت) ( ).
(واسلم أبو هريرة عام خيبر) ( ).
ويدل الحديث على أن المسلمين لم يقتلوا اليهود ، كما أن اليهود كانوا مطمئنين غير خائفين يومئذ .
وأحصر أبو هريرة للشهادة على قدامة بن مظعون الذي نصبه عمر بن الخطاب والياً على البحرين ، وكانت تحت قدامة صفية بنت الخطاب أخت عمر ، كما أنه خال عبد الله وحفصة ابني عمر .
وهاجر قدامة إلى الحبشة مع أخويه عثمان بن مظعون ، وعبد الله بن مظعون ، وقيل أنه حضر معركة بدر .
وقدم الجارود سيد عبد قيس وشهد عند عمر بن الخطاب بأن قدامة شرب الخمر فسكر ، وقال ، (وإني رأيت حدا من حدود الله حقا علي أن أرفعه إليك .
فقال عمر : من يشهد معك فقال أبو هريرة .
فدعي أبو هريرة فقال : بم تشهد فقال : لم أره يشرب ولكني رأيته سكران يقيء فقال عمر : لقد تنطعت في الشهادة .
ثم كتب إلى قدامة أن يقدم عليه من البحرين .
فقدم فقال الجارود لعمر : أقم على هذا كتاب الله .
فقال عمر : أخصيم أنت أم شهيد فقال : شهيد .
فقال : قد أديت شهادتك .
قال : فصمت الجارود ثم غدا على عمر فقال : أقم على هذا حد الله .
فقال عمر : ما أراك إلا خصما وما شهد معك إلا رجل واحد.
فقال الجارود : إني أنشدك الله قال عمر : لتمسكن لسانك أو لأسوءنك فقال : يا عمر أما والله ما ذلك بالحق أن يشرب الخمر ابن عمك وتسوءني) ( ).
ولما عزم عمر على إقامة الحد على قدامة قال (قال الله عز و جل : ” ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ( ) .
قال عمر : أخطأت التأويل إنك إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم عليك ثم أقبل عمر على الناس فقال : ماذا ترون في جلد قدامة ، فقالوا : لا نرى أن تجلده ما كان مريضا .
فسكت على ذلك أياما ثم أصبح يوما وقد عزم على جلده فقال لأصحابه : ما ترون في جلد قدامة فقال القوم : ما نرى أن تجلده ما كان وجعا .
فقال عمر: لأن يلقى الله وهو تحت السياط أحب إلي من أن ألقاه وهو في عنقي . إيتوني بسوط تام .
فأمر عمر بقدامة فجلده فغاضب عمر قدامة) ( ).
ومن الإعجاز في قوله تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ]( ) بيان فضل الله عز وجل على المسلمين في الإنتقال من حال القلة والإستضعاف إلى الكثرة والغلبة مع عدم الإنتقال من حال السلم والموادعة والإحسان إلى الغير ، وإجتناب التعدي وضروب الإرهاب .
الحالة الثانية : الإستضعاف ، وهو كيفية خاصة ، كما أنه نوع مفاعلة تدل على وجود مستضعِف يؤذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ويتعرض لهم ، ويمنعهم من أداء الصلاة ، ومن تلاوة القرآن .
لقد كان النظام السائد في الجزيرة العربية هو النظام القبلي ، فخرج الذين دخلوا الإسلام بديانة التوحيد كافراد عن قبائلهم والبيوتات التي ينتمون إليها ، مما جعل قريشاً يتمادون في إيذائهم ، وهو من أسرار إجتماع القلة والإستضعاف في آية البحث .
لقد حرصت قريش على إظهار الجفاء والعداوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتقتدي بهم القبائل ، فكانت ولاية وحفظ أبي طالب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورضى عامة بني عبد المطلب وبني عبد المطلب رجالاً ونساءً بالحصار بسبب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هدماً لهذا الجفاء ، ودعوة للقبائل لعدم الإقتداء بكفار قريش .
فمن مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن عشيرته لم تتخل عنه باستثناء عمه أبي لهب ،، ولا عبرة بالقليل النادر ، وقد نزل القرآن بذم أبي لهب وزوجته ، إذ قال تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ* فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ] ( ).
ومن الإعجاز في هذه السورة أنها تدل على عدم توبة أبي لهب وأنه سيموت على الكفر .
وزوجته هي أم جميل بنت حرب ، وكانت شاعرة ، وهي التي قالت (مُذَمّمًا عَصَيْنَا … وَأَمْرَهُ أَبَيْنَا وَدِينَهُ قَلَيْنَا
ثُمّ انْصَرَفَتْ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللّهِ أَمَا تَرَاهَا رَأَتْك ؟ فَقَالَ مَا رَأَتْنِي ، لَقَدْ أَخَذَ اللّهُ بِبَصَرِهَا عَنّي .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ قُرَيْشٌ إنّمَا تُسَمّي رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مُذَمّمًا ، ثُمّ يَسُبّونَهُ فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَقُول : أَلَا تَعْجَبُونَ لِمَا يَصْرِفُ اللّهُ عَنّي مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ ، يَسُبّونَ وَيَهْجُونَ مُذَمّمًا ، وَأَنَا مُحَمّدٌ) ( ).
وقامت بعض قبائل قريش بحبس بعض أبنائها الذين دخلوا الإسلام ، وقيدوهم بالسلاسل .
ومنهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو الذي جاء في صلح الحديبية ويداه ورجلاه مقيدة بالسلاسل ، ومنهم من هاجر وجاءت قريش لتأخذه بخدعة وتقوم بسجنه مع بعض الصحابة .
كما في الصحابي عياش بن أبي ربيعة ، إذ جاء أخواه لأمه أبو جهل بن هشام ، والحارث بن هشام ، وهما ابنا عمه وأخبراه أن أمه نذرت أن لا يمس رأسها مشط ولا تستظل من شمس حتى تراه ، فرّق لها ، وكانت تحبه حباً جماً .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ في مكة ، ولم يهاجر بعد ، وكان عياش قد هاجر إلى المدينة هو وعمر بن الخطاب معاً ، وكان ثالث لهما وهو هشام بن العاصي بن وائل السهمي الذي تخلف عن موعد إجتماعهم في الصباح خارج مكة ، إذ افتتن، ومُنع من الهجرة .
وكانوا قد اتفقوا أنه إذا تخلف أحدهم فالاثنان لا ينتظرانه لإحتمال إنكشاف أمرهما ، وتعرضهما للضرر والحبس .
وكان هشام بن العاصي يكنى أبا العاص فكناه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا مطيع (قال ابن السكن كان قديم الإسلام هاجر إلى الحبشة)( ).
واستشهد في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة ، في معركة أجنادين التي وقعت قرب مدينة الرملة من أرض فلسطين .
لقد خرج عياش بن ابي ربيعة مع أبي جهل وأخيه هشام متوجهاً إلى مكة ، لتراه أمه وتبر بنذرها ثم يعود إلى المدينة ، ولم يعلم بما كانوا يكيدون له ، وأدرك أبو جهل إحتمال هرب ربيعة على ناقته وعجزهما عن اللحاق به ، فبالغا في المودة له والرفق به حتى إذا ابتعدا عن المدينة ، وحانت لهما فرصة أمسكاه ووثقاه وربطاه بالحبال .
واختارا الدخول به مكة نهاراً ، وهو مُوثق بالحبال ، لتحريض قريش على ابنائها المسلمين، إذ صارا يناديان (يَا أَهْلَ مَكّةَ ، هَكَذَا فَافْعَلُوا بِسُفَهَائِكُمْ كَمَا فَعَلْنَا بِسَفِيهِنَا هَذَا) ( ).
وأبو جهل واسمه عمرو بن هشام (572-624) إذ قتل في معركة بدر في السنة الثانية للهجرة والحارث بن هشام بن المغيرة أكبر من عياش ، إذ أن هشام بن المغيرة طلّق أمهما.
فتزوجها أخوه أبو ربيعة بن المغيرة فولدت عياشاً.
وقيل أن عياشاً ممن هاجر إلى الحبشة ثم هاجر إلى المدينة ، ولم تثبت هجرته إلى الحبشة وقد حزن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسبب الأذى والحبس الذي تعرض له عدد من الشباب المسلم في مكة ، فتوجه إلى الدعاء.
و(قنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهرا يدعو للمستضعفين بمكة ويسمي منهم الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة)( ).
لقد كانوا في حال استضعاف وحبس وأذى ، وهل قنوت ودعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حال الإستضعاف ، الجواب لا .
إنما هو عز ورجاء الفرج ، وإزالة الإستضعاف عن المسلمين ، ولبيان قانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حتى في حال القلة والإستضعاف كانوا يملكون سلاح الدعاء ، وبه يقرب الفرج ، وفيه دعوة للصبر ، وغنى عن التعدي بالمثل.
واذا كان الأذى على نحو قضية عين ، فهل يختص موضوع الإستضعاف بحال ذات الشخص كما في الأذى الشديد الذي تعرض له عياش بن أبي ربيعة أم أنه استضعاف للمسلمين كأمة ومبادئ .
الجواب هو الثاني ، فكل أذى وقهر وتعذيب يلحق بأحد المسلمين فانه أذى واستضعاف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
لذا قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) ( ).
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).
وجاء هذا الحديث بلفظ العبودية لله لبيان لزوم التعاون بين الناس لقضاء الحوائج ، والتغلب على المشاق ، ويدل في مفهومه على الإبتعاد عن الإرهاب والظلم وسفك الدماء ، ففي التعاون العام الأجر والثواب ، وهو ضد للإرهاب ومانع منه .
(عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا .
وأخرج ابن أبي شيبة من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ يوم القيامة بين يدي الرحمن بما أقسطوا في الدنيا) ( ).
ومن العدل والإنصاف الإصغاء للآخرين ، وسماع جدالهم ، والإنصات لقولهم ، وللحجة التي يذكرون , والإحتجاج عليهم ، بالبرهان ، والصبر عليهم ، وموادعتهم والتعايش الأهلي معهم ، وعدم اللجوء إلى العنف والحرب والإقتتال ، وفي قوله تعالى [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] ( ) .
وورد عن ابن عباس قال (كان قتالهم بالنعال والعصي فأمرهم أن يصلحوا بينهما) ( ).
وجاءت الآية أعلاه بحرف الفاء [فَأَصْلِحُوا] الذي يفيد التعقيب والتعجيل بالصلح وعدم ترك المؤمنين في حال اقتتال برهة من الزمن لتنمي الآية ملكة إجتناب القتال والحرب عند المسلمين .
لقد رفع الله عز وجل حال الإستضعاف عن المسلمين ، ومن الشكر له سبحانه الإمتناع عن التفجيرات العشوائية ، وعن استعمال السلاح الأبيض أو البنادق للجرح والقتل في الأسواق والمنتديات ،ومن معاني قوله [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] وجوه :
الأول : قانون إن الله يحب الذين يحكمون بالعدل .
الثاني : قانون إن الله يحب المنصفين الذين ينصفون الناس .
الثالث : قانون إن الله يحب الذين يعطون الحق من أنفسهم .
الرابع : قانون إن الله يحب الذين يحسنون لمن أحسن إليهم ، ويبرون من أبرهم .
الخامس : قانون إن الله يحفظ ويرزق المقسطين .
السادس : قانون إن الله يجازي الذين لا يعتدون بأحسن الجزاء.
السابع : قانون إن الله يحب الذين يمتنعون عن الظلم ، ولا يسعون إليه ، ولا يعملون على إخافة الناس وإثارة الرعب في المجتمعات .
وقد ورد لفظ [الْمُقْسِطِينَ] بالنصب بالياء والنون لأنه جمع مذكر سالم ، في ثلاث آيات من القرآن ، وكلها في حب الله عز وجل لهم ، وهي:
الأولى : قوله تعالى [سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] ( ).
الثانية : قوله تعالى [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ]( ).
ولم يرد لفظ (المقسطون ) في القرآن بصيغة الرفع لبيان أن التحلي بالقسط والعدل والإحسان بتوفيق من عند الله ، وشأن مقام تنزه المسلمين عن الإرهاب ، لأن إجتنابه من مصاديق القسط والعدل والإنصاف .
الحالة الثالثة : بعد أن ذكرت آية البحث صفة القلة وصفة الإستضعاف التي كان عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ذكرت صفة أخرى كانت مصاحبة لهم ، ولم تنفصل أو تنفك عنهم إلا بفضل ومدد من الله سبحانه ، إذ ورد في آية البحث [تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ] ( ).
والخطف إنتزاع الشئ بسرعة ، والمراد من التخطف كثرة الخطف للفرد والجماعة ، والحاضر والمسافر من المسلمين .
والمراد من الخطف في الآية وجوه :
الأول : الأسر .
الثاني : الحبس .
الثالث : الإجهاز على المسلمين في الكتائب والسرايا .
الرابع : الخطف والأخذ المباغت والحجز للمسلم .
الخامس : محاصرة أفراد السرية من المسلمين .
السادس : سلب ونهب أموال المسلمين .
والمراد من أَكَلَةِ رأس : أَكَلَةِ اسم فاعل أي جماعة اجتمعوا على أكله رأس شاة أو بعير ، كناية عن قلتهم ، قال الصاحب بن عباد (وإذا قَل القوْمُ وذَلُّوا قيل: هُمْ أَكَلَةُ رَأْسِ) ( ).
ففي معركة بدر [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) (نظرت قريش إلى قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال أبو جهل: ما هم إلا اكلة رأس، لو بعثنا إليهم عبيدنا لاخذوهم أخذا باليد)( ).
وأصاب أبا جهل الغرور كما إراد إثارة الهمم عند أصحابه وإزالة الإرتياب عن نفوسهم ، وهو من استدراج الله عز وجل له ، كما قال هذه الكلمة المنافقون في المدينة حين مرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا (إنما محمد في أكلة رأس، يخرج إلى قوم موتورين معدين، ومحمد لا سلاح معه ولا عدة ” فأبوا أن ينفروا) ( ).
ومن الآيات التي تخص معركة بدر قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] ( ) .
ويتعلق موضوع نزول الآية أعلاه برؤساء قريش الذين سخروا أموالهم , وما عندهم من إبل التجارة للخروج إلى معركة بدر .
لقد رزقهم الله عز وجل الأموال والإبل ببركة جوار البيت الحرام ، ودعاء إبراهيم لهم , فهم ذريته , وفي التنزيل [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ]( ) .
ومن إعجاز القرآن عدم إنحصار دعاء إبراهيم بذريته الذين يسكنون في مكة ، إنما يشمل الدعاء كل مجاوري البيت ، وسأل الله عز وجل الأمن والأمان في مكة ، كما في قوله تعالى [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ]( ).
قال تعالى في خطاب ذم للمنافقين [بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا] ( ).
قانون القلة مع الإيمان منعة
يصف المشركون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالقلة ، وجاءت آية البحث لتخبر عن هذه القلة ، وعن كون المسلمين يخشون من الذين كفروا ، وفيه نكتة ولطف من وجوه :
الأول : دعوة المسلمين لإستحضار نعمة صرف خطف الناس لهم.
الثاني : شكر الله عز وجل على هذه النعمة ، ومن مصاديق الشكر في المقام الإمتناع عن تخطف الناس وإرهابهم .
الثالث : إصابة الذين كانوا يخيفون المسلمين بالقلة والنقصان ، إلى جانب إلقاء الرعب في قلوبهم ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
ومن إعجاز آية البحث صيغة العموم في الذين يخشى المسلمون أذاهم بلفظ الناس ، فلم تقل الآية ( تخافون أن يتخطفكم الذين كفروا ) لبيان كثرة أعداء المسلمين يومئذ ، وعدم إنحصارهم بكفار قريش .
وهل طريق الهجرة من مصاديق خشية المسلمين من أن يتخطفهم الناس، الجواب نعم ، وكان المسلمون الذين في مكة والذين في المدينة يخشون على الفرد والجماعة الذين يخرجون مهاجرين ما داموا في الطريق ، ولا يطمئن الذين في المدينة من المهاجرين والأنصار إلا بعد أن يصل إليهم المهاجر.
ويبقى المسلمون الذين في مكة ، وذوو المهاجر يتابعون الأخبار ، ويسألون الوافد من المدينة أو كان في الطريق عنه إلى أن يصلهم خبر وصوله المدينة برسالة أو إخبار منه أو من الصحابة أو من غيرهم .
ومن إعجاز الآية أنها لم تقل (ويتخطفكم الناس) بوقوع التخطف , إنما ذكرت فقط خشية وخوف المسلمين من حال الخطف لبيان كيفية نفسانية عند المسلمين تستلزم الحيطة والحذر ، وهو من إعجاز القرآن ، وبيان فضل الله عز وجل , وأن المسلمين مع أنهم كانوا قلة مستضعفين فلم يستطع الكفار خطفهم , وحجزهم وحبسهم .
ومن الآيات عدم وقوع أسرى من المسلمين بيد الكفار سواء في معركة بدر أو معركة أحد أو معركة الخندق أو معركة حنين ، وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن منافع ذكر النعم إدراك حق الله عز وجل والإخلاص في طاعته ، والرأفة العامة بالناس .
(عن زيد بن أسلم: أن موسى، عليه السلام، قال: يا رب، كيف أشكرك؟
قال له ربه: تذكرُني ولا تنساني، فإذا ذكرتني فقد شكرتني، وإذا نسيتني فقد كفرتني.) ( ).
ولم يرفع زيد بن أسلم الحديث ، وهو تابعي ووالده أسلم مولى عمر بن الخطاب .
روى زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر ، وجابر بن عبد الله ، وأنس بن مالك ، والإمام علي بن الحسين عليه السلام وغيرهم .
وهل تنحصر النعمة بالكثرة والمنعة والأمن أم أنها تشمل حتى حال القلة والإستضعاف والخشية من الكفار ، الجواب هو الثاني ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : واذكروا اذ أنتم قليلاً فاشكروا الله على هذه القلة.
الثاني : واذكروا إذ أنتم مستضعفون فاشكروا الله على هذا الإستضعاف.
الثالث : واذكروا إذ أنتم تخافون أن يتخطفكم الناس فاشكروا الله على هذا الخوف .
ويتجلى الشكر في الوجوه أعلاه بأنه كل حال منها هو في سبيل الله ، فقد هجر المسلمون الأوائل قبائلهم ، وتركوا عبادة الأوثان ، وتوجهوا لطاعة الملك الديان والتصديق بالنبي.
ولتكون صيرورة المسلمين في حال كثرة مناسبة لشكر متجدد على نعمة الكثرة وزوال القلة من غير أن ينخرم الشكر الأول على حال القلة مع الإيمان.
لقد كانت سلامة المهاجرين والأنصار في ميدان المعركة معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فبعد أن أسر المسلمون سبعين من المشركين في معركة بدر ، تناجى مشركو قريش بلزوم أسر عدد من الصحابة في معركة أحد ، والمجئ بهم موثقين بالحبال إلى مكة ، خاصة المهاجرين ليراهم الرجال والنساء في مكة ، وعندما ابتدأت معركة أحد كان النصر حليف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ولكن ترك أغلب الرماة مواضعهم ، جعل خيالة المشركين برئاسة خالد بن الوليد يهجمون من الخلف على جيش المسلمين ، فانكسروا ، وفرّ أكثرهم ، ومنهم من وصل إلى المدينة ، ولكن المشركين عجزوا عن أسر جماعة منهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، ولان الله عز وجل ملأ قلوب المشركين بالخوف والفزع.
بحث نحوي
المرفوعات من الأسماء في اللغة على أقسام :
الأول : الفاعل .
الثاني : المبتدأ .
الثالث : الخبر ، وهو الركن الثاني من الجملة الاسمية .
الرابع : نائب الفاعل .
الخامس : اسم كان واخواتها .
السادس : خبر إن وأخواتها .
السابع : التابع للمرفوع مثل النعت والبدل كما في لفظ الناس في النداء العام [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] ( )، يا : حرف نداء ، (أي ) منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب ، ها ، حرف تنبيه .
الناس : بدل من أي تبعه في الرفع لفظاً .
والتوكيد ، وعطف البيان على المرفوع كما في طعام في قوله تعالى [فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ] ( ) فطعام عطف بيان للكفارة وهو مرفوع .
وأختلف في الأصل في المرفوعات على قولين :
الأول : الأصل هو الفاعل ، وهو المشهور والمختار ، إذ أن الجملة الفعلية هي الأصل ، وأن عامل الفاعل لفظي وليس معنوي كما في الخبر أحياناً ، واللفظي مقدم على المعنوي .
الثاني : الأصل في المرفوعات هو المبتدأ ، واستدل عليه بأن المبتدأ مقدم، وأن المبتدأ محكوم عليه بالحكم المطلق .
وفي قوله تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، جاءت الجملة الفعلية وهي خبر ثالث إذ أن إعرابها كالآتي :
أنتم : ضمير منفصل مبتدأ .
قليل : خبر أول مرفوع بالضمة .
مستضعفون : خبر ثان مرفوع ، وعلامة رفعه الواو لأنه جمع مذكر سالم.
تخافون : فعل مضارع مرفوع بثبوت النون ، والواو فاعل ، والجملة خبر ثالث .
ومعنى الآية أعم من الصناعة النحوية ، إذ أنها تتضمن معنى عطف البيان ، فهذه الصفات الثلاثة معطوفة على بعضها ، لبيان أنها كانت مجتمعة عند المسلمين ، وفي هذا الإجتماع شدة أذى، فتوالي فضل الله عليهم ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
وهل في هذا الإستضعاف طمع من قبل الذين كفروا بالإجهاز على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، الجواب لا , لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء بدين الحق .
قانون دعوة القرآن للسلم
من فضل الله عز وجل أنه يحب الناس ، ويؤمن لهم رزقهم ورزق ابنائهم وأحفادهم ، مع فضل ونافلة للفرد والجماعة والأمة في اليوم والليلة والأسبوع والشهر والسنة ، قال تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ] ( ).
ومن حب الله عز وجل للناس مجئ رحمته على نحو دفعي وتدريجي في آن واحد ، وابتدأ هذا الحب في شخص آدم من جهات :
الأولى : خلق الله عز وجل بيده لآدم في الجنة ، ولو شاء الله لخلقه في الأرض لأنه سيكون خليفة فيها .
الثانية : نفخ الله عز وجل من روحه في آدم لتبعث فيه الحياة ، قال تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ) ولم يرد في خلق الخلائق ما يؤكد فوز مخلوق مثل ما رزق الله عز وجل آدم .
الثالثة : إخبار الله عز وجل الملائكة عن خلق آدم ، وعن جعله وذريته خلفاء الأرض .
الرابعة : دفاع الله عز وجل عن آدم وذريته عندما احتجت الملائكة ، كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الخامسة : تكليم الله عز وجل لآدم قبلاً من غير واسطة ملك .
السادسة : سجود الملائكة لآدم بأمر من عند الله عز وجل ، ولم يثبت أن الملائكة سجدوا لغير الله عز وجل إلا لآدم طاعة لله عز وجل ، وتكرمة لآدم والنبوة .
السابعة : خلق حواء زوج آدم في الجنة وصحبتها له في الجنة.
ولو بقيا في الجنة فهل يكون لهم أولاد ، الجواب لا ، ولظهور العورة عند الأكل من الشجرة , لذا فان الله عز وجل حينما أطلع الملائكة على خلق آدم قيد موضوعه بأنه سيكون [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
ومن معاني هذا الإخبار للملائكة أن آدم إذا هبط إلى الأرض فانه لا يرجع إلى الجنة إلى يوم الحساب ، وعالم الجزاء من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
نعم ورد الحديث أن موسى عليه السلام احتج على آدم في إخراجهم من الجنة ، (عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن موسى قال يا رب أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة؟
فأراه الله آدم فقال : أنت أبونا آدم .
فقال له آدم : نعم .
قال : أنت الذي نفخ الله فيك من روحه ، وعلمك الأسماء كلها ، وأمر الملائكة فسجدوا لك.
قال : نعم .
فقال : ما حملك على أن أخرجتنا من الجنة .
فقال له آدم : ومن أنت .
قال : موسى قال : أنت نبي بني اسرائيل الذي كلمك الله من وراء الحجاب ، لم يجعل بينك وبينه رسولاً من خلقه .
قال : نعم .
قال : فما وجدت أن ذلك كان في كتاب الله قبل أن أخلق.
قال : نعم .
قال : فلم تلومني في شيء سبق فيه من الله القضاء قبل.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عند ذلك فحج آدم موسى . فحج آدم موسى) ( ).
ومن حب الله عز وجل للناس بعث الأنبياء ، وإنزال الكتب السماوية، التي لم تأت إلا بصحائف من حب ورحمة الله عز وجل بالناس، قال تعالى [وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( )، وقال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ]( )، وتوجه الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
لبيان لزوم إتباع منهاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الرحمة والرأفة والعفو والصفح ، والصبر على الأذى في جنب الله عز وجل.
ولو استعرضت أسماء الله الحسنى لوجدت أكثرها تدل على حب ورحمة الله بالناس جميعاً مثل اسم الجلالة الذي هو اسم أعظم يوصف بجميع الصفات ، وهو أم الأسماء الحسنى ، الخالق والرحمن ، والرحيم ، ارحم الراحمين ، الملك ، القدوس ، السلام ، الوهاب ، الرزاق ، الفتاح ، الباسط ، الرافع ، المعز ، السميع ، البصير ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، الغفور ، الغفار ، الشكور ، الكريم ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، الولي ، الحميد ، المبدئ ، المعيد ، المحيي ، الحي القيوم ، الواحد ، الماجد ، الواجد ، العفوّ ، التواب ، الروؤف ، مالك الملك ، الغني المغني ، النافع ، النور ، الوارث ، الرشيد ، الصبور .
وحتى الأسماء التي تبين قوة وبطش الله فانما هي تخص الظالمين مثل القهار ، القابض ، الخافض ، المقيت ، المنتقم ، الجبار ، المتكبر ، المنتقم ، ليلجأ إلى الله المؤمنون وتنزل العقوبة بالظالمين الذين يحاربون النبوة والتنزيل.
وتبين هذه الأسماء غنى الناس عن الإرهاب ، ولزوم إجتنابه لأن الله عز وجل هو أحكم الحاكمين.
ومن إعجاز القرآن ذكره بأن السلام اسم من أسماء الله عز وجل وورد هذا الاسم مع تسعة أسماء أخرى في آية قصيرة وهي [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ] ( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يسعى إلى السلم ، ولا يطلب القتال لأنه يعلم بأن الله هو السلام ، ومنه السلام ، وهو الذي يبطش بالذين كفروا ، وجعل ألوية السلام ذات صبغة الإيمان تخفق في الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول آيات القرآن وهي تدعو إلى السلم ونبذ الرعب والصدمة ، قال تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ]( )، ومن معاني الآية أعرض عن أذاهم إياك( ).
وعن ابن عباس في قوله [وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( )، قال : ألقه بالسلام [فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] ( ) ( ).
ولا تنحصر الأسماء الحسنى بالتسعة والتسعين اسماً التي وردت في الحديث النبوي( )، إذ وردت أحاديث أخرى تفيد السعة منها ، (عن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أعلمته أحدًا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحًا”. فقيل: يا رسول الله، أفلا نتعلمها؟
فقال: “بلى، ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها) ( ).
وقيل أن الآية [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( )، منسوخة ، ونسختها قوله تعالى [قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ) .
وأكثر الأقوال بالنسخ صدرت من التابعين ، ومنهم من قال بالتفصيل فاذا كان المسلمون في حال ضعف مالوا إلى السلم ورضوا به ، ولكن الأصل هو الإطلاق في وجوب الميل إلى السلم والموادعة حتى في حال القوة والمنعة وقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعقد الصلح والموادعة مع من يطلبه منه ، ويحافظ على العهد.
ومن الإعجاز في النبوة أنه مع السلم تتجلى المعجزات ، وتزول عن بصائر وأبصار الناس الغشاوة التي جعلها رؤساء الكفر باقترائهم وتهديدهم وأموالهم وسلطانهم ، لذا فمن معاني قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( )، دعوة الناس عامة ووفد الحاج خاصة بعدم الإنصات إلى مشركي قريش في صدّهم عن الدعوة إلى الإسلام.
ولو دار الأمر بين الجمع بين آيتين وبين النسخ يقدم الأول ، خاصة مع عدم ورود نص بالنسخ ، إلا تأويل من تابعي أو تابع التابعين .
ولا يختص موضوع الآية أعلاه من سورة التوبة بقتال الكفار إنما يشمل الأمر بالغلظة عليهم .
لبيان تعدد سبل صرف أذاهم وشرورهم وقد ورد الأمر بالغلظة مع الكفار والمنافقين في آيتين من القرآن وهو قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( )،و[ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( )، لبيان أن الغلظة من سبل الجهاد ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتل أحداً من المنافقين مع أن بعض أصحابه سأله قتل رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول لما وقعت فتنة اثناء كتيبة بني المصطلق ، إذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فكيف (إذَا تَحَدّثَ النّاسُ أَنّ مُحَمّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ لَا وَلَكِنْ أَذّنَ بِالرّحِيلِ وَذَلِكَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَرْتَحِلُ فِيهَا ، فَارْتَحَلَ النّاسُ)( ).
ويدل الجمع بين آيات القتال على أن قتال المشركين في حال تعديهم وغزوهم المدينة لتقييد الآية أعلاه من سورة التوبة بقوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ) .
ومع هذا فاذا جنح ومال الذين يقاتلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , يختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم السلم والموادعة .
ومن معاني [وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] وجوه :
الأول : الغلظة ضد اللين والرأفة .
الثاني : الإحتجاج والخصومة باللسان .
الثالث : الخشونة .
الرابع : الإمتناع عن السماحة والمحاباة في المعاملة مع الكافر والمنافق .
الخامس : أن يكفهر في وجه الكافر .
هذا مع عدم الضرر أو خشيته ، لأن أحكام التقية شاملة للمقام ، وحينما خاطب الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإغلاظ على الكفار والمنافقين فان الإسلام صار في منعة وقوة إبتداء من النصر في معركة بدر ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وهل يشمل قوله تعالى [وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] العنف , الجواب لا ، فالقدر المتيقن هو الغلظة باللسان ، ولغة الإشارة والتعريض.
وتدل الآية في مفهومها على صبغة السماحة واللطف التي يتصف بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل مضامين هذه الآية استثناء من قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، الجواب لا ، إذ الخلق الحميد وحسن السمت صفة ملازمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنه الميل إلى السلم في حال الضعف والقوة إلا أن الكفار والمنافقين حرموا أنفسهم من لغة اللين والمودة ليشق عليهم ، ويتذكروا فساد عقيدة الكفر والضلالة ، وقبيح أفعالهم .
ترى ما هي النسبة بين الغضاضة والغلظة الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالغضاضة أشد ، وهذه الغلظة عرض طارئ وهي رد وتأديب وليس صفة دائمة ، قال تعالى وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.
وهل الخطاب والأمر وأغلظ عليهم ، خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يغلظ ويترك الرفق مع الذين كفروا والمنافقين أم أنه شامل للصحابة.
الجواب هو الثاني , لذا قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً]( )، أي الشدة باللسان ، والمجافاة .
فان قلت تخاطب الآية أعلاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بقتال الأدنى إلى المدينة فالأدنى ، والجواب هذه الآية مقيدة بحال تعدي الذين كفروا ، بدليل سعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحثيث لعقد العهود والصلح مع الكفار من حول المدينة ، وقد تقدم بيانه في الجزء السابق ، وهو السابع عشر بعد المائتين، ولتقييد قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للذين كفروا في حال تعديهم ، وأن يكون القتال بقصد القربة وطاعة لله عز وجل ، قال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
وتدل آيات القرآن على قانون وهو لا يقاتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون إلا الذين يقاتلونهم ويهجمون عليهم ، ويصرون على القتال ، ولا يرضون بالسلم ، لأنهم يدركون أن السلم وعاء ومناسبة لنشر مبادئ التوحيد وتبصر الناس بمعجزات النبوة والتنزيل ، ليكون قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ]( ) زاجراً عن القتال ، وباعثاً للسلم في الأرض .
لقد أخبر الله عز وجل عن قانون من الإرادة التكوينية وهو أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس جميعاً ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) والإرهاب ضد للرحمة ، ولا تصل النوبة والحاجة إليه .
قضاء الإسلام على الخطف والإستعباد حياة زيد بن حارثة نموذجاً
لقد كانت الجزيرة العربية قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم موطن الإرهاب ، وحياة الغاب ، ويسعى الأقوى للسيادة فيها ، فظهر الإغتيال والثأر والأسر والسبي ، وبيع الأحرار في أسواق النخاسة في مكة وغيرها ، كما في بيع زيد بن حارثة في سوق مكة.
وعن ابن عباس قال (خرجت سعدي بنت ثعلبة أم زيد بن حارثة وهي امرأة من بني طيء تزور قومها وزيد معها فأغارت خيل لبني القين بن جسر في الجاهلية فمروا على أبيات معن – رهط أم زيد فاحتملوا زيداً وهو يومئذ غلام يفعة فوافوا به سوق عكاظ فعرضوه للبيع فاشتراه منهم حكيم بن حزام بن خويلد لعمته خديجة بنت خويلد بأربعمائة درهم فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهبته له فقبضه. وقال أبوه حارثة بن شراحيل – حين فقده: الطويل
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل … أحي يرجى أم أتى دونه الأجل
فوالله ما أدري وإن كنت سائلاً… أغالك سهل الأرض أم غالك الجبل
فيا ليت شعري هل لك الدهر رجعة..فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجل
تذكرنيه الشمس عند طلوعها…وتعرض ذكراه إذا قارب الطفل
وإن هبت الأرواح هيجن ذكره … فيا طول ما حزني عليه ويا وجل
سأعمل نص العيس في الأرض جاهداً..ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل
حياتي أو تأتي علي منيتي … وكل امرىء فان وإن غره الأجل
سأوصي به عمراً وقيساً كليهما … وأوصى يزيد ثم من بعده جبل
يعنى جبلة بن حارثة أخا زيد، وكان أكبر من زيد ويعني يزيد أخا زيد لأمه وهو يزيد بن كعب بن شراحيل.

اختيار زيد صحبة النبي (ص)
لقد كانت مكة محل إجتماع أفراد القبائل في موسم الحج ، وقد جعل الله عز وجل أيام الحج في الأشهر الحرم ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( ) .
ويكون موسم الحج ووفود الناس إلى مكة وعودتهم إلى أهليهم بين شهر ذي القعدة ومحرم .
فيجد الرجل قاتل أبيه في أسواق مكة أو في عرفة أو منى أو داخل مكة فلا يتعرض له ، وكذا يأتي الذين غاب عنهم عزيز ، كما لو وقع بالأسر عسى أن يجدوه ، وكذا من ضلت له ناقة أو فرس .
وهو من اللطف الإلهي على الناس في قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( ) فمن بركاته العثور على المفقود ، والإمتناع عن الثأر وسفك الدماء ، ومنها دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس للإسلام في مكة .
وتدل الآية أعلاه على أن الله عز وجل جعل قواعد وأسساً في الأرض تمنع من الإرهاب ، ومن بركات البيت الحرام اختيار زيد لصحبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورضاه وغبطته بتربيته له .
فحج ناس من كلب فرأوا زيداً فعرفهم وعرفوه فقال لهم: أبلغوا عني أهلي هذه الأبيات فإني أعلم أنهم قد جزعوا علي فقال : الطويل
أحن إلى قومي وإن كنت نائياً … فإني قعيد البيت عند المشاعر
فكفوا من الوجد الذي قد شجاكم… ولا تعملوا في الأرض نص الأباعر
فإني بحمد الله في خير أسرة … كرام معد كابراً بعد كابر
فانطلق الكلبيون فأعلموا أباه فقال: ابني ورب الكعبة ووصفوا له موضعه وعند من هو.
فخرج حارثة وكعب ابنا شراحيل لفدائه وقدما مكة فسألا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل: هو في المسجد فدخلا عليه .
فقال : يا بن عبد المطلب يا بن هاشم يا بن سيد قومه أنتم أهل حرم الله وجيرانه تفكون العاني ، وتطعمون الأسير ، جئناك في ابننا عندك فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه.
قال : ومن هو ، قالوا: زيد بن حارثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فهلا غير ذلك ، قالوا: وما هو .
قال : أدعوه فأخيره، فإن اختاركم فهو لكم وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحداً ، قالا: قد زدتنا على النصف وأحسنت فدعاه فقال : هل تعرف هؤلاء .
قال: نعم.
قال: من هذا .
قال: هذا أبي.
وهذا عمي.
قال : فأنا من قد علمت ورأيت صحبتي لك، فاخترني أو اخترهما .
قال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً أنت مني مكان الأب والعم.
فقالا: ويحك يا زيد.
أتختار العبودية على الحرية ، وعلى أبيك وعمك وعلى أهل بيتك!
قال: نعم قد رأيت من هذا الرجل شيئاً.
ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً.
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك أخرجه إلى الحجر( )، فقال : يا من حضر. اشهدوا أن زيداً ابني يرثني وأرثه، فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفوسهما فانصرفا. ودعي زيد بن محمد، حتى جاء الإسلام فنزلت[ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ]( ).
فدعي يومئذ زيد بن حارثة ، ودعي الأدعياء إلى آبائهم ، فدعي المقداد بن عمرو وكان يقال له قبل ذلك المقداد بن الأسود لأن الأسود بن عبد يغوث كان قد تبناه)( ).

ذكر زيد في القرآن
لقد فاز زيد بذكره بالاسم في القرآن ، في قوله تعالى [فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً]( ).
وكان زيد من أوائل الذين اسلموا وهو ممن اسلم بعد خديجة والإمام علي عليهما السلام .
وليجاهد زيد تحت لواء الإسلام لمنع السبي ، واستئصال الإرهاب ، والإقتتال حمية ويتلو المسلمون اسمه كل يوم في الصلاة وخارجها .
ويعشقون هذا الاسم ، ويسمي بعضهم ابنه بذات الاسم ، كما أنعم الله عز وجل عليه بالشهادة بعد أن ترك خلفه ابنه الصحابي الجليل أسامة بن زيد .
ولابد من دلالات لذكر زيد بالاسم في القرآن منها :
الأولى :إكرام زيد والمسلمين الأوائل .
الثانية : ملاك الإكرام هو صدق الإيمان ، وإخلاص النية في التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : إنقاذ المستضعفين ، فبعد سبي زيد بن حارثة وهو حر ، صار ذا شأن عند الناس إلى يوم القيامة ، وفيه دعوة للمسلمين للإمتناع عن الظلم واستضعاف وإذلال الغير .
الرابعة : ذكر اسم زيد في القرآن من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
الخامسة : بيان موضوعية جواز زواج المسلم من زوجة التي كان يدعي وينسب إليه بالتبني ، لبيان قانون وهو أن قوله تعالى [ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ] ( ) ناسخ لما يترتب على التبني من أحكام .
معجزة في قصة زيد
تتجلى معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص قصة زيد بن حارثة من وجوه :
الأول : تأكيد طغيان الإرهاب في الجزيرة قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : انتشار الغزو والسبي في الجزيرة ، وأي انسان حينما يطلع على قصة زيد يحزن ويتألم ، إذ جاءت به أمه في زيارتها لأهلها من قبيلة طي وغارت عليهم خيل بني قين فأخذته سبياً وهو من قبيلة كلب .
وإذا كان زيد علم أهله به بالصدفة ، وفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان كثيراً من السبي قتلوا ، أو لم يعرف لهم أثر ، ومنهم من يعلم أهله بموضعه ، فيبذلون المال لفكاكه .
فجاء الإسلام لتحريم السلب والنهب والإغارة والإرهاب ، وشتى ضروب العنف بأحكام الحلال والحرام ، والقصاص ، قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( )، وباخبار القرآن من الثواب الدائم في الآخرة للمحسنين ، والإثم والعقاب الأليم للكفار والظالمين والمعتدين .
الثالث : فوز زيد بأبوه وحنان وعطف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : مبادرة زيد لدخول الإسلام ، واخلاصه للنبوة والتنزيل أيام حياته.
ولأنه قريب من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى صلة يومية معه فان إخلاصه وتفانيه في الدعوة شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن زيداً كان يرى المعجزات والدلائل التي تدل على قانون من الإرادة التكوينية وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله .
الخامس : نزول آية من القرآن بخصوص نسبة زيد إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانقطاع التبني لقوله تعالى [ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
وعن ابن عباس في الآية أعلاه قال : نزلت في زيد بن حارثة( ).
السادس : تزويج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنة عمته زينب بنت جحش لمولاه زيد بن حارثة .
وكان عدد من الصحابة قد توجهوا لخطبة زينب بنت جحش ، خاصة وأنهم يرجون صلة سبب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذا أرسلت زينب أختها حمنة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسأله رأيه في الأمر.
فأجابها النبي (أين هي ممن يعلمها كتاب ربها عز و جل وسنة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم قالت ومن هو يا رسول الله ، قال زيد بن حارثة.
فغضبت حمنة غضبا شديدا وقالت يا رسول الله أتزوج ابنة عمتك مولاك)( ).
ولما رجعت حمنة إلى أختها زينب وأخبرتها غضبت زينب أشد من غضب حمنة فانزل الله عز وجل [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ]( ).
لبيان أن اختيار زوجها من الوحي .
السابع : ملاك الإختيار ليس الجاه والشأن والنسب والمال ، إنما هو من جهات :
الأولى : التفقه في الدين ، ومعرفة أحكام الحلال والحرام والعمل بها .
الثانية : التدبر في آيات القرآن ، واستقراء الزوجة لشذرات من علومها.
الثالثة : معرفة السنة النبوية ومبادئ الشريعة السمحاء .
وهو من إعجاز نبوة محمد ، وتأسيس لقواعد في اختيار الزوج والزوجة.
لقد نزلت الآية أعلاه وفيها إمضاء لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبيان قانون وهو أن القرآن تعضيد للسنة النبوية مثلما السنة مرأة وتعضيد للقرآن ، ولا يلزم منه الدور ، لتعدد الآيات في المقام ، وكثرة المواضيع التي يقع فيها التعضيد والحمد لله .
الثامن : لقد رضيت زينب بنت جحش بالزواج مع أن زيداً مولى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وضرتها أم أيمن أسم أم أيمن (بركة بنت ثعلبة ) وجاءت كنيتها لولدها ايمن من زوجها الأول عبيد بن الحارث .
وايمن من المهاجرين ، واستشهد يوم حنين إذ أنه بقي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينهزم يومئذ.
و(عن الواقدي : كانت أم أيمن اسمها بركة وكانت لعبد الله بن عبد المطلب وصارت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ميراثاً وهي أم أسامة بن زيد)( ).
وكانت أم أيمن حاضنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أمه (وله حين حضنته أربع سنين) ( ).
ولدت أسامة بن زيد وهو أسود اللون ، ولا موضوعية في الإسلام للون البشرة إذ المدار على التقوى ، قال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( )، مما يدل على تحريم الإسلام للعنصرية ، وفيه غلق لباب من أبواب الإرهاب والضغط النفسي ، والفروق الإجتماعية التي لا أصل لها .
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : بعثت للأحمر والأسود .
والمراد أنه مبعوث للأمم كلها ، وهو تفسير لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( )، وعن الإمام علي عليه السلام وابن عباس : أن الله بعث نبياً أسود في الحبش ، فهو ممن لم يقصص عليه( )( ).
أي أنه من عمومات قوله تعالى [لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ]( ).
التاسع : تحمل زيد بن حارثة الأذى في سبيل الله قبل وبعد الهجرة ، وهذا الأذى شاهد على أن الكفار يرهبون الناس.

سرايا زيد بن حارثة
لقد خرج زيد أميراً في عدة سرايا وهي :
الأولى : سرية زيد بن حارثة إلى ذي القردة في الأول من شهر جمادى الآخرة من السنة الثالثة( ).
الثانية : سرية زيد إلى بني سليم في الجموم من بطن نخل إذ سار لها زيد وأصحابه وأصابوا امرأة من مزينة اسمها حليمة دلتهم على القوم ، فاصابوا إبلاً وشاة ، وأسروا جماعة منهم زوج المرأة ، ولما عادوا إلى المدينة وهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها نفسها وزوجها فقال بلال بن الحارث المزني :
لعمرك ما أخنى المسول ولا ونت … حليمة حتى راح ركبهما معاً ( ).
وقيل هذه السرية في سنة ستة للهجرة( ).
الثالثة : سرية زيد إلى الطرف ، وكان معه خمسة عشر من الصحابة (فأصاب نعما وشاء وهربت الاعراب.
وصبح زيد بالنعم المدينة وهى عشرون بعيرا ولم يلق كيدا ، وكان شعارهم أمت أمت.
وقال الواقدي فيما ذكر عنه الحاكم وخافوا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سار إليهم) ( ).
لقد خاف بنو ثعلبة أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي جاءهم فهربت الأعراب فاصاب زيد منهم عشرين بعيراً ، وغاب أربع ليال.
الرابعة : سرية زيد إلى العيص ، ومعه مائة وسبعون راكباً في شهر جمادى الأولى من السنة السادسة للهجرة ، وقد لاقوا عيراً لقريش ، وفيها أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاستجار أبو العاص بزينب وهي في المدينة فأجارته ، وسألت النبي أن يرد عليه أموال القافلة فردها كلها عليه مع كفره فذهب أبو العاص إلى مكة ورد أموال الناس كل ذي حق حقه ، وأعلن اسلامه ، (ثم رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرد عليه زينب بذلك النكاح. ويقال إن هذه العير كانت أخذت طريق العراق، ودليلها فرات بن حيان العجلي)( ).
وتدل هذه الواقعة على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ينو الإستيلاء على قافلة أبي سفيان التي كانت السبب في نشوب معركة بدر لأنه أعاد أموال القافلة كلها ، وفي هذه الإعادة توبيخ لقريش على خروجهم لمعركة بدر لأنها من الدلائل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد الإستحواذ على القافلة لبيان قانون وهو أن الآية القرآنية والسنة النبوية حجة وشاهد على التأريخ والوقائع السابقة واللاحقة ، لتستنبط منه القوانين والمسائل.
ومن الإعجاز في المقام أن رجال القافلة ودليلهم وعبيدهم لم يقاتلوا بل انقادوا مع الصحابة ، ولعلهم أدركوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيطلق سراحهم ويعيد لهم أموالهم.
الخامسة : بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زيد بن حارثة ومعه خمسمائة من الصحابة إلى حسمى وراء وادي القرى في جمادى الآخرة من السنة السادسة .
وسبب هذه السرية أن دِحية الكلبي مبعوث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الى قيصر عاد من الشام وقد أجازه قيصر وكساه وخلع عليه ، (فلما كان بحسمى لقيه ناس من جذام فقطعوا عليه الطريق فلم يتركوا معه شيئا، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زيد بن حارثة) ( ).
وغنم منهم زيد أنعاماً كثيرة ، وهي ألف بعير ، وخمسة آلاف شاة ومائة من السبي من النساء والصبيان .
واتفق قبله وصول كتاب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى رفاعة بن زيد الجذامي وكان قد اجتمع جماعة من أهل الأنعام والسبي برفاعة بن زيد فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم عدد منهم.
وجاء جماعة منهم من بني الضبيب إلى زيد بن حارثة وقالوا له : أنا قوم مسلمون ، رجاء أن يعيد لهم أموالهم فامتحنهم زيد وقال : فاقرأوا أم الكتاب ( )، لأنها تقرأ في الصلاة اليومية ، ولا بد أن المسلم يصلي الصلاة اليومية (فقرأها حسان بن ملة.
فقال زيد: نادوا في الجيش: إن الله حرم علينا ما أخذ من طريق القوم التي جاؤوا منها، وأراد أن يسلم إليهم سباياهم، فأخبره بعض أصحابه عنهم بما أوجب أن يحتاط، فتوقف في تسليم السبايا وقال: هم في حكم الله، ونهى الجيش أن يهبطوا واديهم.
وعاد أولئك الركب الجذاميون إلى رفاعة بن زيد وهو بكراع ربة لم يشعر بشيء من أمرهم، فقال له بعضهم: إنك لجالسٌ تحلب المعزى ونساء جذام أسارى قد غرهن كتابك الذي جئت به.
فسار رفاعة والقوم معه إلى المدينة وعرض كتاب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: كيف أصنع بالقتلى .
فقالوا: لنا من كان حياً ومن قتل فهو تحت أقدامنا، يعنون تركوا الطلب به. فأجابهم إلى ذلك وأرسل معهم علي بن أبي طالب إلى زيد بن حارثة فرد على القوم مالهم حتى كانوا ينتزعون ليد المرأة تحت الرجل، وأطلق الأسارى) ( ).
السادسة : سرية زيد بن حارثة إلى وادي القرى ، إذ خرج في اثنى عشر رجلاً في تجارة الى الشام ، ومعه بضائع لأصحاب رسول الله وقيل خرج لاستكشاف حركة المشركين ، والأول أصح ، فهجم عليهم سكان وادي القرى فقتلوا تسعة ، واصيب زيد بجراحات شديدة ، وظنوا أنه قد قتل ، فارثت من بين القتلى.
السابعة : سرية زيد أم قرفة : لما قدم زيد بن حارثة واثنان من أفراد سريته إلى المدينة ، وأقسم أن لا يغسل رأسه من جنابة حتى يرجع إلى بني فزاره.
فلما التأمت جراحه بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم في ذات وادي القرى وأصاب فيهم ، وأسر أم قرفة وهي فاطمة بنت زمعة بن بدر وكانت عند حذيفة بن بدر ، وهي عجوز كبيرة وكنيت بابنها قرفة ، وكانت في بيت شرف ، ويضرب بها المثل في العز ، إذ كان (يُعَلّقُ فِي بَيْتِهَا خَمْسُونَ سَيْفًا (لِخَمْسِينَ فَارِسًا) كُلّهُمْ لَهَا ذُو مَحْرَمٍ) ( ).
وكانت تسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتسعى في قتله (أخرج ابو نعيم عن عائشة ان امرأة من بني فزارة يقال لها ام قرفة جهزت ثلاثين راكبا من ولدها وولد ولدها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقتلوه فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال اللهم اثكلها بولدها) ( ).
وأكثر أولادها قتلوا مع طليحة في الردة واستبقى زيد ابنتها .
ولما قدم زيد بن حارثة من المدينة توجه إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقرع الباب ، فقام اليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجر ثوبه حتى اعتنقه وقبله (فأخبر زيد بما ظفر الله تعالى به) ( ).
الثامنة : سرية مؤته : وهي في البلقاء من بلاد الشام ، وهي في محافظة الكرك من الأردن ، وقعت هذه السرية في شهر جمادى الأولى من السنة الثامنة ، وكان سببها قيام شرحبيل بن عمرو الغساني بقتل مبعوث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحامل كتابه إلى ملك الروم وقيل إلى ملك بصري .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على السرية (زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَقَالَ إنْ أُصِيبَ زَيْدٌ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى النّاسِ فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ عَلَى النّاسِ .
فَتَجَهّزَ النّاسُ ثُمّ تَهَيّئُوا لِلْخُرُوجِ وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ) ( ).
فوثب جعفر وقال : يا رسول الله ما كنت أرغب أن تستعمل زيدا علي.
قال : امض فإنك لا تدري أي ذلك خير ( ).
ولما فصلت سرية زيد من المدينة علم شرحبيل بن عمرو بمسيرهم تجمع أكثر من مائة ألف وقدم الطلائع أمامه .
وعندما التقى الفريقان قاتل زيد براية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وحتى شاط في رماح القوم) ( )، أي هلك واستشهد من رماحهم فأخذ الراية (جعفر بن أبي طالب فقاتل بها حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعرقبها ثم قاتل القوم حتى قتل فكان جعفر أول رجل من المسلمين عرقب فرسا له في سبيل الله) ( ).
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَخَذَ اللّوَاءَ بِيَمِينِهِ فَقَطِعَتْ فَأَخَذَهُ بِشِمَالِهِ فَقُطِعَتْ فَاحْتَضَنَهُ بِعَضُدَيْهِ حَتّى قُتِلَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَأَثَابَهُ اللّهُ بِذَلِكَ جَنَاحَيْنِ فِي الْجَنّةِ يَطِيرُ بِهِمَا حَيْثُ شَاءَ( ).
ثم أخدها عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل ، وأخذها خالد بن الوليد أخذ يدافع العدو ، وهو ينسحب من الميدان.
لقد شاء الله عز وجل أن تكون حياة زيد مع النبي خيراً محضاً ، وأن تبقى ذكراه بين المسلمين ، ولبيان أن الإسلام قضى على العبودية ، التي تقتل أو تضعف ما عند الإنسان من الملكة والقدرة على الإبداع والمثابرة في العمل بما فيه النفع الخاص والعام .
وليخلف من بعده ابنه أسامة بن زيد الذي سار أميراً على سرية في السنة الثامنة للهجرة إلى موضع يسمى الحرفة وبعد استشهاد زيد بن حارثة أمره النبي محمد أن يتجهز للذهاب إلى ذات الموضع الذي قُتل فيه أبوه في شهر صفر من السنة الحادية عشرة من الهجرة ، واتفق أن مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرضه الذي انتقل فيه الى الرفيق الأعلى .
وقال (عياش بن أبي ربيعة (المخزومي): (يستعمل هذا الغلام على المهاجرين فكثرت المقالة)( ).
وأخُبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يقوله الناس ، فغضب ، (فخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه.
ثم قال : أما بعد، يا أيها الناس، فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة بن زيد ، والله، لئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله .
وايم الله، إن كان للإمارة لخليقاً وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي، وإنهما لمخيلان لكل خير، فاستوصوا به خيراً فإنه من خياركم.
ثم نزل صلى الله عليه وآله وسلم فدخل بيته، وذلك يوم السبت لعشر ليال خلون من ربيع الأول)( ).
لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسلم الأسري والمجتمعي دفعة واحدة ، فهو لم يبدأ من الأسرة ، ويمنع حال الوأد والعنف داخل الأسرة ، ثم ينتقل إلى حرمته العامة.
ووقف الإقتتال بين القبائل والثأر ، إنما جاء بدفعة واحدة بكل من :
الأول : وجوب التوحيد ، والإيمان بالله عز وجل ونبذ الشرك .
الثاني : أداء الفرائض العبادية ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] ( ).
الثالث : نشر السلم والأمن في الأرض ، وهجران الإرهاب ، وبعث النفرة في النفوس منه .
الرابع : نزول القرآن بأحكام الحلال والحرام أو عمل المسلمين بها ، فمن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجود أمة تعمل بأحكام القرآن في العبادات والمعاملات والأحكام حالما تنزل الآيات الخاصة بها .
الخامس : حرمة عبادة الأوثان .
السادس : إصلاح نظام العائلة ، ومنع العنف الأسري ، وتجلى هذا المنع بآيات القرآن وعنايتها بالمرأة ، وتقيد المسلمين بأحكام الآيات الخاصة بها بحسن سمت وخلق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع إزواجه وأهل البيت عامة .
(عن المِسْوَربن مَخْرَمَة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فاطمة بَضْعَةٌ مني، يَقْبِضُني ما يقبضها، ويَبْسُطني ما يبسطها وإن الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري) ( ).
وقد أظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخلق الحميد والرأفة بأصحابه جميعاً ، (عن أبي صالح الحنفي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله رحيم يحب الرحيم ، يضع رحمته على كل رحيم.
قالوا : يا رسول الله إنا لنرحم أنفسنا وأموالنا وأزواجنا .
قال : ليس كذلك ولكن كونوا كما قال الله { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم }( ))( ).
وحتى في العبادات والمناسك كان النبي يجتنب التشديد ، وهذا الإجتناب من مصاديق قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ] ( ) وعن (عن أبي أمامة : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : تسوكوا فإن السواك مطهرة للفم مرضاة للرب ، ما جاءني جبريل إلا أوصاني بالسواك حتى خشيت أن يفرض علي وعلى أمتي ، ولولا أني أخاف أن أشق على أمتي لفرضته لهم ، وإني لأستاك حتى أني لقد خشيت أن أحفي مقادم فيَّ) ( ).
وقد أعتنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزيد بن حارثة مولاه ، وزوجه بنت عمته لبيان التكافؤ بالإسلام في أبهى صوره ، ولإزالة الفوارق في النكاح وفي الصلات الإجتماعية .

قانون قصص القرآن طرد للإرهاب
يطل قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ] ( ) كل يوم على المسلمين والناس ، وهذه الإطلالة المباركة من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن خمس مرات في اليوم ، ليكون موعظة وهدىً للناس .
وجاءت الآية أعلاه في سورة يوسف لبيان أنها من أحسن القصص ، وقد أفرد الله عز وجل هذه السورة لقصة نبي من الأنبياء.
لقد جعل الله عز وجل الإنسان يميل بطبعه إلى القصص ، وذكر الوقائع والإنصات لها .
فلم يترك الله الناس للقصاصين وما يدب في القصص من المبالغة والتهويل ، أو ما تتضمنه من تمجيد الطغاة الظالمين ، فجاء القرآن بقصص الأنبياء ، وصبرهم وجهادهم في سبيل الله ، ليقتدي بهم المؤمنون فيمتنعوا عن الإضرار بالغير المنفرد والمتحد .
وهو من إعجاز القرآن بايجاد أخلاق حميدة مستحدثة تبقى إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار سلامة القرآن من التحريف أو الزيادة أو النقصان، فلا يطرأ التحريف على قصص الأنبياء ، لتبقى منهلاً للمواعظ والإعتبار ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ).
كما ذكر القرآن أخبار وقصص الطواغيت مثل فرعون ونمرود بما يبعث النفرة في النفوس من شرورهم ، ويجعل السلاطين والملوك يجتنبون الطغيان وشدة الظلم والتعدي .
وفيه دعوة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإستهجان الظلم مطلقاً.
وأيهما أشد ظلماً ، ظلم السلطان العاتي أم الإرهاب على نحو القضية الشخصية ، الجواب هو الأول .
وهل تحارب القصة القرآنية الإرهاب ، وما هي الشواهد عليه ، الجواب نعم ، إذ تبين تحبيب قصص القرآن الإيمان والصبر وحسن الخلق للناس ، وتبعدهم عن الشرور والعدوان والظلم ، وفيها دعوة للناس للإجتهاد بالشكر لله عز وجل ، وفي لقمان ورد قوله تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ] ( ) والحكمة هي العقل ، والتفقه في الحديث ، والقول الصائب والتحلي بالتقوى في القول والعمل ، وإعانة الناس وإرشادهم إلى سبل الهدى .
وفي المرسل عن (أبي مسلم الخولاني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن لقمان كان عبداً كثير التفكر ، حسن الظن ، كثير الصمت ، أحب الله فأحبه الله تعالى ، فمن عليه بالحكمة ، نودي بالخلافة قبل داود عليه السلام ، فقيل له : يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة تحكم بين الناس بالحق؟
قال لقمان : إن أجبرني ربي عز وجل قبلت ، فإني أعلم أنه إن فعل ذلك أعانني . وعلمني . وعصمني . وإن خيرني ربي قبلت العافية ، ولم أسأل البلاء ، فقالت الملائكة : يا لقمان لم؟!
قال : لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها ، يغشاه الظلم من كل مكان ، فيخذل أو يعان ، فإن أصاب فبالحري أن ينجو ، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة ، ومن يكون في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً شائعاً ، ومن يختار الدنيا على الآخرة فاتته الدنيا ولا يصير إلى ملك الآخرة . فعجبت الملائكة من حسن منطقه .
فنام نومة فغط بالحكمة غطاً فانتبه فتكلم بها ، ثم نودي داود عليه السلام بعده بالخلافة ، فقبلها ولم يشترط شرط لقمان ، فأهوى في الخطيئة ، فصفح عنه وتجاوز .
وكان لقمان يؤازره بعلمه وحكمته ، فقال داود عليه السلام : طوبى لك يا لقمان ، أوتيت الحكمة فصرفت عنك البلية ، وأوتي داود الخلافة فابتلى بالذنب والفتنة) ( ) .
وليس من حصر لمنافع القصة القرآنية ، إذ تتشعب منافعها من جهة الموضوع والحكم من جهات :
الأولى : أداء العبادات وضبط أداء الفرائض وبيان وجوبها .
الثانية : الإجتهاد في الدعوة إلى الله .
الثالثة : كيفية الدعوة إلى الله بالموعظة والحجة والبرهان .
الرابعة : التنزه عن الإرهاب .
الخامسة : تنمية ملكة حب الله في النفوس .
السادسة : الترغيب بالإيمان وبذل الوسع في بيان وجوبه .
السابعة : البشارة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامنة : تثبيت قلوب المؤمنين ، وجعلهم يتحملون الإرهاب الذي يأتي من الكفار .
التاسعة : توثيق القرآن لحياة الأمم والشعوب ، وجهاد الأنبياء في سبيل الله ، وإرادة الشكرلهم وللمؤمنين من الأمم السابقة .
العاشرة : الترغيب بتلاوة آيات وسور القرآن .
الحادية عشرة : بيان فضل الله عز وجل على الناس في الأجيال المتعاقبة ، وإمكان التقاء وإجتماع الطاغوت والنبي في محل وزمان واحد ، وقد يُضطهد أو يُقتل النبي ، فينصره الله في القرآن بما فيه من القصص .
وتضمنت السنة النبوية تفسيراً وبياناً لقصص القرآن بأنوار نبوية يستضاء بها ، وتبين الملازمة بين الإرهاب والكدورة العامة.
وعن (النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : خمسة تكلّموا قبل إباّن الكلام : شاهد يوسف، وولد ماشطة بنت فرعون، وعيسى، وصاحب جريح، وولد المرأة التي أحرقت في الأُخدود)( ).
وهل من معاني الإصطفاء في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ] ( ) ذكرهم في القرآن وترغيب الناس باتباع سننهم في التقوى والصلاح ، الجواب نعم .
وقد أنعم الله عز وجل على المؤمنين بالإصطفاء في سنن الهداية والرشاد ، والسعي لجني الصالحات والتنزه عن الظلم مطلقاً .
ومن خصائص الآية القرآنية أنها أمن للتالي والسامع ، كما تبعث الطمأنينة في النفوس ، قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( )، والطمأنينة واقية وحرز من الإرهاب ، والإعانة عليه ، إذ يرجو الإنسان من الله عز وجل ، ويسأل النجاح والفلاح ،والهداية الخاصة والعامة منه تعالى .
وليس من كتاب في كثرة تواتره لفظاً ورسماً مثل القرآن ، وهو من إعجازه ، وهو من فضل الله عز وجل وتعاهد وحفظ كلامه ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) ليكون من معاني حفظ الله عز وجل للقرآن نشر الأمن والسلام حيث تصل تلاوة القرآن ، وفي عموم الأرض .
وبسط القرآن وآياته الأمن في الأرض من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
قانون (فآواكم ) غنى عن الإرهاب
لم يكن عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في بدايات الهجرة من مصر أو بلدة أو قرية غير المدينة المنورة ، وأراد المشركون الرجوع لغزوها .
فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطائفة من أصحابه خلف العدو لدفع المشركين عن مصر الإسلام الوحيد ، ليكون من معاني قوله [فَآوَاكُمْ]( ) على جهات :
الأولى : فآواكم اليوم وغداً .
الثانية : فآوى الرسول وأصحابه المهاجرين .
الثالثة : فآوى الرسول وأصحابه من المهاجرين والأنصار .
فصحيح أن الأنصار هم الأوس والخزرج وهم أهل مدينة يثرب إلا أنهم كانوا بحاجة إلى الأمن والكفاية من عند الله ، ودفع شرور المشركين ، لذا حينما هجم عشرة آلاف مقاتل من قريش وحلفائهم لغزو المدينة وأحاطوا بها ، وأضطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لحفر خندق بمشورة من سلمان الفارسي ، استطاع عمرو بن ود العامري ونفر من مشركي قريش إجتياز الخندق وهم :
الأول : عمرو بن ود العامري .
الثاني : عكرمة بن أبي جهل .
الثالث : هبيرة بن أبي وهب .
الرابع : نوفل بن عبد الله .
الخامس : ضرار بن الخطاب .
السادس : حسل بن عمرو بن ود.
وألحّ عمرو بن ود على المناجزة ، فبرز له الأمام علي عليه السلام فقتله وابنه حسل بن عمرو( )، ونزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ).
ترى ما هي النسبة بين الإيواء والكفاية في معركة الخندق ، الجواب إنها نسبة العموم والخصوص المطلق ، فالإيواء أعم ، أما لو كان المقصود من الكفاية الإطلاق كما في قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ) فهذه الكفاية أعم من الإيواء .
الرابعة : فآواكم لتتلقوا آيات القرآن من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حالما ينزل بها جبرئيل ، ولتكون ميراثاً لأهل المدينة وعامة المسلمين .
الخامسة : فآواكم الله لحبه لكم .
السادسة : فآواكم لتقيموا الصلاة وتصوموا شهر رمضان وتحجوا البيت الحرام ، وتؤدوا الفرائض الأخرى .
السابعة : لقد أخلصتم الإيمان ، وخرجتم خلف العدو مع كثرة جراحاتكم فآواكم الله ، وأعادكم إلى المدينة سالمين ، كما في قوله تعالى [فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ] ( ).
ولم يرد لفظ [يَمْسَسْهُمْ] في القرآن إلا في آية البحث .
الثامنة : فآواكم في المدينة إلى يوم القيامة .
التاسعة : فآواكم فيعجز المشركون عن دحركم وهزيمتكم .
العاشرة : فآواكم وبعث الخوف والفزع في قلوب المشركين ، ليكون من معاني قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( )
الحادية عشرة : فآواكم فاكثروا من ذكر الله .
الثانية عشرة : فآواكم فقوموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعن الفواحش وسفك الدماء بغير حق .
الثالثة عشرة : فآواكم فانزل عليكم السكينة.
الرابعة عشرة : فآواكم فاشكروا الله عز وجل على نعمة الإيواء ، ومن وجوه الشكر التقوى ، والصبر على الأذى الذي يأتي من الكفار وغيرهم .
الخامسة عشرة : فآواكم لتحترزوا من المشركين ، ويشد بعضكم أزر بعض ، وتعدوا أسلحتكم مع الحيطة والحذر ، قال تعالى [وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا] ( ).
السادسة عشرة : فآواكم لتجتهدوا في طاعة الله ، وتعملوا للبث الدائم في الجنة ، قال تعالى [مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ]( ).
قانون رهبة المشركين من غزو المدينة
لقد خشي المشركون من غزو المدينة ، وهو الذي تجلى من جهات :
الأولى : تجحفل جيوش المشركين في معركة أحد عند جبل أحد الذي يبعد عن المسجد النبوي (5) كم .
الثانية : إنسحاب المشركين من معركة أحد في نفس اليوم الذي نشبت فيه وهو الخامس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة .
الثالثة : لقد كان النصر حليف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في بدايات المعركة لولا ترك رماة المسلمين مواضعهم التي رتبهم بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأوصاهم بعدم مغادرتها على أي حال ، إذ انكسر الصحابة بعدها ، وفرّ عدد منهم ، ولكن الخوف والرعب الذي يملأ صدور المشركين منعهم من المناجاة بغزو المدينة ، لأن الله عز وجل قد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بأنه آواهم ، وتدل صيغة الإطلاق في الآية الكريمة على سلامتهم في حال السلم والحرب وهو مناسبة لإجتناب المسلمين العنف والبطش .
فمن إعجاز قوله تعالى [فَآوَاكُمْ]وروده بصيغة الفعل الماضي ولغة الجمع أي أنه ليس وعداً وحده بل هو فعل منجز ووعد إلى يوم القيامة .
الرابعة : تواترت الأخبار بأن المشركين همّوا بالرجوع وغزو المدينة وهم بالروحاء عند رجوعهم من معركة أحد ، ولكن قوله تعالى [فَآوَاكُمْ] صدّ لهم.
وليس من حصر لجهات هذه الأخبار والشواهد والبيان ، إذ أنها ترد عن كل من :
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي.
الثاني : الصحابة الذين استجابوا لله والرسول وخرجوا إلى حمراء الأسد .
الثالث : عامة الصحابة بما فيهم الذين لم يخرجوا إلى حمراء الأسد .
الرابع : الركبان والمسافرون الذين كانوا في الجادة العامة ، عند رؤية جيش المشركين كما في قصة معبد الخزاعي.
(قال ابن اسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر بن معبد بن أبي معبد الخزاعي وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها ومعبد يومئذ مشرك مر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مقيم بحمراء الأسد فقال يا محمد أما والله لقد عز علينا ما أصابك في اصحابك.
ولوددنا أن الله عافاك فيهم ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وآلهه وسلم بحمراء الاسد حتى لقي أبا سفيان ابن حرب ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا الرجعة الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
وقالوا أصبنا حد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم.
فلما رأى أبو سفيان معبدا قال ما وراءك يا معبد قال محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقا.
قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما صنعوا فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط.
قال ويلك ما تقول قال والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل.
قال فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل شأفتهم.
قال فاني أنهاك عن ذلك ووالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتا من شعر قال وما قلت قال قلت :
كادت تهد من الأصوات راحلتي … إذ سالت الارض بالجرد الأبابيل
تردى بأسد كرام لا تنابلة … عند اللقاء ولا ميل معازيل
فظلت عدوا أظن الارض مائلة … لما سموا برئيس غير مخذول
فقلت ويل ابن حرب من لقائكم … اذا تغطمطت البطحاء بالجيل
إني نذير لأهل البسل ضاحية … لكل ذي أربة منهم ومعقول
من جيش أحمد لا وخش قنابله … وليس يوصف ما أنذرت بالقيل
قال فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه ومر به ركب من عبد القيس فقال أين تريدون قالوا المدينة قال ولم قالوا نريد الميرة قال فهل أنتم مبلغون غني محمدا رسالة أرسلكم بها اليه واحمل لكم ابلكم هذه غدا زبيبا بعكاظ اذا وافيتموها.
قالوا نعم قال فاذا وافيتموه فاخبروه انا قد أجمعنا السير اليه والى أصحابه لنستأصل بقيتهم.
فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بحمراء الاسد فاخبروه بالذي قال أبو سفيان فقال حسبنا الله ونعم الوكيل)( ).
فهؤلاء جميعاً صاروا ناقلين للوقائع في حلهم وترحالهم ، خاصة وأن كثير السفر يختلط مع أناس كثيرين ، ويتلقى الناس إخبارهم بالتصديق لأنهم شهداء على الحدث ، وغالباً ما يكون نقلهم من منازل الحياد .
الخامس : الذين دخلوا الإسلام من جيش المشركين ، إذ كان عددهم ثلاثة آلاف ، وقتل منهم في المعركة (22) وكانوا عندما همّوا بالرجوع إلى المدينة في منطقة الروحاء والتي تبعد عن المدينة (80) كم وهي المحطة الثانية من محطات القوافل الخارجة من المدينة .
أي أن أفراد الجيش من القبائل لم يتفرقوا بعد في الطرق القريبة إلى قراهم ، وهل كانت مؤنهم وطعامهم على رؤساء قريش ، المختار نعم ، ولو على نحو الموجبة الجزئية .
وهو من أموال التجارة التي جعلها الله هبة عظمى لقريش من بين قبائل العرب ، ولكن بشرط التقيد بسنن التوحيد ، كما في قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ] ( ).
وهل من معاني قوله تعالى [فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ] التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم .
وأفراد الجيش هذا دخلوا الإسلام ، وأغلب من تخلف منهم دخل الإسلام في فتح مكة .
ليقوم كل واحد منهم برواية خبر همّتهم بالكر على المدينة ، ودلالة سبب العزوف هذا على ما أصابهم من الخوف والفزع .
السادس : أبناء وعوائل الأنصار إذ كانوا يخبرون أبناءهم عن وقائع المعارك ، وكيف أن حفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بحرز وواقية من عند الله.
لذا توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء للأنصار وأبنائهم وأحفادهم (عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :لو سلك الناس وادياً وشعباً وسلكتم وادياً وشعباً لسلكت واديكم وشعبكم.
أنتم شعار والناس دثار ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ثم رفع يديه حتى اني لأرى بياض ابطيه فقال : اللهمَّ اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار) ( ).
السابع : عموم أهل مكة والقرى الذين خرجت منهم الجيوش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد كان بعض أهل مكة ممن فقدوا ذويهم في معركة بدر يسمعون ولسنة كاملة بعدها عزم رجالات قريش على أخذ الثأر بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمجئ بأصحابه أسرى موثقين بالحبال ، ولكنهم رجعوا بانكسار ، كما في قوله تعالى فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ.
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن عودة أفراد جيش المشركين إلى مكة وما حولها دعوة للإسلام ، ونبذ للإرهاب ، ونهي عن مواصلة القتال ، لأنه عديم الفائدة ، وليس فيه إلا الضرر على المشركين وعوائلهم .
وقد كانت هذه الحقائق تتكشف لهم على نحو تدريجي ، فيؤمن أفراد وطائفة من الناس .
الثامن : أبناء وذوو المشركين الذين حضروا معركة أحد ، وتلقيهم لأخبار المعركة بما يتجلى معه معجزات وبراهين تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل يمكن القول بأن الثلاثة آلاف من جيش قريش في معركة أحد ليسوا جميعاً من المشركين .
الجواب نعم ، فكان منهم المسلم الذي يخفي إسلامه ، والذي يقر بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نبي رسول ، ولكنه يخشى من المشركين.
وفي قوله تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ] ( ) ورد عن قتادة (حُدِثت أن هذه الآية أنزلت في أناس تكلموا بالإسلام من أهل مكة ، فخرجوا مع عدو الله أبي جهل ، فقتلوا يوم بدر فاعتذروا بغير عذر ، فأبى الله أن يقبل منهم ، وقوله { إلا المستضعفين } قال : أناس من أهل مكة عذرهم الله فاستثناهم.
قال : وكان ابن عباس يقول : كنت أنا وأمي من الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً) ( ).
ومن الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحربها على الإرهاب أن كل معركة من معارك الإسلام الأولى تصرخ بالناس أن اجتنبوا القتال وأهجروا الإرهاب وسفك الدماء وأن اتبعوا الذي بعثه الله [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
ومن معاني قوله [فَآوَاكُمْ] أي ترجعون بعد كل معركة إلى المدينة إلى إقامة الصلاة وتلاوة القرآن وتعظيم شعائر الله .
قانون ذات الإيواء سلام
من إعجاز القرآن تقدم الإيواء على النصر في آية البحث بقوله تعالى [فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ] ( ) لبيان أن الإيواء إعراض عن القتال ، وإجتناب للضرر بالذات والإضرار بالغير ، والأصل أن هذا الإيواء خال من القتال ، فلا يقع في محل الإيواء من عند الله قتال لأن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى، وبلحاظ موضوع قانون هذا الجزء يكون معنى الإيواء على وجوه:
الأول : نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ،إذ إتفق رؤساء قريش على قتله واختاروا عشرة من شبابهم لقتله بسيوفهم مرة واحدة ، فيتوزع دمه على القبائل.
فيعجز بنو هاشم عن الأخذ بثأره لتعدد البيوت التي اشتركت في قتله فيرضون بالدية ، فنزل جبرئيل بالأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة.
وهل كان هذا الأمر من جبرئيل لأنه أطلع كملك على ما عزمت عليه قريش لعمومات قوله تعالى [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ] ( ) أم أنه من عند الله عز وجل ، الجواب أنه أمر من عند الله عز وجل ، كما كان جبرئيل واسطة في إبلاغ آيات القرآن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ] ( ).
هل يمكن الإستدلال بهذه الآيات على وجوب قراءة القرآن في الصلاة بالعربية لأنها الوعاء اللساني للإنذار الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، وإجماع علماء الإسلام على هذا الوجوب ، وما نسب إلى أبي حنيفة من جواز قراءة القرآن بالفارسية لغير القادر على العربية قيل رجع عنه ، وتمنع الحنيفية قراءة القرآن بغير العربية .
الثاني : من الإعجاز في صيغة الجمع [فَآوَاكُمْ] إرادة حماية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالهجرة والأمان بهذه الهجرة ، ومنها الهجرة إلى الحبشة ، وهل يشمل الإيواء هذا الطريق إلى البلد التي هاجر إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سواء المدينة أو الحبشة أم أنه يختص بالوصول إلى البلد .
الجواب هو الأول لأن الله عز وجل يحفظ الإنسان في مقدمات ما وعد به ، ويهيئ له هذه المقدمات ، وهو من اللطف الإلهي ،وفي بيعة العقبة تعهد الأنصار بالذب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند وصوله إلى المدينة.
وقال جابر بن عبد الله الأنصاري بخصوص بيعة العقبة الثانية (ثم بعثنا الله تعالى فأتمرنا واجتمعنا ( فقلنا: حتى كُنى نترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف)( ).
فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا فيه من رجل ورجلين حتى توافينا عنده، فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك ؟
قال: (تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العشر واليسر، وعلى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله، لا تأخذكم لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب، تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة)( ).
أما قوله تعالى [فآواكم] فهو أعم يشمل سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في طريق الهجرة لتعلق تنجز الإيلاء بهذه المقدمة.
الثالث : حفظ البلدة التي يأوى إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الزلازل والآفات السماوية والأرضية ، وتلك نعمة على أهل المدينة بأيواء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه اليها ، ومانع من نفرة النفوس من كثرة المهاجرين ، خاصة وأنهم كانوا يزدادون كل يوم أو يومين .
وقد تجلت نعمة الأمن لأهل الكوفة وما حولها من قبل عندما مرّ بهم النبي إبراهيم عليه السلام لما للنبوة من بركات (عن أبي الجارود رفعه فيما يروي إلى علي عليه السلام قال: إن إبراهيم عليه السلام مر ببانقيا فكان يزلزل بها فبات بها فأصبح القوم ولم يزلزل بهم، فقالوا: ما هذا وليس حدث ؟
قالوا: ههنا شيخ ومعه غلام له، قال: فأتوه فقالوا له: يا هذا إنه كان يزلزل بنا كل ليلة ولم يزلزل بنا هذه الليلة فبت عندنا، فبات فلم يزلزل بهم، فقالوا: أقم عندنا ونحن نجري عليك ما أحببت، قال: لا ولكن تبيعوني هذا الظهر ولا يزلزل بكم، قالوا: فهو لك، قال: لا آخذه إلا بالشرى، قالوا: فخذه بما شئت، فاشتراه بسبع نعاج وأربعة أحمرة، فلذلك
سمي بانقيا لان النعاج بالنبطية نقيا .
فقال له غلامه: يا خليل الرحمن ما تصنع بهذا الظهر ليس فيه زرع ولا ضرع ؟
فقال له: اسكت فإن الله عزوجل يحشر من هذا الظهر سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب يشفع الرجل منهم لكذا وكذا.) ( ).
الرابع : توالي الرزق الكريم على أهل المدينة ، فمن معاني (فآواكم) أي ضمن رزقكم في تلك البلدة.
الخامس : صيرورة الشأن للبلدة التي يآوى اليها الرسول ، وتجلي البركات بحلوله فيها ، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : أمرت بقرية تأكل القرى يقولون : يثرب ، وهي المدينة . تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديدة ( ).
و(عن ابي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “اللهم إنَّ إبراهيم حَرَّم مكة فجعلها حرامًا، وإني حرمت المدينة حرامًا ما بين مأزميها، لا يهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف.
اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك عنوا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مُدِّنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين)( ).
قانون حضور [فَآوَاكُمْ] أمان
يمكن تأسيس قانون وهو حضور قوله تعالى [فَآوَاكُمْ] لتترشح عنه البركة والنفع الحال والآجل من جهات :
الأولى : حضور قانون [فَآوَاكُمْ] في معركة بدر.
الثانية : حضور قانون [فَآوَاكُمْ] في معركة أحد وعودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم سالماً إلى المدينة ، ولم يتعرض وأصحابه إلى هزيمة يومئذ مع شدة الخسارة التي لحقت بهم .
الثالثة : حضر قوله تعالى [فَآوَاكُمْ] حتى في الرؤيا ، فعندما أشرف جيش المشركين والمؤلف من ثلاثة آلاف رجل على المدينة المنورة في أواسط شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، استشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الخروج إليهم ، أو التحصن بالمدينة .
وهذه الإستشارة لعمومات قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] ( ) وكان رأي أكثر الأنصار هو البقاء بالمدينة ، وقالوا (يا رسول الله، أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلاّ أصاب منّا، ولا دخلها علينا إلاّ أصبنا منه، فكيف وأنت فينا؟
فدعهم يا رسول الله؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من وفوقهم، فإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا.
فأُعجب رسول الله بهذا الرأي.) ( ) .
لقد كان ميل النبي إلى هذا الرأي لقوله تعالى [فَآوَاكُمْ] ولكن بعض
الصحابة ومنهم من فاتتهم معركة بدر كانوا متحمسين للقاء المشركين ، وقالوا (يا رسول الله أُخرج بنا إلى هذه الأكلب لا يرون إنا جبنّا عنهم وضعفنا.
فأتى النعمان بن مالك الأنصاري فقال : يا رسول الله لا تحرمني الجنة فوالذي بعثك بالحق لأدخلنّ الجنة.
فقال : بما؟
فقال : بأني أشهد أن لا اله إلاّ الله،
وأني لا أفر من الزحف،
قال : صدقت.
فقتل يومئذ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد رأيت في منامي بقراً فأَوَّلتها خيراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأَوَّلتها هزيمة ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأَوَّلتها المدينة؛ فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا المدينة علينا قاتلناهم فيها) ( ).
فهذه الرؤيا الكريمة من مصاديق [فَآوَاكُمْ] لتكون مقدمة للأمن في معركة أحد ، خاصة وأن المشركين صاروا على بعد بضع أمتار من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصلته حجارتهم ، فشقت شفته ، وكسرت رباعيته وسال الدم من وجنته .
الرابعة : تجلي حضور قانون [فَآوَاكُمْ] في معركة الخندق بوضوح إذ أحاط عشرة آلاف من جيش المشركين بالمدينة لأكثر من عشرين ليلة ،وهم يعجزون عن اختراقها مع النقص في اعداد الصحابة خلف الخندق في أحيان عديدة .
وكان يأتي بعض المؤمنين طلباً للإستئذان للإنصراف إلى أهليهم، فيأذن لهم .
كما يأتي بعض المنافقين ويقولون أن بيوتنا مكشوفة للعدو ، ونخشى إغارة العدو أو بعض أعوانه عليها ، ومع أنها ليست كذلك ، فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأذن لهم ، كما ورد في قوله تعالى [وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا] ( ).
وربما بقى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلف الخندق مائتان أو ثلاثمائة من الصحابة في ساعات عديدة من الليل أو النهار ، ومع هذا فان المشركين يملأ قلوبهم الرعب من عبور الخندق ودخول المدينة ، وهو من الشواهد على قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ).

قانون[فَآوَاكُمْ] وعد كريم ودعوة للرأفة
ومن المصاديق الأعجازية في حال المؤمنين في قوله تعالى [فَآوَاكُمْ]تجدد معانيه بما فيه الصلاح ، وفيه وجوه :
الأول : [فَآوَاكُمْ]بالكفاية من شرور المشركين .
الثاني : [فَآوَاكُمْ] وجعل الأحزاب عاجزة عن دخول محل إيوائكم .
الثالث : [فَآوَاكُمْ] وأبنائكم وذراريكم .
الرابع : لقد أخلصتم الإيمان والنية فآواكم الله.
وهل كانت الملائكة تحرس المدينة ، الجواب نعم ، فكما نزل الملائكة في معركة بدر لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فأنهم نزلوا لدفع المشركين عن اختراق المدينة ، فانهم نزلوا في معركة الخندق بدفع شرور المشركين ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا] ( ) وهذه الحراسة أمان ورحمة وحرز .
لقد تولى الملائكة إلقاء الرعب في قلوب المشركين وزلزلة الأرض من تحت اقدامهم ومنعهم من الإقدام على اختراق الخندق ، إلا نفر منهم ، فقتل فارسهم عمرو بن ود العامري بسيف علي عليه السلام ، ومن معاني قوله تعالى [فَآوَاكُمْ] في المقام أن دفع المشركين من عند الله لم يكن بالملائكة وحدهم ، بل كان بالريح الشديدة العاتية التي اقتلعت خيام المشركين ، وقلبت قدورهم ، وأطفأت النيران .
وكانت هذه الغزوة في فصل الشتاء ، ولم يعهد رجال قريش البقاء في الصحراء ومكان مكشوف حول المدينة أكثر من عشرين ليلة ، كما أن تجارتهم وأعمالهم تعطلت بسبب هذا الحصار .
وتدل آيات القرآن ومنها آية البحث ، وفي قوله تعالى [وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] ( ) (وقال قتادة : يعني أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ظلمهم أهل مكة وأخرجوهم من ديارهم حتّى لحق جماعة منهم بالحبشة ثمّ بوّأهم الله بالمدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار الهجرة وجعل لهم على من ظلمهم (أنصاراً من المؤمنين والآية تعم الجميع) ( ).
{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً}( ) أنزلهم المدينة وأطعمهم الغنيمة.).
كما وردت نصوص عديدة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حرمة المدينة ، ومنها (من أخاف أهل حرمي أخافه الله ) .
ويبين هذا الحديث موضوعية وأثر الإخافة وأنها تضر المؤمنين ، لذا فهم يمتنعون عن إخافة غيرهم بغير حق .
قانون سلاح (فَآوَاكُمْ) يوم بدر
من خصائص نعمة الإيواء زجر الكفار عن اللحاق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، لإيذائهم في المدينة ، بل وعجزهم عن هذا اللحاق والإيذاء .
لذا قالت قريش بدعوى عزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على الإستيلاء على قافلة أبي سفيان القادمة من الشام ، والمحملة ببضائع وتجارة شارك فيها أغلب أهل مكة ، مما صار سبباً للنفير العام في مكة عندما شاعت دعوى تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقافلة ، بينما هي تتجه نحو مكة بأمان .
فتجهزت قريش في ثلاثة أيام وهي مدة قصيرة في إعداد جيش قوامه ألف مقاتل ، وعلى نحو مباغت ومن أهل مدينة مشغولة بالتجارة واستقبال وفود الحاج والمعتمرين.
مما يدل على كثرة العدة والأسلحة والرجال في مكة وأنهم كانوا يتهيأون للمعركة والإجهاز على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وهل من موضوعية لقوله تعالى [فَآوَاكُمْ] ( ) في معركة بدر ، الجواب نعم ، وفيه مسائل :
الأولى : هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة سبب ووسيلة لتكوين جيش عند المسلمين .
الثانية : إيواء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة دعوة للناس لدخول الإسلام ، وسبب لإزاحة الخوف من نفوسهم من بطش قريش .
الثالثة : من أسباب معركة بدر إدراك قريش لعجزهم عن تعذيب المسلمين ، وحملهم وإكراههم على الإرتداد ، إذ أنهم لم يعودوا أشخاصاً متفرقين كما في قوله تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) .
الرابعة : بسالة وتضحية الأنصار في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والتنزيل يوم بدر ، فمع أن مضمون بيعة العقبة هو الذب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما يصل إلى المدينة ، فانهم أظهروا الإستعداد للقتال والفداء عندما استشارهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر ، مع بعد موقع المعركة عن المدينة بنحو (150) كم .
وعندما التقى الجيشان تمادي المشركون في الغي ، وبرز ثلاثة من أشرافهم للمناجزة وسألوا المبارزة فخرج لهم ثلاثة من شباب الأنصار ، وهم :
الأول : معوذ بن الحارث .
الثاني : معاذ بن الحارث وأمهما عفراء .
الثالث : عبد الله بن رواحة ( ).
ترى لماذا برز لهم ثلاثة من شباب الأنصار ، الجواب من وجوه :
الأول : بيان صدق إيمان الأنصار .
الثاني : إعطاء درس وموعظة لقريش بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بايمان أهل المدينة برسالته ، وفيه أمارة على أولوية إيمان قريش وذوي قربى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتبكيت وتوبيخ لجيش قريش الذي زحف لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة مع علمهم بأن قافلة أبي سفيان تتجه نحو مكة بسلام ، وبعد أن أرسل لهم أبو سفيان يدعوهم للعودة ، وانتفاء سبب خروجهم للقتال.
الثالث : لقد عاش النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثاً وخمسين سنة من عمره الشريف في مكة ،وكان يعرف من صباه بالصادق الأمين ، وهاتان الخصلتان من أهم أسباب زواجه من خديجة بنت خويلد ، وتوليه الإشراف على تجارتها ، ثم رزقه الله عز وجل النبوة ، وهو في سن الأربعين ، فصار الصدق والأمانة شاهدين على صحة نبوته ، وأصبحا فرع الوحي ، وهو من أسمى وأعلى مرتبة من الملكة والخصلة الحميدة المكتسبة ، فكانت بيعة العقبة من رشحات الوحي ، وإدراك الذين بايعوه يومئذ من الأوس والخزرج أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) لتكون هذه البيعة مقدمة لتقدم ثلاث شبان من الأنصار لمبارزة أشراف قريش يوم بدر .
الرابع : زجر المشركين عن الهجوم والإغارة على المدينة المنورة لدلالة هذا البروز على استعداد الأوس والخزرج الدفاع عنها بصفة الأنصار ، أي أنهم يدافعون عنها لأنها بلد الإيمان ، ومحل إقامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال لهم عتبة (مَنْ أَنْتُمْ ؟
فَقَالُوا : مِنْ الْأَنْصَارِ .
قَالُوا : أَكْفَاءٌ كِرَامٌ وَإِنّمَا نُرِيدُ بَنِي عَمّنَا ، فَبَرَزَ إلَيْهِمْ عَليّ وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ وَحَمْزَةُ) ( ).
لقد أعطى هؤلاء الشباب رسالة إلى جيش قريش والعالم بأن يثرب لم تعد بلدة الأوس والخزرج ، إنما صارت بلد الأنصار ، والمصر الذي يضم بيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين ، والمسجد النبوي ، ولكن نصب المشركون ثلاثمائة وستين صنماً في المسجد الحرام ، فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بني المسجد النبوي لعبادة الله وحده .
المساجد السبعة
من معالم المدينة المنورة المساجد السبعة ، وهي شواهد تأريخية خالدة على واقعة الخندق إذ أنها تبين موقع معركة الخندق ، وفيه الآن ستة مساجد صغيرة باسماء من رابط بها من أهل البيت والصحابة.
وهذه المساجد من معالم المدينة المنورة يقصدها وفد الحاج والمعتمرون ، ومع أنها ستة فقد اشتهرت باسم المساجد السبعة بإضافة مسجد القبلتين لها والذي يبعد عنها نحو كيلو متر واحد .
وتقع هذه المساجد في الجهة الغربية من جبل سلع في جزء من الخندق ، وتبعد عن المسجد النبوي نحو (2) كم .
وكان موضع هذه المساجد مسجد مرابطة ورصد ومراقبة عدا مسجد الفتح ، وهذه المساجد هي :
الأول : مسجد الفتح ، وهو أكبرها ، وفيه أنزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم سورة الفتح وأولها [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا*لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا] ( ) وهذه الغزوة من قبل المشركين ، وصارت شاهداً على انكسارهم.
وعن قتادة قال ذكر لنا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الاحزاب لن يغزوكم المشركون بعد اليوم فلم تغزهم قريش بعد ذلك.
واخرج البخاري عن سليمان بن صرد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاحزاب وفي لفظ حين أجلي عنه الأحزاب الآن نغزوهم ولا يغزونا نسير إليهم( ).
لبيان أن الغزو هنا من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو السير والمشي وليس تقدم جحافل الجيوش ، وقد تحقق مصداق هذا السير بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عمرة الحديبية ، فمنعته قريش عن دخول مكة فكان صلح الحديبية لبيان أن النبي محمداً رجل السلم ، الذي يقابل الغزو والإرهاب بالصبر والمنسك العبادي .
فبيّن الله عظيم سلامة هذا المسلك وما فيه من الأمن للذات والغير فسمّى صلح الحديبية فتحاً ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
وقد ضربت في موضع مسجد الفتح قبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لينقطع إلى الدعاء والمسألة ، خاصة وأن منافع الإجتهاد بالدعاء تجلت في معركة بدر بنزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
فمن إعجاز القرآن ذكر إستغاثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالله عز وجل لطلب النصر ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
عن جابر بن عبد الله الأنصاري (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا في مسجد الفتح ثلاثاً: يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين، فعرف البشر في وجهه.
قال جابر: فلم ينزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة، فأدعو فيها فأعرف الإجابة.) ( ).
أي أن جابر بن عبد الله يشير إلى مسألة كلامية وهي استثمار الساعة التي بين صلاة الظهر والعصر من يوم الإربعاء للدعاء والمسألة وطلب الحاجة ،مما يدل على أن يوم الأربعاء ليس نحساً .
الثاني : مسجد سلمان الفارسي ،ويبعد عشرين متراً عن مسجد الفتح في قاعدة سلع ، وسلمان هو صاحب فكرة حفر الخندق.
الثالث : مسجد أبي بكر ، ويبعد (15) متراً عن مسجد سلمان .
الرابع : مسجد عمر بن الخطاب ، ويبعد عشرة أمتار عن مسجد أبي بكر .
الخامس : مسجد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، وطوله (8,5) متر وعرضه (6,5) متر وبني مع مسجد الفتح ، وجدد معه .
ويروى أن الإمام علي عليه السلام قتل عمرو بن ود العامري في هذا الموضع .
السادس : مسجد فاطمة الزهراء ، وهو أصغر هذه المساجد ومساحته (4×3) متر وآخر بناء فيه يرجع إلى السلطان العثماني عبد المجيد الأول .
السابع : مسجد القبلتين ، وهو ليس مع المساجد الستة أعلاه التي يتعلق موضوعها وعنوانها التاريخي بمعركة الخندق .
وتم بناء هذه المساجد في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد بني مسجد القبلتين بنو سواد بن غنم باستعمال اللبن وجذوع النخل .
لقد نزلت آية تحويل القبلة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في هذا المسجد على قول ظهر يوم الثلاثاء في النصف من شهر رجب من السنة الثانية للهجرة ، أي قبل وقوع معركة بدر بشهرين وقيل في النصف من شهر شعبان أي قبل معركة بدر بشهر، وفي سبب تسمية هذا المسجد قولان :
الأول : نزول آية تحويل القبلة في هذا المسجد .
لقد (زار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة فتغدى وأصحابه وجاءت الظهر، فصلى بأصحابه في مجلس القبلتين بركعتين من الظهر إلى الشام، ثم أمر أن يستقبل القبلة وهو راكع في الركعة الثانية، فاستدار إلى الكعبة ودارت الصفوف خلفه، ثم أتموا الصلاة، فسُمَيَ مسجد القبلتين.
قال الواقدي: كان هذا يوم الاثنين للنصف من رجب، على رأس سبعة عشر شهراً) ( ).
ونسب هذا القول إلى مجاهد وغيره( ) ، وآية تحويل القبلة هي [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ] ( ).
الثاني : مجئ الخبر إلى أهل المسجد وهم يصلون بأن القبلة قد تحولت وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت المقدس ، فتحولوا إلى المسجد الحرام وهم في هيئة الصلاة .
(عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا يصلون نحو بيت المقدس ، فلما نزلت هذه الآية {فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام}( )، مر رجل من بني سلمة فناداهم وهم ركوع في صلاة الفجر نحو بيت المقدس ألا إنَّ القبلة قد حوّلت إلى الكعبة مرتين ، فمالوا كما هم ركوع إلى الكعبة)( ).
وهذا الحديث غير القول الأول ، لأن موضوعه هو مسجد قباء ، وفي الخبر أنه في صلاة الصبح .
(عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنا نغدو إلى المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنمر على المسجد فنصلي فيه ، فمررنا يوماً ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعد على المنبر ، فقلت : لقد حدث أمر . . . ! فجلست . فقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية { قد نرى تقلب وجهك في السماء } حتى فرغ من الآية ، فقلت لصاحبي : تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنكون أول من صلى فتوارينا فصلينا ، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى للناس الظهر يومئذ إلى الكعبة) ( ).
وظاهر حديثه أن المراد هو المسجد النبوي ، خاصة للتبادر والإنصراف، وان الألف واللام في المسجد للعهد .
ومسجد قباء هو أول مسجد صلى الله عليه وآله وسلم فيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند دخوله المدينة ، وهو غير مسجد القبلتين .
ترى ما هي النسبة بين الهجرة والإيواء ، تحتمل وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي .
الثاني : هما مما إذا اجتمعا إفترقا ، وإذا إفترقا إجتمعا .
الثالث : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الهجرة أعم من الإيواء .
الثانية : الإيواء أعم من الهجرة .
الرابع : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
الخامس : نسبة التباين سواء في الدخول والحكم .
ولعل الظاهر هو الأول والثاني أعلاه ، وأن المراد الإيواء إلى المدينة ، ولكن المختار هو الشعبة الثانية من الوجه الثالث ، فالأرض كلها ملك لله عز وجل ، وجعل المسلمين في حفظ وحصانة منه تعالى حتى وإن كانوا في مكة .
فصحيح أن الإيواء كان إلى المدينة ، وصارت حصناً ومأوى يهاجر إليها المؤمنون ، ويفد إليها الذين يريدون معرفة خصائص النبوة من غير خوف من المشركين ، كما هي الحال في مكة ، ويتجلى في لجوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم .
وكان العرب في حال ضعف ممن حولهم من الدول الكبرى ، مثل فارس والروم والحبشة .

قانون إسلام أبي ذر رسالة سلام
قصة إسلام أبي ذر ، وكيف أنه كان يخشى من قريش في السؤال عن النبي موعظة وعبرة ، ومع هذا كان يجتهد بالسعي للإلتقاء به ، وعن ابن عباس (قال لما بلغه أن رجلا خرج بمكة يزعم أنه نبي أرسل أخاه فقال اذهب فأتني بخبر هذا الرجل وبما تسمع منه فانطلق الرجل حتى أتى مكة فسمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجع الى أبي ذر فأخبره أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويأمر بمكارم الأخلاق فقال أبو ذر ما شفيتني) ( ).
أي أنك لم تأتني بما يدل على أنه نبي له معجزات ، ولم تأت بخلاف هذا المعنى ، إذ أن الأمر بمكارم الأخلاق والمعروف يقوم به المصلحون ، والنسبة بين المصلح والنبي هي العموم والخصوص المطلق ، فكل نبي هو مصلح وليس العكس ، بالإضافة إلى أن إصلاح النبي بالوحي مع عصمته من فعل خلاف ما يأمر به ، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ] ( ).
فخرج أبو ذر متوجهاً إلى مكة ، واسم أبي ذر جندب بن جنادة الغفاري ، واسم أمه رملة بنت الوقيعة الغفاري ، وقد اسلمت .
وكان أبو ذر طويلاً ، اسمر اللون نحيفاً ، وولد في قبيلة غفار بين مكة والمدينة ، وقيل أنه كان يصيب الطريق ، ويقطع الطريق وحده لشجاعته .
(عن خفاف بن إيماء بن رحضة قال: كان أبو ذر رجلا يصيب الطريق وكان شجاعا يتفرد وحده يقطع الطريق ويغير على الصرم في عماية الصبح على ظهر فرسه أو على قدميه كأنه السبع، فيطرق الحي ويأخذ ما أخذ، ثم إن الله قذف في قلبه الإسلام وسمع بالنبي ، صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يومئذ بمكة يدعو متخفيا) ( ).
وذكر هذا الخبر في بعض كتب الرجال ، والأصل عدمه , من جهات :
الأولى : الخبر مرسل , وهو ضعيف ويحتاج إلى توثيق وتأكيد .
الثانية : قيام قريش بضرب أبي ذر ضرباً مبرحاً عندما أعلن اسلامه ، وإرادتهم قتله ، كما سيأتي بعد صفحتين ، ولم يظهر أي مقاومة لهم .
الثالثة : سؤال أبي بكر لأبي ذر يوماً (هل كنت تأله وفي حديث ابن أبي العلاء وابن مروان تتأله في جاهليتك قال نعم لقد رأيتني أقوم عند الشمس فما أزال مصليا حتى يؤذيني حرها فأخر كأني خفاء فقال لي فأين كنت توجه قال قلت لا أدري إلا حيث وجهني الله حتى أدخل الله علي الإسلام) ( )، والتآله خلاف الإنشغال بقطع الطريق ، وما يصاحبه من سفك الدماء والنهب والسلب .
الرابعة : في رواية عن أبي ذر قال : كنت رابع الاسلام ، أسلم قبلي ثلاثة، فأتيت نبي الله ، فقلت : سلام عليك يا نبي الله ، وأسلمت ، فرأيت الاستبشار في وجهه، فقال: من أنت ، قلت: جندب ، رجل من غفار.
قال : فرأيتها في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان فيهم من يسرق الحاج( ).
الخامسة : استهجان وإنكار أبي ذر لما يفعله قومه من هتك حرمة الشهر الحرام ، من قبل أن يسلم .
وعن عبد الله بن الصامت قال : قال أبو ذر : خرجنا من قومنا غفار وكانوا يحلون الشهر الحرام فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا فنزلنا على خال لنا فأكرما خالنا وأحسن إلينا فحسدنا قومه فقالوا إنك إذا خرجت عن اهلك خالف إليهم أنيس .
فجاء خالنا فنثا علينا الذي قيل له فقلت أما ما مضى من معروفك فقد كدرته ولا جماع لك فيما بعد فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها وتغطى خالنا بثوبه فجعل يبكي .
فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها فأتيا الكاهن فخير أنيس بصرمتنا ومثلها معها .
قال وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثلاث سنين .
قلت لمن قال لله .
قلت فأين توجه قال أتوجه حيث يوجهني ربي أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء حتى تعلوني الشمس.
فقال أنيس إن لي حاجة بمكة فاكفني فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث علي ثم جاء .
فقلت ما صنعت قال لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله قلت فما يقول الناس قال يقولون شاعر كاهن ساحر.
وكان أنيس أحد الشعراء قال أنيس لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد يعدو أنه شعر ، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون .
قلت فأكفني حتى أذهب فأنظر( ).
فعزم أبو ذر على الخروج إلى مكة ليطلع بنفسه على حقيقة وكنه النبوة ، وأخذ معه شنة فيها ماء مع زاد للطريق حتى أتى مكة ، فخشي أهلها من السؤال عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يدل على شيوع عداوة قريش للنبي ، وإيذائهم لأصحابه ، سواء الذين في مكة أو الوافدين لها ، وأنهم كانوا يؤذون الذي يسأل عنه ، وبقي في مكة متحيراً ينتظر فرصة مناسبة ، إلى أن أدركه الليل فبات في ناحية المسجد وعند العتمة مرّ به الإمام علي عليه السلام ، وفي الطبقات الكبرى لابن سعد (فلما أعتم مر به فقال: ممن الرجل.
قال : رجل من غفار، قال: قم إلى منزلك. قال فانطلق به إلى منزله)( ).
ولم يذكر في أعلاه اسم الفاعل الذي مرّ بأبي ذر ، وهو الإمام علي عليه السلام ، وعدم الذكر هذا من النساخ ومعنى قم إلى منزلك أي أن بيتنا هو بيتك وأنك لست ضيفاً فقط .
ولم يسأله الإمام علي عن موضوع وسبب قدومه إلى مكة ، لأن الغالب هو المجئ لأداء العمرة ، أو يأتي الناس إلى مكة لأغراض التسوق أو أمور قبلية ، وطرأ سبب جديد في المقام وهو السؤال عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وبات أبو ذر في بيت الإمام علي عليه السلام ، وفي الصباح خرج أبو ذر إلى المسجد الحرام ، وطاف حوله لعله يجد من يدله على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وصار أكثر شوقاً لرؤيته والسماع منه ، وحلّ المساء ، ولم يجد من يدله على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعاد فنام في المسجد.
فمر عليه الإمام علي عليه السلام ، فقال له : أما آن للرجل أن يعرف منزله ) أي كان الأولى أن تأتي إلينا ، فانطلق به وبات حتى أصبح ، ولم يسأل أحدهما الأخر عن شئ .
لقد كان أبو ذر يخاف من قريش كما أنه كان يخشى سيق إفترائهم أمامه على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يراه ، لقد رآى أبو ذر الخلق الحميد عند الإمام علي عليه السلام وأطمأن له ، كما أنه عجز عن الوصول إلى خبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ورآى أبو ذر أن يخبر الإمام علي عليه السلام بموضوع مجئيه ، وهو سوأله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن يسأله أن يكتم عليه ويستره ، ولا يفشي أمره للصلة التي صارت بينهما .
فوعده الإمام علي عليه السلام أن يكتم أمره ، فقال أبو ذر لقد بلغني خروج هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ، وهو محمد فارسلت أخي ليأتيني بما يجعلني أصدق بنبوته أو لا .
إنما نقل في صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ودعوته إلى الصلاح ، ولابد أن أخا أبي ذر سمع من النبي بعض آيات القرآن فحملها على هذا المعنى .
ثم قال ابو ذر: فجئت بنفسي لإلقاه .
وهذا القول عام ليس فيه إعلان للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنه يدل على العناية الفائقة بأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكانت قريش تدرك أن إتصال الناس بالنبي سبب لإيمان كثير منهم ، وهو من أسباب نعتهم له بالساحر.
فعندما اقترب موسم الحج اجتمع رؤساء قريش عند الوليد بن المغيرة أبي خالد بن الوليد ، وكان الوليد أكبرهم سناً فحذرهم وطلب منهم الإستعداد لموسم الحج بصّد الناس عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (فَقَالَ لَهُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّهُ قَدْ حَضَرَ هَذَا الْمَوْسِمُ وَإِنّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدَمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا ، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا ، وَلَا تَخْتَلِفُوا فَيُكَذّبَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، وَيَرُدّ قَوْلُكُمْ بَعْضُهُ بَعْضًا .
قَالُوا : فَأَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ ، فَقُلْ وَأَقِمْ لَنَا رَأْيًا نَقُولُ بِهِ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ فَقُولُوا أَسْمَعْ قَالُوا : نَقُولُ كَاهِنٌ قَالَ لَا وَاَللّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنِ لَقَدْ رَأَيْنَا الْكُهّانَ فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكَاهِنِ وَلَا سَجْعِهِ .
قَالُوا : فَنَقُولُ مَجْنُونٌ قَالَ مَا هُوَ بِمَجْنُونِ لَقَدْ رَأَيْنَا الْجُنُونَ وَعَرَفْنَاهُ فَمَا هُوَ بِخَنْقِهِ وَلَا تَخَالُجِهِ وَلَا وَسْوَسَتِهِ .
قَالُوا : فَنَقُولُ شَاعِرٌ قَالَ مَا هُوَ بِشَاعِرِ لَقَدْ عَرَفْنَا الشّعْرَ كُلّهُ رَجَزَهُ وَهَزَجَهُ وَقَرِيضَهُ وَمَقْبُوضَهُ وَمَبْسُوطَهُ فَمَا هُوَ بِالشّعْرِ .
قَالُوا : فَنَقُولُ سَاحِرٌ قَالَ مَا هُوَ بِسَاحِرِ لَقَدْ رَأَيْنَا السّحّارَ وَسِحْرَهُمْ فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِمْ وَلَا عَقْدِهِمْ قَالُوا : فَمَا نَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ .
قَالَ وَاَللّهِ إنّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً ، وَإِنّ أَصْلَهُ لَعَذِقٌ وَإِنّ فَرْعَهُ لَجُنَاةٌ – قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَال لَغَدِقٌ – وَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا إلّا عُرِفَ أَنّهُ بَاطِلٌ وَإِنّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ فِيهِ لَأَنْ تَقُولُوا سَاحِرٌ جَاءَ بِقَوْلٍ هُوَ سِحْرٌ يُفَرّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَبِيهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَعَشِيرَتِهِ .
فَتُفَرّقُوا عَنْهُ بِذَلِكَ فَجَعَلُوا يَجْلِسُونَ بِسُبُلِ النّاسِ حِينَ قَدِمُوا الْمَوْسِمَ لَا يَمُرّ بِهِمْ أَحَدٌ إلّا حَذّرُوهُ إيّاهُ وَذَكَرُوا لَهُمْ أَمْرَهُ . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَفِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلّا إِنّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا }( ))( ).
وعندما استمع الإمام علي لأبي ذر ، وعلم الغاية التي جاء من أجلها قال له : إني غاد فاتبع أثري فاني أن رأيت ما أخاف عليك اعتللت بالقيام كأني أهريق الماء فآتيك ، وأن لم أر أحداً أي من المشركين الذين يسعون في البحث عن محل إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فاتبع أثري حتى تدخل حيث أدخل فاستجاب أبو ذر لطلب الإمام ولم يسأله أين ستدخل ، وهل سألتقي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن كان حذر وتنبيه الإمام بخصوص المسير في الطريق شاهد على إرادة الوصول إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو الإقتراب من محل إقامته .
وسار أبو ذر خلف الإمام علي عليه السلام ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقيماً في دار الأرقم بن أبي الأرقم ، وهو على جبل الصفا ، فدخل الإمام عليه السلام ودخل خلفه أبو ذر ، فأخبر الإمام علي عليه السلام النبي محمداً خبر أبي ذر الذي سمع حينئذ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدداً من السور المكية ،وسأله بعض الأسئلة فأجابه ، فآمن بنبوته من ساعته ، قال تعالى [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ).
لقد كان إسلام أبي ذر شاهداً على تنزه الإسلام عن الإرهاب وعن القتل وسفك الدماء ، وتدل خشية أبي ذر من بطش قريش في السؤال عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الملازمة بين الكفر والإرهاب ، وإشاعة الكفر لحال الفزع والرعب في المجتمعات وسلبهم للحريات .
لقد كان أبو ذر يسعى إلى العيش في كنف الإسلام والهدى في الدنيا ،ليكون وسيلة للإقامة في دار السلام في الآخرة .
وكان إماماً في الزهد والصدق ، ولا تأخذه في الله لومه لائم ، وقيل أنه رابع أو خامس من دخل في الإسلام ، والمختار أنه سبقه عدد من الصحابة ، وعندما أسلم أبو ذر قال للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يا نبي الله ما تأمرني ) أي أنه خاطبه بصفة النبوة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (اكتم هذا الأمر وارجع إلى قومك فأخبرهم بأمري، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل فقلت: والذي بعثك بالحق – وفي رواية: والذي نفسي بيده – لأصرخن بها بين ظهرانيهم.
فخرجت حتى آتى المسجد وقريش فيه فناديت بأعلى صوتي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.
فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ.
فثار القوم فضربت لأموت.
وفي رواية حتى أضجعوني فأدركني العباس فأكب علي ثم قال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار أنه طريق تجارتكم عليهم ، فأقلعوا عني) ( ).
ولم يقاومهم أبو ذر إنما أظهر الصبر والتحمل .
ليكون من معاني قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( )، لزوم أخذهم الحيطة من الإضرار بالمسلمين الذين تقع ديار قبائلهم في طريق تجارة قريش سواء التي مع الشام أو التي مع اليمن أو المدينة وغيرها .
وقد تقدم أن بعض المسلمين من الأوس والخزرج تعرضوا للأذى من قريش ، ولكن ذبّ عنهم بعض رؤساء قريش خوفاً من إعتراضهم لتجارتهم ، ليكون الخوف على قافلة أبي سفيان بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم استصحاباً وامتداداً لخشيتهم على قوافلهم من القبائل والمسلمين فيها .
وهل يدل فعل أبي ذر هذا على مخالفته لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أرجع إلى قومك فأخبرهم بأمري) ( ).
الجواب لا من جهات :
الأولى : إخبار أبي ذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه سيصرخ في منتديات قريش بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخوله الإسلام ونطقه بالشهادتين ، وسكوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله هذا من السنة التقريرية ، وفي هذا التقرير دليل على علمه بأن الله عز وجل ينجي أبا ذر من فتك قريش .
الثانية : بقاء رجوع أبي ذر إلى قومه قائماً بعد النداء في قريش .
الثالثة : نداء أبي ذر بين ظهراني قريش إنذار لهم ، ودعوة لهم للإيمان من باب الأولوية القطعية .
عن (جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: الناس تبع لقريش في الخير والشر) ( ).
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (قريش ملح هذه الأمة كالملح في الطعام! فهل يصلح الطعام إلا بالملح. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ” اللهم! إنك جعلت هذا الإسلام الذي جئت به رحمة للعالمين وذكراً لقريش فتوكل لي بقريش .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الناس تبع لقريش، مؤمنهم لمؤمنهم وفاجرهم لفاجرهم.
وروي عنه أيضاً أنه قال عليه السلام : قريش صلب الناس، فلا يبقى أحد بغير صلب ، وقال أيضاً : قريش أئمة العرب في الخير والشر إلى يوم القيامة ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : لا تقدموا قريشاً فتضلوا ، ولا تخلفوا عنها فتهلكوا! ولا تعلموها فهي أعلم منكم.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : الست أولى بكم من أنفسكم .
قالوا: بلى بآبائنا أنت وأمهاتنا ، قال: فإني كائن لكم يوم القيامة على الحوض فرطاً وإني سائلكم عن القرآن وعن قومي! فلا تقدموا قريشاً فتضلوا! ولا تخلفوا عنها فتهلكوا! ولا تعلموا قريشاً فهم أعلم منكم. ولولا أن تبطر قريش علمتها ما لها عند الله) ( ).
(روى عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: أحبوا العرب فإني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي.
وقال عليه السلام: من أحب العرب فيحبني أحبهم، ومن أبغضهم فيبغضني أبغضهم.
وروى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله أنه إذا زالت العرب زال الإسلام.
وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: العرب نور الله في الأرض، فإذا ذهبت العرب أظلمت الأرض، وذهب ذلك النور) ( ).
اعتداء قريش على أبي ذر إرهاب
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سيد قريش ومن اتبعه فاز في النشأتين ، وقد جاء بسنن الرأفة والتراحم فيما بينهم ، وإجتناب الإرهاب ، والإخبار عن الوعيد على ظلم الناس ، والإضرار بالمصالح العامة ، وإخافة الطرق ، ليكون من باب الأولوية النهي عن إخافة أهل المدن في بيوتهم وأسواقهم ومنتدياتهم.
ترى هل ذهب أبو ذر في المساء بعد أن اشبعوه ضرباً وركلاً إلى بيت الإمام علي لينام عنده ، أم بقي في المسجد الحرام .
المختار هو الأول ، وهو من مصاديق قول الإمام (قم إلى منزلك) ومعناه أنك لست ضيفاً فقط عندنا ، لأن الضيافة ثلاثة أيام ، وقول منزلك أعم وليس له حد .
وفي صباح اليوم التالي دخل أبو ذر المسجد الحرام ونادى بأعلى صوته : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فتناجى رجال قريش فيما بينهم ، قال أبو ذر (فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ فصنع بي ما صنع بالأمس، وأدركني العباس فأكب علي وقال مثل مقالته بالأمس) ( ).
ثم عاد أبو ذر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليسمع منه مرة أخرى ، ويتلقى وصاياه ، ويودعه ، فأخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قرب هجرته إلى المدينة ، وقال له (إني وجهت لي أرض ذات نخل
ولا أراها إلا يثرب فهل أنت مبلغ عني قومك عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم) ( ).
ليستعد أبو ذر وغيره إلى هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته حتى إذا هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة أدركوا أنها مصداق للوحي ، وهي باب مقدمة ونوع طريق لبناء دولة الإسلام ونشر أحكامه من غير عنف أو تعنيف أو تخويف للناس ، إذ أن الهجرة عنوان الهرب والخلاص من تخويف الكفار .
دعوة أبي ذر أهله للإسلام
لم يأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أبا ذر بالعنف أو القتال ، إنما أمره بالتبليغ ووعده بالثواب العظيم عليه ، وأن الذي يريد الثواب يناله بالكلمة وتلاوة آيات القرآن ، وفي الثناء على القرآن قال تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( ) ولم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر إذ صرتم جماعة كثيرة فأشهروا السلاح أو أحضروا لقتال قريش ، أو أخذ الثأر منهم على تعديهم وضربهم لك ، إنما قال له بلغ وأخبر عن النبوة ، فتوجه أبو ذر راجعاً إلى قومه .
ومثلما بدأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوته بأهل بيته فآمنت به خديجة بنت خويلد والإمام علي عليه السلام .
فقد ابتدأ أبو ذر بأهل بيته ولما رأه أخوه أنيس ، قال : ما صنعت ، قال : أبو ذر : أسلمت وصدّقت برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال أنيس : ما لي رغبة عن دينك فأني قد أسلمت وصدّقت.
عندئذ ولما أصبحا أخوين اثنين قد دخلا الإسلام توجها معاً إلى أمهما ، فعرضا عليها الإسلام ، وأخبراها بأنهما دخلا الإسلام وأن النبي محمداً هو خاتم النبيين والإيمان برسالته طريق للخلود في النعيم في الآخرة .
قال أبو ذر : فأتينا أمنا فقالت: ما بي رغبة عن دينكما فإني قد أسلمت وصدقت، فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفارا فأسلم نصفهم وقال نصفهم: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلمنا( ).
إن تلقي أفراد القبيلة الدعوة إلى الإسلام من أبي ذر شاهد على كفاية التبليغ والبرهان على صدق النبوة وإحقاق الحق من غير اللجوء إلى الإكراه أو العنف والإرهاب .
لبيان قانون وهو تحكي كل قصة إسلام لبعض الصحابة دلائل تبين التسالم على إجتناب الإرهاب ، وعلى الإمتناع عن القتال.
وعن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر في قصة إسلامه: انطلق أخي فأتى مكة ثم قال لي: أتيت مكة فرأيت رجلاً يسميه الناس الصابىء هو أشبه الناس بك قال فأتيت مكة فرأيت رجلاً فقلت أين الصابىء فرفع صوته علي فقال صابىء صابىء! فرماني الناس حتى كأني نصب أحمر فاختبأت بين الكعبة وبين أستارها ولبثت فيها بين خمس عشرة من يوم وليلة ما لي طعام ولا شراب إلا ماء زمزم قال ولقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وقد دخلا المسجد فوالله إني لأول الناس حياه بتحية الإسلام فقلت السلام عليك يا رسول الله فقال : وعليك السلام ورحمة الله. من أنت .
فقلت : رجل من بني غفار( ).
وعبد الله بن الصامت هو ابن أخي أبي ذر (بعثه زياد على البصرة والياً في أول ولاية زياد العراقين ثم عزله عن البصرة ، وولاه بعض أعمال خراسان ومات بها)( ).
ويروي عن أبي ذر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (زر غباً تزدد حباً)( ).
ولما رجع أبو ذر إلى قومه صار يسخر بآلهتهم ، ويبين لهم أنها أحجار لا تنفع ولا تضر ، ولما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة جاء أبو ذر بعد أن مضت معركة بدر وأحد والخندق (فلما رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم في اسمه فقال : أنت أبو نملة ، فقال : أنا أبو ذر. قال : نعم أبو ذر)( ).
ومنذ سني الإسلام الأولى يتحدث المسلمون في زهد أبي ذر ، ويتخذونه مثالاً ونبراساً ، وهو من رشحات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
و(عن أبي ذر قال كان قوتي على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاعاً من التمر فلست بزائد عليه حتى ألقى الله تعالى) ( ).
و(وعن مالك بن مرثد عن أبيه قال قال أبو ذر قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم ما تقل الغبراء ولا تظل الخضراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر شبه عيسى بن مريم .
قال فقام عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله أفنعرف ذلك له قال نعم فاعرفوه له)( ).
وعن أبي ذر قال : كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم آتي المسجد إذا أنا فرغت من عملي فاضطجع فيه فأتاني رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا مضطجع فيه فضربني برجله فاستويت جالسا .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف تصنع إذا أخرجت منها قلت ألحق بأرض الشام.
قال كيف تصنع إذا أخرجت منها قلت آخذ سيفي فأضرب به من يخرجني .
قال فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده على منكبي ثم قال غفرا أبا ذر غفرا أبا ذر بل تنقاد معهم حيث قادوك وتنساق معهم حيث ساقوك ولو لعبد أسود .
قال فلما نفيت إلى الربذة أقمت الصلاة فتقدمهم رجل أسود كان فيها على بعض الصدقة فلما رآني أخذ يرجع ليقدمني فقلت كما أنت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم يا أبا ذر أنت رجل صالح وسيصيبك بعدي بلاء قلت في الله قال في الله .
قلت مرحبا بأمر الله وقال أبو ذر أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا نغلب على أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونعلم الناس السنن( ).
وتبين هذه الأحاديث الأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالصبر وتحمل الأذى ، وإجتناب رفع السيف ، وإثارة أسباب الفتنة والقتال .
وشارك أبو ذر في فتح الشام ، وشهد فتح بيت المقدس وأقام في الشام يعلم الناس أمور دينهم ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.
وقيل كانت عنده حدة صارت سبباً للخلاف بينه وبين معاوية الذي كان والياً هناك .
واختلفوا في المقصود من قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]( ).
وقال زيد بن وهب (مررت بالربذة فإذا انا بأبي ذر فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا، قال كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ}( )، فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب.
فقلت : نزلت فينا وفيهم، وكان بيني وبينهم كلام في ذلك فكتب إلى عثمان يشكوني .
فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها فكثر الناس علي حتى كأنّهم لم يروني قبل ذلك فذكرت ذلك لعثمان.
فقال : إن شئت تنحّيت فكنت قريباً، فذلك الذي أنزلني هذه المنزل، ولو أمّروا عليَّ جيشاً( ) لسمعت وأطعت)( ).
(بينا أبو ذر عند عثمان ليؤذن له إذ مر به رجل من قريش فقال يا أبا ذر ما يجلسك ها هنا قال يأبى هؤلاء أن يأذنوا لنا فدخل الرجل فقال يا أمير المؤمنين ما بال أبي ذر على الباب لا يؤذن له.
فأمر فأذن له فجاء حتى جلس ناحية القوم وميراث عبد الرحمن يقسم فقال عثمان لكعب يا ابا إسحاق أرأيت المال الذي أدي زكاته هل يخشى على صاحبه فيه تبعة فقال .
لا فقام أبو ذر ومعه عصا فضرب بها بين أذني كعب ثم قال يا ابن اليهودية أنت تزعم أنه ليس عليه حق في ماله إذا أدى الزكاة والله تعالى يقول [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ]( )، [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ] ( )، و [وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ]( )، فجعل يذكر نحو هذا من القرآن .
فقال عثمان للقرشي إنما نكره أن نأذن لأبي ذر من أجل ما ترى)( ).
وأقام أبو ذر في الربذة التي تبعد عن المدينة نحو (174) كم ، وبنى فيها أبو ذر مسجداً وكان يختلف بين الحين والآخر إلى المدينة ، ليقوم بالتبليغ ، ويروي ما سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويجيب من سأله ، كما كان يجتنب حياة الأعراب أي الأقامة الدائمة في البادية .
وفي توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتيبة تبوك قيل له : تخلف أبو ذر .
على نحو الإنكار أي هذا الزاهد الذي يثني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف يتخلف عن تبوك ، ولم يعلموا أنه في الطريق يجري مسرعاً خلفهم ، حتى طلع عليهم .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرحم الله أبا ذر.
وفي رواية أن أبا ذر أبطأ به بعيره فأخذ متاعه فجعله على ظهره ، وخرج يتبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ماشياً ، ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه منزلاً ، نظروا وإذا رجل يمشي على الطريق فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : كن أبا ذر ، فلما تأملوه وجدوه أبا ذر نفسه.
وخرج أبو ذر الى الربذة مغاضباً لعثمان( )،
وتوفى أبو ذر في شهر ذي الحجة من السنة الثانية والثلاثين للهجرة ، وفي السنة الثامنة من إمارة عثمان وعندما احتضر (قال لابنته استشرفي يا بنية فهل ترين أحد قالت لا قال فما جاءت ساعتي بعد ثم أمرها فذبحت شاة ثم قصبتها .
ثم قال لها إذا جاءك الذين يدفنونني فقولي لهم إن أبا ذر يقسم عليكم ألا تركبوا حتى تأكلوا فلما نضجت قدرها .
قال لها انظري هل ترين أحدا قالت نعم هؤلاء ركب مقبلون قال استقبلي بي الكعبة ففعلت .
وقال بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ثم خرجت ابنته فتلقتهم وقالت رحمكم الله اشهدوا أبا ذر .
قالوا وأين هو فأشارت لهم إليه وقد مات فادفنوه .
فقالوا نعم ونعمة عين لقد أكرمنا الله بذلك وإذا ركب من أهل الكوفة فيهم ابن مسعود فمالوا إليه وابن مسعود يبكي ويقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يموت وحده ويبعث وحده .
فغسلوه وصلوا عليه ودفنوه فلما أرادوا أن يرتحلوا قالت لهم ابنته إن أبا ذر يقرأ عليكم السلام وأقسم ألا تركبوا حتى تأكلوا ففعلوا وحملوهم حتى أقدموهم مكة)( ).
أي أخذوا عياله معهم إلى مكة .
وفي الخبر أنهم كانوا أربعة عشر راكباً .
والربذة لغة الشدة.
وفي سنة 319 خربت الربذة باتصال الحروب بين أهلها وبين ضرية ثم استأمن أهل ضرية إلى القرامطة فاستنجدوهم عليهم فارتحل عن الربذة أهلها فخربت وكانت من أحسن منزل في طريق مكة( ).
قانون أول سفير للإسلام رجاء السلام
من مصاديق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يغادر مكة في الليلة التي أرادوا قتله فيها إلى لا جهة أو إلى جهة غير مأمونة ، كما في الأذى الذي لاقاه في الطائف عندما هاجر إليها بعد وفاة أبي طالب ، واشتداد أذى قريش عليه ، إنما كان الإيواء إلى المدينة (يثرب ) حيث وجود أنصار بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة قبل أن يهاجر ، وقام نفر من الصحابة بالهجرة إلى المدينة قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الآيات في المقام أن مصعب بن عمير بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل بيعة العقبة الأولى الاثني عشر ، ومن منافع بعثته :
الأولى : إنه سفير الإسلام إلى مدينة يثرب .
الثانية : تعليم المسلمين في المدينة واجبات وكيفية الصلاة وأحكام الحلال والحرام .
الثالثة : بيان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : دعوة الناس للإسلام .
الخامسة : فتح باب الحوار مع اليهود الذين في المدينة من بني النضير وقينقاع وبني قريظة .
السادسة : التمهيد لهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل كان بعث مصعب بن عمير أمراً سهلاً ، الجواب إنما لاقى مصعب الأخطار والتهديد والوعيد ، ولكن قوله تعالى [فَآوَاكُمْ]كان سحابة مباركة تظله وتحيط به ، وتصرف عنه السوء والضرر.
ولقد واجه مصعب بن عمير سادات الأنصار ممن لا يرضى بالدعوة الجديدة التي تفتح مع قريش ضروباً من الخصومة.
(بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير مع النفر الاثني عشر الذين بايعوا في العقبة الأولى إلى المدينة يفقه أهلها ويقرئهم القرآن، وكان منزله على أسعد بن زرارة، وكان إنما يسمى بالمدينة المقرئ .
فخرج يوماً أسعد بن زرارة إلى دار بني عبد الأشهل، فدخل به حائطاً من حوائط بني ظفر وهي قرية لبني ظفر دون قرية بني عبد الأشهل، وكانا ابنا عم يقال لها: بئر مرق .
فسمع بهما سعد بن معاذ وكان ابن خالة أسعد بن زرارة فقال لأسيد بن حضير: آئت أسعد بن زرارة فازجره عنا فليكف عنا ما نكره، فإنه قد بلغني أنه قد جاء بهذا الرجل الغريب معه يسفه سفهاءنا وضعفاءنا، فإنه لولا ما بيني وبينه من القرابة لكفيتك ذلك.
فأخذ أسيد بن حضير الحربة، ثم خرج حتى أتاهما .
فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب بن عمير: هذا والله سيد قومه قد جاءك فأبل الله فيه بلاء حسناً .
فقال: إن يقعد أكلمه؛ فوقف عليهما متشتماً، فقال: يا أسعد ما لنا ولك تأتينا بهذا الرجل الغريب تسفه به سفهاءنا .
فقال: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره ، قال: قد أنصفتم.
ثم ركز الحربة وجلس، فكلمه مصعب، وعرض عليه الإسلام، وتلا عليه القرآن؛ فوالله لعرفنا الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم لتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! فكيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدين .
قال: تطهر وتطهر ثيابك، وتشهد شهادة الحق، وتصلي ركعتين؛ ففعل، ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً من قومي إن تابعكما لم يخالفكما أحد بعده، ثم خرج حتى أتى سعد بن معاذ؛ فلما رآه سعد بن معاذ مقبلاً قال: أحلف بالله لقد رجع عليكم أسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب به ممن عندكم؛ فلما وقف على النادي قال له سعد: فماذا صنعت .
قال: قد ازدجرتهما، وقد بلغني أن بني حارثة يريدون أسعد بن زرارة ليقتلوه ليخفروك فيه لأنه ابن خالته فقام إليه سعد مغضباً، فأخذ الحربة من يده، وقال: والله ما أراك أغنيت شيئاً؛ فخرج.
فلما نظر إليه أسعد بن زرارة قد طلع عليهما، قال لمصعب: هذا والله سيد من وراءه من قومه، إن هو تابعك لم يخالفك أحد من قومه، فاصدق الله فيه؛ فقال مصعب بن عمير: إن يسمع مني أكلمه.
فلما وقف عليهما قال: يا أسعد ما دعاك إلى أن تغشاني بما أكره وهو متشتم أما والله إنه لولا ما بيني وبينك من القرابة ما طمعت في هذا مني؛ فقالا له: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته أعفيت مما تكره ، قال: أنصفتما بي؛ ثم ركز الحربة وجلس.
فكلمه مصعب، وعرض عليه الإسلام، وتلا عليه القرآن؛ قال: فوالله لعرفنا فيه الإسلام قبل أن يتكلم لتسهل وجهه؛ ثم قال: وكيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدين .
فقالا له: تطهر وتطهر ثيابك، وتشهد شهادة الحق، وتركع ركعتين؛ فقام ففعل، ثم أخذ الحربة وانصرف عنهما إلى قومه.
فلما رآه رجال بني عبد الأشهل قالوا: نقسم بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم؛ فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، أي رجل تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: نعلمك والله خيرنا أفضلنا، أيمننا نقيبةً، وأفضلنا فينا رأياً؛ قال: فإن كلام نسائكم ورجالكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله وحده، وتصدقوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فوالله ما أمسى من ذلك اليوم في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلم) ( ).
لبيان معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يبعث مصعب بن عمير سفيراً إلى يثرب.
وكما كان بنو عبد الدار حملة لواء المشركين في معركة أحد فان مصعب بن عمير حمل اللواء مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ ،وهو من بني عبد الدار أيضاً .
وهو (مصعب بن عمير: بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي بن كلاب العبدري) ( ).
وعندما حان موسم الحج قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة تواعد الأنصار على الخروج إلى مكة (وخرج معهم مصعب بن عمير إلى مكة، اتفق منهم سبعون رجلاً، قال ابن إسحاق: ثلاثة وسبعون نفساً لاقوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فوعدهم أن يحضروا العقبة في الليلة الثانية من ليالي التشريق؛ فكانت تلك الليلة هي ليلة العقبة الكبرى الثالثة) ( ).
وهل عودة مصعب إلى مكة سالماً ثم رجوعه إلى المدينة سالماً من الإيواء الذي تذكره آية البحث [فَآوَاكُمْ]الجواب نعم ، وهو من البشارات بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الكتائب والسرايا ثم عودتهم سالمين .
ومن البشارات التي غيرت مجرى الوقائع والأحداث ، وصارت سبباً في حفظ المدينة وأهلها ، وغيرهم .
وعن (محمد بن إسحاق، قال: كان تبّع الآخر وهو تبّان أسعدأبو كرب حين أقبل من المشرق، جعل طريقه على المدينة، وقد كان حين مر بها في بدءته لم يهج أهلها، وخلّف بين أظهرهم ابناً له، فقتل غيلة، فقدمها وهو مجمع لإخرابها، واستئصال أهلها وقطع نخلها؛ فجمع له هذا الحي من الأنصار حين سمعوا بذلك من أمره ليمتنعوا منه، ورئيسهم يومئذ عمرو بن الطلة، أحد بني النجار، ثم أحد بني عمرو بن مبذول؛ فخرجوا لقتاله.
وكان تبّع حين نزل بهم، قد قتل رجل منهم – من بني عدي بن النجار يقال له أحمر – رجلا من أصحاب تبّع، وجده في عذق له يجده، فضربه بمنجله فقتله، وقال: إنما الثمر لمن أبّره، ثم ألقاه حين قتله في بئر من آبارهم معروفة يقال لها: ذات تومان.
فزاد ذلك تبّعاً عليهم حنقاً .
فبينا تبّع على ذلك من حربه وحربهم يقاتلهم ويقاتلونه – قال: فتزعم الأنصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار، ويقرونه بالليل فيعجبه ذلك منهم؛ ويقول: والله إن قومنا هؤلاء لكرام – إذ جاءه حبران من أحبار يهود منهم من بني قريظة، عالمان راسخان حين سمعا منه ما يريد من إهلاك المدينة وأهلها، فقالا له: أيها الملك لا تفعل؛ فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة، فقال لهما: ولم ذاك .
فقالا: هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحي من قريش في آخر الزمان، تكون داره وقراره. فتناهى عند ذلك من قولهما عما كان يريد بالمدينة، ورأى أن لهما علماً، وأعجبه ما سمع منهما. فانصرف عن المدينة، وخرج بهما معه إلى اليمن واتبعهما على دينهما.
وكان اسم الحبرين كعباً وأسداً، وكانا من بني قريظة، وكانا ابني عم، وكانا أعلم أهل زمانهما) ( ).
ومن الآيات أن أهل مكة لم يستطيعوا البطش بمصعب بن عمير مع شيوع هجرته إلى المدينة ودخول كثيرين الإسلام على يديه لأنه دخل مكة في الأشهر الحرم وموسم الحج .
وكان بني عبد الدارعندهم السدانة وهي الحجابة وهم حملة لواء في الحرب ، ومنهم بنو شيبة الذين لا زال مفتاح الكعبة بأيديهم.
ومعنى السدانة هي العناية بالكعبة وتولي فتحها وغلقها وغسلها وكسوتها وإصلاح الكسوة ، وجدران الكعبة.
وفي وصف فتح باب الكعبة وشأن القائمين عليه (امتازت قبيلة من العرب تسمى بني شيبة بحفظ مفتاح باب الكعبة وهم خدمها كان لهم خلع ومشاهرات من سلطان مصر .
ولهم رئيس بيده المفتاح وحين يجيء يصاحبه خمسة أو ستة أفراد وحين يصلون ينضم إليهم عشرة من الحجاج فيرفعون السلّم ويضعونه أمام الباب فيصعد هذا الشيخ ويقف على العتبة ويصعد بعده رجلان ويرفعان الستار والديباج الأصفر يمسك كل منهما طرفا منه .
بحيث يحجب الشيخ وهو يفتح الباب يفتح الشيخ القفل وينزعه من الحلق .
بينما الحجاج وقوف أمام الكعبة فحين يفتح الباب يرفعون أيديهم بالدعاء فيعرف كل من يسمع صوتهم بمكة إن باب الكعبة قد فتح فيرفع الناس جميعاً أصواتهم عالية ويدعون ربهم وتحدث جلجلة عظيمة بالبلد .
ثم يدخل الشيخ بينما الرجلان يمسكان الستار ويصلي ركعتين ثم يعود فيفتح الباب على مصراعيه ويقف على العتبة ويقرأ الخطبة عليهم بصوت مرتفع ويصلي على رسول الله عليه الصلوات والسلام وعلى أهل بيته ثم يقف الشيخ وأصحابه على جانبي باب الكعبة بينما يأخذ الحجاج في الصعود ودخول الكعبة فيصلي كل منهم ركعتين ثم يخرج ويدوم ذلك إلى قرب منتصف النهار ويولون وجوههم أثناء صلاتهم بالكعبة نحو الباب مع جواز التوجه نحو الجوانب الأخرى.
وقد أحصيت الناس في وقت كانت الكعبة ممتلئة فيه حتى لم يكن بها مكان لداخل فكانوا عشرين وسبعمائة رجل وعامة حجاج اليمن يشبهون الهنود فكل منهم يتشح بفوطه وشعورهم متدلية ولحاهم مضفرة وفي وسط كل منهم حربة قطيفية كالتي يتمنطق بها الهنود ويقال إن أصل الهنود من اليمن وإن قتالة أصلها كتارة الحربة ثم عربت ويفتح باب الكعبة أيام الاثنين والخميس والجمعة من أشهر شعبان ورمضان وشوال فإذا جاء ذو القعدة أغلق الباب.) ( ).
ليفوز مصعب بن عمير بالخلود في الدراين بدعوته إلى الله عز وجل ،وجهاده في سبيله وتحمله الأذى والمصائب في جنب الله ، مع أنه كان أنعم شباب مكة ، وكانت أمه تتعاهده وتنفق عليه .
نعم لم تمر الأيام حتى انتقمت قريش من مصعب بن عمير بقتله في معركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، والذي قتله هو ابن قمئة وكان يظن أنه رسول الله .
قانون إشاعة قتل النبي (ص) يوم أحد إرهاب
لقد كان ابن قمِئة الحارثي يعلن متوعداً أنه يروم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد ، وكان ابن قمئة فارساً شجاعاً ، وسنحت له فرصة ، إذ أمر خالد بن الوليد خيل المشركين بالتقدم من خلف جيش المسلمين عندما رآى ترك أكثر الرماة مواضعهم طلباً للغنيمة وإنشغال عدد من المسلمين بالغنائم ، فانتهزها ابن قمِئة فرصة فتقدم صوب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد تفرق عنه أكثر أصحابه فرمى النبي (بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجّه في وجهه فأثقله) ( ).
ثم تقدم لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان مصعب بن عمير يذب عنه فقتله ، وهو يظن أنه قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ كان مصعب يشبهه وضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف .
فرجع ابن قِمئة إلى معسكر قريش وهو ينادي : قتلت محمدا ، فانتشر هذا الإعلان في المعسكرين بسرعة ، للتقارب والتداخل بينهما ، وهذا الإنتشار من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ]( ) إذ تفرق عدد من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل هذا الإعلان وبعده أيضاً ، لذا قيل أن الشيطان هو الذي صرخ يومئذ (قُتل محمد) .
لتشير الآية أعلاه لهذا لمعنى بأن الشيطان استزل بعض الصحابة بفتنة إعلان قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بينما كان المقتول هو مصعب بن عمير ، والشيطان هو الذي أوهم ابن قِمئة وجعله يكتفي بقتل مصعب ، ويعود إلى معسكره وهو يعلن قتلت محمداً .
(عن ابن عباس أنه قال : ما نصر الله نبيه في موطن كما نصر يوم أحد فانكروا .
فقال ابن عباس : بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله ، إن الله يقول في يوم أحد { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه } يقول ابن عباس : والحس : القتل)( ).
وهذا الإعلان وبطلانه وعدم صحته معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : بيان إصرار المشركين على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يكن العزم على قتله على نحو القضية الشخصية ، إنما كان المشركون يتناجون في قتله ، وكان هذا القتل من أهم الغايات لزحف ثلاثة آلاف مقاتل إلى المدينة في معركة أحد ، وإن كانت هذه الغاية مخصوصة بطائفة من رؤساء قريش ، فلذا أسرع ابن قِمئة بعد قتله مصعب بن عمير إلى المعسكر ونادى بأعلى صوته (إني قتلت محمداً وصاح صارخ : ألا أن محمداً قد قتل .
ويقال : إن ذلك الصارخ إبليس لعنه الله فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعوا الناس ويقول : إليَّ عباد الله إليَّ عباد الله فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه حتى كشفوا عنه المشركين) ( ).
الثاني : وهم وظن ابن قِمئة بأنه قتل النبي محمداً وانصرافه مع أنه كان على بعد بضعة أمتار عنه ، وقد جرح النبي صلى الله عليه وآله وسلم جراحات بالغة وهي:
الأولى : كسر أنف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسنانه الأمامية إذ رماه بحجر .
الثانية : شجّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وجهه .
الثالثة : كسر الخوذة التي على رأس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : صراخ الشيطان في ميدان المعركة (قُتل محمد) ليكون هذا الصراخ سبباً لإكتفاء المشركين بهذا الإعلان ، ونجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعدم مواصلتهم الهجوم والكر على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة مع معرفتهم بمحله وقلة الصحابة الذين حوله ، وهو أحد عشر ، وقيل أقل من هذا العدد ، خاصة وأن عدداً قتل منهم مثل مصعب بن عمير وبعض الأنصار الذين عرضوا أجسادهم دروعاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
(وقاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية قتالاً شديداً، وضربت عمرو بن قميئة بالسيف ضربات، فوقعت درعان كانتا عليه، وضربها عمرو بالسيف فجرحها جرحاً عظيماً على عاتقها. وترس أبو دجانة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره، والنبل يقع فيه، وهو لا يتحرك) ( ).
وأبو دجانة هو سماك بن خرشة من بني ساعدة من الخزرج ومع هذا لم يقتل أبو دجانة يومئذ ، (عن ثابت عن أنس قال : رمى أبو دجانة بنفسه في الحديقة يومئذ فانكسرت رجله فقاتل حتى قتل . وقد قيل : إنه عاش حتى شهد مع علي بن أبي طالب عليه السلام صفين) ( ).
وتدل آثار صراخ الشيطان يومئذ (قُتل محمد) على معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي حتى صراخ الشيطان يكون نجاة له ووبالاً على أعدائه ، وبطلان وزيف هذا الإدعاء من مصاديق قوله [أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
قانون الإعجاز عن إحصاء النعم تنزيه عن الإرهاب
من خصائص الحياة الدنيا أنها دار النعم الإلهية التي تترى متصلة ، وهل يستطيع الإنسان يوم القيامة إحصاء النعم الإلهية التي أنعم الله عز وجل عليه في الحياة الدنيا ، الجواب لا , لعمومات قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) وتقديرالآية لا تحصوها في الدنيا أو الآخرة .
فلا يحصي الناس نعم الله عز وجل حتى في الآخرة من جهات :
الأولى : توالي النعم في الدنيا والآخرة .
الثانية : مضاعفة النعم اثناء كل مرة من الإحصاء .
الثالثة : النعم الإلهية أعم من أن ترى بالبصر ، وحتى بمجموع الحواس ، فمنها ما لا يدرك إلا بالعقل والتدبر ، لذا كانت معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حسية وعقلية .
ومن أسرار النعم الإلهية أنها تدعو المسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً إلى السلم الأهلي والتآلف ، وترك الإرهاب ، وإلى الإمتناع عن القتال وإثارة الفتن والحروب .
لذا فكل بعثة نبي هي نعمة عظمى تقطع تواتر الحروب ، وتمنع من استمرار القتال ، وما يترشح عن الكفر والضلالة من الفتن .
الرابعة : ذات كشف البصر يوم القيامة نعمة للإنسان تتفرع عنه نعم كثيرة منها ، ويحتمل المراد بالبصر في الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : حدة النظر وما يقابل العين من الأشخاص والأشياء .
الثاني : بصيرة القلب .
الثالث : الفرد الجامع للبصر والبصيرة .
المختار هو الأول ، إذ يعاين الإنسان يومئذ أهوال القيامة ، ولسان الميزان ، وتمثل الأعمال على نحو مادي من جهة الثقل والخفة ، كما في قوله تعالى [فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ *فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ] ( ).
وعن عمرو بن شطيب عن ابيه عن جده (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : يمثل القرآن يوم القيامة رجلاً فيؤتى الرجل قد حمله فخالف أمره ، فيقف له خصماً فيقول : يا رب حملته إياي فبئس حاملي تعدى حدودي ، وضيع فرائضي ، وركب معصيتي ، وترك طاعتي ، فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال : فشأنك ، فيأخذ بيده فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار .
ويؤتى بالرجل الصالح قد كان حمله وحفظ أمره ، فيتمثل له خصماً دونه فيقول : يا رب حملته إياي فحفظ حدودي ، وعمل بفرائضي ، واجتنب معصيتي ، واتبع طاعتي ، فما يزال يقذف له بالحجج حتى يقال له : شأنك به ، فيأخذ بيده فما يرسله حتى يلبسه حلة الاستبرق ، ويعقد عليه تاج الملك ، ويسقيه كأس الخمر) ( ).
ويحتمل قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) وجوهاً :
الأول : دعوة المسلمين والناس لإحصاء نعم الله.
الثاني : الإمتناع عن إحصاء النعم لثبوت العجز عنه .
الثالث : التخيير بين إحصاء النعم وعدمه .
والصحيح هو الأول ، إذ وردت آيات القرآن بالحث على تذكر واستحضار النعم ، ومقابلتها بالشكر لله عز وجل .
وفي التنزيل [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] ( ) .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه عموم صيغة الخطاب والأمر إلى الناس جميعاً ، ليكون هذا الذكر سور الموجبة الكلية الذي يلتقي عنده الناس وفيه مسائل :
الأولى : إلتفات الناس جميعاً لإشتراكهم بالنهل من نعم الله عز وجل .
الثانية : نعم الله عز وجل عنوان الأخاء بين الناس ، وسبب للألفة والوفاق بينهم .
الثالثة : الإلتفات باستحضار النعم برزخ دون الإقتتال .
الرابعة : من الواجبات في الحياة الدنيا الشكر لله عز وجل على النعم ، ولا يستثنى أحد من هذا الواجب لذا وردت الآية بصيغة العموم [يَا أَيُّهَا النَّاسُ]، لذا كانت أول كلمة نطق بها آدم عليه السلام هي (الحمد لله ) .
ليكون من معاني قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] ( ) لزوم الإقتداء بآدم أبي البشر في الشكر والحمد لله عز وجل .
وهذا الحمد من معاني التقوى التي تذكرها الآية أعلاه ، وورد النداء العام [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] عشرين مرة في القرآن منها أنه ورد في آيتين متجاورتين من سورة فاطر ( ) بينهما آية واحدة تأمر الأولى الناس بتذكر النعم واستحضارها سواء الفردية منها أو العامة ، وجاءت الآية بالوعد والوعيد ، بالترغيب بما أعد الله للمؤمنين من الثواب ، وبالتحذير والإنذار من زينة وإغواء الحياة الدنيا .
ويكرر كل مسلم ومسلمة قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) سبع عشرة مرة في اليوم والليلة ، ليكون شكرهم وحمدهم لله عز وجل وسيلة لنزول البركات من السماء .
وليكون اختتام دعاء وشكر أهل الجنان في كل مرة قول الحمد لله ، كما ورد في التنزيل [وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) إذ ليس من آخر للدعاء وإقامة المؤمنين في الجنة ، إنما يكون ختام أهل الجنة بالحمد لله على وجوه :
الأول : عند مجئ نعمة ، وليس من حصر لنعم الله عز وجل في آنات الإقامة في الجنة .
الثاني : عند إستحضار نعمة الله عز وجل في الدنيا .
الثالث : الحمد لله على صرف البلاء ، وحجب المعصية ،والإمتناع عن الإرهاب ، والإرهاب الموازي ، إذ يشكر الإنسان ربه يوم القيامة بأنه امتنع عن الإرهاب .
الرابع : النجاة من عذاب النار .
الخامس : فضل الله عز وجل في مضاعفة الحسنات أضعافاً كثيرة ، وصيرورتها سبباً لرجحان كفة الحسنات ودخول الجنة بفضل من الله ، كما في قوله تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( ) وذات القول [الحمد لله ] في الآخرة نعمة عظمى ، وفي مرسلة الحسن البصري قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن أهل الجنة يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس) ( ).
وليكون من معاني قوله تعالى [فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ] ( )رؤية توالي النعم واستحضارالنعم في الدنيا ، لتكون حدة البصر والحواس هذه مناسبة للإكثار من الحمد لله يوم القيامة ، كما ان تذكير القرآن بهذه النعمة دعوة للإستقامة ، والإكثار من الحمد لله ، والتنزه عن الإرهاب .
وهي إنذار الظالمين ، إذ يرون قبيح أعمالهم في الآخرة ، وإنتفاء الأسباب لسفك الدماء وإشاعة القتل .
ليكون من معاني قوله تعالى [فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] ( )التذكير بالوقوف بين يدي الله عز وجل يوم القيامة ، والعقاب على الظلم واستهداف الأبرياء وإشاعة الخوف والفزع بين الناس بغير حق .
علة تسمية الكعبة
وفي علة تسمية الكعبة وجوه :
الأول : موضع الكعبة وسط الدنيا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لأنها وسط الدنيا، وكذا لأنها مربعة ، والتكعيب التربيع.
الثاني : مقابلة الكعبة للبيت المعمور في السماء ، وعن الإمام الصادق عليه السلام أنه سئل : لم سميت الكعبة كعبة ؟ قال: لانها مربعة، فقيل له: ولم صارت مربعة ، قال: لانها بحذاء بيت المعمور وهو مربع، فقيل له: ولم صار البيت المعمور مربعا ، قال: لانه بحذاء العرش وهو مربع، فقيل له: ولم صار العرش مربعا ، قال: لان الكلمات التي بني عليها الاسلام أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر( ).
الثالث : فسميت الكعبة كعبة لارتفاعها من الأرض ، وثباتها على الموضع الرفيع ، وسميت البيت الحرام لأن اللّه حرّمه وعظم حرمته.
وفي الحديث : مكتوب في أسفل المقام : إني أنا اللّه ذو بكة حرمتها يوم خلقت السماوات والأرض. ويوم وضعت هذين الجبلين وحففتهما بسبعة أملاك حفاً من جاءني زائراً لهذا البيت عارفاً بحقه مذعناً لي بالربوبية حرّمت جسده على النار( ).
الرابع : قد يراد من الكعبة مطلق الحرم ، كما في قوله تعالى [هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ]( )، لأن ذبح الهدي يقع في مكة ولا يقع عند الكعبة نفسها .
الخامس : وقيل أن العرب يسمون كل بيت مربع كعب سميت الكعبة لإستدارتها وارتفاعها ، ولا يختص هذا الإرتفاع بالبناء إنما يشمل الذكر في الدنيا وشهرتها بين الناس في كل زمان ، وإذ زاد شأن الإنسان يقال: قد علا كعبه.
مسلمات أوائل تعرضن للتعذيب
لقد كان العرب يترفعون عن الإعتداء على المرأة كما كانوا يتلقون عتابها ولومها من غير رد ولا يُبطش بها فلا تؤاخذ بشئ من كلامها ومنطقها.
ولما أُدخل رأس الإمام الحسين عليه السلام (وصبيانه وأخواته ونسائه على عبيد الله بن زياد لبست زينب ابنة فاطمة أرذل ثيابها، وتنكرت، وحفت بها إماؤها، فلما دخلت جلست، فقال عبيد الله بن زياد: من هذه الجالسة؟ فلم تكلمه؛ فقال ذلك ثلاثاً، كل ذلك لا تكلمه .
فقال بعض إمائها: هذه زينب ابنة فاطمة ، فقال لها عبيد الله: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم ، فقالت: الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وطهرنا تطهيراً، لا كما تقول أنت، إنما يتفضح الفاسق، ويكذب الفاجر؛ قال: فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك .
قالت: كتب عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاجون إليه، وتخاصمون عنده؛ فغضب ابن زياد واستشاط .
فقال له عمرو بن حريث: أصلح الله الأمير، إنما هي امرأة، وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها، إنها لا تؤاخذ بقول، ولا تلام على خطل)( ).
ولم تكن المسلمات الأوائل يوجهن اللوم والذم إلى كفار قريش إنما علموا أنهن دخلن الإسلام فاستشاطوا غضباً ، وقاموا بتعذيبهن من أجل منع الرجال والنساء من دخول الإسلام .
وهل كل امرأة دخلت الإسلام في أيامه الأولى تعرضت للتعذيب الجواب لا ، بينما تعرضت نساء من بني هاشم لم يدخلن الإسلام إلى التعذيب والحصار في شُعب أبي طالب ، والحرمان من الزواج لصلة الرحم مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن المسلمات الأوائل اللاتي تعرضن للتعذيب :
الأولى : سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر ، وهي مولاة لأبي حذيفة بن المغيرة ، فلما حالف ياسر أبا حذيفة بن المغيرة ، زوجه أبو حذيفة أمة له وهي سمية بنت خياط ، فولدت له عماراً فاعتقه أبو حذيفة ، ومنها صار عمار مولى لبني مخزوم (وللحلف والولاء اللذين بين بني مخزوم وبين عمار وأبيه ياسر كان اجتماع بني مخزوم إلى عثمان حين نال من عمار غلمان عثمان ما نالوا من الضرب حتى انفتق له فتق في بطنه ورغموا وكسروا ضلعاً من أضلاعه فاجتمعت بنو مخزوم وقالوا: والله لئن مات لا قتلنا به أحداً غير عثمان.
قال أبو عمر : كان عمار وأمه سمية ممن عذب في الله، ثم أعطاهم عمار ما أرادوا بلسانه واطمأن بالإيمان قلبه، فنزلت فيه [إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ]( )، وهذا مما اجتمع أهل التفسير عليه)( ).
وسمية من السابقين في الإسلام بمكة (وكانت ممن يعذب في الله عز وجل لترجع عن دينها فلم تفعل، فمر بها أبو جهل فطعنها في قلبها فماتت وكانت عجوزاً كبيرة، فهي أول شهيدة في الإسلام)( ).
وكانت وفاتها في السنة السادسة من البعثة النبوية وفي هذه السنة أسلم حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب لبيان فضل الله عز وجل على المسلمين ، إذ يستضعفهم المشركون فيقتلون امرأة منهم فينعم الله عليهم بدخول أفراد وجماعات الإسلام بما يزيده منعة ، وكان سبب إسلام حمزة بن عبد المطلب هو أبو جهل نفسه الذي طعن سمية بنت خياط في قبلها وقتلها ، إذ أنه مرّ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو جالس عند جبل الصفا ، فأذاه وشتمه ، ونال منه ونعته بالكذب والسحر ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد عليه ، ولم يكلمه ، حتى انصرف أبو جهل.
وكانت مولاة لعبد الله بن جدعان في دار لها فوق الصفا ، سمعت ما قال أبو جهل ، وتألمت وحزنت ، ولكنها عاجزة عن الرد ، فما هي إلا برهة حتى نظرت فرأت حمزة بن عبد المطلب قد أقبل متوشحاً قوسه ، راجعاً من قنص له ، والقنص : الصيد .
(والقانِصُ والقَنّاصُ: الصياد، وصدت وقَنَصْتُ واصطدت واقَتَنَصْتُ يستوي تصريفها.
والقانِصةُ: هنة كحجيرة في بطن الطائر، ويجوز بالسين.
والقَنيصُ جماعة القانص كالحجيج جمع الحاج، قال الأخطل:
آنس صوت قَنيصٍ أو أحس بهم … كالجن يقفون من جرم وأنمار)( ).
وكان حمزة إذا رجع من الصيد لا يذهب إلى بيته حتى يطوف بالكعبة ، وكان بيته خلف الصفا في شعب أبي طالب.
قال ابن إسحاق : وكان حمزة (أعز قريش وأشدها شكيمة، فلما مر بالمولاة قالت له: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد أنفاً من أبي الحكم بن هشام وجده ها هنا جالساً فسبه وأذاه وبلغ منه، فلم يكلمه محمد، فاحتمل حمزة الغضب)( ).
فدخل حمزة المسجد فرأى أبا جهل جالساً مع جماعة من قومه ومن غيرهم ، فضربه حمزة بالقوس ضربة شجه بها شجة منكرة فاندهش أبو جهل والجالسون ، فقال حمزة (أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول ؟ فاردد علي إن استطعت)( ).
ونهض رجال من بني مخزوم إلى حمزة نصرة لأبي جهل ، الذي إختار التهدئة ، ودرء الفتنة ، وإجتناب بطش حمزة بهم ونصرة بني هاشم والمسلمين له ، وقال :
(دعوا أبا عمارة، فإني والله لقد سببت ابن أخيه سباً قبيحاً.
وتم حمزة على إسلامه، فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد عز، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض ما كانوا ينالون منه)( ).
أي لم يمنع قريش من إيذائها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم اسلام حمزة أو غيره ، ولكن هذا الإيذاء صار أخف مع بقاء شدة المكر والكيد من كفار قريش إلى أن عزموا على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه بعد هذه الحادثة بضع سنين أي في السنة الثالثة عشرة للبعثة النبوية وهي سنة 622م.
وهل دخول الذوات والشجعان الإسلام من مصاديق إنتقال المسلمين وحال القلة والإستضعاف الى حال الكثرة والمنعة ، الجواب نعم ، لذا وردت آية البحث بصيغة الماضي [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ]( ).
وهل تدعو الآية المسلمين إلى الرحمة بالمستضعفين من النساء والصبيان والشيوخ الكبار والمرافق العامة ، الجواب نعم ، ليكون من أفراد هذه الرحمة الإمتناع عن الإرهاب ، والتفجيرات العشوائية.
الثانية : لبيبة جارية بني المؤمل بن حبيب بن تميم بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب كانت أحد من يعذب من المستضعفين( ).
الثالثة : زنيرة الرومية. كانت من السابقات إلى الإسلام، أسلمت في أول الإسلام، وعذبها المشركون. قيل: كانت مولاة بني مخزوم، فكان أبو جهل يعذبها.
وقيل: كانت مولاة بني عَبْد الدار، فلما أسلمت عَمِيت، فقال المشركون: أعمتها اللات والعزى لكفرها بهما ، فقالت: وما يدري اللات والعزى من يعَبْدهما، إنما هذا من السماء، وربي قادر على رد بصري، فأصبحت من الغد ورد الله بصرها، فقالت قريش: هذا من سحر مُحَمَّد( ).
وقيل كانت أمة لعمر بن الخطاب قبل إسلامه.
الرابعة : أم عبيس (كانت فتاة لبني تيم بن مرة فأسلمت أول الإسلام وكانت ممن استضعفه المشركون يعذبونها فاشتراها أبو بكر فأعتقها وكنيت بابنها عبيس بن كريز)( ).
الخامسة والسادسة : النهدية وابنتها ، وكانت قريش تعذب النهدية فاشتراها أبو بكر (كان مع النهدية يوم اشتراها طحين لسيدتها تطحنه أو تدق لها نوى، فقال لها أبو بكر: ردي إليها طحينها أو نواها، فقالت لا حتى أعمله لها، وذلك بعد أن باعتها. وأعتقها أبو بكر)( ).
إحصاء تلاوة النبي (ص) للقرآن
قال تعالى [وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا]( )، الإحصاء علم من علوم الرياضيات يتضمن الجمع والبيانات والوصف والتلخيص والإستنتاج ، ويقسم الإحصاء إلى :
الأول : الإحصاء بالوصف .
الثاني : الإحصاء الإستدلالي المستقرأ .
ولقد صاحب الإحصاء عادة الإنسان في الأرض ، وهو جزء من الحياة اليومية الخاصة والعامة .
ويمكن (تسمية الحياة الدنيا دار الإحصاء) يتخذ الفرد والجماعة الإحصاء والحساب لتنظيم الحياة اليومية وضبط المعاملات ومنه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ]( )، وصحيح أن الضمير الهاء في فاكتبوه تعود للدين إلا أنها أعم موضوعاً وحكماً ، وتكون بلحاظ علم الأحصاء على وجوه :
الأول : كتابة مقدار الدين .
الثاني : ذكر اسم الدائن واسم المدين .
الثالث : كتابة أسماء الشهود والكاتب .
الرابع : ذكر جنس الدين سواء كان من الأعيان أو العروض .
الخامس : تعيين أجل الدين .
السادس : ذكر شروط الدين بقيد التنزه من الربا وجلب المنفعة على القرض .
ومن معاني الدنيا دار الإحصاء ، قيام الملائكة باحصاء أقوال وأفعال العباد.
وقد وردت آيات متعددة بهذا الخصوص ، قال تعالى [وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ* كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ]( )، وقال تعالى [إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( )، وقال تعالى [وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلْ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ]( ).
وقال تعالى [أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ]( )، وقال تعالى [لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ]( )، وقد جاء الجزء (191) من تفسيري للقرآن خاصاً بالصلة بين هذه الآية والآية التي قبلها [وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ]( ) .
كما جاء الجزء التسعون بعد المائة من تفسيري للقرآن خاصاً بتفسيرها والحمد لله ، قال تعالى في الثناء على نفسه [وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا]( )، لبيان إنفراد الله عز وجل باحصاء كل شئ.
ومن الإحصاء ما فيه الأجر والثواب كما في خصوص الأسماء الحسنى وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً ، من أحصاها دخل الجنة( ).
ولا يعني هذا حفظ هذه الأسماء فيصح احصاؤها ولو بقراءتها في كتاب ، كما يصح مثلاً يا رحيم ارحمني ، يا غفور اغفر لي ، ياعفو اعفو عني ، يا رزاق ارزقني ، ياوهاب هب لي ، وهل هناك ثواب في إحصاء المسلم أفراد عباداته ، الجواب نعم.
كما لو كان يعدّ ما صامه من أيام شهر رمضان ، أو يعد عدد أشواط الطواف في الحج ، أو عدد المرات التي رزقه الله فيها الحج أو العمرة .
أو أحصى ما عنده من المال ليعلم هل من نصاب فيخرج الزكاة ، أو هل من زائد على المؤونة فيدفع الخمس ، الجواب نعم .
ولو قام المصلي بعدّ ركعات الصلاة اثناء أدائها ، فهل فيه ثواب أم أنه انشغال عن افعال الصلاة.
الجواب هو الأول ، وفيه طرد للشك ، ومنع للإنشغال بغير الصلاة ، ويمكن إجراء احصائية تقريبية خاصة بخصوص تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأول : عدد تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآيات عند ابتداء نزولها ، وبعد انفصال الوحي عنه.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فرعبت منه ، فرجعت ، فقلت : زملوني . فأنزل الله [يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ] ( )، فحمي الوحي وتتابع)( ).
وهل تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدد آيات القرآن أم أكثر منها ، الجواب هو الثاني من وجوه :
أولاً : قد يقرأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الآية القرآنية عند نزولها أكثر من مرة .
ثانياً : ينزل أحياناً شطر من آية ثم ينزل شطر آخر منها .
ثالثاً : قد يطلب بعض الصحابة إعادة تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآية التي نزلت حديثاً لحفظها ، والتدبر في معانيها.
ومن الإعجاز في تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن ، أنه كان يقف في قراءته عند كل آية فيقول بسم الله الرحمن الرحيم، ويقف ، ثم يقول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، ويقف ثم يقول [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( )، ويقف.
ثم يقول [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]( )، إلى تمام السورة ، وكذا في الآيات والسور الأخرى .
الثانية : إملاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآية القرآنية على كتاب الوحي وعلى غيرهم .
الثالثة : عدد المرات التي قرأ فيها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن في الصلاة ، وهي على أقسام :
الأول : إحصاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن في صلاة الفريضة وفي كل فرض منها كصلاة الصبح ، وصلاة الظهر .
الثاني : إحصاء تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن في صلاة النافلة.
الثالث : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن في جوف الليل ، قال تعالى [قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
الرابع : صلاة النبي في الأسفار والكتائب .
الخامس : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن في صلاة الآيات، وصلاة العيد ، وصلاة الاستسقاء ونحوها.
الرابعة : عدد المرات التي قرأ فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن وهو على المنبر .
الخامسة : إحصاء استدلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بآيات القرآن ، وهو من عمومات قوله تعالى [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ).
السادسة : تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن .
السابعة : تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفراداً من المسلمين القرآن.
الثامنة : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن في المسجد النبوي.
التاسعة : قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن في الأسفار والكتائب .
العاشرة : احتجاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بآيات القرآن .
الحادية عشرة : بشارة وإنذار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بآيات القرآن ، قال تعالى [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ]( ).
الثانية عشرة : استشهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن.
الثالثة عشرة : إتخاذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن وسيلة للتذكير والبشارة والإنذار ، قال تعالى [فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ] ( ).
الرابعة عشرة : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن لترغيب الناس بدخول الإسلام ، وتأكيد صدق نزوله من عند الله عز وجل وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة وقبل الهجرة يحضر أسواق مكة خاصة سوق ذي المجاز ويدعو الناس جهرة لعبادة الله وحده ، ونبذ الشرك، وعبادة الأوثان.
كما كان يطوف على القبائل في محلها في موسم الحج يدعوهم إلى الإسلام ، ويتلو عليهم آيات القرآن ويسألهم أن يكتموا أمره خشية بطش قريش ، وهذا الطواف من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن وفود القبائل تجمع الرؤساء والشعراء والفصحاء وهو يتحداهم مجتمعين ومتفرقين بآيات القرآن المكية ، وما فيها من الوعد والوعيد .
ليكون من معاني مناسبة الحكم والموضوع لهذه التلاوة منع القبائل من إعانة قريش على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
كفاية النية الواحدة في الحج
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (خذوا عني مناسككم).
وورد بخصوص حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة .
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال : رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه( ).
وصيغة الحديث المشهورة ، خذوا عني مناسككم ، كما في سنن البيهقي( )، وفي الناصريات للسيد المرتضى( )والمعنى واحد.
وصورة نية حج التمتع : أحج حج التمتع حج الإسلام الواجب واحرم له قربة إلى الله.
ولو كان الحج مستحباً يقول أحُجُ حج التمتع استحباباً وأحرم له قربة إلى الله تعالى .
وإذا كان نيابة عن غيره يضيف نيابة عن فلان ويسمي المنوب عنه .
والنية شرط في الحج باردته جملته ( ).
وليس اتيان النية في كل فرد من المناسك كالطواف ، والسعي ، والوقوف بعرفة والوقوف في مزدلفة ورمي الجمرات وغيرها ، ومن خواص النية أن الفرد الواحد منها يجمع عدة أفعال.
والحج على ثلاثة أقسام :
الأول : حج التمتع ، وأصل التمتع التلذذ ، سُمي به لما يتحلل بين عمرته وحجه من جواز التمتع بالنكاح وما حرمه الإحرام مع اتصال الحج بالعمرة التي لابد أن تؤدى في أشهر الحج.
وحج التمتع فرض الذي يأتي من بعد عن المسجد الحرام ، بمقدر 48 ميل من كل جهة وقيل أقل ، وجعلها مشهور الإسلام ألا تقل عن المسافة التي يجوز فيها قصر الصلاة ، وأنه ليس من أهل مكة .
الثاني : حج القران .
الثالث : حج إفراد .
أما العمرة المفردة فوقتها جميع أيام السنة ، والمختار جواز أداء أكثر من عمرة في اليوم الواحد ولكنه خلاف السنة والسيرة وفيه مشقة على المعتمر وقد قال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( )، إلى جانب نفي الحرج ، وموضوعية الزحام فلا يصح تكرار العمرة مع الزحام خاصة في موسم الحج لقاعدة لا ضرر ولا ضرار ، أما ما ورد عن الإمام علي عليه السلام : لكل شهر عمرة( ).
ففيه ترغيب بالعمرة ، وإلا فقد ورد عن الباقر عليه السلام قال: لا تكون عمرتان في سنة( ).
ويحمل على عمرة التمتع .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما( ).
كما ورد الحديث عن الإمام الرضا عليه السلام.
الأصل في النية لزوم مقارنتها لأول الفعل كما في الصلاة واقترانها بتكبيرة الأحرام ، وكذا في الحج عند الإحرام من الميقات.
إلا في الصوم فيجوز تقديم النية عليه من الليل أو كفاية نية واحدة للشهر كله ، وهو المختار.
وقد يقع تأخرها في حال النسيان وعدم العلم أو عند السفر والقدوم قبل الظهر فينوي الصيام في اثناء النهار ، وتتغشى آنات النهار فتترتب عليها الصحة ، والأجر والثواب .
وجوازها بعد الظهر في الصيام المندوب .
وحتى المباحات كالأكل والشرب ، ففيها مع قصد القربة المستحب الأجر والثواب وفيه تحصيل المرغوب فيه على نحو الفورية أو التدريج والتعاقب أو دفعة أو آجلاً [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
وكذا يجوز تقديم النية في النذر مع سببه أو موجبه فمثلاً تقوم حملات الحج باطلاق صيغة النذر للإحرام من السكن في المدينة المنورة ليوفر لهم الوقوف عند الميقات ، والإحرام منه ، ولكن هذا الفعل خلاف السنة النبوية وتضييع لثواب الإحرام من الميقات والتأسي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيه قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا]( ).
ولو كان الحاج راكباً في الطائرة وأخبر الطيار بأنهم في محاذاة الإحرام يقوم بالتلبية ، ومع تعذر هذا الإخبار يجوز الإحرام من الطائرة تقدير وقت ما قبل بلوغ الميقات .
كما يجوز الإحرام من جدة عند هبوطه إلى الأرض ، لقوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( )، ولقاعدة نفي الحرج.
والنية في الحج وسائر العبادات من أقسام :
الأول : كفاية الداعي القلبي عند الإنشغال ، بمقدمات الفعل ، واجزائه الأولى كغسل الوجه في الوضوء ، وقال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الثاني : الإخطار بالبال، والإستحضار للفعل بالوجود الذهني من غير تلفظ بالنية .
الثالث : النية الإرتكازية ، بأن ترتكز النية وموضوعها في الذهن فلو سأل أحدٌ المكلف عن عمله وهو يتوضأ أو يغسل غسل الجنابة أو يصوم يوماً من رمضان لأجابه .
الرابع : النية اللفظية بأن يتلفظ بالنية فيقول في الحج مثلاً ، عند الإحرام: أحرم لحج التمتع حجة الإسلام قربة إلى الله ، أو عند صيام يوم من رمضان أصوم يوم غد لوجوبه قربة الى الله ، ولا يلزم التلفظ بالنية.
وقد يقول بعضهم نسيت ، وفي التنزيل [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( ).
والمختار كفاية الداعي .
والنية من الموجودات الذهنية ومعناها القصد إلى فعل الشئ والعزم على فعل شئ يقال نواه أي قصده ، ولا يشترط في النية معرفة تفاصيل المناسك سواء في العمرة أو الحج ، فيجوز أن يتعلمها عند الإتيان بها فمثلاً يشترط في الطواف النية ولا يعني التلفظ بها عند الإبتداء ، إنما يأتي بالطواف بقصد الجزئية من الحج ، والقربة .
والنسبة بين الهمّ بالشئ والنية هو العموم والخصوص المطلق فالهم الإرادة الفعلية لإتيان الشئ ، وفي التنزيل [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( ).
ومن الآيات التي تذكر أو تشير إلى النية قوله تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ]( )، قوله تعالى [وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وجاءت الآيات بلزوم قصد القربة في العبادات منها قوله تعالى [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ]( )، [قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِ]( )، [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا]( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرىء ما نوى( ).
واقترحت قبل سنتين وقوف اثنين من منتسبي الحرم في المطاف قبالة الحج الأسود ، ويحثان الطائفين على عدم الوقوف لأن هذا الوقوف يسبب الزحام ، الآن مع كورونا صار لزاماً.
ولا يشترط في النية التلفظ بها ولا الإخطار بالنية وكذا لا يجب تجديد النية في رمي الجمار بقص القربة الخالصة لله ، أو الإخفات بالنية ، إنما يكفي لو سئل أحدهم ماذا تفعل لالتفت وقال أرمي الجمرات أو أرمي الجمرات قربة إلى الله ، ويستحب الإحرام من الميقات عند زوال الشمس .
واستدل على استحباب التلفظ بالنية لما ورد بالإسناد (عن الإمام الصادق عليه السلام قال : إذا أردت الإحرام والتمتع فقل : اللهم إني اريد ما امرت به من التمتع بالعمرة إلى الحج فيسر ذلك لي وتقبله مني وأعني عليه ، وحلني حيث حبستني بقدرك الذي قدرت عليّ ، أحرم لك شعري وبشري من النساء والطيب والثياب ، وإن شئت فلب حين تنهض ، وإن شئت فأخره حتى تركب بعيرك ، وتستقبل القبلة فافعل)( ).
وهذا ليس من النية إنما هو دعاء للشروع بالحج ورجاء القبول ، والحل منه عند الحبس , نعم استحباب التلفظ بنية الحج مستقرأ من صحيحة حماد بن عثمان إذ قال للإمام الصادق عليه السلام (إني اريد أن أتمتع بالعمرة إلى الحج ، فكيف أقول.
قال : تقول : اللهم إني اريد أن أتمتع بالعمرة إلى الحج على كتابك وسنة نبيك ، وإن شئت أضمرت الذي تريد .
ورواه الصدوق بإسناده عن ابن أبي عمير مثله)( ).
وهو في ظاهره دعاء يبدو مفهوم النية في ذات السؤال (إني اريد أن أتمتع بالعمرة إلى الحج) ويستقرأ من الحديث جواز تقديم نية الحج كما يجوز تقديم الدعاء لوحدة الموضوع في تنقيح المناط .
وهل أوان هذا القول : اللهم إني أريد أن اتمتع بالعمرة إلى الحج) في الميقات الجواب إنه سابق للميقات فهو دعاء رجاء تيسير مقدمات الحج وأدائه ، وهو دعاء مستحب ، ولا يتعارض مع وجوب النية عند الميقات .
ولا يشترط في النية ذكر تحريم المحرمات وتروك الإحرام سواء في نية العمرة أو الحج بأقسامه.
أول من صام وآخر من يصوم
قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا دار التكاليف ، ومصاحبة هذه التكاليف للإنسان في وجوده على الأرض ابتداء من آدم إلى يوم ينفخ في الصور ، ومن الإعجاز في عمارة الأرض اللطف الإلهي بالناس بأن جعل وجودهم يبدأ بنبي رسول وزوجته بعد أن لبثا في الجنة برهة من الزمن ، واختلطا مع الملائكة.
وسيأتي قانون (سكن آدم في الجنة نهي عن الإرهاب).
إذ أن عنوان هذا الجزء هو (التضاد بين القرآن والإرهاب) بعد أن صدر الجزء الثامن عشر بعد المائتين بعنوان (آيات الدفاع سلام دائم).
وكان هذا السكن أعظم مدرسة لآدم وللأجيال من ذريته إذ ابتدأ بسجود الملائكة لآدم كما في قوله تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا]( ) .
وأول من صام شهر رمضان هو آدم عليه السلام فبينما قال الله تعالى له ولحواء وهما في الجنة [وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا]( )، فانهما حين هبطا إلى الأرض توجه لهما التكليف بالإمتناع عن الأكل والشرب ساعات النهار [أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ]( ) .
مع أن طعام الدنيا أدنى بمراتب عديدة عن طعام الجنة الذي كان مباحاً لهما وقد صبرا وامتثلا لأمر الله طاعة له سبحانه ، ورجاء الفوز باللبث الدائم في الجنة ثواباً على الصيام ، وفضلاً من عند الله ، و(عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن في الجنة ثمانية أبواب، باب منها يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون)( ).
ليكون تقدير قوله تعالى [كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )، أي آدم وما بعده من ذريته أو آدم وما بعده من الأنبياء .
وحدد القرآن الصيام بشهر رمضان بقوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( )، وجعل سعة ومندوحة للمريض والمسافر والذي يخشى المرض ، و[الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ]( )، أي يتحملونه بمشقة ، والمختار أن منه الصيام في النهار الطويل لمن لا يقدر عليه ، أما الذي يستطيع الصوم فيه ويتحمله ويرغب فيه فله الأجر والثواب.
ترى لماذا ذكرت الآية صيام الذين من قبلنا ، الجواب من وجوه:
الأول : بيان قانون وهو مصاحبة فريضة الصيام لأهل الأرض لأن معنى [كُتِبَ] ( )، أي فرض ، فلم يكن صيام الأمم السابقة مستحباً أو أمراً أو تخييراً أو مباحاً ، إنما كان واجباً.
الثاني : التخفيف عن المسلمين والمسلمات .
الثالث : تفقه المسلمين في المعارف الإلهية ومعرفة كيفية وأسرار العبادات والفرائض .
الرابع : الإتحاد والتشابه بين المؤمنين في الأجيال المتعاقبة .
الخامس : ترغيب المسلمين بالصيام ، لأن المحاكاة عون وبعث على أداء الفعل العام .
السادس : بيان قانون وهو تشريف المسلمين بوراثة عبادة الأنبياء ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ]( ).
السابع : دعوة المسلمين لتعاهد الأخلاق والسنن الحميدة التي يتصف بها الأنبياء والأمم السابقة .
الثامن : إتخاذ الصيام وسيلة مباركة لنشر ألوية السلام .
التاسع : تقدير الآية : كتب عليكم الصيام فصوموا كما كتب على الذين من قبلكم فصاموا.
العاشر : قبض الأيدي عن الإرهاب والإرهاب الموازي .
وأداء المسلمين الصيام حرز لأهل الأرض ، ودفع لقيام الساعة ، وقد ثبت أن أول من صام هو آدم عليه السلام فهل يستمر الصيام في الأرض إلى أن تقوم الساعة أم أنه ينقطع .
المختار هو الأول ، إذ يطل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( )، على أهل الأرض كل يوم فلابد من وجود أمة تتلقى هذا الخطاب الذي ورد بصيغة الجمع ، وهل يلزم الإستجابة السنوية المتكررة في كل شهر رمضان.
الجواب نعم ، لقانون وهو وجود امتثال واستجابة لكل أمر ونهي من عند الله عز وجل .
و(عن أبي منبه الخولاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن الله . وفي لفظ : لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته)( ).
لبيان أن أداء الفرائض بتوفيق من الله عز وجل ، مما يلزم معه الشكر لله ، ومن مصاديق الشكر الإمتناع عن الظلم والإضرار بالغير.
وفي قوله تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهذَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( )، ورد عن ابن زيد في قوله [وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ] ( ) إلى أن تقوم الساعة وتؤيده عدة نصوص منها .
(عن عمر بن الخطاب : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة.
وأخرج مسلم والحاكم وصححه عن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يزال هذا الدين قائماً يقاتل عليه المسلمون حتى تقوم الساعة.
وأخرج أبو داود والحاكم وصححه عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال.
وأخرج الترمذي وصححه وابن ماجة عن معاوية بن قرة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة)( ).
وورد خلاف هذا عن عبد الله بن مسعود : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله( ).
وورد مثله عن أنس يرفعه .
ويمكن الجمع بين الخبرين بأن العبادة تكون سراً وتقية من الذين ظلموا.
لقد جعل الله عز وجل العبادة زينة للأرض ونقاء للفرد ، وصلاحاً للمجتمعات وهي إعلان من الأمة والأفراد بالسلام ، ويأتي الصيام ليكون على وجوه :
الأول : إنه تعظيم لشعائر الله ، والإنشغال الخاص والعام بطاعته ، والتنزه عن فعل السيئات ، ورد (عن ابن عمر قال : كنا معشر أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبولاً حتى نزلت { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم }( ) فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا.
فقال : الكبائر الموجبات والفواحش ، فكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها قلنا : هلك ، حتى نزلت هذه الآية [إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء] ( ).
فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك ، وكنا إذا رأينا أحداً أصاب منها شيئاً خفنا عليه وإن لم يصب منها شيئاً رجونا له)( ).
الثاني : بالصيام حصانة من الذنوب والمعاصي.
الثالث : تحمل أعباء العطش والجوع في شهر رمضان خاصة عندما يكون اليوم طويلاً أو طويلاً وحاراً كما في أيام الصيف ، وهو شاهد على صدق الإستجابة للأوامر الإلهية ، قال تعالى [وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ]( )،( أي يطيع الّذين آمنوا ربّهم في قول بعضهم. جعل الفعل للّذين آمنوا .
وقال الآخرون : {ويستجيب الله الّذين آمنوا}( ) جعلوا الإجابة فعل الله تعالى .
وهو الأصوب والأعجب إليَّ لأنّه وقع بين فعلين لله تعالى : الأول قوله : {يَقْبَلُ} والثاني {وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ})( ).
و(عن ابن عباس قال : ضرب الله متن آدم فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقية ، فقال : هؤلاء أهل الجنة ، وخرجت كل نفس مخلوقة للنار سوداء فقال : هؤلاء أهل النار أمثال الخردل في صور الذر ، فقال : يا عباد الله أجيبوا الله : يا عباد الله أطيعوا الله.
قالوا : لبيك اللهم أطعناك ، اللهم أطعناك ، اللهم أطعناك .
وهي التي أعطى الله إبراهيم في المناسك : لبيك اللهم لبيك . فأخذ عليهم العهد بالإِيمان به ، والإِقرار والمعرفة بالله وأمره)( ).
الرابع : الصيام لواء سلام في الأرض ، ومناسبة للتآلف ونشر صيغ المودة بين المسلمين خاصة ، والناس جميعاً .
الخامس : من خصائص الصيام أنه عنوان للرأفة ومادة للتراحم بين الناس ، وقانون للتكافل بينهم ، وهو حرب على الإرهاب مدته شهر كامل يطل على الناس كل سنة فيهذب النفوس .
السادس : تتنزل الملائكة في شهر رمضان بأسباب الرحمة لأهل الأرض عامة ، والمؤمنين خاصة ، وللصائمين على نحو الخصوص ، لذا فان قوله تعالى بخصوص ليلة القدر [تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ]( )، شاهد على الأمن وسبل السلام التي تتغشى الأرض في شهر رمضان .
عن عرفجة قال : كنا عند عتبة بن فرقد وهو يحدثنا عن رمضان ، إذ دخل رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسكت عتبة بن فرقد قال : يا أبا عبد الله حدثنا عن رمضان كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيه .
قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : رمضان شهر مبارك تفتح فيه أبواب الجنة ، وتغلق فيه أبواب السعير ، وتصفد فيه الشياطين ، وينادي مناد كل ليلة : يا باغي الخير هلم ، ويا باغي الشر أقصر، حتى ينقضي رمضان( ).
السابع : شهر رمضان مناسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفيه دعوة للسلم وشيوع للطف ، وأن يكون المؤمن أسوة في عمل الصالحات لا يلقى منه الناس إلا الخير .
قانون التذكير بالنعم مانع من الإرهاب
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار النعم والهبات ، فليس من حصر لأصناف وأنواع وجنس النعم التي تأتي للناس في كل ساعة من ساعات النهار أو الليل .
ومن الإعجاز أن كل نعمة كونية معجزة عامة تدعو كل فرد وجماعة إلى الإيمان ، وتحض على السلم والألفة ونبذ الشرك ، قال تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] ( ) ومن النعم التي تذكرها هذه الآية ما هي دائمة كتعاقب الليل والنهار ، ومنها ما تكون عرضية ، ومن الكلي المشكك من جهة الكثرة والقلة كالأمطار وإنتفاع الإنسان والحيوان منها .
وأيهما أعظم النعم الكونية الدائمة والمألوفة كالشمس والقمر ، أو النعم المتجددة كالأمطار والرياح ، الصحيح هو الأول .
ولبيان أن النعم الدائمة من الكلي الطبيعي الذي ينتفع منه الناس بعرض واحد ، وقد ينتفع منها الكافر أكثر من المؤمن ,
وكذا بالنسبة للإنسان فان النعم الدائمة أكبر وأعظم من المتجددة ، فنعمة العافية والأمن دائمة ، وفيها حجة وشكر لله عز وجل بأداء الفرائض العبادية وباجتناب العنف والإرهاب .
وهل يختص التذكير بالنعم بلغة الإنذار والوعيد للذين كفروا ، الجواب لا ، إنما هو عام يشمل المؤمن والكافر ، وفيه دعوة للمؤمن لتعاهد الإيمان ، وللكافر بالتوبة والإنابة.
سواء كان التذكير بالنعم الدائمة أو النعم المستحدثة ، ومن تذكير المؤمنين بالنعم قوله تعالى [اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ]( )، ومنها [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا]( )، وورد في خطاب وأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ]( ).
وقوله تعالى [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( )، وهل قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( )، من التذكير بنعم الله على المسلمين ، الجواب نعم ، مما يستلزم الشكر والثناء على الله ، والحمد لله بالقول والفعل ، ومنه إجتناب الإرهاب.
وهل أشتراك الناس عامة بالنعم الإلهية دعوة للألفة ونبذ العنف والإرهاب ، الجواب نعم ، إذ أنها تبين قانوناً وهو فوز أهل الأرض بتقاسم النعم ، وكأنهم في بيت واحد .
وتبين آيات القرآن قانوناً وهو أن الليل والنهار مخلوقان لقوله تعالى [وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ] ( ) مما يدل على أن كلاً من الليل والنهار أمران وجوديان ، وهناك مسالتان :
الأولى : هل يدرك الليل والنهار عمل الإنسان خيراً أو شراً مما يقع في ظرف حلولهما ، أم أنهما لا يريان إلا ما هو عمل صالح .
الثانية : هل يشهد الليل والنهار على الناس يوم القيامة .
أما المسألة الأولى فالمختار أنهما يدركان ويريان عمل الإنسان حيث يشاء الله ، وهو من أسرار الوصف بأنهما مخلوقان ، وأما المسألة الثانية فالمختار نعم ، يشهد الليل والنهار للإنسان بفعل الخيرات والعمل الصالح .
قانون القرآن دستور الحوار
لقد اعتنى القرآن بالحوار ، ويمكن تسميته كتاب الحوار النازل من عند الله ، وابتدأ خلق آدم بالحوار والكلام بين الله عز وجل وبينه ، ثم بين آدم والملائكة .
لتكون هذه البداية تشريفاً وإكراماً لآدم وذريته ، ومن وجوه الإكرام أن الحوار كان في الجنة لينزل آدم بسلاح كلام الله معه قُبلا ، ومخالطته للملائكة ، وفيه بعث لإصلاح ذريته لسبل التقوى ، وللعمل لدخول الجنة على نحو دائم وأبدي من غير فتنة من إبليس وجنوده .
ليكون حوار الأديان من رشحات آيات القرآن إذ أنها تؤسس لنظام عالمي تسوده الرحمة وتبادل المعارف.
وورد في القرآن لفظ قل مرة ، وأكثر سورة ورد فيها لفظ [قل] هي سورة الأنعام إذ ورد فيها (44) مرة ، ومن إعجاز القرآن توجه هذا الخطاب باعداده الكثيرة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باستثناء مرة واحدة جاء لفظ (قل) خطاباً من الله عز وجل لموسى عليه السلام ، بقوله تعالى [اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى]( ).
وهل المقصود خصوص النبي في التكليف بـ(قل) أم أن الأمة تلحق به ، الجواب هو الثاني ، إلا ما دل عليه الدليل كما في قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] ( ) كما يصح تقدير الآية بارادة بصيغة الأمر للمسلمين ، قولوا يا أيها الناس أن محمداً رسول الله إلينا وإليكم جميعاً .
لذا ورد قوله تعالى [قُولُوا] لبيان وجوب قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ثم سورة يونس وورد فيها (24) مرة ثم سورة آل عمران وجاء فيها (23) مرة .
ومن إعجاز القرآن ورود لفظ (قل) في سبع وخمسين سورة أي نصف سور القرآن .
قوله تعالى [لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ] ( ) .
ومنه ما جاء بلغة الجملة الخبرية ، وصيغة الفعل المضارع .
و(قل) تعليم وتأديب من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وبيان عظيم منزلته عند الله عز وجل .
وكثرة الأمر (قل) في القرآن وإرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيها ، وشمولها الأحكام الشرعية والإحتجاج والصبر ، وبيان فضل الله وغيرها شاهد على أمور :
الأول : تقوّم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحوار والإحتجاج .
الثاني : كفاية القول والحوار في اقناع الناس بالرسالة ، وقد ورد لفظ (قل) في جواب على أهل الكتاب والكفار .
الثالث : في الحوار وبيان البرهان كفاية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وحجة لهم ، لذا ورد قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ).
الرابع : كثرة لفظ (قل) المتوجه كأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دليل على عظيم التكليف الذي أنيط به ، والمسؤوليات التي تحملها .
ومن معاني (قل) الأمر من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالصبر على الأذى ، وهناك مسائل :
الأولى : هل ساهم لفظ (قل) في القرآن بدخول الناس الإسلام.
الثانية : هل خفّف لفظ (قل ) في القرآن من تمادي المشركين في الهجوم والغزو .
الثالثة : هل ساعد لفظ (قل) في تفقه المسلمين في الدين .
الرابعة : هل من موضوعية للفظ (قل) في صبر الصحابة في ميادين الدفاع .
أما المسألة الأولى فان لفظ (قل) من صيغ الإحتجاج في كثير من مواضعه في القرآن ، ومنها ما جاء بصيغة الإنذار ، كما في قوله تعالى [وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ]( ).
وجاء التبليغ عن الإنذار في الآية أعلاه عاماً وشاملاً للناس جميعاً .
وورد بصيغة البشارة ، كما في قوله تعالى [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] ( ) كما جاء لفظ (قل) بالوعد والوعيد وبيان أهوال يوم القيامة.
وأما المسـألة الثانية فان مدرسة (قل) في القرآن ساهمت في دخول الناس الإسلام ، وهدايتهم إلى الرشاد ، وقد ورد لفظ (قل) في الآيات والسور المكية والمدنية .
وورد في صيغة التحدي والإنذار ، كما في قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ] ( ).
ولم يرد لفظ [الْكَافِرُونَ] إلا في هذه السورة ، وهي مكية ، ويمكن استقراء مسألة في المقام وهي إنقطاع ظن الكفار بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد يوافق على طلبهم في العبادة المشتركة ، وهذا الإنقطاع أبدي إلى يوم القيامة ، فلا يعبد المسلمون الأوثان .
ويكون تقدير الآية : (قولوا يا أيها الكافرون ).
فان قلت يقوم بعضهم برمي بعضهم بالوثنية لزيارة قبور الأئمة.
والجواب هذا خطأ إذ تبين هذه السورة النهي بصيغة الخبر عن عبادة الأوثان والتقرب لها ، مع إمتناع الكفار عن التصديق بالنبوة وعن الصلاة والصيام والفرائض العبادية الأخرى .
أما المسألة الثالثة فالجواب نعم ، إذ يشمل موضوع مدرسة (قل) أحكام العبادات وعامة الأحكام التكليفية ولغة الإحتجاج ، والتذكير بعالم الآخرة.
وستبقى هذه المدرسة وسيلة لإرتقاء المسلمين في ميادين العلم ، وهو من أسرار تلاوة كل واحد منهم القرآن خمس مرات في اليوم ، فان قلت يكتفى في صلاة الجماعة بتلاوة الإمام ، وإن كثرت أعداد هذه الجماعة ، وهذ صحيح ، لذا يجهر الإمام في كل من صلاة الصبح والمغرب والعشاء.
وسيأتي قانون (قل) شعار متجدد ضد للإرهاب .
فمن منافع التفقه في الدين أمور :
الأول : التنزه عن سفك الدماء ، قال تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
الثاني : الإبتعاد عن الإرهاب .
الثالث : إجتناب مجئ الإرهاب من الغير لأحكام التقية ، وقصد نشر ألوية السلام .
مع لزوم التحلي بالصبر والإمتناع عن الإضرار بالغير ولغة الحوار في القرآن أعم من لفظ (قل) إذ تشمل احتجاج الأنبياء على قولهم بما فيه تثبيت مفاهيم الوحدانية وحسن المعاملة والأخلاق الفاضلة.
وفي التنزيل [وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ]( )، إذ أن الصدق في المعاملة نوع طريق ومقدمة لتلقي معجزات النبوة وما فيها من التكاليف بالقبول.
وقصصهم كما في قيام إبراهيم بكسر الأصنام التي يعبدها قومه وتعرضه للقتل لولا معجزة من عند الله بانقاذه تتجلى في قوله تعالى [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( ).
وأما المسألة الرابعة فان لفظ (قل) في القرآن حاضر في أذهان المسلمين وفي أقوالهم وأفعالهم .
ومن إعجاز القرآن حضور آياته عند الإبتلاء والإفتتان ، وفي حال الشدة ، فيلجأ المسلمون إلى القرآن لإقتباس مسائل الصبر في الميدان والرضا بما كتب الله سبحانه .
وورد عن (أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لكل شيء حقيقة ، وما بلغ عبد حقيقة الإِيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه) ( ) وهذا الحديث بيان وتفسير لقوله تعالى [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا…]( ).
(وفي مصحف عبد الله بن مسعود : قل هل يصيبنا) ( ).
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في ميادين القتال في حال دفاع محض ، ولم يكن عندهم السلاح الكافي لملاقاة جيش المشركين الذين هم أكثر من ثلاثة أضعافهم في كل معركة سواء في معركة بدر أو أحد أو الخندق ، وفي معركة حنين كان عدد المشركين نحو ضعفي عدد المسلمين تقريباً مع الكثرة من الطرفين .
ومن خصائص صبر الصحابة في ميادين الدفاع أمور :
الأول : إنه تصديق عملي برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني: إنه شاهد حسي على استعدادهم للتضحية بأنفسهم في ملاقاة إرهاب المشركين .
الثالث : بذل الصحابة الوسع في السعي لتحقيق العدل في الأرض ،ومن معاني العدل أنه مانع من الإرهاب.
لقد حضر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ثلاثمائة وثلاثة عشر ، وكان معهم سبعون بعيراً وفرسان .
ثم ليخرج معه في كتيبة تبوك في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة ثلاثون ألفاً من المقاتَلة ومعهم اثنا عشر ألف بعير ومثلها من الخيل ) ( ).
لقد انتفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من لفظ (قل) في القرآن في ميادين الدفاع بتحمل الأذى ، وإجتناب الثأر والبطش ،والإمتناع عن الغزو أو حتى اللحوق بالعدو عند فراره ، مع أن الأصل في الحياة الدنيا هو استئصال الكفر وعبادة الأوثان .
فجاء أكثر من ثلاثمائة أمر (قل) من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن لتنجز هذا الإستئصال بالقول والإحتجاج وإقامة البرهان ، وليس بالسيف ، ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قابل لمعان سيوف المشركين بلفظ(قل) النازل من السماء ، وهو أمضى وأقوى سلاحاً وأثراً .

تقدير [وَاذْكُرُوا]( )
قال تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وابتدأت هذه الآية بحرف العطف الواو ، لتكون معطوفة على الآية التي قبلها وهي [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ( ) والتي تتضمن التحذير من الفتنة ومن الأذى على الذات والغير .
والمراد من الفتنة الشرك والضلالة ، وسمْي الكفر فتنة لما فيه من الإغواء للغير ومحاربة النبوة والتنزيل ، ولأنه يؤدي إلى الهلاك ، قال تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ].
ليكون من معاني قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرت أن اقاتل الناس حتى يشهدوا ( لا اله إلا الله ) أي أمرت أن أقاتل دفاعاً .
وجاء قوله تعالى [وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] ( ) لبيان أمور :
الأول : حرمة المسجد الحرام ، وضرورة تقديس المسلمين له .
الثاني : منع المسلمين من الإغارة على مكة .
الثالث : بعث الطمأنينة في قلوب عامة أهل مكة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لن يغزوهم ولن يباغتهم بالهجوم .
الرابع : دعوة المسلمين والناس إلى يوم القيامة لإكرام المسجد الحرام ، وعدم جعله ساحة للحرب والقتال ، لبيان التضاد بين ولاية الذين كفروا للمسجد الحرام ، وولاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم له ، فقد كان فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة استئصالاً للإرهاب.
وفي أسباب نزول قوله تعالى [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ] ( ) .
ورد عن ابن عباس : قال المشركون (يا محمد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلتنا ، والعرب أكثر منا ، فمتى بلغهم أنا قد دخلنا في دينك اختطفنا فكنا أكلة رأس . فأنزل الله { أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً }( ))( ).
الخامس : دعوة العرب لإنكار نصب الأوثان في البيت الحرام ، وقد خاطب الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم [إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ] ( ) ومن خصائص مكة :
الأولى : حرمة مكة .
الثانية : عدم سفك الدم في الحرم .
الثالثة : لزوم الإمتناع عن الظلم في مكة .
الرابعة : الأمن للناس في مكة فلا يهاج الداخل فيها ،وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (عن الرجل يجني الجناية في غير الحرم ثم يلجأ إلى الحرم أيقام عليه الحد ،
قال : لا ولا يطعم ولا يسقى ولا يكلم ولا يبايع فإنه إذا فعل ذلك به يوشك أن يخرج فيقام عليه الحد ، وإذا جنى في الحرم جناية أقيم عليه الحد في الحرم ، لانه لم ير للحرم حرمة) ( ).
(عن ابن عباس قال : من أحدث حدثاً ثم استجار بالبيت فهو آمن ، وليس للمسلمين أن يعاقبوه على شيء إلى أن يخرج ، فإذا خرج أقاموا عليه الحد) ( ).
الخامسة : لا يصطاد صيدها .
السادسة : لا يختلى خلالها ولا يُعضد شجرها ، أي لا يحشى العشب الرطب فيها للدابة ، ولكن تترك الدابة كالشاة والناقة أن ترعى فيها ، وتأكل من العشب ، ولا يقطع شجرها ، ولكن الدواب تأكل ما تطاله منها .
السادس : منع الصحابة من الطلب من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الهجوم على قريش في مكة ، أو اللحوق بفلولهم المنهزمة في معارك الإسلام الأولى ، كما انهزموا في معركة بدر.
وعندما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلف جيوش قريش في اليوم الثاني لمعركة أحد ، وقف عند حمراء الأسد التي تبعد عن المدينة المنورة (12) كم ليطمئن بعدم عودة المشركين لغزو المدينة .
لينزل القرآن بالثناء عليهم ، والذي تجلى بقوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ) ومن وجوه الثناء في هاتين الآيتين :
الأول : الشهادة من الله عز وجل للصحابة بالإمتثال لأمر الله عز وجل.
الثاني : إخبار الآية عن إستجابة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : خروج الصحابة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خلف جيوش العدو ،وهم في أذى وشدة من جهات :
الأولى : سقوط سبعين شهيداً من الصحابة في معركة أحد ، وقبل يوم من الخروج إلى حمراء الأسد .
الثانية : كثرة الجراحات التي أصابت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثالثة : قلة عدد الصحابة الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ كان عددهم مائتين ونيفا .
الرابع : الخروج إلى حمراء الأسد من غير فترة للعلاج والتعافي من جراحات معركة أحد ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ] ( ) إلى جانب الأخبار المتواترة .
الخامس : حسن التوكل على الله وإظهار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه الإستعداد لمواصلة الدفاع .
لقد بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلاوم أبي سفيان وأصحابه في طريق عودتهم من معركة أحد ، وقول بعضهم لبعض (لَمْ تَصْنَعُوا شَيْئًا أَصَبْتُمْ شَوْكَتَهُمْ وَحْدَهُمْ ثُمّ تَرَكْتُمُوهُمْ وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُمْ رُءُوسٌ يَجْمَعُونَ لَكُمْ فَارْجِعُوا حَتّى نَسْتَأْصِلَ شَأْفَتَهُمْ) ( ).
فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بندب أصحابه للخروج خلف العدو ، ومع حاجته إلى الرجال يومئذ خاصة مع كثرة الجراحات في أصحابه ، قال لا يخرج معنا إلا من شهد القتال ، أي حضر معركة أحد التي وقعت قبل يوم واحد من هذا الخروج.
وجاء رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول ، وقال أركب معك .
ومع أنه إنخزل في طريق الذهاب إلى معركة أحد بثلاثمائة رجل من الصحابة ، فلم يوبخه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يذّكره بما فعله ، ولم يقل له أخشى من تكرارك النكوص والرجوع ، بل اكتفى بالقول : لا .
ثم تجلت قاعدة ما من عام إلا وقد خص يومئذ إذ جاء جابر بن عبد الله الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستأذنه (وَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي أُحِبّ أَلّا تَشْهَدَ مَشْهَدًا إلّا كُنْتُ مَعَك وَإِنّمَا خَلّفَنِي أَبِي عَلَى بَنَاتِهِ . فَأْذَنْ لِي أَسِيرُ مَعَك فَأَذِنَ لَهُ) ( ).
السادس : ورد لفظ [اسْتَجَابُوا] أربع مرات في القرآن ، اثنتين في الثناء على المسلمين وواحدة تتضمن المدح والثناء على المؤمنين وذم الذين كفروا:
الأولى : قال تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ] ( ).
الثانية : قال تعالى [لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ] ( ).
الثالثة : قال تعالى [وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ] ( ) .
وواحدة في ذم الذين كفروا وإصرارهم على الجحود والإعراض عن الدعوة كما في قوله تعالى [إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ] ( ) .
ويبين الجمع بين هذه الآيات عظم موضوع الإستجابة في إقامة الصلاة كل يوم ودفع الزكاة ، وإتخاذ الشورى منهاجاً .
وبينت آية البحث من بين هذه الآيات أن الإستجابة لله ولرسوله مما يدل على صدق الإيمان بتلقي دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للنفير ، والخروج خلف جيش العدو بأنه بأمر من الله ، وشعبة من الوحي ، قال تعالى [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ).

ترجمة القرآن
من إعجاز القرآن إبتداء ترجمته مع أيام نزوله ، إذ احتاج الناس من غير العرب أن يسمعوا آيات القرآن وتفسيرها ، ومن فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصاحبة المعجزة الحسية لمعجزاته العقلية ليجتمعا في هداية الناس .
ليكون من معاني ومنافع قوله تعالى [ فَآوَاكُمْ ]أن هذا الإيواء في المدينة مناسبة لتجلي معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد كان يبعث رسائله وكتبه بالعربية ليقوم ترجمان الملك أو الأمير بترجمتها ، أما لو جاءه كتاب بلغة أخرى فانه يطلب من يترجمه له من الصحابة .
وصحيح أن ترجمة القرآن لا تظهر وجوه إعجازه المتعددة التي تتجلى بلغته العربية إلا أن هذه الترجمة من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ).
وإن إتساعها بفضل ومدد من عند الله ، وهي دعوة للمسلمين وغير المسلمين في جميع إنحاء العالم إلى ترك الإرهاب ، والإرهاب الموازي ومقدماته ، إذ أن لغة الوحي تتضمن الحلول المناسبة لأي خصومة وخلاف.
وكان الصحابي زيد بن ثابت ترجمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اللغة العبرية والسريانية وبالعكس .
و(عن خارجة بن زيد، عن أبيه ، قال : ” أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أتعلم كتاب يهود ، فما مر بي نصف شهر حتى تعلمت، كنت أكتب له إلى يهود , إذا كتب إليهم ، فإذا كتبوا إليه ، قرأت كتابهم له)( ).
وقال (فتعلمته فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته فكنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كتب إليهم وإذا كتبوا إليه قرأت له) ( ).
ولا يكفي هذا الحديث للإستدلال على حجية خبر الواحد ، وان كان المختار حجيته كما بينته في علم الأصول ويدل عليه مفهوم آية النبأ [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( )، وآية النفر [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ).
وحينما يكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليهود مثلاً هل يستدل أو يحتج بآية قرآنية ، وهل يقوم زيد بن ثابت بترجمتها ، المختار نعم ، لبيان مسألة وهي : حدثت أول ترجمة للقرآن في أيام النبي محمد ، ولكن ليس ترجمة القرآن كله بل آيات منه ، لتكون عنوان الإذن بالترجمة السليمة من قبل عالم بالقرآن ، وضليع بالعربية واللغة ، وهو من مصاديق قله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم]( ).
كما ورد حديث الترجمان عندما وصل دِحية الكلبي يحمل كتاباً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام ، فقال قيصر لصاحب شرطته (قلب لي الشام ظهراً لبطن حتى يؤتى برجل من قبل هذا فاسأله عن شأنه.
قال أبو سفيان: فو الله، إني وأصحابي لبغزة( ) إذ هجم علينا، فسأل ممن أنتم ، فأخبرناه، فساقنا إليه جميعا.
فأتوهم وهم بإيليا فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم، ودعا بترجمانه، فقال: أيكم أقرب نسبا لهذا الرجل .
الذي يزعم أنه نبي .
فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسبا .
فقال: ادنوه، مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم خلف ظهره ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا الرجل عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه.
قال أبو سفيان: فوالله، لولا أن يؤثر عني الكذب لكذبت عليه ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم ، قلت: هو فينا ذو نسب…الحديث) ( ).
وفي أول خطبة خطبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن (نَعُوذُ بِاَللّهِ أَنْ نَقُولَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مَا لَمْ يَقُلْ أَنّهُ قَامَ فِيهِمْ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ قَالَ أَمّا بَعْدُ أَيّهَا النّاسُ فَقَدّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ تَعَلّمُنّ وَاَللّهِ لَيُصْعَقَنّ أَحَدُكُمْ ثُمّ لَيَدَعَنّ غَنَمَهُ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ .
ثُمّ لَيَقُولَنّ لَهُ رَبّهُ وَلَيْسَ لَهُ تُرْجُمَانٌ وَلَا حَاجِبٌ يَحْجُبُهُ دُونَهُ أَلَمْ يَأْتِك رَسُولِي فَبَلّغَك ، وَآتَيْتُك مَالًا وَأُفْضِلْ عَلَيْك ؟
فَمَا قَدّمْت لِنَفْسِك ؟
فَلَيَنْظُرَنّ يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَا يَرَى شَيْئًا ، ثُمّ لَيَنْظُرَنّ قُدّامَهُ فَلَا يَرَى غَيْرَ جَهَنّمَ فَمَن اسْتَطَاعَ أَنْ يَقِيَ وَجْهَهُ مِنْ النّارِ وَلَوْ بِشِقّ مِنْ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةِ طَيّبَةٍ .
فَإِنّ بِهَا تُجْزَى الْحَسَنَةُ عَشْرَ أَمْثَالِهَا ، إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَالسّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ)( ).
وتأتي الترجمة بعنوان البيان والوضوح ، وترجم لفلان أي ذكر سيرته .
وتطلق الترجمة بمعنى نقل الكلام إلى لغة أخرى على وجهين :
الأول : الترجمة الحرفية ، بأن يذكر المترجم كلمات تقابل ذات الألفاظ المترجمة من غير إخلال بالمعنى والترتيب .
الثاني : الترجمة التفسيرية : وهي نقل مضمون الكلام ومعناه من لغة إلى أخرى من غير تقيد بنظم الألفاظ.
أما بالنسبة للترجمة الحرفية للقرآن فهي متعذرة ، قال تعالى [إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
ووفق مفهوم المخالفة ومفهوم الوصف فإن هناك خصوصية لعربية القرآن في فهم آياته والتدبر في معانيها لصيغ البلاغة وتعدد المعاني للفظ القرآني بلغته العربية ومجئ التشبيه والإستعارة والحقيقة والمجاز ، وعلوم البيان والبديع والإثبات والحذف والتشبيه والكناية ونحوها ، مثلاً قوله تعالى [وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ]( )، في قصة يوسف والمراد واسأل أهل القرية.
ويمكن أن تكتب بالترجمة العبارة أعلاه ، ولكنها تفقد عذوبتها البلاغية وزينتها ولطافتها والمسائل المستنبطة منها ، ولأهل البلاغة وللنحويين ضوابط في الحذف.
والمختار أن الآية أعلاه تحمل على الحقيقة من غير حذف ، وعلى الحذف أيضاً إذ يدرك أبناء يعقوب أنه نبي فقالوا له اسأل ذات القرية تخبرك بخصوص ما نقول وغيره ، وسؤالك هذا بما رزقك الله من الوحي ، ولكن يطرأ سؤال وفق هذا المعنى وهو لماذا لم يخش إخوة يوسف عليه السلام حين ألقوه في البئر سؤال أبيهم وبالوحي للبئر وللإنعام التي كانوا يسرحون فيها .
المختار أنهم أدركوا حقيقة علم يعقوب هذا وسؤاله الموجودات وتلقي الجواب بفضل من الله عز وجل بعد أن كبروا وانكشفت لهم حقائق ، ومنها الإشارات التي تصدر من يعقوب وتفيد بقاء يوسف على قيد الحياة كما في قوله تعالى [اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ]( ).
وكذا مع الحذف اسأل أهل القرية ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( )، وقد يكون الحذف لجمل وشطر من القصة كما في قوله تعالى [فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( )، إذ أنها تدل بالدلالة الإلتزامية على حذف مسألة ذهابها إلى أبيها النبي شعيب ، وقيامها بقص موضوع موسى عليه السلام ، وارسال شعيب في طلبه.
ولا ترقى الترجمة إلى المعاني الدقيقة للفظ القرآني ، فمثلاً قوله تعالى [يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ]( )، أي قوة الله والمدد الذي يتفضل به ونصرته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا]( ), ورد عن عمرو بن دينار (إنّه سمع جابراً يقول : كنّا يوم الحديبية ألف وأربعمائة .
فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أنتم اليوم خير أهل الأرض.
وقال لنا جابر : لو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة،
وقال : بايعنا رسول الله تحت السمّرة على الموت على أن لا نفرّ،
فما نكث أحد منّا البيعة،
إلاّ جد بن قيس وكان منافقاً .
اختبأ تحت إبط بعيره .
ولم يسر مع القوم.
{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} قال ابن عبّاس : {يَدُ اللَّهِ} بالوفاء لما وعدهم من الخير {فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} بالوفاء) ( ).
وكذا قوله تعالى [قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ]( ) وقوله تعالى [بِيَدِكَ الْخَيْرُ]( )وقوله تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ]( ) وكما في قوله تعالى [وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورً]( ) ، أو قوله تعالى [وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ] ( ).
فقد يفهم من ترجمة الآية أعلاه من سورة الإسراء ضم اليد إلى العنق أو مدها ، إنما المراد هو النهي عن الإمساك ، والزجر عن التبذير ، وكل منهما يورث الندامة في الدنيا والآخرة .
ومن إعجاز عربية القرآن تعدد المعاني والمقاصد من اللفظ والكلمة الواحدة ، وعدم إفادة المرادف والنظائر لذات المعنى .
ولا تستوفيها الترجمة مثلاً قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )تكون ترجمته إلى الإنكليزية كالآتي :
(ALL PRAiSE IS TO ALLAH
LORD OF THE WORLDS)
والربّ من أمهات الأسماء الحسنى ، فلا يكون البيان إلا مع ذكر عدة أسماء من الأسماء الحسنى مع LORD.
ومثلاً تكون ترجمة سورة الفاتحة الى الإنكليزية كالآتي :
(1) In the name of Allah, the Entirely Merciful, the Especially Merciful.
(2) (All) praise is (due) to Allah, Lord of the worlds
(3) The Entirely Merciful, the Especially Merciful
(4) Sovereign of the Day of Recompense.
(5) It is You we worship and You we ask for help
(6) Guide us to the straight path
(7) The path of those upon whom You have bestowed favor, not of those who have evoked (Your) anger or of those who are astray.
وقد ترجم القرآن إلى اللغة الفارسية ، وهي أول ترجمة لغير العربية كما ترجم إلى اللغة الإنكليزية والتركية والفرنسية والألمانية والإيطالية والروسية والاسبانية والبرتغالية والأندنوسية والصينية والأردية والكردية والهندية والأذرية واليابانية والرومانية والسويدية والأوكرانية والبوسنية والكشميرية الأمازيغية والمكسيكية والنرويجية والفيتنامية والبلغارية والدنماركية والبورمية والكمبودية وغيرها .
وهذا العموم في الترجمة من مصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
وتجوز ترجمة القرآن والإجتهاد بها والإطلاع على تفسير الآية لتقريب الترجمة من النص ودلالته مع بيان أنها لا تصل إلى المطابقة أبداً ، فهي ترجمة معنى ودلالة.
ومن الإعجاز في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن المسلمين من غير العرب بقوا على لغاتهم لم يُكرهوا على ترك لغتهم الأم ، ولم يتعارض بقاؤهم هذا مع صحة إسلامهم ، وهم يشعرون بالغبطة عند تلاوة القرآن بالعربية ، وتكون لقراءتهم هذه عذوبة خاصة وفيها تعاهد وحفظ لآيات القرآن ، ويترتب عليها الأجر المضاعف .
ترجمان أبرهة
الترجمة نقل الكلام من لغة إلى أخرى
وفي حديث أبرهة أنه أجلس عبد المطلب عندما دخل عليه في أطراف مكة ،وأخذ يكلمه بواسطة الترجمان ، بعد أن أظهر أهل الطائف الخضوع والإستسلام لأبرهة ، فلما مرّ أبرهة ( بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال ثقيف .
فقالوا له : أيها الملك ، إنما نحن عبيدك ، سامعون لك مطيعون ، وليس لك عندنا خلاف ، وليس بيتنا هذا بالبيت الذي تريد – يعنون اللات – إنما تريد البيت الذي بمكة ، ونحن نبعث معك من يدلك عليه . فتجاوز عنهم .
وبعثوا معه أبا رغال يدله على مكة ، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزلهم بالمغمس ، فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك ، فرجمت العرب قبره ، فهو قبره الذي يرجم بالمغمس ، وهو الذي يقول فيه جرير بن الخطفي : إذا مات الفرزدق فارجموه كما ترمون قبر أبي رغال .
فلما نزل أبرهة المغمس بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مفصود على خيل له ، حتى انتهى إلى مكة ، فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم ، فأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم ، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها ، فهمت قريش وخزاعة وكنانة وهذيل ومن كان في الحرم بقتاله ، ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به ، فتركوا ذلك ، وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة .
فقال له : سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم ، ثم قل لهم : إن الملك يقول لكم : إني لم آت لحربكم ، إنما جئت لهدم هذا البيت ، فإن لم تعرضوا لي بقتال فلا حاجة لي بدمائكم ، فإن هو لم يرد حربي فأتني به . فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها ، فقيل له : عبد المطلب .
فأرسل إلى عبد المطلب ، فقال بما قال أبرهة ، فقال عبد المطلب : والله ما نريد حربه ، وما لنا بذلك من طاقة ، هذا بيت الله الحرام ، وبيت إبراهيم خليله عليه السلام – أو كما قال – فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه ، وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه .
فقال له حناطة : فانطلق معي إليه ، فإنه قد أمرني أن آتيه بك .
فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه ، حتى أتى العسكر ، فسأل عن ذي نفر ، وكان له صديقا ، حتى دخل عليه وهو في محبسه ، فقال : يا ذا نفر ، هل عندك من غناء فيما نزل بنا ؟
قال ذو نفر : وما غناء رجل أسير في يدي ملك ينتظر أن يقتله بكرة أو عشية .
ما عندي غناء في شيء مما نزل بك ، إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي ، فسأرسل إليه فأوصيه بك ، وأعظم عليه حقك ، وأسأله أن يستأذن لك على الملك ، وتكلمه فيما بدا لك ، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك.
قال : حسبي . فبعث ذو نفر إلى أنيس ، فقال له : إن عبد المطلب سيد قريش ، وصاحب عير مكة ، يطعم الناس بالسهل والجبل ، والوحوش في رءوس الجبال ، وقد أصاب الملك له مائتي بعير ، فاستأذن له عليه ، وانفعه عنده بما استطعت .
فقال : أفعل . فكلم أنيس أبرهة ، فقال له : أيها الملك ، هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك ، وهو صاحب عير مكة ، وهو يطعم الناس بالسهل والجبل ، والوحوش في رءوس الجبال ، فأذن له عليك ، فليكلمك في حاجته . فأذن له أبرهة .
وكان عبد المطلب أوسم الناس وأعظمهم وأجملهم ، فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته ، وكره أن تراه الحبشة معه على سريره ، فنزل أبرهة عن سريره ، فجلس على بساطه ، وأجلسه معه عليه إلى جنبه) ( ) .
( ثم قال لترجمانه: قل له ما حاجتك.
فقال له الترجمان ذلك، فقال عبد المطلب: حاجتي أن يرد علي مائتي بعير أصابها لي فلما قال له ذلك فقال أبرهة لترجمانه: قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في إبلك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه.
قال عبد المطلب: أنا رب الإبل وللبيت رب يمنعه.
قال : ما كان ليمنع مني. وأمر برد إبله، فلما أخذها قلدها وجعلها هدياً وبثها في الحرم لكي يصاب منها شيء فيغضب الله.
وانصرف عبد المطلب إلى قريش وأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج معه من مكة والتحرز في رؤوس الجبال خوفاً من معرة الجيش) ( ).
ثم كان ما لحق أبرهة وأصحاب الفيل من أسباب الهلاك كما قال تعالى [أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ* أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ]( ).
لقد كانت الترجمة موجودة قبل الإسلام ، ولكنها محدودة وغالباً ما تكون متعارفة في بلاط الملوك وأروقة الوزراء والتجار ، ويحتاج العربي أن يترجم له أمام الملك ، مثل أبرهة ، وملك الروم ، وكسرى ، وملك الحبشة وغيرهم .
وهل كان أيام البعثة النبوية يفد إلى مكة من لم يتكلم العربية ، الجواب نعم .
ليكون من فضل الله في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ترجمة القرآن بلغته العربية إلى عشرات اللغات الأخرى .
جواز الإنصراف من مزدلفة إلى مكة ليلاً
قال تعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذكروا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ]( ).
تدل الآية على كفاية الذكر في مزدلفة وصلاة ركعتين والذهاب الى منى أو الذهاب إلى مكة ، وفي هذا الزمان حيث وفد الحاج بالملايين يجوز توجه سيارات الحاج إلى مكة ليلة العاشر من شهر ذي الحجة ، حيث السكن اللائق ، وبالإمكان الرمي ليلاً والطواف ليلاً والتخفيف عن عامة وفد الحاج.
وليس من إجماع على المبيت في مزدلفة ، نعم بات فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , والتأسي بالنبي محمد هو الأفضل إلا أنه لا يمنع مما أذن به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ أذن للنساء وكبار السن والصبيان والمرضى ومن يصحبهم الانصراف من مزدلفة ، واجماع المسلمين على جواز الرمي ليلاً ، وقد أذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرمي ليلاً لسودة بنت زمعة وهي أول زوجة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة خديجة ، وأذن لأم سلمة.
وفيه دلالة على الإذن بالإنصراف إلى مكة للطواف ومنهم من قيد الإنصراف في آخر الليل ، وعند غروب القمر .
وفي مسند أحمد (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ)( ).
و(عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله يحب أن تعمل رخصه كما يحب أن تعمل عزائمه)( ).
ومن الفقهاء من قال بكفاية المرور على مزدلفة ، وهذا القول ليس بجديد , ويجب الوقوف عند الحنفية ولو بمقدار لحظة أو ماراً وعند أحمد بن حنبل المبيت بمزدلفة لبعد نصف الليل .
أما الشافعية فلهم قولان في هذا الوقوف ، واجب أو سنة ، وعند الحنابلة البقاء في مزدلفة الى ما بعد منتصف الليل وعند الشافعية الوقوف في مزدلفة ولو لحظة بعد منتصف الليل .
وعند المالكية بقدر حط الرحال ، وصلاة العشائين ، وتناول شئ من أكل أو شرب .
والمختار أن الركن هو الوقوف في مزدلفة في الجملة , والأحوط ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس مع الإختيار وعدم الحرج والضرر .
أما من مرّ على مزدلفة قبل أو بعد منتصف الليل قادماً من عرفات وتوجه إلى مكة فيجزيه هذا المرور ، ولا يعود في الصباح إلى مزدلفة والعلم عند الله.
وعندما تتوسع مرجعيتنا إن شاء الله سنصدر رسالة عملية تجمع أحكام المذاهب الأربعة بحكم واحد للمسألة المختلف فيها ، وتخفف عن المسلمين الى يوم القيامة هذا التشتت الذي تجاوزه الزمن ، وانتفت علته ، كالمناطقية ونحوها ، و(في 1محرم 1429) قبل اثنتي عشرة سنة أصدرت فتوى بحرمة تقسيم المسلمين إلى شيعة وسنة .
فمن باب الأولوية القطعية جمع المذاهب الأربعة والإمامية وعموم المسلمين بمناسك واحدة في الحج وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (خذوا عني مناسككم) باعث على هذا العمل ، ودعوة متجددة له.
المقصود من الخليفة
من إعجاز القرآن ورود لفظ [خليفة ] و[خلائف] فيه ، والنسبة بين الجمع والمفرد أعلاه في القرآن هي العموم والخصوص المطلق ، فالمراد (الخليفة ) بلفظ المفرد أخص .
إذ ورد مرتين في القرآن ، ويتعلق في كل واحدة منهما بواحد من الأنبياء وهما :
الأول : قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) وهو موضوع خلق آدم ، وتفضل الله عز وجل باخبار الملائكة عن خلقه ، وبيان وظيفته ذات الشأن العظيم بين الخلائق ، وهو الذي أبهر الملائكة فسألوه سؤالاً إنكارياً عن الفساد في الأرض رجاء رحمة الله عز وجل بالخليفة وذريته .
ويمكن حمل لفظ (خليفة) في الآية أعلاه على إرادة الأنبياء وعامة الناس.
الثاني : قوله تعالى [يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ]( ).
لبيان إجتماع النبوة والحكم عند كل من آدم عليه السلام وداود عليه السلام ليؤسس كل منهما قوانين الحكم بالحق وفق أنظمة الوحي والتنزيل ، فتكون على وجوه :
الأول : توارث الحكام والقضاء والأمراء والساسة لها.
الثاني : تقتبس منها الأنظمة والقوانين الوضعية .
الثالث : تكون مقدمة لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : بشارة تولي النبي صلى الله عليه وآله وسلم شؤون الحكم ، وقبول ورضا الناس به ، ومنهم يهود المدينة .
الخامس : التدبر في مصاديق الوحي والتنزيل في شؤون الحكم.
وورد في سورة المائدة وهي آخر سور القرآن نزولاً آيتان متجاورتان تتضمن كل واحدة منهما الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحكم بين الناس وفق قوانين التنزيل وضوابط الوحي ، وسنن النبوة ، إذ قال تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ] ( ).
كما ورد لفظ [احْكُمْ] مرتين في آية واحدة من هذه السورة ، وكل منهما أمر وخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] ( ) .
ويحتمل هذا التعدد والإختصاص في الخلافة وجوهاً :
الأول : خصوص آدم وداود وإضافة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه خاتم النبيين ، وما رزقه الله للأنبياء رزقه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قواعد الحكم.
الثاني : الجمود على النص ، وإرادة آدم وداود .
الثالث : المقصود كل نبي من الأنبياء هو [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
الرابع : إرادة الرسل دون الأنبياء ، وقد كان آدم عليه السلام نبياً رسولاً (عن أبي ذر: قال: قلت: يا رسول الله؛ أريت آدم، أنبيًّا كان .
قال: نعم ، نبيا رسولا كلمه الله قِبَلا فقال: { اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}( ))( ).
الخامس : إرادة كل ملك ورئيس يحكم على نحو مطلق أو مقيد بقوانين.
والمختار أن لفظ الخليفة في المقام سور الموجبة الكلية الشامل للوجوه أعلاه مع التباين الرتبي ، فخلافة النبي أعلى وأسمى رتبة ، وهي ضياء ومنهاج ينير سبل الرشاد للحكام ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
ولم يكن الوحي وحده شرط الخلافة ، إنما موضوع الخلافة أعم فيشمل العلم بدليل قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( ) .
وآدم الذي ذكرته الآية أعلاه هو أبو البشر ، وزوجته حواء أمهم ، وفيه نصوص عديدة ، وليكون من معاني قوله تعالى [وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا] ( ) أي ولقد عهدنا إلى آدم قُبلاً وفي السماء قبل هبوطه إلى الأرض وبعد هبوطه لها فنسي ولم نجد له عزماً .
ليكون هذا الإخبار من عند الله تخفيفاً عن المسلمين والناس ، وتوجههم بالدعاء لحفظ القرآن والتنزيل ، والإمتناع عن نسيان الأحكام والفرائض ، ومطلق الأحكام التكليفية ، ورجاء العفو والمغفرة مع النسيان وعدم المؤاخذة عليه ، وهذا الدعاء من مصاديق قوله تعالى [وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ] ( ).
ولم يرد لفظ[ادْعُونِي] و[أَسْتَجِبْ] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
(عن أم الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث : عن الخطأ ، والنسيان ، والاستكراه)( ).
وبين الوحي والعلم عموم وخصوص مطلق ، وعن الإمام علي عليه السلام:
(وإن العقل عقلان … فمطبوع ومسموع
ولا ينفع مطبوع … إذا لم يك مسموع
كما لا تنفع الشمس … وضوء العين ممنوع) ( ).
وورد الحديث بصيغة أخرى (العلم علمان: مطبوع ومسموع، ولا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع) ( ).
وفي التنزيل [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) وهذه الملكية مستديمة ، وهي ملك تصرف ومشيئة ، وتفرد بملكه بما يشاء وكيف يشاء ، وذات الإنسان كخليفة والمستخلف عليه كل من ملك الله عز وجل.
لتكون هذه الخلافة امتحاناً للناس ، ودعوة لهم للتراحم وعمارة الأرض بالتقوى ، وإجتناب الباطل والإرهاب ، وما هو خلاف الحق والعدل .
قانون الأوس والخزرج في التأريخ
معنى الأوس لغة العطاء (أُسْتُ القومَ أَؤُوسُهُمْ أَوْساً، إذا أعطَيتهم، وكذلك إذا عوَّضتَهم من شيء. والأوْسُ: الذئبُ، وبه سمِّي الرجل. وأُوَيْسٌ: اسمٌ للذئب جاء مصغَّراً. قال الهذليّ:
يا ليتَ شِعْري عنك والأَمْرُ أَمَمْ … ما فَعَلَ اليومَ أُوَيْسٌ في الغَنَمْ
واسْتآسَهُ، أي استغاضه. والمستآس: المُسْتَعْطي) ( ).
والخزرج : ريح (قال الفرّاء: خَزْرَجُ هي الجَنوب، غير مُجْراة.)( ).
والأوس والخزرج قبيلتان ، والخزرج أكثر عدداً من الأوس ، وسبب تسميتهما هنا أنهما أبناء أخوين وهما (الأوس والخزرج ابني حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، لقبهم به رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لما هاجر إليهم ومنعوه ونصروه، وأم الأوس والخزرج قيلة بنت كاهل بن عذرة بن سعد، ولذلك يقال لهم أبناء قيلة. وإنما لقب ثعلبة العنقاء لطول عنقه.
ولقب عمرو مزيقياء لأنه كان يمزق عنه كل يوم حله لئلا يلبسها أحد بعده.
ولقب عامر ماء السماء لسماحته وبذلك كأنه ناب مناب المطر، وقيل لشرفه، ولقب امرؤ القيس البطريق لأنه أول من استعان به بنو إسرائيل من العرب بعد بلقيس، فبطرقه رحبعم بن سليمان بن داود، عليه السلام، فقيل له البطريق.
وكانت مساكن الأزد بمأرب من اليمن إلى أن أخبر الكهان عمرو بن عامر مزيقياء أن سيل العرم يخرب بلادهم ويغرق أكثر أهلها عقوبةً لهم بتكذيبهم رسل الله تعالى إليهم.
فلما علم ذلك عمرو باع ما له من مال وعقار وسار عن مأرب هو ومن تبعه، ثم تفرقوا في البلاد فسكن كل بطن ناحية اختاروها، فسكنت خزاعة الحجاز، وسكنت غسان الشام) ( ).
ومرّ ثعلبة بن عمرو بن عامر هو ومن معه بالمدينة ، وكانت تسمى يثرب ، فتخلف فيها الأوس والخزرج وجماعة معهما ابنا حارثة وهما حفيدان لثعلبة هذا .
إذ رأوا فيها عمارة وأسواقاً وتسكنها قبائل من اليهود من بني إسرائيل وغيرهم ، وأطمأنوا لهم في الجوار ، ورأوا بني النضير وقينقاع وقريظة ومسالة وزعورا قد بنوا الحصون للأفق في الليل واللجوء إليها عند الخوف والفزع .
فبنى الأوس والخزرج وأبناؤهم المساكن والحصون ، وكانت الغلبة في البداية في المدينة لليهود ، وسبب الهجرة من اليمن الإنذارات الحي التي ظهرت على سدّ مأرب بعد إصرار أهلها على الجحود وعدم التصديق بالأنبياء ، وأخبرت طريفة الكاهنة بقرب السيل في سبع سنين ، وفزع عمرو بن عامر إلى السد يحرسه ، ويمنعه من الإنهيار ، ولكنه وجد الجرذ يقلب بارجله (صخرة ما يقلبها خمسون رجلا) ( ) وقيل إنما هو جرذ واحد كبير الحجم ، لبيان الآية ، إذ رجع عمرو (إلى طريفة فأخبرها وهو يقول :
أبصرت أمراً عادني منه ألم … وهاج لي من هَوْله بَرْحُ السّقَم
من جُرَذٍ كفَحْل خنزير الأجَمْ … أو تَيْس مرم من أفاريق الْغَنَم
يسحب صخراً من جلاميد العَرِمْ … له مخاليبُ وأنياب قضم
مافاته سحلا من الصخر قصم … كأنما يرعى حظيرا ًمن سَلَم) ( ).
وقد ذكر أمر هذه الفأرة في مفاخرة بين قحطاني وعدناني في مجلس السفاح .
إذ فخر بعض أولاد قحطان (بمناقب قَحْطَان من حمير وكهلان على ولد نزار، وخالد بن صفوان وغيره من نزار بن معد منصتون هيبة للسفاح؛ لأن أخواله من قحطان، فقال السفاح لخالد بن صفوان: ألا تنطق وقد غمرتكم قحطان بشرفها وعلت عليكم بقديم مناقبها.
فقال خالد: ماذا أقول لقوم ليس فيهم إلا دابغ جلد، أو ناسج برد، أو سائس قرد، أو راكب عَرْد، أغرقتهم فأرة، وملكتهم امرأة، ودل عليهم هدهد، ثم من مر في ذمهم إلى أن انتهى إلى ما كان من قصتهم وتملك الحبشة وما كان من استنقاذ الفرس إياهم)( ).
لقد كان الأوس والخزرج قبل الإسلام في خصومة وضغائن وقتال متجدد بينهم ، ويسقط فيه عدد من القتلى من الطرفين منهم رؤساء , وقتلى وأسرى من حلفائهم اليهود .
ومن الحروب التي جرت بينهم حرب سمير : نسبة إلى عداوة بين رجل من الأوس ثم من بني عمرو بن عوف اسمه سمير ، ورجل من الخزرج اسمه حاطب بن أبحر من مزينة ، واستمرت المعارك بينهم إلى أيام البعثة النبوية .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن رهطاً من الأوس من بني الأشهل قدموا مكة طلباً للحلف مع قريش ضد قوم من الخزرج ، مع أن الأصل هو أن الأوس والخزرج أخوان ، فعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقدومهم فاتاهم بنفسه واستمع منهم ثم عرض عليهم الإسلام ، وبيّن لهم أنه خير لهم في الدنيا والآخرة ، فمال إليه بعضهم لإدراك أنه حق وصدق ، وأنه سيكون سبب الألفة والوحدة بين الأوس والخزرج تحت لواء الإيمان ، ومبادئ الصلاح والتقوى التي جاء بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
و(زعم العلماء بأيام العرب أن تلك الحرب والعداوة تطاولت بينهم عشرين ومائة سنة ، ولم يسمع بقوم كان بينهم من العداوة والحرب ما كان بينهم ، واتصلت تلك العداوة إلى أن أطفأها الله بالإسلام وألّف بينهم برسوله صلى الله عليه وسلم وكان سبب الفتهم وارتفاع وحشتهم أن سويد بن صامت أخا بني عمرو بن عوف قدم مكة حاجاً أو معتمراً وكان سويد إنما تسميه قومه الكامل لجلادته وشعره ونسبه وشرفه وحكمته .
فقدم سويد مكة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بُعث وأمر بالدعوة إلى الله عزّ وجلّ ، فتصدّى له حين سمع به ، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله عزّ وجلّ وإلى الإسلام.
فقال له سويد : فلعل الذي معك مثل الذي معي،
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما الذي معك .
قال : مجلة لقمان ، يعني حكمته .
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : اعرضها عليَّ فعرضها عليه فقال : إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل ، هذا قرآن أنزله الله عليَّ نوراً وهدى فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعده عنه وقال : إن هذا القول حسن .
ثم انصرف عنه وقدم المدينة ، فلم يلبث أن قتله الخزرج قبل يوم بعاث وكان قومه يقولون : قُتل وهو مسلم ، ثم قدم أبو الجيش أنس بن رافع ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم أياس بن معاذ ، يلتمسون الحلف من قريش على قوم من الخزرج .
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم فجلس إليهم فقال : هل لكم إلى خير ممّا جئتم له .
قالوا : وما ذلك .
قال : أنا رسول الله بعثني الله إلى العباد أدعوهم إلى (الله أن يعبدوا الله و لا يشركوا بالله شيئاً وأنزل عليَّ الكتاب ، ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن.
فقال إياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً : أي قوم هذا والله خير ممّا جئتم به ، فأخذ أبو الجيش أنس بن رافع حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ وقال : دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا .
فصمت أياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرفوا إلى المدينة وكانت وقعة بعاث بين بني الأوس والخزرج ، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك .
فلما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقى فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب كما يصنع في كل موسم)( ).
فكانت بيعة العقبة الأولى ، ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم دخول الأنصار التأريخ بفخر وعز بواسطة أفراد قلائل وهم ستة أشخاص التقى بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة .
وهذا اللقاء قبل بيعة العقبة الأولى ، وكلهم من الخزرج وهم :
الأول : أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ .
الثاني : َعَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ .
الثالث : َرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ .
الرابع : َقُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ .
الخامس : َعُقْبَةُ بْنُ عَامِر .
السادس : جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رِئَاب( ).
ودعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام ، وتلا عليهم آيات القرآن ، وأخبرهم بأن وحدتهم وصلاحهم ، وذهاب الأحقاد ، والتناحر عنهم بدخول الإسلام وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] ( ).
فأسلموا ، وعادوا الى المدينة بحلة الإيمان , وهي ذات بهجة وتبعث على السكينة وبشروا بالأخوة والصلاح وإنقطاع أسباب الخصومة والنزاع ببركة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
و(عن عكرمة قال : لقي النبي صلى الله عليه وسلم نفراً من الأنصار فآمنوا به وصدقوا وأراد أن يذهب معهم فقالوا : يا رسول الله إن بين قومنا حرباً ، وإنا نخاف إن جئت على حالك هذه أن لا يتهيأ الذي تريد .
فوافوه العام المقبل فقالوا : نذهب برسول الله فلعل الله أن يصلح تلك الحرب . وكانوا يرون أنها لا تصلح وهي يوم بعاث فلقوه من العام المقبل سبعين رجلاً قد آمنوا به ، فأخذ منهم النقباء إثني عشر رجلاً .
فذلك حين يقول {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم}( ) وفي لفظ لابن جرير فتشاور الحيان قال بعضهم لبعض : موعدكم الحرة ، فخرجوا إليها . فنزلت هذه الآيةوَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ( ).
والمختار أن الله عز وجل هو الذي سماهم الأنصار ، وفيه نص إذ ورد (عن السائب بن يزيد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا معشر الأنصار ، إن الله عز وجل قد أدخل قلوبكم الإيمان وخصكم بالكرامة وسماكم أنصار الله وأنصار رسوله)( ).
و(قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَلَمّا أَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا أَعْطَى فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ ، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا ، قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُعَاتِبُهُ فِي ذَلِكَ :
زَادَتْ هُمُومٌ فَمَاءُ الْعَيْنِ مُنْحَدِرُ … سَحّا إذَا حَفَلَتْهُ عَبْرَةٌ دَرِرُ
وَجْدًا بِشَمّاءَ إذْ شَمّاءُ بَهْكَنَةٌ … هَيْفَاءُ لَا دَنَسٌ فِيهَا وَلَا خَوَرُ
دَعْ عَنْك شَمّاءَ إذْ كَانَتْ مَوَدّتُهَا … نَزْرًا وَشَرّ وِصَالِ الْوَاصِلِ النّزِرُ
وَأْتِ الرّسُولَ فَقُلْ يَا خَيْرَ مُؤْتَمَنٍ … لِلْمُؤْمِنِينَ إذَا مَا عُدّدَ الْبَشَرُ
عَلَامَ تُدْعَى سُلَيْمٌ وَهْي نَازِحَةٌ … قُدّامَ قَوْمٍ هُمْ آوَوْا وَهُمْ نَصَرُوا
سَمّاهُمْ اللّهُ أَنْصَارًا بِنَصْرِهِمْ … دِينَ الْهُدَى وَعَوَانُ الْحَرْبِ تَسْتَعِرُ
وَسَارَعُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْتَرَفُوا … لِلنّائِبَاتِ وَمَا خَامُوا وَمَا ضَجِرُوا
وَالنّاسُ أَلْبٌ عَلَيْنَا فِيك لَيْسَ لَنَا … إلّا السّيُوفَ وَأَطْرَافَ الْقَنَا وَزَرُ
نُجَالِدُ النّاسَ لَا نُبْقِي عَلَى أَحَدٍ … وَلَا نُضَيّعُ مَا تُوحِي بِهِ السّوَرُ
وَلَا تَهِرّ جُنَاةُ الْحَرْبِ نَادِيَنَا … وَنَحْنُ حِينَ تَلَظّى نَارُهَا سُعُرُ
كَمَا رَدَدْنَا بِبَدْرٍ دُونَ مَا طَلَبُوا … أَهْلَ النّفَاقِ وَفِينَا يُنْزَلُ الظّفَرُ
وَنَحْنُ جُنْدُك يَوْمَ النّعْفِ مِنْ أُحُدٍ … إذْ حَزّبَتْ بَطَرًا أَحْزَابَهَا مُضَرُ
فَمَا وَنِيّنَا وَمَا خِمْنَا وَمَا خَبَرُوا … مِنّا عِثَارًا وَكُلّ النّاسِ قَدْ عَثَرُوا)( ).
وحينما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوجه الذي ترشح عند طائفة من الأنصار بسبب اعطاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤلفة قلوبهم من قريش أرسل إلى الانصار وجمعهم ، وخاطبهم بصفة الأنصار وأخبرهم بحبه لهم ، وثنائه عليهم ، وأنه لن يفارقهم أبداً ، إذ قال (يا معشر الأنصار ما قالة بلغني عنكم وجدة وجدتموها علي في أنفسكم ، ألم آتكم ضلالا فهداكم الله وعالة فأغناكم الله وأعداء فألف الله بين قلوبكم .
قالوا : بلى الله ورسوله أمن وأفضل
ثم قال : ألا تجيبونني يا معشر الأنصار .
قالوا : بماذا نجيبك يا رسول الله ، الله ولرسوله المن والفضل
قال صلى الله عليه و سلم : أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم : أتيتنا مكذبا فصدقناك ومخذولا فنصرناك وطريدا فآويناك وعائلا فآسيناك أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم .
ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ، فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار . اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار .
قال : فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا رضينا برسول الله قسما وحظا ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم وتفرقوا)( ).
وكما أكرم الله عز وجل الأنصار بهذا الوصف فقد أكرم المهاجرين أيضاً باسم المهاجرين .
وجاءت الآيات بالثناء عليهم مجتمعين بالاسم والفعل ، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
وفي كل من تسمية المهاجرين والأنصار شاهد على أن الإسلام دين السلام وأن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يعزفون عن الإرهاب ومقدماته وأهله ، فكانت الهجرة إعراضاَ عن بطش قريش مع ما فيها من المخاطر والضرر لولا فضل الله عز وجل .
أما نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد كانت سبباً لهجوم الكفار المتكرر على المدينة من غير أسباب عقلائية لهذا الغزو ، وفي كل من الهجرة والنصرة درس وموعظة لأجيال المسلمين للتحلي بالصبر ، وإجتناب الفتك والعنف , رجاء مرضاة الله , وشوقا للقائه , والرأفة العامة بالناس ، قال تعالى [كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
ومن خصائص المسلم تعاهد النسيج الإجتماعي في البلد الذي يحل فيه ، والحفاظ على التعايش السلمي ، ويكون زَيناً , ويساعد في تنمية الأخلاق الحميدة ، وهو من مصاديق ورشحات قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn

مواضيع ﺫات صلة