معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 237

المقدمــــــة
الحمد لله الذي رزق الإنسان الخلافة في الأرض بعقل يدرك وجوب الإيمان ، ويميز بين الحق والباطل ، وتفضل الله وبعث الأنبياء وأنزل الكتب السماوية لمنع غلبة الهوى ، وليبقى العقل يقوم بوظائفه العقائدية ، وتؤدي الجوارح العبادات بقصد القربة إلى الله عز وجل .
لقد اجتهد الأنبياء في تعاهد السلم المجتمعي ، فعندما رأوا إصرار قومهم على الكفر والجحود لجأوا إلى سلاح الدعاء ، وليس البطش والإنتقام ، وفي التنزيل [رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ] ( ).
وذكر الله الذي تتضمنه آية البحث من أبهى وأعظم مصاديق الجهاد ، ولا يختص بمجاهدة النفس، ومنع غلبه الشهوة أو الغضب عليها، إنما هو جهاد لتثبيت السلم المجتمعي ونشر الأمن، والأخلاق الحميدة، ومفاهيم الصلاح.
وعن معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أن رجلاً سأله فقال : أي المجاهدين أعظم أجراً .
قال : أكثرهم لله ذكراً قال : فأي الصائمين أعظم أجراً .
قال : أكثرهم لله ذكراً . والصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصدقة . كل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : أكثرهم لله ذكراً فقال أبو بكر لعمر: يا أبا حفص ذهب الذاكرون بكل خير .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أجل)( ) .
والمواظبة على ذكر الله سلام وأمن للناس على إختلاف مذاهبهم ومشاربهم لذا فإن آية البحث من مصاديق الرحمة العامة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الحمد لله في اليسر والعسر ، وفي السراء والضراء ، ومن معاني ملك الله عز وجل للسموات والأرض أنه جعل بعد العسر يسراً ، وأبى إلا أن تنكشف الضراء ويزول الهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا]( ).
الحمد لله الذي خلق الليل والنهار للتدبر في خلقهما ، وتغشي أوقاتها بالحمد والثناء عليه وتسبيحه آناء الليل وأطراف النهار ، وإتخاذ كل ساعة منها مناسبة للإستغفار والدعاء .
الحمد لله الذي جعل الدنيا دار التفكر ، لما رزق الله عز وجل الإنسان من العقل والتدبر ، ويحصي الله عز وجل سبحانه كل ما يفكر به الإنسان ، وإن نساه فان الله عز وجل لا ينساه .
ونزلت آية البحث لتوجيه وإصلاح المسلمين والناس جميعاً في التفكر والموضوع الذي يشغل أذهانهم إلا وهو بديع صنع الله ، والآيات الثابتة والمتحركة والطارئة ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] ( ).
ولم يرد لفظ[الآفَاقِ]في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وليس أكثر سياحة من عقل وفكر الإنسان سواء كان عالماً أو ليس من العلماء ، كل فرد بحسب حاله ورغائبه وامنياته ، وما يخشاه ويخاف منه ، لذا تضمنت آية البحث في مفهومها العزوف عن الدنيا والإنشغال بزينتها ، ولا يتعارض هذا التفكر مع السعي لحاجات الدنيا ، إنما يكون مقدمة لإدراك قانون من وجوه :
الأول : قانون كل نعمة من عند الله عز وجل .
الثاني : قانون الدعاء لجلب النعم .
الثالث : قانون وجوب الشكر لله على النعم .
وهل يستطيع الإنسان الشكر على النعم بذكرها بالاسم ، الجواب لا ، لأنها من اللامتناهي ، فخفف الله عز وجل عن الناس عامة والمؤمنين خاصة ، وقال [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) ومن معاني الآية رضا الله بالشكر العام على النعم ، وهو لا يتعارض مع الشكر لخصوص نعم ظاهرة أو باطنة .
وأيهما أحسن :
الأول : الشكر الإجمالي على النعم .
الثاني : ذكر النعم التي يعلمها العبد في الشكر مع الشكر الإجمالي .
المختار هو الثاني .
الحمد لله الذي أنزل القرآن وهو يتضمن البشارة والإنذار ، ومن الإعجاز الملازمة بينهما ، كما أن كل بشارة تدل في مفهومها على الإنذار وكذا العكس ، وتتعدد معاني الكلمة القرآنية ، وما استظهر وتجلى منها أقل بكثير مما تتضمنه إذ أن كل آية خزينة من خزائن العرش .
(عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قرأ آخر سورة البقرة ، أو آية الكرسي ( ) ضحك ، وقال : إنهما من كنز الرحمن تحت العرش ، وإذا قرأ { من يعمل سوءاً يجز به }( ) استرجع واستكان) ( ).
الحمد لله الذي ابتدأ بالإحسان وجعل النبوة ملازمة لوجود الإنسان في الأرض ، فهبط آدم عليه السلام وهو نبي رسول .
وتعاقب الأنبياء والكتب السماوية في الأرض حتى بعث الله عز وجل خاتم النبيين محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليبقى القرآن وأحكامه إلى يوم القيامة ، وفي كل زمان تترشح الدر العلمية ، وتستنبط الذخائر من آيات القرآن ، وهو من أسرار فضل الله عز وجل في حفظه وجعله سالماً من التحريف والزيادة والنقصان .
ويختص هذا الجزء من (معالم الإيمان في تفسير القرآن ) بتفسير قوله تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] ( ) .
ويتضمن التأويل والإستقراء واستنباط القوانين من ذات مضمون الآية الكريمة في آية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً ،وأقوم وبلطف ومدد من عند الله بالكتابة والتصحيح والمراجعة لكتبي في التفسير والفقه والأصول بمفردي والحمد لله ، قال تعالى [وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] ( ).
الحمد لله الذي جعل القلوب تميل إلى القرآن والآذان تنصت إليه ليتدبر الناس في معانيه ، ليكون هذا الإنصات والتدبر مجتمعين ومتفرقين من إعجاز القرآن ، فليس كل كلام ينصت له ، وإذا أنصت واستمع الإنسان للكلام فلا يعني هذا أنه يتدبر فيه , وكأن القرآن يملي على الإنسان الإنصات له والتفكر والتدبر فيه ، وفيه مسائل من إعجاز القرآن :
الأولى : من أسرار تقسيم القرآن إلى آيات وسور التفكر في كل آية ومعانيها ودلالتها .
الثانية : جعل أكثر الآيات قصيرة ، بل جاءت السور المكية قصيرة بذاتها وآياتها وكلماتها ، وتتألف من ثلاث آيات عدا البسملة ثلاث سور مكية هي :
الأولى : سورة العصر .
الثانية : سورة الكوثر .
الثالثة : سورة النصر .
وأقصرها من جهة الكلمات هي سورة الكوثر وعدد كلماتها عشرة ، وعدد حروفها اثنان وأربعون حرفاً ، قال تعالى [إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ] ( ).
ولم يرد لفظ [أَعْطَيْنَاكَ] [الْكَوْثَرَ] [فَصَلِّ] [انْحَرْ] [شَانِئَكَ] [الأَبْتَرُ] إلا مرة واحدة في القرآن وفي هذه السورة ، فمع قلة كلماتها جاءت ست كلمات منها مرة واحدة في القرآن ، وهو أمر تنفرد به سورة الكوثر من جهة ان أكثر كلمات السورة لم ترد في غيرها ، وفيه نكتة وهي إنقطاع الذين عادوا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعداء شخصياً عندما كان في مكة وحيداً ليكثر الصحابة ثم يهاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة .
أما سورة العصر فعدد كلماتها أربع عشرة كلمة ، وثالث أقصر سورة هي سورة النصر سورة الإخلاص ، التوحيد ، وعدد كلماتها خمس عشرة كلمة .
الثالثة : من إعجاز القرآن سرعة حفظ آياته ورسوخ كلماته في الأذهان .
وهذا التفسير يفنى دونه العمركماً وكيفاً وتأويلاً واستنباطاً ، لولا فضل الله عز وجل في تيسير الأمر مع إلقائي البحث الخارج الفقهي والأصولي لفضلاء الحوزة العلمية منذ أكثر من عشرين سنة ، وعلى نحو متواصل ، كما أقوم بتأليف وتصحيح ومراجعة أجزاء هذا التفسير ، وكتبي الفقهية والأصولية بمفردي والحمد لله .
لقد جمعت آية البحث بين خصلتين من خصال المؤمنين وهما :
الأولى : ذكر الله .
الثانية : التفكر في الخلائق وبدائع صنع الله ، ومنها السموات والأرض .
وإذا كان في الذكر ثواب وأجر فهل في التفكر بقوله تعالى [وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ..] ( ) ثواب وأجر ، الجواب نعم ، لأن هذا التفكر ليس أمراً مجرداً إنما هو بلحاظ الإقرار بأن السموات والأرض خلق لله عز وجل ، ويدل عليه الدعاء في خاتمة الآية.
وتقدير الآية : يتفكرون في خلق الله للسموات والأرض .
ومن إعجاز القرآن تضمن الجملة الخبرية فيه أموراً :
الأول : الثناء والمدح على الإيمان .
الثاني : البعث على الفعل الحسن .
الثالث : الذم على الكفر والجحود .
الرابع : فضح الفعل القبيح والمنكر .
الخامس : الحضّ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وتضمنت آية البحث في مفهومها الدعوة إلى الإجتهاد في ذكر الله ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في الإمتثال للأوامر الألهية فهو أكثر الناس ذكراً لله في قيامه وقعوده ومشيه وركوبه ، وحله وترحاله .
وكانت كتائبه مناسبة للذكر الكثير ، فلم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة طلباً للغزو أو الغنائم ، إنما كان يقيم الصلاة في الجادة العامة ، وعند أفواه القرى ، ويتلو القرآن وهو على الراحلة ، ويكتم الغيظ ، ويعفو عن الناس ، قال تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
الحمد لله الذي له ملك السموات والأرض ، وله المشيئة المطلقة فيها ، وهل هذه المشيئة من مصاديق تفكر أرباب العقول وأهل الإيمان بها ، كما في قوله تعالى في آية البحث [وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( )الجواب نعم ، فليس من حصر لأفراد موضوع هذا التفكر ، وهل للقرآن موضوعية فيه ، الجواب نعم .
وهو الذي يتجلى في نظم هذه الآيات ، فالآية قبل السابقة هي [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) .
لبيان الجمع بين ملك الله عز وجل لكل الخلائق وعلمه بها ، قال تعالى [وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ] ( ) .
وتبين الآية عظيم قدرة الله ، وأنه سبحانه لا تستعصي عليه مسألة ، وفيه دعوة للمسلمين والناس جميعاً لسؤال الحاجات والرغائب منه تعالى ، أي عدم حصر السؤال بالحاجة ، إنما يشمل الرغائب والأماني للذات والغير .
ليكون من معاني قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) أُدعو الله لأنفسكم ولغيركم ،ويسأل الفرد لذاته وللجماعة ، وكذا العكس فان الجماعة تسأل لها ، وللفرد منها ، ولغيرها .
والدعاء بالخير من مصاديق الذكر الوارد في آية البحث ليجمع الدعاء بين أمور :
الأول : ذكر الله عز وجل ، وهل الإلحاح في الدعاء من الذكر الكثير ، الجواب نعم .
الثاني: التسليم بأن مقاليد الأمور بيد الله عز وجل ، قال تعالى [فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ] ( ).
الثالث : قانون الدعاء يحقق كلاً من :
الأولى : تنجز الحاجات .
الثانية : تحقق الرغائب .
الثالثة : تقريب البعيد وإبعاد القريب ، وجمع المتفرق .
الرابعة : إزالة الموانع التي دون الغايات .
الخامسة : الأجر والثواب على ذات الدعاء ، وفي التنزيل [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ..]( ).
وأخبرت الآية السابقة عن تعدد الآيات والبراهين الدالة على عظيم قدرة الله ، ووجوب عبادته من جهات :
الأولى : خلق السموات .
الثانية : صيرورة السماوات سبع سماوات .
الثالثة : خلق الأرض ودورانها على نفسها .
الرابعة : آية الليل وآية النهار ، والتضاد بينهما .
الخامسة : حفظ السماء والأرض كل دقيقة ، ولا يقدر على هذا الحفظ إلا الله عز وجل .
السادسة : استدامة نظام حركة الشمس والقمر، واختلاف الليل والنهار.
وهذه الآيات من اللامتناهي ، جعلها الله عز وجل تبصرة لأولي الألباب، ونوع طريق ومقدمة لذكرهم له سبحانه ، لتأتي آية البحث بذكر الله مع كل حال شكراً له سبحانه ، لذا يتلو كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في اليوم [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) في الصلاة التي كل جزء منها ذكر لله عز وجل .
وهذا الجزء من التفسير هو السابع والثلاثون بعد المائتين من (معالم الإيمان في تفسير القرآن ) ويختص بتفسير الآية الواحدة والتسعين بعد المائتين من سورة آل عمران وفق منهجي في التفسير بالإبتداء من سورة الفاتحة ثم آيات سورة البقرة ثم آيات سورة آل عمران ، ومن الإعجاز في هذه الآية بعث المسلمين والمسلمات والناس جميعاً على التفكر في الآيات الكونية ، وبدائع صنع الله ليكون هذا التفكر عبادة ومقدمة لمصاديق متعددة من العبادة .
الحمد لله الذي هدى الناس لذكره طوعاً وقهراً وانطباقاً ، ومن لم يذكر الله في حال الرخاء يذكر الله عند الشدة والضراء.
ومن الإعجاز في ذكر الله بعث الشوق في النفس للذكر والشعور بالرضا على التوفيق للذكر والتسبيح والحمد لله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
فمن خصائص آية البحث جذب المسلم والمسلمة إلى إقامة العبادات في أوقاتها ، والحرص على الإمتثال الأمثل للأوامر الإلهية ، وإجتناب ما نهى الله عز وجل عنه، وقد يظن الإنسان بأن بعض أحواله كالإضطجاع أو القعود لا يناسب منازل الذكر وتقديس مقامات الربوبية .
فنزلت آية البحث بالحض على الذكر على كل حال ، وأن الله عز وجل يحب العبد الذي يحرص على جعل لسانه رطباً بذكر الله ، وتلاوة آيات القرآن ، وتكون الآية بشارة وإنذاراً ، ومن خصائص الآية القرآنية أنها إذا كانت بشارة فهي في مفهومها إنذار ، وكذا العكس فتكون آية الإنذار بشارة في مفهومها لتبقى أحكام وسنن القرآن غضة طرية إلى يوم القيامة تخالط النفوس ، وتنفذ إلى شغاف القلوب ، وتكون سبباً بالهداية والصلاح ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
فمن مفاهيم الآية أعلاه خلو تلاوة القرآن من الأذى والضرر ، فليس فيها وفي العمل بأحكام القرآن إلا النفع والخير ، وفيه بشارة للمؤمنين ، وما يبعث الحسرة في نفوس المشركين .
فكانت قريش تجهز الجيوش العظيمة لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والزحف على المدينة ، وهو والمهاجرين والأنصار مشغولون بتلاوة القرآن ويتجهدون بالإمتثال لما فيه من الأوامر وإجتناب ما نهى الله عنه ، وقال تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا] ( ).
وذكرت الآية [الْعَالَمِينَ] لبيان توجه إنذارات القرآن كل ساعة إلى الناس وإلى يوم القيامة ، وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلاة اليومية خمس مرات في اليوم لما تتضمنه آيات القرآن من البشارة والإنذار ، ومن الإعجاز في إنذارات القرآن أنها سبيل للهدى والصلاح .
وتدعو آية البحث إلى الصبر والتحمل في مرضاة الله عز وجل ، قال تعالى [وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا] ( ).
لقد أثنى الله عز وجل على المؤمنين بخصالهم الحميدة التي تتضمنها آية البحث من ذكر الله عز وجل كثيراَ , ومن التفكر في حكمة وتدبير وقدرة الله عز وجل في صنائعه .
كما أخبرت الآية السابقة عن فضل الله عز وجل عليهم بتقريبهم إلى منازل الطاعة والذكر الكثير بأن جعل خلق السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار آيات وعلامات لهم يتعظون منها , لتتفكر عقولهم بالبراهين التي تدل على وجوب عبادة الله عز وجل والتنزه عن مفاهيم الضلالة, ولطرد الغفلة والجهالة.
لبيان قانون وهو أن التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإكثار من الذكر , والتفكر في الخلائق لم يتم إلا بفضل من الله عز وجل .
قال تعالى [وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] ( ).
حرر في العاشر من شهر ذي القعدة 1443
10/6/2022

قوله تعالى[الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]الآية 191 آل عمران

الإعراب واللغة
الذين : اسم موصول مبني على الفتح في محل نعت (لأولي) الوارد في خاتمة الآية السابقة وهو قوله تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ] ( ) .
ويجوز أن يكون الاسم الموصول هذا مبتدأ , والخبر محذوف تقديره (يقولون ربنا) كما يصح أن يكون في محل خبر بتقدير (هم الذين) وفي محل نصب بإضمار (فعل) والأرجح هو الأول لإتصال آية البحث بالآية السابقة.
ومن منافع تعدد وجوه الإعراب المحتملة بيانها لكثرة معاني ودلالة اللفظ القرآني .
يذكرون : فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة , والواو : فاعل .
الله : لفظ الجلالة مفعول به منصوب بالفتحة , والجملة صلة الموصول.
قياماَ : مصدر في محل حال منصوب بالفتحة على آخره ، وجاء في موضع الوصف .
وقعوداَ : الواو : حرف عطف .
قعوداَ : معطوف على قياماَ منصوب بالفتحة على آخره .
وعلى جنوبهم : الواو : حرف عطف .
على جنوبهم : جار ومجرور متعلق بمحذوف حال , من واو الجماعة في يذكرون , والتقدير : يذكرون الله مضطجعين على جنوبهم .
ويتفكرون : الواو : حرف عطف .
يتفكرون : فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة , والواو : فاعل .
في خلق : جار ومجرور , خلق : مضاف .
السموات : مضاف إليه مجرور بالكسرة .
والأرض : معطوف على السموات .
ربنا : (ربّ) منادى مضاف , منصوب بالفتحة , وهو مضاف , وحذفت أداة النداء , والضمير (نا) مضاف إليه .
ما خلقت هذا : ما : نافية .
خلقت : فعل ماض , والتاء فاعل .
هذا : اسم إشارة مبني في محل نصب مفعول به .
باطلاَ : حال منصوبة بالفتحة .
والجملة في محل نصب مفعول به لفعل قول محذوف (أي يقولون ربنا).
سبحانك : سبحان : مفعول مطلق منصوب لفعل محذوف , تقديره : سَبح .
وسبحان مضاف ، والكاف : مضاف إليه .
الفاء : حرف عطف , وقيل هي الفصيحة أي التي تفصح عن محذوف في الكلام قبلها يكون سبباَ للمذكور بعدها كما في حذف المعطوف عليه مع أنه سبب للمعطوف .
قِ : فعل دعاء مبني على حذف حرف العلة .
نا : ضمير متصل مفعول به .
لأنه فعل لفيف مفروق فيكون بصيغة الأمر حرفاَ واحداَ بحذف أوله وآخره .
ومثله (وفى) يكون : فِ , (وعى) يكون : عِ .
ويسمى الفعل الذي يجتمع فيه حرفا علة (الفعل اللفيف) وينقسم إلى قسمين :
الأول : الفعل اللفيف المفروق هو الذي فيه حرفا علة غير متجاورين , فيفرق بينهما حرف صحيح مثل , وفى , وشى , وهى.
الثاني : اللفيف المقرون : وهو الذي اجتمع فيه حرفا علة لا يفصل بينهما حرف آخر صحيح مثل , شوى , عوى .
عذاب النار : عذاب : مفعول به ثان , منصوب وعلامة نصبة الفتحة على آخره .
النار : مضاف إليه مجرور ، وعلامة جره الكسرة الظاهرة تحت آخره .
وابتدأت آية البحث بالاسم الموصول (الذين ) وهو نعت لأولي الإلباب ، والألباب : جمع لُب , بالضم , والمراد أصحاب العقول السليمة الخالية من مخالطة الهوى.
الذين يكون إختيارهم تبعاَ للعقل وتميزه , إذ يقود العقل الإنسان إلى الإيمان والحرص على أداء الواجبات العبادية , وهم يبادرون إلى الخير والحلال ، ويتجنبون الحرام والسوء .
والتفكر : نظر العقل بالدليل , وإرادة التحليل .
وقيل(والفِكْرةُ والفِكْر واحد)( ) ولكن هناك فرق بينهما , فالمراد من الفكرة الموضوع المتحد والفكر اسمه .
والنسبة بين التفكر والتدبر العموم والخصوص من وجه , فمادة الإلتقاء إعمال الفكر وتصرف القلب .
ومادة الإفتراق أن التفكر النظرة في ماهية الشئ , والتدبر في النظر في العواقب , قال تعالى [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا]( ) وورد لفظ [يَتَدَبَّرُونَ] مرتين في القرآن بينما ورد لفظ (يتفكرون) احدى عشرة مرة .
سياق الآيات
صلة آية البحث بالآيات المجاورة على شعبتين :
الشعبة الأولى : صلة الآية بالآيات السابقة
وهي على وجوه :
الوجه الأول : صلة آية البحث بقوله تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( ) وفيها مسائل:
المسألة الأولى : من الإعجاز في نظم آيات القرآن الموضوعية والتداخل الظاهر بين الآية السابقة وآية البحث ، إذ ابتدأت آية البحث بالاسم الموصول (الذين ) مما يدل على تعلق موضوع الآية بخاتمة الآية السابقة ، وتقدير الجمع بينهما : لآيات لأولي الإلباب الذين يذكرون الله .
لبيان النسبة بين أولي العقول وبين الذين يذكرون الله ، وأنها في المقام التساوي ،وفيه ترغيب للناس بالإيمان ، وبيان أن الكسب والنفع العظيم في الدنيا والآخرة هو بذكر الله عز وجل ، قال تعالى [وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
وموضوع الآية أعلاه هو أداء صلاة الجمعة لبيان قانون مع قدسية صلاة الجمعة وشأنها العظيم في سلم العبادة فانها لا تغني عن وجوب ذكر الله وكثرة التسبيح بعدها ففيه التوفيق والنجاح والفلاح في النشأتين .
ليكون الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث ، واذكروا الله بعد صلاة الجمعة قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم لعلكم تفلحون .
ومن معاني الآية أعلاه أن ذكر الله كثيراً ليس مانعاً من وجوب التقيد التام بأداء الفرائض العبادية .
المسألة الثانية : من معاني الجمع بين آية البحث والآية السابقة الترغيب بالإيمان ، وبيان قانون وهو الإيمان قول وفعل وصلاح ، ومنه الذكر الكثير والإستغفار والتسبيح من خصائص أولي الألباب الذين تذكرهم الآية السابقة ، وهم يتخذون التفكر والتدبر في بديع صنع الله عز وجل مناسبة للذكر والإستغفار والتسبيح والتهليل والصلاة والصيام وسيأتي مزيد بيان .
فان قلت أين الترغيب بالإيمان إنما أطلقت الآية صفة أولي الألباب على الذين يذكرون الله على كل حال .
والجواب هذه الصفة وبيان حسنها الذاتي ، ومنافعها في النشأتين دعوة للناس للهدى والإيمان .
المسألة الثالثة : بيان فضل الله عز وجل بجعل بديع خلق السموات وخزائن الأرض ، وسير الشمس والقمر ، علامات للناس لهدايتهم ، ودلالات في سبل المعرفة ، وهو من رشحات التسخير في قوله تعالى [وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ* وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ] ( ).
وقد ورد لفظ [َسَخَّر] أربع مرات في الآيتين أعلاه من مجموعه في القرآن وهو سبع عشرة مرة .
المسألة الرابعة : لقد جاءت الآية السابقة جملة مفيدة ذات معنى تام ، إذ ابتدأت بالحرف المشبه بالفعل (إن) ليكون اسمها المتأخر [آيات] وهو منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم.
لقد قدمت الآية خبر إن [فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ] وهل هو من تقدير الأهم على المهم ، المختار نعم ، ولبيان تجلي آيات الخلق للحواس والعقل .
فان الله عز وجل يجذب أبصار وبصائر الناس إلى بديع خلقه وعظيم صنعه ، وهذا البيان رحمة بهم لما فيه من الهداية ، ومن فضل الله عز وجل تعقبها بآية البحث لبيان صفات الحسن التي يتحلى بها اولو العقول الذين يتخذون من الآيات الكونية حجة ودليلاً على وجوب طاعة الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) .
المسألة الخامسة : لقد ذكرت الآية السابقة خلق السموات والأرض ، وكيف أنها خلق عظيم لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ، وهذا الخلق رحمة بالملائكة والجن ، وأراد الله عز وجل من خلق السموات والأرض، وبديع صنع الله تعاقب الليل والنهار على نحو راتب في السنين والأحقاب تدبر الناس فيها ، وإصلاح أنفسهم للهداية .
لقد احتجت الملائكة على جعل [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) لأن شطراً من الناس يشيعون الفساد في الأرض ، ويتعدون على حقوق غيرهم ، ومنهم من يعبد الأوثان والطاغوت ، ويقتل البرئ والذي لا يستحق القتل ، فجاءهم الرد من عند الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
فمن علم الله عز وجل تسخير السموات والأرض ، والشمس والقمر للناس كخلفاء في الأرض ، وتذكيرهم بوجوب عبادة الله عز وجل،والإقامة على الذكر .
وهل آية البحث من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة أعلاه ، الجواب نعم ، فان الله عز وجل يعلم أن الذين يوظفون عقولهم لإختيار منهاج حياتهم يقيمون على الذكر الكثير وفي كل الأحوال مما يدل على أنهم لا يفسدون في الأرض ، ولا يسفكون الدماء ، فما داموا يذكرون الله بحال القيام والقعود والإضطجاع وعلى كل حال فان الفساد ممتنع عنهم ، ليس فقط لإمتناع إجتماع الضدين ، ولكن للعصمة من الفساد التي تترشح عن الإقامة على الذكر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) بتقريب الناس إلى مصاديق العبادة بلطف من عند الله عز وجل .
و(عن عِمْران بن حُصَين، ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “صَلِّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لَم تستطع فَعَلَى جَنْبِكَ) ( ).
المسألة السادسة : كل من آية السياق والبحث بصيغة الجملة الخبرية لبيان أن القرآن كتاب الحوار والإحتجاج والبيان ، ووردت آية السياق بصيغة معنى الحدوث في الزمن الماضي [إِنَّ فِي خَلْقِ] [وَاخْتِلاَفِ] ( ) وهو الذي يدل عليه الوجدان ، أما آية البحث فوردت بصيغة المضارع [يَذْكُرُونَ] [وَيَتَفَكَّرُونَ] للثناء على المؤمنين وبعث المسلمين والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة على العمل بمضامين هذه الآية وآيات الدعاء التي بعدها ، ونيل الثواب العظيم الذي بشرت به كما بعد أربع آيات بقوله تعالى [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ] ( ) .
وأخرج مرفوعاً عن أنس ( تفكر ساعة في اختلاف الليل والنهار خير من عبادة ثمانين سنة) ( ).
لقد ذكرت آية السياق وصفاً ذاتياً [لِأُولِي الأَلْبَابِ] وفيه ثناء ومدح وبيان لفضل الله عز وجل على الناس بجعل العقل آلة التمييز بين الحق والباطل ،ووسيلة التدبر بالآيات الكونية ، والإقرار بوجوب عبادة الله عز وجل لتتعقبها آية البحث فتبين تسخير العقل للذِكر والإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل.
وتبين آية السياق قانوناً وهو من أهم وظائف العقل الإجتهاد في ذكر الله عز وجل.
المسألة السابعة : لقد تضمنت آية السياق ثناء الله عز وجل على نفسه ببديع صنعه ، وبيان منافع هذا الصنع بأنه علامة وبينّة وبرهان لذوي البصائر ، والذين يتخذون من العقل وسيلة ومادة للتدبر والتفكر .
وتبين آية السياق قانوناً وهو من أهم وظائف العقل الإجتهاد في ذكر الله عز وجل ، والتفكر في الخلائق وعظمتها ، ومن إعجاز الآية دعوتها للإمتناع عن التفكر في الذات المقدسة ،إذ تنهى في مفهومها عن التفكر في الله عز وجل الذي هو قريب من كل إنسان من غير أن يحده مكان ، وفي التنزيل [هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ).
(وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : تَفَكَّرُوا فِي الخَلْقِ وَلا تَتَفَكَّرُوا فِي الخَالِقِ ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ) ( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال (حتى انتهى بهم الكلام إلى الله عزوجل فتحيروا، فإن كان الرجل ليدعى من بين يديه فيجيب من خلفه، أو يدعى من خلفه فيجيب من بين يديه.
وجاءت إياكم والتفكر في الله، فإن التفكر في الله لا يزيد إلا تيها إن الله عزوجل لا تدركه الابصار ولا يوصف بمقدار) ( ).
وجاءت آية البحث للدلالة على صحة إختيار موضوع التفكر بالمخلوقات العظيمة ، والثناء والمدح للذين اختاروا هذا التفكر .
وتحتمل نسبتهم من مجموع الناس وجوهاً :
الأول : الذين يتفكرون في الخلق هم أكثر الناس .
الثاني : إنهم القليل من الناس .
الثالث : نسبة التساوي بين الفريقين .
والمختار هو الأول ، فان قلت قال تعالى [وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ]( ) وقال تعالى [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ] ( )وقال تعالى [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ] ( ).
والجواب النسبة بين التفكر في الخلق وبين الإيمان والشكر لله العموم والخصوص المطلق ، فالتفكر أعم وأكثر لذا ذكرت الآية أولي الألباب ، وليس من إنسان إلا وعنده لبُ وعقل ، نعم قيدت آية البحث هذا الوصف العام بالإنقطاع إلى ذكر الله ، والتفكر في مخلوقاته .
لبيان أن قانون ذكر الله صفة أخرى لأولي الألباب ، وكذا بالنسبة للتنكر في الخلائق والدعاء الوارد في آخر الآية [سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ].
فلم يهبط آدم إلى الأرض إلا وقد نال مرتبة الخلافة في الأرض لتبقى هذه المرتبة في الأرض على المختار وإن كانت من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة لأن خلافة النبي غير خلافة الناس العامة وهو لا يتعارض مع إرادة خلافة أجيال الناس بعضهم لبعض .
والمختار أن خلافة الإنسان إنما هي تفويض من عند الله له في التصرف في الأرض والنعم التي فيها ، والتصرف مقيد غير مطلق وهو من ضروب الإبتلاء والإمتحان في الحياة الدنيا، فبعد نعمة الخلافة يأتي الموت وعالم الجزاء الذي يبدأ من القبر وحياة البرزخ.
لقد ذكرت آية البحث ذكر الله والتفكر في الخلائق ، وإذا كان في الذكر ثواب عظيم ، فيحتمل التفكر في خلق السموات والأرض في المقام وجوهاً:
الأول : الأجر والثواب بالتفكر في خلق السموات إذا كان يترشح عن الإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل .
الثاني : ذات التفكر في خلق السموات والأرض فعل عبادي فيه الأجر والثواب إن صدر من مقامات الإيمان .
الثالث : ليس من ثواب في التفكر في خلق السموات والأرض ، لأنه كيفية نفسانية ، وليست فعلاً مرتجلاً في الخارج .
الرابع : في ذات التفكر في خلق السموات والأرض أجر وثواب.
الخامس : التفكر في خلق السموات والأرض مقدمة ونوع طريق لأسباب الهداية والصلاح .
السادس : التفكر بالخلائق وعظمة الأكوان تسليم بأن الله عز وجل هو الخالق والمدبر لها .
وباستثناء الوجه الثالث أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها صحيحة ، مع التباين في مراتب الأجر والثواب .
فمن معاني الجمع بين آية البحث والسياق الفوز بالثواب العظيم على التفكر ببديع الخلق من منازل العبودية والخضوع لله عز وجل ، والبعث على التفكر في الخلق ، فهو مطلوب بذاته ، وبما يترشح عنه من المنافع العظيمة .
(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال أشهد أن لك ربا وخالقا اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له) و (قال صلى الله عليه وآله وسلم : لا عبادة كتفكر ]) ( ).
المسألة التاسعة : لقد ذكرت آية السياق خلق السموات والأرض من غير أن تبين بأن الله عز وجل هو الذي خلقها ، ولكن نزلت آيات متعددة تخبر عن خلق الله لهما ، وكل آية من آيات الخلق هذه لها معان ودلالات خاصة منها مثلاً [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ] ( ) .
وإذ أخبرت آية السياق عن إختلاف الليل والنهار ، فقد ذكرت آية أخرى أن كلاً منهما مخلوق وأمر وجودي محسوس ، قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ] ( ).
وهل من صلة بين آية البحث والآية أعلاه ، الجواب نعم ، فذات خلق الليل والنهار مادة ومناسبة للتفكر في صنعهما مع أنهما عرض وليس مادة وجوهراً .
ولم يرد في الآية أن اختلاف الليل والنهار أمر مخلوق ، إنما أخبر القرآن عن نسبتهما إلى الله عز وجل ، وخلق هذا الإختلاف مترشح عن قوله تعالى [وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ] ( ) .
ومن وجوه تقدير آية البحث : ويتفكرون في اختلاف الليل والنهار ، ليكون التفكر في المقام على وجوه :
الأول : التفكر في المقام بآية الليل وظلمته .
الثاني : التفكر في آية النهار وضيائه .
الثالث : التدبر والتفكر في إختلاف الليل والنهار.
الرابع : سياحة الفكر في التباين الدقيق في طول ذات الليل في الشتاء وقصره في الصيف ، وطوله في الصيف والعكس بالنسبة للنهار .
الخامس : التفكر بحصر الوقت باليوم والليلة ، وهل هذا الحصر منذ أن خلق الله الليل والنهار ، أم أنه مستحدث بعد هبوط آدم ، المختار هو الأول ، وهو من بديع صنع الله في دقة أنظمة الأكوان .
السادس : التفكر في تقديم الليل على النهار في آية السياق والآيات الأخرى المشابهة ، بينما ورد تقديم النهار بخصوص الصلاة ، قال تعالى [وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ] ( ) .
السابع : التفكر في دخول النهار في الليل وازاحته عن الكون ، ثم طرو النهار وشمسه المضيئة ، وهروب الليل أمامه سريعاً ، قال تعالى [يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى]( ).
الثامن : التفكر في التضاد بين ظلمة الليل ، وضياء النهار ، والمنافع العظيمة لكل منهما ، وللتباين بينهما .
المسألة العاشرة : من معاني الجمع بين الآيتين :
الأول : الذين يذكرون خلق السموات ، وهم بحال القيام والمشي .
الثاني : الذين يذكرون خلق الله للسموات ، وهم بحال القعود والجلوس.
الثالث : الذين يذكرون خلق الله للسموات ، وهم مضطجعون ومستلقون على الفراش .
الرابع : عند اليقظة ، فحتى المسافر إما أن يكون قائماً أو قاعداً على الكرسي ، وقد يكون مضطجعاً في القطار أو السفينة ونحوها .
الخامس : الذين يذكرون خلق الله عز وجل للأرض قياماً .
السادس : الذين يذكرون خلق الله عز وجل للأرض قعوداً .
السابع : الذين يذكرون خلق الله سبحانه للأرض على جنوبهم.
الثامن : الذين يذكرون خلق السموات والأرض كآيات من عند الله عز وجل .
التاسع : الذي يذكرون إختلاف الليل والنهار كآيات من عند الله ففي كل ساعة من الليل والنهار هناك آية في المقام للإختلاف في ضياء الشمس بين الظهر والعصر مثلاً ، والإختلاف في مواقع النجوم ، ونور ومنازل القمر.
فلا ينحصر الإختلاف بين الليل والنهار بل الإختلاف بين كل ساعة وأخرى من ساعات الليل ، وكل ساعة وأخرى من ساعات النهار .
المسألة الحادية عشرة : من وجوه تقدير قوله تعالى [رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] ( ) بآية السياق من وجوه :
الأول : ربنا ما خلقت السموات والأرض باطلاً .
الثاني : ربنا ما جعلت إختلاف الليل والنهار باطلاً .
الثالث : ربنا ما خلقت الآيات الكونية باطلاً .
الرابع : يقول اولو الألباب ربنا ما خلقت السموات باطلاً .
الخامس : يقول اولو الألباب ربنا ما خلقت هذا باطلاً .
السادس : يقول اولو الألباب ربنا ما خلقت هذه الأرض باطلاً .
السابع : يقول اولو الألباب ربنا ما جعلت اختلاف الليل والنهار باطلاً .
الثامن : اولو الألباب يقولون ربنا فقنا عذاب النار .
وفي التنزيل [وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] ( ).
المسألة الثانية عشرة : من الإعجاز بالصلة بين آية السياق والبحث ، ورود كلمات [فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] في كل منهما .
وأخبرت الأولى عن خلقهما ، وذكرت الثانية تفكر المسلمين والمسلمات بخلق الله عز وجل للسموات والأرض وهيئتهما وعظمة وسعة كل منهما .
وقد أكرم الله عز وجل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإسراء والمعراج لتكون سياحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأرض والسموات مناسبة لتفكر المسلمين في خلقهما ، وفضل الله عز وجل في تقريب البعيد ، وكشف أسرار وعلوم عنها ، قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ] ( ).
ومن إعجاز القرآن ورود لفظ [خَلَقَ السَّمَوَاتِ]ثلاثين مرة ، ولم يرد في القرآن لفظ (خلق السماء) مع أن معناه في المقام اسم الجنس للجمع بينه وبين آيات خلق السموات.
وعدم ورود لفظ (خلق السماء ) شاهد على ثناء الله عز وجل على نفسه ، وإصلاح المسلمين والناس جميعاً لآية تعدد السموات ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ).
ولتكون آية وحديث الإسراء مقدمة لصعود الإنسان والمركبات الفضائية إلى الكواكب .
فمن إعجاز القرآن بيانه للمعجزات ثم تحقق ذات صفات المعجزة ، ولكن بالعلم وتسخير العقول والأموال ، لأن الله عز وجل إذا أنعم على الناس بنعمة فانه أكرم من أن يرفعها , فمثلاً حضور فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف عند مريم عليها السلام معجزة ، ويدل عليه قوله تعالى [ُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( )، وقد جعلها الله تعالى في هذا الزمان متيسرة لكثير من الشعوب بالعلم والزراعة المغطاة والنقل السريع ووسائل الخزن والتجميد .
فان الله عز وجل سخر مثل هذه النعمة للناس جميعاً في هذه الأزمنة مع التباين ، إذ كانت مع مريم بالمعجزة ، لتكون بشارة ولطفاً عاماً من عند الله عز وجل .
ليكون من مصاديق قوله تعالى [مَا لَمْ يَعْلَمْ] إرادة اسم الجنس عن لفظ [الإِنسَانَ] أعلاه فيعلم الجيل اللاحق ما لم يعلم الجيل السابق ، ويعلم النبي اللاحق مالم يعلم النبي السابق ، وقد تفضل الله عز وجل وجعل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين .
وقيل (قال سليمان بن داود عليهما السلام : أوتينا مما أوتي الناس ومما لم يؤتوا ، وعلمنا مما علم الناس وما لم يعلموا ، فلم نجد شيئاً هو أفضل من تقوى الله في السر والعلانية ، والعدل في الرضا والغضب ، والقصد في الغنى والفقر) ( ).
المسألة الثالثة عشرة : أختتمت آية السياق بقوله تعالى [لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]بذكر الآيات بصيغة الجمع والمقصود لا متناهي من الآيات والمعجزات وبراهين القدرة المطلقة لله عز وجل ، لأن الإجرام السماوية ومنازلها آيات غير متناهية في عددها وصنعها ودقة حركتها ومنافعها .
وليكون من معاني [وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) التفكر والتدبر في الإكتشافات العلمية المستحدثة في عالم الفضاء ، ففي كل بضع سنين تكتشف أجرام وأسرار كونية باهرة تبعث الناس على التدبر فيه ، وتدعو للإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل ، ويشمله قوله تعالى [رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً] .
ومن خصائص الملائكة والكائنات والأجرام السماوية أنها في خضوع وانقياد لله عز وجل ، وفي التنزيل [أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ] ( ).
ومن بديع خلق الإنسان سعيه لاكتشاف أسرار الآيات الكونية وأنظمتها سواء لغاية ومنفعة أو للإطلاع واستدامة الأنبهار بعظيم مخلوقات الله ، وهذا السعي آية من عند الله في خلق الإنسان والصلة بينه وبين عالم الأكوان ، وبيان أن خلقه ليس منفصلاً عن المخلوقات الأخرى ، من غير أن تصل النوبة إلى نظرية وحدة الموجود أو نظرية وحدة الوجود ، ولا أصل لأي منهما ، وتعني الأولى والتي تسمى أيضاً الحلولية أن جميع الماهيات والجواهر هي واحدة في الحقيقة ، إنما يقع التباين بينها بالسنخية والحركة ونحوها ، وظهرت هذه النظرية قبل الإسلام .
أما وحدة الوجود فهي تقر بوجود الخالق وتفصل بينه وبين المخلوقات من جهة التباين في المراتب ، وأعظم ما في الكون ، ولكن مع إدعاء أن الوجود في حقيقته واحد .
وتنفي كل من آية البحث والسياق نظرية وحدة الموجود ، ووحدة الوجود ، وإن سعى بعض العرفاء بتوجيه الثانية بأنه وجود الله عز وجل دائم لا يدبّ إليه العدم ووجود الإنسان إمكاني ، وهو زائل ولابد أن يلحقه الموت والعدم ، وتدل عليه خاتمة آية البحث [فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] لما فيها من التسليم بالمعاد وأن الإنسان يموت ثم يبعث للحساب والجزاء .
ومنهم من استدل بالنور وأن ضياء الشمس والمصباح حقيقة واحدة من حيث إنارته لذاته ولغيره إنما الفارق بينهما بقوة أو ضعف الضياء ، وتبين آية البحث والسياق أن هذا المثال قياس مع الفارق .
ومن إعجاز التعاقب بين آية السياق والبحث تأكيد التباين في الماهية ونفي وحدة الوجود بين الخالق والمخلوق ، والمعبود والعابد ، وليس من قياس له في الموجودات ، وفي التنزيل [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] ( ).
المسألة الرابعة عشرة : من خصائص أولي الألباب عدم الإكتفاء بالتفكر في الخلائق وعالم الأكوان، إنما يتجهون إلى العمل والإجتهاد في العبادة وطاعة الله ، إذ تدل آية البحث والآيات التالية لها على تعدد أدعيتهم وسؤالهم الله عز وجل .
وهل ينحصر قوله تعالى [رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً] بمضامين آية البحث وخلق السموات والأرض ، الجواب لا ، إنما يشمل ما ورد في آية السياق خلق الليل والنهار واختلافهما ، والتباين بين الأفراد المتعاقبة لكل واحد منهما ، فنهار أمس غير نهار اليوم ، ونهار اليوم غير نهار غد في طوله وابتدائه ومطالعه ، ومغيب الشمس ، وحركة الرياح والنسيم ، والوقائع والأحداث فيه .
وكذا بالنسبة للإختلاف في أفراد الليل مع الإتحاد في الذكر والدعاء والتسبيح ، وقد قال تعالى بخصوص صلاة الصبح [وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( ) ولابد من دراسات خاصة بخصوص آية السياق واللامتناهي في أفراد مضامينها لكل من :
الأول : قانون اللامتناهي في آية وأفراد أجرام السموات .
الثاني : قانون اللامتناهي في بديع صنع الله للأرض وعناصرها ، ومنافعها ، وثمارها ، وكنوزها .
الثالث : قانون الإختلاف بين أفراد النهار على مدار السنة .
الرابع : قانون خلق الليل والنهار ، والذي لا يقدر عليه إلا الله عز وجل .
الخامس : قانون الإختلاف بين أفراد الليل بين ليلة وأخرى .
السادس : آية الشمس والقمر ، وتعاقبهما ، وثبوت حدة ضياء الشمس في النهار ، والتبدل بين الظهور والخفاء بالنسبة للقمر ، وحتى ظهوره يكون على مراتب ، إذ يبدأ هلالاً في أول الشهر القمري ثم يتسع ضياءً إلى أن يصبح منتصف الشهر بدراً ثم يبتليه الله بالنقصان .
المسألة الخامسة عشرة : تضمنت آية البحث اسم الإشارة (هذا) وموضوعه بلحاظ هذه الآية أي آية البحث أعم من الحصر والتعيين ، وتقديره بلحاظ آية السياق على وجوه غير متناهية منها :
الأول : ربنا ما خلقت السماء الأولى باطلاً .
الثاني : ربنا ما خلقت السماء الثانية باطلاً .
وهكذا إلى السماء السابعة .
الثالث : ربنا ما خلقت جبرئيل وميكائيل وإسرافيل باطلاً .
الرابع : ربنا ما خلقت أي ملك من الملائكة باطلاً .
الخامس : ربنا ما خلقت الشمس باطلاً .
السادس : ربنا ما جعلت حركة ونظام سير الشمس باطلاً .
السابع : ربنا ما خلقت معجزة القمر وهيئته المختلفة في الحجم والنور والمنزل باطلاً .
الثامن : ربنا ما خلقت الأرض باطلاً .
التاسع : ربنا ما خلقت كنوز الأرض باطلاً .
للإقرار بحكمة وفضل الله عز وجل على الناس ، ولبيان قانون وهو ليس من إنسان إلا وينتفع من الأرض .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الإنسانية تستديم بالسماء والأرض ، وما جعل الله فيهما من الآيات والنعم.
وهل ذات خلق الإنسان من مصاديق خلق السموات والأرض ، الجواب نعم ، قال تعالى [لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) وقال تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ]( ).
المسألة السادسة عشرة : أختتمت آية البحث بالدعاء من ذوي العقول والبصائر [فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ) لبيان التسليم بخلق الله عز وجل الجنة والنار ، وأن خلق السموات والأرض وسيلة ومادة لتسليم الناس بعالم الآخرة ، وأن الله الذي خلق السموات والأرض ، ويبعثهم يوم القيامة للوقوف بين يديه للحساب ، وفي التنزيل [يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ]( ).
فبعد الذكر والتفكر يأتي الدعاء والمسألة والإستغاثة بالله من شدة حر النار ، لبيان الملازمة بين التفكر في السموات والأرض ، وبين الإقرار باليوم الآخر، وهو من مصاديق الآية السابقة التي أخبرت عن قانون وهو آيات الله الكونية طريق للهداية لأمور :
الأول : الإقرار بالتوحيد .
الثاني : التسليم بالمعاد .
الثالث : وقوف الناس بين يدي الله عز وجل للحساب والجزاء.
الرابع : دخول المؤمنين الذين عملوا الصالحات الجنة ، ودخول المشركين النار .
الخامس : قانون الدعاء سلاح للنجاة من النار ، وهذا الدعاء شاهد على الإيمان .
المسألة السابعة عشرة : لقد ذكرت آية البحث اسم الجلالة [يَذْكُرُونَ اللَّهَ] ولم يرد في آية السياق ، ، ولكن كل شطر أو كلمة منها تدل عليه ، وتشير له بالتقدير على وجوه :
الأول : إن في خلق الله للسموات .
الثاني : إن في جعل الله عز وجل السموات سبعاً طباقاً .
الثالث : إن في خلق الله للأرض .
الرابع : إن في خلق الله لليل والنهار .
الخامس : إن في بديع صنع الله في إختلاف الليل والنهار .
السادس : إن في كثرة آيات الله الكونية .
السابع : إن في جعل الله المؤمنين أولي الألباب ، وفي التنزيل [قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ] ( ).
واللب : خالص الشئ وزبدته .
اللب : العقل النير الخالص من شوائب النفس الشهوية .
تعدد مصاديق إختلاف الليل والنهار
لا ينحصر إختلاف الليل والنهار بتعاقبها بل يشمل جهات :
الأولى : الإختلاف بين شرق وغرب الأرض في وجود الليل أو النهار فشطر من الأرض يكون عندهم نهار ، وشطر يكون ليل وظلمة وحتى إطلالة القمر تختلف في أوانها في ذات الليلة الواحدة من غير أن يلحق بقعة من الأرض غبن أو نقص في نوره وهو من عدل الله عز وجل في الكائنات ، وانتفاع الناس منها.
الثانية : التباين في ساعات النهار ، والليل في بقاع الأرض المتقاربة ، والمختار أنه من عمومات قوله تعالى [وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ..] ( )، وتقدير الآية ، وقطع متجاورات كل قطعة في وقت يختلف عن الأخرى ، ففي هذه أول الفجر ، وفي تلك آخره ، وهذه قبل الغروب وتلك بعده .
الثالثة : التعدد في مطالع الشمس أي أوان شروقها ، وفي التنزيل بخصوص ليلة القدر [سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ]( ).
الرابعة : الإعجاز العلمي في إختلاف الليل والنهار .
لخامسة : النعم العظيمة في التباين بين أقطار الأرض .
السادسة : إرتباط أوقات الصلاة اليومية الخمس بالتبدل في سير الشمس وابتداء الغسق وظلمة الليل .
السابعة : نماء الثمار والخضار بالتباين والإختلاف بين الليل والنهار .
الثامنة : معجزة المد والجزر في بعض مياه المحيطات والبحار ، فتتأثر بنور القمر فيرتفع الماء تدريجياً وعلى نحو مؤقت ودوري ، ويطغى على بعض اليابسة والساحل المنبسط بسبب جاذبية القمر ، ودوران الأرض حول نفسها .
ثم لا يلبث أن ينحسر الماء ويعود لحالته ، ويحدث المد والجزر مرتين في اليوم ، أي كل اثنتي عشرة ساعة .
والمد والجزر سبب للرزق الكريم إذ ينشط صيادوا الأسماك عند المد لذا فانهم يعرفون أوقات المد والجزر ، كما يحافظ المد والجزر على نظافة الشواطئ والموانئ الكبيرة والصغيرة ، وسحب مخلفاتها إلى أعماق البحار ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ] ( ) .
التاسعة : الوجوه المتعددة لإختلاف حال الشمس من ضعف وبهاء إشراقتها كل يوم وما تبعثه من الأمل والرضا والغبطة ، وتلح عليه للشكر لله عز وجل على نعمة الشمس ، والحياة والرجاء بيوم سعيد ، ليبدأ ضياء وحرارة الشمس بالإزدياد التدريجي إلى وقت الظهيرة ، وهو دلوك الشمس في قوله تعالى [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( ) .
وعن عبد الله بن مسعود (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر) ( ).
ومع رواية ابن مسعود هذه عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد ورد عنه بطرق متعددة أنه قال (دلوك الشمس : غروبها . تقول العرب : إذا غربت الشمس : دلكت الشمس) ( ).
ومع التساوي في السند من جهة الوثاقة والضعف فيأخذ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة مع ورود أخبار أخرى عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تدل على ذات المعنى .
إذ ورد (عن أبي برزة الأسلمي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الظهر إذا زالت الشمس ، ثم تلا { أقم الصلاة لدلوك الشمس })( ).
وكذا عن أنس بن مالك يرفعه .
وعن مجاهد قال (كنت أقود مولاي قيس بن السائب فيقول لي : أدلكت الشمس؟ فإذا قلت نعم ، صلى الظهر) ( ).
وعن ابن عباس قال : دلوكها زوالها .
وعن زرارة قال (سئل أبو جعفر عليه السلام عما فرض الله عز وجل من الصلاة، وساق الحديث مثل ما مر إلى قوله : وهي وسط صلاتين بالنهار صلاة الغداة وصلاة العصر. وقال: في بعض القراءة ” حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) ( ).
العاشرة : إختلاف أحوال الناس في الليل والنهار ، قال تعالى [وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا] ( ) ففي حين ذكرت آية السياق الليل والنهار واختلافهما في شطر منها ، ذكر كل من الليل والنهار في آية مستقلة أعلاه مع بيان الإختلاف بينهما ، ولم يرد لفظ (معاش) أو (معاشاً ) في القرآن إلا في الآية أعلاه .
الحادية عشرة : مع إختلاف الليل والنهار فان الله عز وجل هو الإله وحده في الليل والنهار ، والسماء والأرض ، وهو من أسرار جمع آية السياق بين السموات والأرض وبين الليل والنهار ، قال تعالى [وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد] ( ).
(عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ:”نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ : وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ” ، فَقَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ: كَيْفَ يَتَّسِعُ النَّاسَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ ، إِلَى قَوْلِهِ (لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فَبِهَذَا تَعْلَمُونَ أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ إِلَهُ كُلِّ شَيْءٍ، وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)( ).
الثانية عشرة : تبدل الهواء وعذوبته بين الليل والنهار ، قال تعالى [وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ] ( ) .
شكر الله على إختلاف الليل والنهار
من معاني الجمع بين آية البحث والآية السابقة بعث المسلمين والناس جميعاً إلى شكر الله عز وجل على كل الأحوال منها :
الأول : نزول كل ومنها آية البحث والآية السابقة [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( ).
الثاني : البيان والوضوح وتجلي الأحكام في كل من الآيتين لتقريب معنى ودلالة الآية لكل إنسان .
الثالث : الشكر لله على خلق السموات .
الرابع : الشكر لله عز وجل على تعدد السموات وسكن الملائكة فيها وإعانة الملائكة للناس ، ونصرتهم للأنبياء ، وبخصوص معركة بدر قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
الخامس : خلق وانبساط الأرض وما فيها من الكنوز ، فالذهب والنفط والمعادن التي في باطن الأرض والزراعات من مصاديق [خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ] لبيان قانون وجوب شكر العباد لله عز وجل على كل نعمة وثروة في الأرض ، سواء كانت مدفونة أو ظاهرة ، ثم الإنتفاع منها أو أنها رزق ووعد للأجيال اللاحقة لما فيها من بعث الطمأنينة في نفوس الآباء عن أحوال أبنائهم وأحفادهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
السادس : خلق آية الليل وظلمته .
السابع : خلق النهار وضياءه وتغشي أشعة الشمس أرجاء الأرض ، وهل يمكن القول بقانون تفضل الله باختلاف الليل والنهار ليشكره الناس في كل آن ، الجواب نعم وهو من أسرار فوز الإنسان بالخلافة في الأرض ، وتقريبه إلى طاعة الله.
ويكون من معاني لفظ [خُلَفَاءَ] و[خَلاَئِفَ] في القرآن لبيان قانون الشكر لله من مصاديق الخلافة ، قال تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
الوجه الثاني : صلة آية البحث بالآية قبل السابقة [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لقد ذكرت آية البحث خصالاً حميدة لأولي البصائر ، إذ جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختيار وإختبار وإبتلاء ، وأعان الله عز وجل الناس مطلقاً بالآيات والبراهين التي تقربهم إلى طاعته ، والتي تملي عليهم التدبر والتفكر في الخلائق وعالم الأكوان ، ومما أخبرت عنه آية السياق قانون ثابت من الإرادة التكوينية وهو ملك الله عز وجل للسموات والأرض من غير أن يشاركه فيها أحد .
ومن الآيات أن الموت والفناء يأتي على كل شئ إلا الله عز وجل ، وفي التنزيل [كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ] ( ) .
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على أن الناس جميعاً ملك لله عز وجل ، ليدرك الإنسان أنه عبد مملوك لله عز وجل ، وتستلزم هذه الملكية وجوب عبادة الناس لله عز وجل.
لقد أخبرت آية السياق بصيغة الإجمال بأن كل شئ في الوجود هو ملك لله عز وجل وأخبرت الآية السابقة عن خلق الله عز وجل للسموات والأرض لبيان قانون وهو ما يخلقه الله عز وجل هو ملك طلق له ، ولا يرضى سبحانه أن يكون له شريك فيه .
لقد أحب الله عز وجل ملكه ففرض عليه سلطانه ، ومنع من دخول شريك معه في الملك والمشيئة والقدرة ، لتكون الخلائق بأحسن حال ، وأبهى صورة ، إذ أن ملك الله عز وجل لها نعمة عظمى ، وفضل ولطف من الله عز وجل ، وهل يختص الفضل من الله بذات المملوك ، الجواب لا ، فهو أعم ، فتنتفع الخلائق كلها من ملك الله للسموات ،وملكه تعالى للأرض ، والغيث ، والريح .
والله عز وجل كان قبل كل شئ وهو مصاحب لكل شئ ، وهل يصح القول أنه موجود بعد كل شئ ، أم أن خلود الذين آمنوا وعملوا الصالحات يدل على دوام وجودهم، المختار هو الأول ، فالله عز وجل موجود بعد كل شئ بدليل آيات متعددة منها قوله تعالى [كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ]( )، وقوله تعالى [هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
وإلى جانب إنفراد الله عز وجل بالملك المطلق فكذا ينفرد سبحانه بالحكم في الخلائق ، وفي التنزيل [لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ] ( )فان قيل يحكم الملوك والرؤساء والحكام ، والجواب هذا صحيح ولكن حكمهم لم يخرج عن مشيئة وقدرة الله ، إنما هو من مصاديق الإبتلاء في الحياة الدنيا ، وفي التنزيل [يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ] ( ) وقال تعالى [اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
المسألة الثانية : من الإعجاز في نظم هذه الآيات ذكر آية السياق والبحث والآية التي بينهما للسموات والأرض ، مما يدل على ثناء الله عز وجل على نفسه في خلقه السموات والأرض ، وعلى لزوم تعاضد الناس في هذا الخلق بالتحلي بالتقوى ، والتنزه عن الكفر ومفاهيم الضلالة ، قال تعالى [مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا]( )وقال تعالى [إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ]( ) .
وتجمع هذه الآيات بين خلق الله للسموات والأرض وبين ملكه لها ، لبيان أن الله عز وجل لم يخلق السموات والأرض ويتركها وشأنها في نظام ذاتي دقيق ، إنما تحضر إرادته في حفظ السموات والأرض وأنظمتها واستدامتها فهي محتاجة في كل لحظة إلى المشيئة الإلهية ، وفيه دعوة للناس للإجتهاد في طاعة الله ، والنسبة بين هذا الإجتهاد والذكر الذي تذكره آية البحث هو العموم والخصوص المطلق .
وتدل آية البحث على الذكر المتصل وعلى كل حال ، ومن الإجتهاد في طاعة الله الصلاة ، والصيام ، والحج ، والزكاة ، والخمس ، فهي واجبات عبادية بدنية ومالية أعم من الذكر باللسان ، ويجمع المؤمن بين أدائها وبين الذكر والتفكر ليفوز بالفلاح والتوفيق .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : الذين يذكرون ملك الله للسموات وتعددها وسعتها والخلائق التي فيها ، ودلالته على عظيم سلطان وقدرة الله عز وجل ، ولا يقدر غير الله عز وجل على ملك جزء يسير من السموات أو من الأرض .
الثاني : الذين يذكرون ملك الله للأرض كلها ، مشارقها ومغاربها ، فيخشونه بالغيب ويأتون ما أمر به ، قال تعالى [إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ]( ).
وهل تدل الآية أعلاه على حصر الإنذار الدنيوي بالمؤمنين ، الجواب لا ، لورود آيات تفيد العموم في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي البشارة والإنذار قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
الثالث : يتفكر أولو الألباب في ملكية الله للسموات والأرض من جهات كثيرة منها :
الأولى : لله ملك السموات والأرض وما بينهما ، قال تعالى [وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ] ( ) وفيه شاهد بأن لفظ السماء في الإصطلاح أخص مما في اللغة (فيسمى سقف البيت سماء ) ( ).
إنما يكون الأقرب مما علاك من مصاديق ما بين السماء والأرض ، ومنه الهواء والريح القريب ، أما السماء فهي خلق أعظم وأعلى ، قال تعالى [وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ] ( ) وقال تعالى [إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ]( ) بحيث يرى الناس يومئذ آيات الساعة وتلك الآيات وذات الساعة ويوم القيامة كلها من ملك الله عز وجل ، ولابد من التفكر فيها ، واللجوء إلى الله عز وجل في إرجائها ، والتخفيف من وطأتها .
الثانية : التفكر والتدبر بأن الله عز وجل هو رب السموات والأرض ، وفي التنزيل [رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ] ( ) .
الثالثة : مشيئة الله المطلقة في السموات والأرض.
الرابعة : دلالة ملكية الله للسموات والأرض على التوحيد .
الخامسة : نزول الرزق والكتب السماوية من عند الله عز وجل ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ]( ).
السادسة : المالك غير المملوك ، والله عز وجل مباين عن خلقه له المشيئة فيه.
السابعة : تجلي البركة في السموات والأرض ، قال تعالى [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ]( ).
الثامنة : آيات خلق الملائكة .
التاسعة : علم الله عز وجل بما يحدث في السموات والأرض ، قال تعالى [يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ]( ).
المسألة الرابعة : لقد تضمنت آية البحث الثناء على المؤمنين الذين يعمرون الأرض بالذكر وضروب العبادة بقصد القربة إلى الله عز وجل ، وهم ملك له عز وجل ، وهل ذات ذكرهم وتسبيحهم وركوعهم وسجودهم ملك لله عز وجل أم أنه لا يصدق عليه موضوع للملك .
الجواب هو الأول ، فالذكر ملك لله وهو سبحانه الذي يثيب عليه.
(عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله جعل حسنة ابن آدم عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم ، والصوم لي وأنا أجزي به) ( ).
ومن معاني عائدية الذكر لله عز وجل نزول الثواب العاجل ، وإزاحة الموانع التي تحول دون المواظبة على الذكر والدعاء ، وأداء الفرائض ، لذا أختتمت آية السياق بقوله تعالى [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
لبعث المسلمين على الذكر والدعاء والإستغاثة ، واللجوء إلى الله عز وجل ، وهل الذكر والتفكر اللذين تذكرهما آية البحث من الدعاء والإستغاثة ، الجواب نعم.
المسألة الخامسة : لقد أخبرت آية السياق بأن كل السموات والأرضين هي ملك لله عز وجل مما يدل على أن الذين يواظبون على ذكره فائزون في النشأتين ، وهم يقرون بملكيته للسموات والأرض ، وأنه على كل شئ قدير.
فلم يكن الذكر الذي تذكره آية البحث مجرداً إنما كان ذا معاني ودلالات وغايات حميدة .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صيرورة ذكر الله عز وجل منهاجاً وصاحباً لأهل الإيمان والتقوى .
وصحيح أن آية البحث جملة خبرية إلا أنها تبعث الشوق في نفوس المسلمين والمسلمات لذكر الله والمواظبة عليه .
ومن معاني الجمع بين آية البحث والسياق عدم وقوف القرآن عند الإخبار عن خلق وملكية الله عز وجل للسموات والأرض إنما أخبر عن لزوم التفكر فيها ، وإتخاذ هذا التفكر سبيلاً للهداية والتصديق باليوم الآخر ، وعالم الحساب ، وسؤال الأمن من النار ، وإنعكاس هذا السؤال على عالم الفعل بالصلاح والتقوى.
فقوله تعالى [فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( )، في خاتمة آية البحث دعوة للذات والغير بالتنزه عن أسباب ولوج النار من المعاصي والإقامة على السيئات.
المسألة السادسة : من مصاديق ذكر الله بلحاظ آية السياق أمور:
الأول : ذكر خلق الله عز وجل للسموات السبع والأرض .
الثاني : ذكر خلق الله عز وجل للملائكة والذين لا يحصي كثرتهم وهيئاتهم المختلفة إلا هو سبحانه .
الثالث : ذكر النعم التي يتفضل بها الله عز وجل على أهل السموات .
الرابع : ذكر النعم التي تنزل إلى الناس من السماء كالغيث ، ومنه نزول آيات القرآن ، فكل آية نعمة مستقلة تستلزم الشكر لله ، وهي نعم بالصلة بينها وبين غيرها من الآيات بالرسم واللفظ والمعنى والدلالة ، وعظيم النفع وتجدده في كل زمان .
الخامس : ذكر الله والثناء عليه سبحانه لأن ملك السموات له وحده ، واستجابة وإمتثال الملائكة له وحده ، وانقطاعهم إلى التسبيح والذكر إذ جبلهم الله على طاعته .
ومن فضل الله عز وجل جعل كل مسلم ومسلمة يشكران الله عز وجل على خلق الملائكة وبديع هيئاتهم ، وفي التنزيل[الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وحينما يتلو المسلم الآية أعلاه هل يصدق عليه أنه ذاكر لله عز وجل وشاكر له، الجواب نعم ، وهل يكون الثواب على ذات تلاوة الآية وحدها أم على الذكر والشكر لله عز وجل الذي تتضمنه .
المختار هو الثاني، وهو من أسرار مضاعفة الثواب على التلاوة.
ويتجلى هذا الثواب بما ورد (عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله عز وجل، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عِصْمَة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، لا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يَخْلَق عن كثرة الرد .
فاتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات .
أما إني لا أقول لكم الم حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر)( ).
إذ تتعلق الأضعاف العشرة بخصوص الحرف الواحد.
أما الكلمة من القرآن ومعانيها ودلالتها ففيها أجر وثواب أكبر وأعظم ، وهو الذي أراده الله عز وجل للمسلمين .
فمن معاني ومصاديق قوله تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ]( )، الذين يذكرون خلق الله وبديع صنعه ولطفه وإحسانه وتلاوة آية السياق من ذكر الله عز وجل سواء كانت هذه التلاوة في الصلاة أو خارجها ، وكذا كل آية قرآنية لبيان المندوحة والسعة في فضل الله عز وجل على الناس لتنجز الإمتثال لأوامره .
فمن اللطف الإلهي كل من:
الأول : قانون السعة والتيسير لفعل الخير.
الثاني : قانون استدامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الثالث : قانون التضييق والعوائق في فعل السوء والفاحشة ، قال تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( ).
وتأتي الآية القرآنية جامعة للقوانين أعلاه، وهو من إعجاز القرآن وإصلاحه للمجتمعات ، وتهذيبه للنفوس .
ومن خصائص اللهج بذكر الله تسهيل الأمور وقضاء الحوائج فآية البحث رحمة ونعمة من عند الله عز وجل وهو الذي يهب من ملكه لعباده ما يشاء.
ومن مقدمات الفوز بالنعم من عند الله الدعاء والمسألة ، واللبث الدائم في رياض الذكر والتسبيح و(عن معاذ بن جبل قال : بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالدف بين حمدان قال : يا معاذ أين السابقون .
قلت مضى ناس قال : أين السابقون الذين يستهترون بذكر الله.
من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله)
والدف : الجنب من كل شئ ، والأصل جمدان وليس حمدان وهو جبل في طريق مكة يبعد عنها نحو مائة كيلو متر.
لقد ظن معاذ أن المراد من السابقين هم الصحابة الذين تقدموا في السير ولكن النبي قال له المراد من السابقين الذين يستهترون بذكر الله أي يدمنون عليه ، ويولعون ويشغفون به.
وأخرج الطبراني عن أم أنس قالت : يا رسول الله أوصني قال : اهجري المعاصي فإنها أفضل الهجرة ، وحافظي على الفرائض فإنها أفضل الجهاد ، واكثري من ذكر الله فإنك لا تأتين الله بشيء أحب إليه من كثرة ذكره)( ).
المسألة السابعة : لقد ذكرت آية السياق قانوناً وهو[وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، وليس من حد أو قيد أو حصر لهذا القانون الذي يملي على الناس التقيد بمضامين آية البحث بذكر الله عز وجل على كل حال، ليكون هذا الذكر بلحاظ الآية أعلاه على وجوه :
الأول : الثناء على الله عز وجل لعظيم قدرته وسلطانه.
الثاني : قانون ذكر الله والمداومة عليه تسليم بأنه سبحانه رب العالمين.
الثالث : سؤال المؤمن لله عز وجل للتوفيق لذكره وتسبيحه فذكر الله عز وجل عن قيام وقعود وعلى الجنب والإستلقاء نعمة من الله عز وجل ومرتبة سامية ، فيسأل المؤمن الله عز وجل لنيل هذه المرتبة ، وهي على مراتب :
الأولى : مرتبة ذكر الله بأداء الفرائض .
الثانية : مرتبة ذكر الله عند الشدة.
الثالثة : مرتبة الإقامة على ذكر الله عز وجل في كل حال ، في السراء والضراء ، وهي أسمى هذه المراتب ، وجاءت آية البحث بالندب إليها ، لما فيها من خير الدنيا والآخرة.
المسألة الثامنة : ذكرت آية البحث التفكر العام من المؤمنين بخلق السموات والأرض فهل منه ملك الله للسموات والأرض الذي تذكره آية السياق، الجواب نعم ، ويكون على وجوه :
الأول : ويتفكرون في ملك الله للسموات .
الثاني : ويتفكرون في ملك الله للأرض .
الثالث : ويتفكرون في مشيئة الله المطلقة في السموات والأرض.
الرابع : ويتفكرون في إستحالة الشريك لله عز وجل .
الخامس : ويتفكرون في حاجتهم الدائمة إلى الله تعالى وملكه وسلطانه ورحمته ، وفي التنزيل[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
السادس : ويتفكرون في ملك الله للسموات والأرض وقدرته على كل شيء ، ويتخذون من هذا التفكير وسيلة لعمل الصالحات والمسارعة فيها، وإجتناب السيئات.
السابع : ويتفكرون في ملك للسموات والأرض ، وإن من قدرة الله عز وجل بعثهم بعد الممات للوقوف بين يديه للحساب .
الثامن : ويتفكرون في ملك السموات والأرض ، ويدركون إستحالة فرارهم وهروبهم من الحساب، وفي التنزيل [فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ]( ) .
المسألة التاسعة : لقد أختتمت آية السياق بقوله تعالى[وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، ومن قدرة الله تعالى بلحاظ آية البحث أمور:
الأول : هداية الناس لذكر الله سبحانه .
الثاني : الأمن والسلامة للذين يواظبون على ذكر الله عز وجل.
الثالث : ضمان الرزق للذين يذكرون الله في كل حال ، وفي نوح وقومه قال تعالى [يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا]( ).
وعن أنس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أُلْهِمَ خمسة لم يحرم خمسة ، من ألهم الدعاء لم يحرم الاجابة؛ لأن الله يقول [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
ومن ألهم التوبة لم يحرم القبول؛ لأن الله يقول [وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ]( ).
ومن ألهم الشكر لم يحرم الزيادة؛ لأن الله تعالى يقول [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( )، ومن ألهم الاستغفار لم يحرم المغفرة؛ لأن الله تعالى يقول [اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا]( )، ومن ألهم النفقة لم يحرم الخلف؛ لأن الله تعالى يقول وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ( ).
وهل الإنفاق في سبيل الله من الذكر الذي تذكره آية البحث ، الجواب نعم.
الرابع : رزق المواظبين على الذكر ملكة الصبر والتحمل في الإقامة على الذكر والتسبيح والتهليل، وفي التنزيل[كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَوَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ]( )، ولم يرد لفظ(يهجعون) في القرآن إلا في الآية أعلاه . الخامس : الله قادر على جعل كل الناس يذكرونه في حال القيام والقعود والإستلقاء ، ولكنه سبحانه جعل الدنيا دار إختيار واختبار وإمتحان ، وتفضل بالمدح والثناء على الذين يذكرونه، وفيه بشارة ووعد كريم لهم ، وترغيب للناس بالذكر والتسبيح وإقام الصلاة. وهل إتيان الزكاة والخمس من الذكر لله ، الجواب نعم ، لأنه طاعة لله، وفيه قصد القربة ورجاء رضاه سبحانه وإقرار بيوم الجزاء ، وفي نعت المؤمنين قال تعالى[الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ]( ).
المسألة العاشرة : تقدير آية السياق على وجوه :
الأول : ولله ملك السموات والأرض فلا تعبثوا بملك الله .
الثاني : ولله ملك السموات والأرض وأنتم من ملك الله .
الثالث : يا أيها الناس لله ملك السموات والأرض فاعبدوه .
فمن معاني إخبار آية السياق عن ملك الله لجميع السموات والأرض أنه رب الخلائق كلها ، وفي التنزيل [وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ]( ).
الرابع :ولله ملك السموات والأرض فاشكروه ، لذا يقرأ كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في اليوم قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( )، فهم لم يكتفوا بالحمد له سبحانه ، إنما يجمعون معه.
الإقرار بأنه رب الخلائق كلها وهو الإله الذي يعبد وحده ، قال تعالى [قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
الخامس : ولله ملك السموات والأرض لا يشاركه فيه أحد ، قال تعالى [لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا] ( ).
المسالة الحادية عشرة: وردت في آية البحث كلمة (سبحانك) وفيها تنزيه لمقام الربوبية، ويختص الله عز وجل باسم سبحان الله ، فهو منزه عن كل نقص .
وعن طلحة (سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن {سبحان الله} قال: تنزيه الله عن كل سوء)( ) ، و(عن ابن عباس: سبحان الله، قال: تنزيه الله نفسه عن السوء [قال] ثم قال عمر لعلي وأصحابه عنده: لا إله إلا الله، قد عرفناها فما سبحان الله .
فقال له علي: كلمة أحبها الله لنفسه، ورضيها، وأحب أن تقال)( ). وهل كلمة سبحان الله من الذكر الذي تذكره آية البحث الجواب نعم .
لذا جاء عدد من الآيات بالبعث على التسبيح بصيغة الأمر منها قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًاوَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً]( )، وقد يثني الله عز وجل على نفسه بالتسبيح لبيان بديع صنعه ، ولتأديب المسلمين والناس بخصوص تنزيه مقام الربوبية، والإخبار عن منزلة وشأن ورفعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنه قوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ]( )، ويدخل التسبيح في الصلاة اليومية في القراءة وفي الركوع وفي السجود. وقد يأتي التسبيح للتعجب والإخبار عن العجز عن درك كنه مخلوقات الله عز وجل. وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : (مَنْ جَلَسَ فِى مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ. إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِى مَجْلِسِهِ ذَلِكَ) ( ) . المسألة الثانية عشرة : كل كلمة من آية السياق تدعو الناس إلى القول سبحانك اللهم لبيان التعجب والذهول والعجز عن تصور سعة وبديع مخلوقات الله عز وجل ومن وجوه الجمع بين الآيتين : الأول : الذين يذكرون الله الذي له ملك السموات والأرض. الثاني : مجئ ذكر المسلمين لله عز وجل إيمان ، وهو من بركات الجمع بين آيات القرآن قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا]( ). الثالث : لاينقطع المؤمنون عن التفكر في خلق السموات والأرض . الرابع : أولو الألباب يذكرون عظيم قدرة الله في اختلاف الليل والنهار . الخامس : أولو الألباب هم المؤمنون الذين اتخذوا عقولهم وسيلة وآلة للهدى والإيمان . السادس : من بديع خلق الإنسان إلتقاء العقل والجوارح في سبل الإيمان . السابع : يتفكر المؤمنون اختلاف الليل والنار كآية من عند الله تتجدد كل ساعة . الثامن : يتفكر المؤمنون في العجز عن إحصاء آيات الله. التاسع : اللهم سبحانك لك ملك السموات . العاشر : اللهم سبحانك لك ملك الأرض . الحادي عشر : اللهم سبحانك إنك على كل شئ قدير . المسألة الثالثة عشرة : من معاني الجمع بين الآيتين القطع والجزم بأن الله عز وجل ربّ كل شئ وتجب عبادته والتنزه عن الشرك ومفاهيم الضلالة ، قال تعالى [وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ] ( ). ومنه لزوم الإمتناع عن العبث والإضرار بملك الله ، وما يسمى البيئة . ومن الآيات مجئ هذا الإضرار على الناس في معايشهم وأرزاقهم وصحتهم ، يكون سبباً في قصر الأعمار لولا فضل الله في إرتقاء علوم الطب . وتبين آية السياق العموم في ملك الله عز وجل لكل الأشياء ، فليس لملكه حد أو رسم . والحد مأخوذ من طبيعة الشئ . والرسم من أعراضه لبيان عجز الخلائق عن الإحاطة بحقائق وسعة السماء والأرض ، وهو لا يتعارض مع وجوب الإقرار بأن كل السماء والأرض ملك لله عز وجل ، ومن رشحات هذا الإقرار الإجتهاد في ذكر الله على كل حال وعدم الضجر أو الملل من هذا الذكر . لقد جاءت آية السياق بالتعريف بالحد العام والمطلق بحيث يتصور القارئ للقرآن سعة السموات والأرض ، وأنها جميعاً ملك لله عز وجل لتتعاهد أجيال الناس التوحيد وسننه لذا خاطبت الآية السابقة أولي الألباب أن خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار آيات وعلامات ودلالات تحملهم على الإقرار بالوحدانية لله ، ونبذ عبادة الشريك ، وقال تعالى [وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِيالَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ اولو الأَلْبَابِ] ( ).
الوجه الثالث : صلة آية البحث بقوله تعالى كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ابتدأت آية السياق بجملة خبرية ومبتدأ وخبر ، وقانون عام يتغشى أهل الأرض جميعاً بقوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] لبيان نزول الموت على النفس والدلالة على أن الإنسان مركب من روح وجسد ، وعند الموت تغادر الروح الجسد ، فيكون جثة هامدة يسارع الأهل وغيرهم في دفنه ومواراته في التراب .
ومن معاني الجمع بين الآيتين دعوة الناس لذكر الله عز وجل ، والإجتهاد في طاعته قبل طرو الموت زائراً الذي لا يأتي إلا مرة واحدة ، ولا يغادر إلا ومعه الروح ، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)( ).
ولا يختص الختم بالذكر عند الإحتضار بل يشمل مغادرة المجلس والمنتدى والجماعة في اليوم والليلة ، لذا ورد عن الإمام علي عليه السلام أنه قال (من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة ، فليكن آخر كلامه من مجلسه {سبحان ربّك ربّ العزة عمّا يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين}) ( ).
المسألة الثانية : ابتدأت آية السياق بذكر الموت وحلوله على كل إنسان طوعاً وإنطباقاً وقهراً ، لينتقل إلى دار الحساب ، وتضمنت آية البحث ذكر المؤمنين لله عز وجل ذكراً كثيراً فهل ينفعهم عند الموت ، الجواب نعم .
و(عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تعبد عابد من بني إسرائيل فعبد الله في صومعة ستين عاماً ، فأمطرت الأرض فأخضرت ، فأشرف الراهب من صومعته .
فقال : لو نزلت فذكرت الله فازددت خيراً ، فنزل ومعه رغيف أو رغيفان ، فبينما هو في الأرض لقيته امرأة فلم يزل يكلمها وتكلمه حتى غشيها ، ثم أغمي عليه .
فنزل الغدير يستحم فجاء سائل فأومأ إليه أن يأخذ الرغيفين ثم مات .
فوزنت عبادة ستين سنة بتلك الزنية فرجحت الزنية بحسناته .
ثم وضع الرغيف أو الرغيفان مع حسناته فرجحت حسناته فغفر له) ( ).
وهل تذّكر آية البحث بالموت وحال الإنسان عنده ، الجواب نعم ، إذ أن الإكثار من ذكر الله واقية من عذاب النار ، ويتصف أولو الألباب بالخشية والخوف من أهوال يوم القيامة حتى مع ذكرهم لله عز وجل ، لذا أختتمت آية البحث بسؤالهم الله مجتمعين ومتفرقين بالنجاة من عذاب النار وشدته
لتنزل البشارة بالأمن والسلامة من الفزع والأهوال يوم القيامة جزاء للذكر الكثير ، والتفكر ببديع صنع الله عز وجل ، قال تعالى [أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
المسألة الثالثة : ذكرت آية البحث خصلة حميدة للمؤمنين ، وهي التفكر في خلق السموات والأرض ، وهل منه التفكر بماهية الإنسان ، وطرو الموت عليه حتماً في أجل محدود من طرف العلو ، فلا يعيش أي إنسان إلا مدة عمر متعارف إلا أن يشاء الله بالمعجزة .
وقد أخبر الله عز وجل المسلمين بأن النبي محمداً يموت ، قال تعالى وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ لمنع الغلو بشخصه الكريم ، والنهي عن الإرتداد بعد موته ، وزجر المنافقين والمرجفين عن بث السموم والشكوك ، فلابد أن يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا بالموت أو القتل .
فان قلت قد حدث عند موت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ماهو أشهر الشكوك إذ حصلت ردة قبائل عديدة ، والجواب إن قلة القبائل التي ارتدت والقضاء عليها بحروب الردة من معجزات القرآن ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته وآيات التوطئة لوفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتأسي بوفاة الأنبياء السابقين.
ترى لماذا ذكرت الآية أعلاه الترديد بين الموت أو القتل، والله عز وجل يعلم أن النبي محمداً سيموت على الفراش أو يقتل ، الجواب إنه من عمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ) ، وليكون المسلمون في حيطة وحذر وتعاهد لحفظ شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كيد المشركين.
لقد كان المشركون يسعون في قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : الإغتيال والغدر بالسيف ، وإرسال أفراد لقتله في المدينة خاصة بعد واقعة بدر ، وكثرة قتلى المشركين فيها .
منها مثلاً قيام صفوان بن أمية الذي قُتل أبوه وأخوه في معركة بدر بتسخير عمير بن وهب الجمحي للذهاب إلى المدينة وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعهد له صفوان بمسائل :
الأولى : قضاء الدين الذي على عمير بن وهب.
الثانية : تولي إعالة عيال عمير بن وهب وضمهم إلى عياله .
الثالثة : مبادرة صفوان باعانة عمير بالمال إغراء وترغيباً له .
وكان عمير شيطاناً من شياطين قريش الذين كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ويصدون الناس عن دخول الإسلام .
وهل هذا الدخول مقدمة للقيام بذكر الله عن قيام وقعود وفي كل حال ، الجواب نعم ، لبيان الإثم الكبير الذي يلحق الذين كفروا في نهيهم عن المعروف والصلاح ومنعهم من إحياء الأرض بالذكر المستديم لله عز وجل ليكون من معاني قوله تعالى [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( )، هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وبناء صلاح الإيمان وتثبيت معالم الدين ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وأتفق أن ابنه وهب أسير عند المسلمين في واقعة بدر مما زاد في حنقه ، وقد تقدم ذكر محاولة الإغتيال هذه ، وقدوم عمير إلى المدينة وإخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم له عن غايته الخبيثة وعن اتفاقه مع صفوان مع أنه لم يطلع أحد على ما اتفقا عليه .
إذ قال له صفوان (عَلَيّ دَيْنُك ، أَنَا أَقْضِيهِ عَنْك ، وَعِيَالُك مَعَ عِيَالِي أُوَاسِيهِمْ مَا بَقُوا ، لَا يَسَعُنِي شَيْءٌ وَيَعْجِزُ عَنْهُمْ فَقَالَ لَهُ عُمَيْرٌ فَاكْتُمْ شَأْنِي وَشَأْنَك ، قَالَ أَفْعَلُ)( )، ليعلن عمير إسلامه ، ويرجع إلى مكة داعياً إلى الله ، ومعه ابنه وهب الذي اطلق سراحه من غير بدل أو عوض ، ويحتمل وجوهاً :
الأول : فيه معجزة متحدة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : ليس من معجزة في المقام .
الثالث : فيه معجزة متعددة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والصحيح هو الأخير ، لبيان أن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من أن تحصى ، وأنه يلزم تأليف لجان علمية ومؤسسات للتدبر في آيات القرآن والسنة النبوية ، لذكر وبيان وإحصاء معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : مكر قريش بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان في مكة قبل الهجرة وإرادتهم سجنه وتعذيبه ثم عزموا على قتله ليلة المبيت ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
الثالث : إرادة كفار قريش قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة .
المسألة الرابعة : جاءت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية ، بينما وردت آية السياق بصيغة الخطاب للناس جميعاً على نحو الإنشاء والشرط من جهات :
الأولى : قانون عموم الموت، فليس من إنسان إلا ويدركه الموت ، ويغادر الحياة الدنيا والعمل فيها إلى دار حساب بلا عمل ، وفي حديث أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وصف صحف موسى قال (كانت عبراً كلها).
الثانية : الموت فاصل بين الحياة والآخرة ، لذا ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (من مات فقد قامت قيامته) ( ) فلا سبيل له للعودة إلى الدنيا أو العمل برجاء الثواب أو العكس فعل ما يجلب العذاب ، فقد انطوت صفحة العمل وبقي الجزاء وكـأنه قريب.
الثالثة : ذكر آية السياق ليوم القيامة ، بينما ذكرت آية البحث عذاب النار وبصيغة الرجاء والدعاء للنجاة منها .
الرابعة : لم يرد اسم الجلالة في آية السياق ، ولكن مضامينها كلها تدل على إرادة ذكره تعالى وبيان مشيئته ، فالله عز وجل هو الذي [اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا] ( ) وهو سبحانه الذي يوفى الناس أجورهم يوم القيامة ، وهو الذي يبعد المؤمنين عن النار ويدخلهم الجنة ، وهو الذي جعل الدنيا متاعاً زائلاً .
المسألة الخامسة : لقد نعتت آية السياق الحياة الدنيا بأنها متاع الغرور ، والمتاع المنفعة المؤقتة والغرور الباطل ، إذ تظهر الدنيا للإنسان زينتها وتبعثه على اللهف وراءها ، وهي بذاتها زائلة غير باقية ، وكأنها تدلس على الناس وتخفي عيوبها ، وـن زينتها وبهجتها كاللهو ، وأن اليوم الذي ينقضي منها لن يعود ، لتكون خاتمة آية السياق تذكراً بالعمل الصالح ، ومنعاً من الإغترار بالدنيا ،ليأخذ الإنسان من الدنيا المتاع والزاد النافع له في الدنيا والآخرة .
و(عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سرّه أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا اله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ، ويأتي الناس ما يحب أن يؤتى إليه) ( ).
ولا تعارض بين خاتمتي الآيتين ، فكل منهما دعوة للإستعداد للآخرة ، والنجاة من النار ، قال تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( ) وهل ذكر الله كثيراً والذي تخبر وتدعو له آية البحث من الزاد الذي تذكره الآية أعلاه ، الجواب نعم .
والنسبة بين التقوى والذكر الكثير عموم وخصوص مطلق ، لبيان الملازمة بين صفة أولي الألباب وبين التقوى والخشية من الله عز وجل بالسر والعلانية ، خاصة وأن ذكر الله الوارد في آية البحث يتغشى أوقات وحالات العبد ، وهو مع الجماعة أو منفرد .
المسألة السادسة : لقد أخبرت خاتمة آية البحث عن قانون لجوء المؤمنين إلى الله عز وجل بالدعاء والإستعانة للنجاة من حر وعذاب النار ، فهل أدركوا خاتمة آية السياق ، وأن الدنيا ومباهجها إنما هي [مَتَاعُ الْغُرُورِ] ( ) وهل لهذا الإدراك موضوعية في دعائهم وسؤالهم للنجاة من عذاب النار ، الجواب نعم ، لبيان قانون مجئ دعاء الوقاية من عذاب النار عن تفقه في الدين ، وقانون من خصائص أولي الألباب الفقاهة في الدين .
وعن عبد الله بن مسعود قال(اضطجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حصير ، فأثر الحصير بجلده ، فلما استيقظ جعلت أمسح عنه ، وأقول : يا رسول الله ، ألا آذنتني قبل أن تنام على هذا الحصير فأبسط لك عليه شيئا يقيك منه ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما لي وما للدنيا ، وما للدنيا وما لي ، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل في فيء شجرة ، ثم راح وتركها)( ).
وفي الحديث تهيئة لاذهان المسلمين لقرب أجل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم تعاهد سنته ومعالم الإيمان في الأرض ، وهل تختص هذه التهيئة بالصحابة أم تشمل أجيال المسلمين ، الجواب هو الثاني .
وقال الإمام الكاظم عليه السلام (تفقهوا في دين الله فإن الفقه مفتاح البصيرة وتمام العبادة ، والسبب إلى المنازل الرفيعة والرتب الجليلة في الدين والدنيا.
وفضل الفقيه على العابد كفضل الشمس على الكواكب. ومن لم يتفقه في دينه لم يرض الله له عملا.
وقال عليه السلام لعلي بن يقطين : كفارة عمل السلطان الاحسان إلى الاخوان) ( ).
وروي عنه أنه قال (منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الانبياء في بني إسرائيل) ( ).
وقد حرص الإمام عليه السلام في الحديث أعلاه على ذكر كاف التشبيه لبيان أن الفقيه والمجتهد لا يرقى إلى مرتبة الأنبياء التي هي أسمى المراتب ، ولكنه يتقرب في تقواه وعمله إلى منازلهم ، وهل من ملازمة بين الفقاهة والذكر والتفكر للذين تذكرهم آية البحث ، الجواب نعم ، فمن وظائف الفقيه الإجتهاد بذكر الله وحض الناس عليه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
المسألة السابعة : أخبرت آية السياق عن قانون استيفاء الناس أجورهم وجزاء أعمالهم يوم القيامة بقوله تعالى [وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( ) لبيان خلو عالم البرزخ من الجزاء، ولكنه مناسبة للحساب الإبتدائي، ومقدمة للجزاء ، ومعرفة سنخيته كما في قوله تعالى بخصوص آل فرعون [النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ] ( ) .
ومن معاني الجمع بين الآيتين فوز أولي الألباب الذين يذكرون الله على كل حال بالثواب العظيم يوم القيامة ، ومنها إطلالة آية السياق على الذين يذكرون الله كل يوم لتبشرهم بالأجر والثواب على الذكر والتفكر في خلق السموات والأرض .
وهل تطل آية السياق على الذين كفروا ، الجواب نعم ، إذ أنها تنذرهم من الكفر والحرمان من ثواب الذكر يوم القيامة ، قال تعالى[وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
ويكون تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه منها :
الأول : توفون أجور ذكركم لله قياماً يوم القيامة .
الثاني : توفون أجور ذكركم لله قعوداً يوم القيامة .
الثالث : يوم القيامة توفون أجور ذكركم لله على جنوبكم.
الرابع : يوم القيامة توفون أجور ذكركم لله على كل حال.
الخامس : توفون أجور تسليمكم بأن الله عز وجل هو خالق السموات والأرض .
السادس : توفون أجور دعائكم أن الله لم يخلق السموات والأرض إلا بالحق والحكمة والعلم ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
المسألة الثامنة : تضمنت آية البحث الدعاء للنجاة من النار بقوله تعالى [فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] إذ يدعو أولو الألباب مجتمعين ومتفرقين للنجاة من الدخول في النار من شدة حرارتها ، ولا يدخلها أحد إلا عن إستحقاق بمغادرة الدنيا بالشرك والإصرار على الكفر ، وبكثرة الذنوب والمعاصي .
أما آية السياق فتضمنت البشارة بالإبعاد من النار وبدخول الجنة بلحاظ وجود برزخ بينهما ، فمصير الإنسان يوم القيامة أما إلى الجنة وأما إلى النار ، وفي دخول النار الخزي والعذاب .
وسيأتي في الآية التالية دعاء [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ] ( )
قال تعالى [وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ] ( ).
و(عن أنس رفعه قال : إن ملكاً موكل بالميزان ، فيؤتى بالعبد يوم القيامة فيوقف بين كفتي الميزان ، فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق : سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً ، وإن خفت ميزانه نادى الملك : شقى فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً) ( ).
المسألة التاسعة : لقد ذكرت آية السياق قانوناً وهو تحقق الفوز بدخول الجنة ، فليس الفوز في كسب مال أو غلبة على شخص أو طرف أو في سباق إنما الفوز في الآخرة ، وينحصر بدخول الجنة ، ويدرك هذا القانون أولو الألباب الذين تذكرهم آية البحث ، وتبين خصالاً تدل على سعيهم للفوز من جهات :
الأول : ذكر الله عن قيام .
الثاني : ذكر الله عند المشي .
الثالث : ذكر الله عن قعود .
الرابع : الحرص على أداء صلاة الجماعة ، إذ أنها تتضمن ذكر الله عن قيام وعن قعود ، وهو من إعجاز القرآن ، وهو أداء الصلاة طريق للفوز يوم القيامة ، الجواب نعم لأنها بلحاظ آية البحث جامعة لأمور :
الأول : تلاوة القرآن عن قيام .
الثاني : ذكر الله في الركوع بالقول سبحان ربي العظيم .
وهل حال الركوع من مصاديق ذكر الله قياماً أم قعوداً ، الجواب إنه برزخ بينهما ، فهو حال أخرى ، لذا وردت مصاديق آية البحث من باب المثال الأمثل ، والفرد الأهم .
الثالث : ذكر الله في السجود (عن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم “فسبح باسم ربك العظيم” قال : اجعلوها في ركوعكم” ولما نزلت [سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى]( )، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اجعلوها في سجودكم.
وقد ورد لفظ [سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى] ثلاث مرات في القرآن ، سورة الواقعة /74 ، وفي خاتمة سورة الواقعة وسورة الحاقة.
عن حذيفة، أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان يقول في ركوعه : سبحان ربي العظيم وفي سجوده سبحان ربي الأعلى، وما أتى على آية رحمة إلا وقف وسأل، وما أتى على آية عذاب إلا وقف وتعوذ)( ).
وظاهر الخبر أن سؤال وتعوذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أثناء الصلاة وأن الصلاة فريضة ، فهل كان سؤال وتعوذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكلمات من القرآن أم باختيار منه الذي هو شعبة من الوحي ، المختار هو الأول.
الرابع : قراءة المسلم القرآن وقيامه بالتسبيح والذكر عند إرادة النوم ، وتدل عليه آية البحث ، وفيه نصوص عديدة منها ما ورد عن فروة بن نوفل الأشجعي (عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال فمجئ ما جاء بك قال قلت جئت يا رسول الله لتعلمني شيئا أقوله عند منامي قال إذا أخذت مضجعك فاقرأ قل يا أيها الكافرون ثم نم على خاتمتها فإنها براءة من الشرك) ( ).
وروي (ان الوليد بن الوليد شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأرق حديث النفس بالليل فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا أويت إلى فراشك فقل : أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه ، ومن شر عباده ، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون ، فإنه لن يضرك وحريٌّ أن لا يقربك) ( ).
ومن خصائص الدنيا أنها متاع الغرور كما وصفتها آية السياق وجهل العبد بساعة ومكان موته ، فقد يأتيه الموت فجأة خاصة في هذا الزمان ، وكثرة الحركة والتنقل والحوادث فيه ، ليكون ذكر الله قياماً وقعوداً واضطجاعاً سبباً لإرجاء الموت عن العبد إذا شاء الله، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ) الجواب نعم .
والصدقة في سبيل الله تدفع البلاء والأجل القريب فهل هي من ذكر الله الذي تذكره آية البحث ، الجواب نعم لموضوعية قصد القربة.
المسألة العاشرة : لقد أخبرت آية السياق عن قانون وهو أن الدنيا [مَتَاعُ الْغُرُورِ] ( ) لبيان أنها زائلة بذاتها وزينتها ، وحلوها ومرها ، وفرحها وترحها ، لتكون آية السياق وخصوص قوله تعالى [وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ] ( ) على وجوه :
الأول : مغادرة الإنسان للحياة الدنيا قهراً وإنطباقاً ، وعجزه عن إرجاء أوان موته .
الثاني : شدة وطأة الموت وقبض الروح ، ومن خصائص أولي الألباب أن ذكرهم لله على كل حال كما في آية البحث سبب لتخفيف سكرات الموت عليهم ، وفيه بشارة اليسر في الحساب .
ليكون تقدير الجمع بين الآيتين : الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً يخفف الله عز وجل عنهم سكرات الموت ، ويقبض ملك الموت أرواحهم بلطف .
وهل يرى أهل الدنيا هذه الكيفية في قبض الأرواح ، الجواب إن خفاءه من مصاديق كون الدنيا دار إمتحان وإختبار ، ومن الذكر الدعاء لتخفيف شدة الإحتضار وقبض الروح ، وقيل (أن يعقوب عليه السلام ، لما أتاه البشير( ) قال له : ما أدري ما أثيبك اليوم ، ولكن هوّن الله عليك سكرات الموت) ( ).
الثالث : ترتب الحساب على الأعمال في الحياة الدنيا ، فلابد من وقوف الناس بين يدي الله عز وجل يوم القيامة ، قال تعالى [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه] ( ).
الرابع : قانون الزهد في زينة الدنيا مناسبة لذكر الله في كل حال ، وطريق إلى الجنة .
المسألة الحادية عشرة: ذكرت آية البحث النار بالدعاء للنجاة منها ، بينما ذكرت آية السياق الجنة والسعي للدخول والخلود فيها ، والسلامة من ورود النار ولهيبها ، وبينما يعيش الإنسان متاع الدنيا تكون الجنة والنار حاضرتين في التصور الذهني مما يقوده إلى ذكر الله ، وأداء الفرائض العبادية ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، وهل هذا الحضور من مصاديق أن الجنة والنار مخلوقتان الآن.
وعن الإمام علي عليه السلام في الآية أعلاه قال (ما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي ، وليقروا لي بالعبودية) ( ).
وعن (ابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قرأ : وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدوني ، وقال ابن عباس أيضاً معنى : { ليعبدون } أي ليتذللوا لي ولقدرتي) ( ).
الوجه الرابع : صلة آية البحث بقوله تعالى [فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ]( )، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لقد جاءت آية البحث بقوانين متعددة في بيان حال المؤمنين الذين صدقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبصيغة المضارع (يذكرون) (يتفكرون) (فقنا) لبيان إنقطاعهم إلى الذكر والتسبيح والدعاء ، لتدل الآية بالدلالة التضمنية والإلتزامية على الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقيامه بتبليغ الرسالة خير قيام .
لقد كان المشركون قبل البعثة النبوية يتباهون بعبادة الأوثان ، ويتقربون إليها ، ويتخذونها وسائط تقربهم إلى الله زلفى ، فنزل القرآن بذم وتقبيح هذا الفعل ، وبدعوة الناس إلى الهدى والإيمان .
لذا تتضمن آية السياق ذم الذين كفروا بجحودهم برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن انكروا نبوته وسعوا في الإضرار به ثم أرادوا قتله فهبط جبرئيل يأمره بالهجرة ، ولم تكن هذه الهجرة إلى المجهول إنما كانت إلى مدينة فيها أنصار وأعوان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي (يثرب) ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وهذه المعجزة من مكر الله الجميل الذي ينفع أجيال المسلمين والناس جميعاً إلى يوم القيامة ، والله عز وجل لا تستعصي عليه مسألة ، وهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة من جهات :
الأولى : الوحي .
الثانية : الوقت المناسب للهجرة .
الثالثة : سلامة السرب والطريق .
الرابعة : عجز عيون المشركين عن العثور على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أنهم وضعوا جائزة مائة ناقة لمن يأتي به حياَ أو ميتاَ .
الخامسة : نزول آيات قرآنية بخصوص معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها :
قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ]( ).
وقال تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
قال تعالى [وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنْ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
إلى جانب آيات المعجزة العامة التي تجمع بين هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهجرة الصحابة الآخرين من الرجال والنساء ، سواء الذين هاجروا إلى الحبشة أو الذين هاجروا إلى المدينة ، والذين كانوا على أقسام :
الأول : الذين هاجروا إلى المدينة قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الذي هاجر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الآية أعلاه من سورة التوبة .
الثالث : الذين هاجروا إلى المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى حين الفتح ، و(عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يتم بعد حلم ، ولا رضاع بعد فصال ، ولا صمت يوم إلى الليل ، ولا وصال في الصيام ، ولا نذر في معصية ، ولا نفقة في معصية ، ولا يمين في قطيعة رحم ، ولا تعرب بعد الهجرة ، ولا هجرة بعد الفتح ، ولا يمين لزوجة مع زوج ، ولا يمين لولد مع والد ، ولا يمين لمملوك مع سيده ، ولا طلاق قبل نكاح ، ولا عتق قبل ملك)( ).
ويمكن تقسيم آيات الهجرة إلى أقسام :
الأولى : آيات هجرة الأنبياء ومنه هجرة إبراهيم عليه السلام وفي هجرة لوط عليه السلام ، قال تعالى [إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ]( ).
الثانية : آيات هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : آيات هجرة المسلمين والمسلمات الى الحبشة والمدينة ، قال تعالى [وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
الرابعة : هجرة المؤمنين من الأولين والآخرين بسلامة دينهم.
المسألة الثانية : لقد جاءت آية السياق بصيغة الجملة الإنشائية والخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو التعيين [فَإِنْ كَذَّبُوكَ] وفيه مواساة له ولأصحابه ، وعدم وحشتهم من طريق الإيمان وما فيه من الغربة والأذى ، الغربة إذ يخالف الابن أباه الذي يقيم على الكفر وعبادة الأوثان , والغربة بالهجرة .
ومن مصاديق المواساة في الآية إخبارها عن تكذيب الكفار للأنبياء والرسل السابقين ترى لماذا ذكرت الآية خصوص الرسل بقوله تعالى [فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ] الجواب من جهات :
الأولى : معجزات الرسل أظهر وأبين ، ولأنهم جاءوا بشرائع مبتدأة ، لبيان إصرار الذين كفروا على الجحود والضلالة ، وإذا كانوا قد كذبوا الرسل فمن باب الأولوية أنهم كذبوا الأنبياء .
الثانية : قد يرد لفظ الرسل ويراد منه الأنبياء والرسل ، ولكن آية السياق تخص الرسل لإخبارها عن مجيئهم بالبينات وبالكتاب المنزل , وتدل عليه الآية من باب الأولوية .
الثالثة : تأكيد رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه رسول من عند الله ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، وهل آية البحث من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، الجواب نعم لما فيها من جعل أمة عظيمة تواظب على ذكر الله في كل حال.
ويحتمل النفع المترشح عن الذكر العام من المسلمين لله عز وجل في سعة وضيق وجوهاَ :
الأول : إنتفاع خصوص ذات المؤمنين من الذكر .
الثاني :إقتداء عامة المسلمين بالذين يواظبون على الذكر , وهو من أسرار قانون موضوعية وأثر أولي الألباب بين الناس ولعمومات قوله تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
الثالث : إتعاظ عامة الناس من ذكر المسلمين لله عز وجل على نحو الدوام , وتعاهدهم للصلاة اليومية , فقد قال الله عز وجل [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ]( ).
ليمتثل المسلمون والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة لهذا الأمر الإلهي الكريم , وتكون صلاتهم مصداقاً لمضامين آية البحث , وفيه توبيخ وذم للذين كذبوا النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته وأعرضوا عن المعجزات التي جاء بها .
وهل ذكر المسلمين المتصل لله عز وجل من معجزاته , الجواب نعم , وهو من المعجزات الغيرية .
المسألة الثالثة : إذا كانت آية السياق مواساة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإخبارها عن تكذيب المشركين للرسل السابقين مثلما كذبت قريش النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم فإن آية البحث مواساة له أيضاَ باتباع أمة عظيمة له وظيفتها الذكر الدائم لله عز وجل , ومن خصائص أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التصديق بالأنبياء والرسل السابقين , ليكون هذا التصديق مواساة كما ورد في دعاء إبراهيم وإسماعيل مجتمعين ومتفرقين [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
فلا غرابة أن يرحب الأنبياء والرسل في حديث الإسراء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لله عز وجل إلى السماء , إذ أنهم كانوا ينتظرون بعثته لتثبيت رسالاتهم بين الناس .
لقد أبى الله عز وجل إلا أن يكرم الأنبياء في حياتهم وبعد مماتهم في الدنيا والآخرة , فورد ذكرهم في القرآن , وأمر المسلمين بالتصديق بنبوتهم على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي .
وهل كان الأنبياء ممن يذكرون الله عز وجل قياماَ وقعوداَ وعلى جنوبهم , الجواب نعم , فقد كانوا أسوة وقدوة للمسلمين والمسلمات , قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ]( ).
لقد ذكرت الآية السابقة أولي الألباب وأخبرت آية البحث عن قيامهم رجالاَ ونساءَ بذكر الله عز وجل على اختلاف أحوالهم وفي السراء والضراء , والصحة والمرض , والحضر والسفر .
والأنبياء هم الأئمة في الذكر , وسادة أولي الألباب إذ اختارهم الله عزوجل للنبوة , وتبليغ الرسالة , وأكرمهم بالوحي والمعجزة والإمامة لأولي الألباب وعموم الناس , ومع هذا تلقاهم قومهم بالتكذيب والإستهزاء لينزل البلاء بأكثر هؤلاء الأقوام ليكونوا عبرة وموعظة للعرب عند بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فلا يكذبوه كيلا يحل بهم ما أصاب قوم نوح , وقوم شعيب , وقوم صالح , وقوم لوط , وفرعون وجنوده ، ونحوهم .
المسألة الرابعة : ورد لفظ [يُكَذِّبُوكَ ]ثلاث مرات في القرآن ، وكلها خطاب من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي :
الأولى : قوله تعالى [وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ]( ).
ومن معاني صيغة المضارع في المقام استمرار وتجدد تكذيب الكفار بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن الهجرة ثم فتح مكة ودخول الناس الإسلام أفواجاً ، ليس برزخاً دون وجود طائفة وقوم يكذبون برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو أمر ظاهر للوجدان إلى يومنا هذا مما يستلزم الصبر والتأسي والدعوة إلى التوبة والإنابة.
أما لفظ [كَذَّبُوكَ] فقد ورد في القرآن ثلاث مرات أيضاً وهي :
الأولى : قوله تعالى [فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَت وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ] ( ) .
الثانية : قوله تعالى [فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ] ( ) .
الثالثة : قوله تعالى [وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ] ( ) .
وهل أراد كفار قريش بتكذيبهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم منعه من الإستمرار بالدعوة وتثبيط عزائمه ، الجواب نعم ، ولكنه مأمور بتبليغ الرسالة كاملة .
المسألة الخامسة : لقد أخبرت آية السياق عن حقيقة تأريخية عقائدية وهي تكذيب الرسل ، وهل من الرسل من كذبه قومه كلهم ، الجواب لا .
فمن خصائص خلافة الإنسان في الأرض ونفخ الله من روحه في آدم ، قانون التصديق بالنبي فلابد من وجود طائفة أو أمة تصدق بالنبي عند إعلان دعوته ، وهو من مصاديق ثناء آية البحث على أولي الألباب ، لذا وردت آية السياق بصيغة المبني للمجهول [فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ] ( ) أي هناك من كذب بالرسل وليس الناس جميعاً مع أنهم جاءوا بالحجة والبرهان على صدق رسالتهم ، ولزوم اتباعهم ، وهذا الإتباع تدرك وجوبه العقول لأنهم جاءوا بالتوحيد ، وأسباب الهداية والصلاح ، قال تعالى [رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا] ( ).
ومن الناس من استكبر عن الهداية بواسطة الرسل لأنهم بشر مثلهم أو لأنه ليسوا من أهل السلطان والمال والجاه ، كما في جحود فرعون برسالة موسى عليه السلام ، قال تعالى [ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ]( ).
لقد جعل الله عز وجل الأنبياء رجالاً من جنس البشر ، ولم يبعث لهم ملائكة ، لأن الدنيا دار امتحان وابتلاء ، ولأن الأنبياء يأتون بالمعجزات والبراهين الخارقة التي تدل على صدق رسالتهم ، فمن فضل الله تعضيده للأنبياء والرسل ، قال تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] ( ).
ومن خصائص النبوة قانون التعضيد بين الأنبياء ببشارة السابق باللاحق ، وانفرد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن كل الأنبياء بشروا به ، وهو قام بالتصديق بنبوتهم جميعاً ، وفي عيسى عليه السلام ورد قوله تعالى [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
وهل المعجزة من نصر الله للرسل ، الجواب نعم ، فلا ينحصر هذا النصر في ميدان المعركة ، ومن الرسل من لم يدخل معركة أو قتالاَ .
وهل مضامين آية البحث من نصر الله على الرسل والذين آمنوا ،الجواب نعم ، وذات المدح والثناء عليهم وتوثيق حسن سمتهم وعملهم في الدنيا باقامتهم على الذكر من مصاديق النصر الذي تذكره الآية .
ويتلو المسلمون الآية كل يوم ويسمعها الناس جميعاً فتكون فخراً لهم ، ودعوة للناس لإكرامهم ومحاكاتهم ،وهو من مصاديق النصر .
المسألة السادسة : تتضمن آية السياق إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وذم الذين كذبوا برسالته ، ومن خصائص المدح والذم من عند الله عز وجل تتبع الأمر له ، فيتعقب الخير المدح ، وتنزل البركة على أهله ، وينزل السخط والبلاء على الذين يذمهم الله عز وجل ، إن لم يتداركوا أنفسهم بالتوبة والإنابة .
أما آية البحث فهي مدح وثناء من غير ذم ، إذ تبين حب الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على حسن سمت أمته .
لقد أراد الله عز وجل للناس عبادته ، وذكره ودعاءه ، فبعث الله عز وجل الأنبياء والرسل وهم يرّغبون الناس بالذكر والتسبيح ويبشرونهم بالثواب العظيم في الدنيا واللبث الدائم في الجنة في الآخرة ، ولكن شطراً من الناس كذّبوا الرسل ، فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لتتوارث أجيال آمته ذكر الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ، ومن هذا الذكر سؤال الله الدعاء وسؤال الله النجاة من النار ، كما في خاتمة آية البحث [سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] ( ).
المسألة السابعة : لقد جاهد الأنبياء وأنصارهم واتباعهم لتثبيت كلمة التوحيد في الأرض ، ولا يعلم إلا الله المنافع العظيمة والمتصلة للنبوة والتنزيل في هداية الناس ، وعمارة الأرض بالصلاح والإصلاح ، لوجوب شكر الناس لله عز وجل على النبوة والكتب والصحف النازلة من السماء ، وفيه توبيخ وتبكيت للذين كفروا ، وجحدوا بالرسالات ، ولقد تلقى أولو الألباب دعوة الأنبياء بالتصديق والإتباع فصاروا يذكرون الله على كل حال ويحرصون على إقامة الصلاة في أوقاتها ، ومن معاني الجمع بين الآيتين عدم إضرار الذين كفروا بدعوة الرسل إلى التوحيد .
الشعبة الثانية : صلة آية البحث بالآية التالية وهو قوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ] ( ) ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لقد ابتدأت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية، وبيان تقوى المؤمنين , وانقطاعهم إلى ذكر الله عز وجل بما فيه فخر الدنيا والآخرة , واختتمت بدعائهم وتضرعهم إلى الله عز وجل للنجاة من أهوال يوم القيامة ومن النار, [سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] ( ).
وتعقبتها آية السياق في ذات موضوع الدعاء والتضرع لبيان الصلة والتداخل بين آيات القرآن في نظمها وسياقها , إذ اتصلت آية البحث بالآية السابقة التي أختتمت بذكر (أولي الألباب) وابتدأت آية البحث بذكر صفة من أسمى صفات بني آدم في الحياة الدنيا وهي الذكر المتصل لله عز وجل .
أما آية البحث فابتدأت باسم من أسماء الله الحسنى وبصيغة الدعاء (ربنا).
المسألة الثانية : من إعجاز آية البحث إبتداؤها بالخبر وبيان حال أولي الألباب وأهل التقوى , ثم ذكرت لجوءهم إلى الله عز وجل بالنداء الذي يدل على الإنقياد والخضوع التام له سبحانه (ربنا) ليدعو الفرد والجماعة لأنفسهم.
ومع أن أولي الألباب دائبون على ذكر الله عز وجل وفي حال القيام والقعود والإستلقاء , وعند الإنفراد أو الإجتماع فإنهم يخشون يوم الحساب , ويخافون من شدة عذاب النار فتختتم الآية بسؤالهم إلى الله عز وجل للنجاة من عذاب النار , كما في قوله تعالى [فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
لتبدأ آية السياق بالنداء (ربنا) وبذات موضوع النجاة من عذاب النار , ليكون فيه تأديب وإنذار للناس جميعاَ , فإذا كان أهل الإيمان القائمون على ذكر الله عز وجل بكل الأحوال يخافون دخول النار فكيف حال عامة الناس .
المسألة الثالثة : لقد أخبرت آية البحث عن ذكر أولي الألباب لله عز وجل على كل حال من أحوالهم الخاصة والعامة ، وهل فيه بعث للمسلمين والمسلمات للذكر والتسبيح والتهليل .
الجواب نعم ، وهو من إعجاز الجملة الخبرية من القرآن ببعثها المسلمين إلى العمل بمضامينها الحسنة والحميدة، والتي تكون واقية من النار .
وبعد الذكر والتفكر بالخلائق وعظمتها جاءت الآية التالية بالدعاء لتجمع هذه الآيات بين أمور :
الأول : ذكر المؤمنين لله عز وجل .
الثاني : الإجتهاد والمواظبة بالدعاء .
الثالث : التفكر في السموات والأرض بلحاظ أنها خلق لله عز وجل ، وكل فرد منها شاهد على عظيم قدرته وسلطانه ، ليكون هذا التفكر فرع ما ورد في الآية السابقة [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) .
الرابع : الإنتقال من التفكر إلى مناجاة الله عز وجل .
الخامس : بعد المناجاة تكون المسألة وهي في المقام سؤال السلامة والأمن يوم القيامة .
ثم ابتدأت آية السياق بالنداء [رَبَّنَا] مع بيان شدة عقوبة دخول النار ، فمع شدة حرارة ولهب النار فانها خزي عظيم لمن يدخلها ، كما يدل عليه قوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ] ( ) ولا ينحصر الخزي في المقام بالذين يحاربون الله وروسوله ، بل يشمل كل من يدخل النار لكفره وجحوده وإرتكابه المعاصي والسيئات ، والخزي هنا الإهانة والذل و(عن رجل، عن ابن المسيب:”ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته”، قال: هي خاصة لمن لا يخرج منها) ( ).
والخبر ضعيف سنداً لجهالة الراوي ، والآية وردت مطلقة بالملازمة بين دخول النار وبين الخزي ، وإن كان هذا الدخول مؤقتاً.
لبيان عدم إفادة الورود في قوله تعالى [وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا]( )، دخول النار ، إنما هو الإشراف عليها.
المسألة الرابعة : لقد أختتمت آية البحث بسؤال المؤمنين نجاتهم من عذاب النار لتأتي آية السياق باقرارهم بان دخول النار خزي وعذاب ، وأنه لا يكون إلا عن استحقاق وصدور الظلم في الحياة الدنيا .
ومن معاني الجمع بين الآيتين وجوه :
الأول : قانون النجاة من النار بمشيئة من الله عز وجل .
الثاني : قانون لا يدخل النار إلا الظالم .
الثالث : قانون إنعدام الناصر للظالمين مجتمعين ومتفرقين يوم القيامة .
ومن معاني الجمع بين الآيتين قانون الإكثار من ذكر الله في كل حال نجاة من النار .
ومن معاني الذكر في المقام التنزه عن الذنوب وفعل السيئات لتغشي الذكر لكل أوقات المؤمن ، فلا تنفذ إليه الذنوب ، وكأنه من مصاديق قوله تعالى في يوسف عليه السلام [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] ( ).
فيوضات آية السياق
مع قلة كلمات آية السياق فقد ذكرت اسم الجلالة مرتين ، ويتجلى في ذكر كل منهما قانون يحكم عالم الأكوان وأحوال الخلائق وهما :
الأول :كل ما في السموات والأرض ملك لله عز وجل ، وهو من اللطف بالخلائق إذ أبى الله عز وجل أن يجعل غيره مالكاً لها .
الثاني : قدرة الله مطلقة ، فلا تستعصي عليه سبحانه مسألة ، وهل من موضوعية لهذين القانونين أو أحدهما بجعل أولي الألباب والعقول الراجحة يذكرون الله قياما وقعوداً وعلى جنوبهم .
الجواب نعم لبيان اللطف والفضل الإلهي في تقريب الناس إلى ضروب العبادة ، وسنن التقوى .
فمن خصائص آية السياق أمور :
الأول : إقامة الحجة على الناس .
الثاني : جذب الناس إلى منازل الهدى والإيمان .
الثالث : التفقه في الدين .
الرابع : آية السياق مادة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهي من مصاديق قوله تعالى [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ) .
الخامس : تحض آية السياق على أداء الفرائض العبادية ، وتدعو إلى تقوى الله ، والتوكل عليه ، وفي التنزيل [وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ]( ) .
السادس : بيان إنفراد الله عز وجل بالجمع بين ملكه للخلائق وقدرته على التصرف فيها ، إحياءً وإماتة ، وتبديلاً ونسخاً ، وزيادة ونقيصة ، وتوسعة وتضييقاً ، ووجوداً وعدماً .
السابع : تبعث آية السياق على الدعاء والمسألة واللجوء إلى الله عز وجل لأن كل شئ ملك له ، وهو سبحانه قادر على كل شئ ، وفي التنزيل [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
الثامن : جلب آية السياق الأجر والثواب للتالي والمستمع لها ، وللذي يقر بمضامينها ويستحضرها عند القول وفي العمل .
التاسع : من خصائص الآية القرآنية تضمنها البشارة والإنذار سواء في منطوقها أو مفهومها ، وتقدير الآية بحسب هذا اللحاظ.
ولله ملك السموات والأرض، فاطيعوا الله ، وفي التنزيل [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ]( ) وقد ورد لفظ [وَمَنْ يُطِعْ] في القرآن ست مرات اقترنت في كل واحدة منها طاعة الرسول بطاعة الله عز وجل ، كما وردت بصيغ أخرى منها [قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ]( ) وقوله تعالى [أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ]( ).لبيان المنزلة الرفيعة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله ، ولزوم عمل المسلمين بما جاءه من الوحي ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وردت آية باستقلال طاعة الرسول مع تقدير أداء الفرائض بقوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ) وفيه تزكية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وثناء عليه ، وأنه لا يأمر أو ينهى إلا بما أمره الله عز وجل .
ولأن إقامة الصلاة وأداء الزكاة بأمر من عند الله عز وجل ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على أن يكون الإمام في الصلاة وأدائها في أوقاتها بشوق ورغبة وإتقان .
وورد التقييد والبيان للآية أعلاه بقوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
العاشر : لقد أختتمت آية السياق بقوله تعالى [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) .
ومن المسلمات عند الملبين هذا القانون الكوني العام ، وهل هو من بديع صنع الله ومخلوقاته التي يتفكر بها أولو الألباب أم ينحصر تفكرهم بالموجود والمعدوم من الجواهر والعروض .
الصحيح هو الأول ، فلابد من التفكر بأن الله عز وجل على كل شئ قدير ، وفيه رجاء ، وبشارة ، وإنذار ، ووعد ووعيد ، ودعوة لسؤال الحاجات من الله عز وجل ، وإتخاذ الدعاء بلغة لتحقيق المقاصد وتحقيق الرغائب ، ورجاء رحمة الله عز وجل في الدنيا والآخرة ، قال تعالى [فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ]( ).
إعجاز الآية الذاتي
لقد رزق الله عز وجل الإنسان الخلافة في الأرض ، فتفضل الله عليه بالعقل بما يصلحه لوظائف الخلافة .
وقد رزق الله عز وجل الإنسان الدماغ وهو الجزء الموجود في الجمجمة وهو خازن للمعلومات ، ويُسَّير أغلب أعضاء البدن ، كما رزقه الله عز وجل المخ الذي يعتني بأمور الإدراك والحواس ، وكيفية ترتيب الحروف والكلمات في لغة التخاطب .
والفعل هو مجموع وظائف الدماغ وأعضاء الجسم ذات الصلة كالتفكير والسخط والغضب ، والعقل هو الواعز في الكرم أو الشح ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وبالعقل والحواس يسعى الإنسان في مسالك الإيمان ، وكأن النسبة بين الدماغ والعقل هي التساوي ، فمن بديع صنع الله عز وجل جعله وظائف العقل عامة تتعلق بذات الإنسان ، وتشير بعض الدراسات العلمية الحديثة إلى إتصاف الدماغ بانقسامه إلى قسمين كل واحد منهما يختص بشطر من الوظائف ، وهما :
الأول : القسم الأيمن ، ويتعلق بالعواطف والأحاسيس وعالم الظن والخيال .
الثاني : القسم الأيسر ومن وظائفه التحليل والإستنباط والمنطق ومعاني الحكمة ، وهو من عمومات قوله تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] ( ).
لقد ابتدأت آية البحث بالاسم الموصول (الذين ) لبيان صلة الآية مع الآية السابقة بما يؤدي إلى الدعاء والمسألة ، ولبيان أن التفكر بخلق السموات والأرض يقود الإنسان إلى الإقرار بعالم الحساب والجزاء ، وأن الجنة حق والنار حق .
فمن مصاديق نعت أولي الألباب أنه نوع طريق للهداية والإيمان ، وكذا فان الإيمان طريق للتفكر في المخلوقات وعظمتها ، ولزوم شكر الله عز وجل عليها لذات الخلق والإنتفاع المتجدد من كل فرد من أفراد السماء وما فيها من الأجناس ، ومن الأرض وخزائنها الظاهرة والمستترة في باطنها ، والنعم المشتركة بين السماء والأرض ، وتغلف آية البحث الذرائع للإمتناع عن الذكر في أحوال مخصوصة كالرقود والإستلقاء ، كما أنها تمنع من الغيبة والنميمة ، فمن أسرار آية البحث مجيؤها بصيغة الجمع [قِيَامًا وَقُعُودًا]لبيان شمول الآية للمنفرد والجماعة ، فاذا وقف عدد من المسلمين فانهم يذكرون الله وهم قيام .
وكذا إذا كانوا جلوساً في حلقة أو منتدى ، وفيه حصانة من الغيبة والنميمة ، لتأخذ آية البحث بهم إلى شاطئ الأمان في النشأتين.
وهل صلاة الجماعة من مصاديق آية البحث ، الجواب نعم لبيان أن ذات الصلاة إمتثال لمضامين آية البحث ، فهي وإن جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها تتضمن الأمر ، والدعوة العامة والخاصة لذكر الله .
ومن خصائص آية البحث أنها جامعة مانعة ، جامعة لإقامة المؤمن على الذكر في كل أحواله ، ومانعة من الغفلة والجهالة .
وهل يجوز الذكر والتفكر أم أن كل واحد منهما يأخذ حيزاً ومساحة من وقت وعمل الإنسان ، المختار لا تعارض بينهما ، فتارة يجتمعان ، فيذكر المؤمن الله عز وجل بما فيه التفكر في الخلائق ، وأخرى يفترقان فيكون الذكر وحده أو التفكر وحده .
ومن إعجاز الآية ترشح الذكر والدعاء عن التفكر ، لبيان أمر وجودي ذي منافع كثيرة ومتعددة منها الإستجارة بالله عز وجل من النار لإختتام الآية بقوله تعالى [سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] ( ).
وهل المطلوب الوقاية من النار وحدها ، الجواب لا ، إنما تتضمن خاتمة الآية الدعاء بالهداية إلى العمل الصالح ، والإقامة في منازل الإيمان .
ومن إعجاز آية البحث الملازمة بين التفكر في خلق السموات والأرض وبين سؤال النجاة من النار ، مع أن الجنة والنار من عالم الآخرة بينما السماء والأرض من عالم الدنيا ، إذ يهدي التفكر في آيات السماء والأرض إلى الإقرار بالمعاد .
ترى لماذا لم يسألوا الجنة إنما اكتفوا بسؤال النجاة من عذاب النار ، الجواب من جهات :
الأولى : حال الخشية من الله عز وجل ، فهو سبحانه خالق السموات ، وبيده مقاليد الأمور .
الثانية : تعدد أدعية أولي الإلباب وسؤالهم النجاة في الآخرة ، وفي بيان صفاتهم ورد قوله تعالى [وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ] ( ) .
وهل آية البحث من مصاديق قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ) الجواب نعم ، إذ تبين الآية الكريمة تعلق أرواح المؤمنين بالذات المقدسة والتفكر في عظيم مخلوقاته ، ومنها الروح ، قال تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً] ( ).
الثالثة : سؤال النجاة من النار طريق لدخول الجنة .
الرابعة : إنعدام البرزخ بين الجنة والنار .
ويمكن تسمية آية البحث آية [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ] ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية ، وهل فيه إكرام للمؤمنين الذين يواظبون على الذكر والتسبيح ، وأداء الفرائض العبادية ، الجواب نعم .
إعجاز الآية الغيري
في آية البحث ومضامينها القدسية تنمية لملكة التقوى ، وتهذيب للنفوس ، إذ ينشغل المسلم بذكر الله عز وجل ، والتسبيح ، وحتى إذا لم يقم بالذكر والصلاة والدعاء ، فانه يتفكر في بدائع الخلق ، وفيه إبتعاد عن الفتن ، قال تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]( )وعصمة من الغيبة والنميمة والإفتراء ، وقال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ]( ).
وردت الآية بصيغة الجمع الغائب ، ويكون تقديرها على وجوه أخرى إضافية منها :
الأول : يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم وتفكروا في خلق السموات والأرض وقولوا ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار .
وهل يصح تقدير الآية يا أيها الناس اذكروا الله قياما وقعوداً ، الجواب نعم ، لوجوب الذكر على الناس ، وعمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ) .
الثاني : تقدير الآية بصيغة المفرد المذكر : الذي يذكر الله قائماَ وقاعداَ وعلى جنبه .
الثالث : تقدير الآية بصيغة المفردة المؤنثة : التي تذكر الله قياماً وقعوداً وعلى جنبها .
الرابع : تقدير الآية بصيغة جمع المؤنث الغائب : اللاتي يذكرن الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهن .
الخامس : تقدير الآية بصيغة جمع المؤنث المخاطًب : يا أيتها اللاتي أمنّ اذكرن الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكن .
وليس من تعارض بين ما تحضّ عليه آية البحث من الذكر ، والتدبر والتفكر في الخلق ، وبين وجوب السعي في طلب الرزق الكريم .
وقد يتحقق ذكر الله عز وجل بأداء فريضة الصلاة اليومية ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] ( ) فذات الصلاة ذكر لله عز وجل ، وهي ساعة ترك التجارة والكسب ليعود المؤمنون إلى الكسب بعد الصلاة مع إقترانه بالذكر والتسبيح، وهو من الإعجاز في قوله تعالى [فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
ترى ما هي النسبة بين الذكر الكثير في الآية أعلاه ، والذكر في الحال المتعددة في آية البحث ، من القيام والقعود ، والإضطجاع ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق .
فالذكر في آية البحث أعم وأكثر ، وذكرت الآية أعلاه من سورة الجمعة مصداقا من الذكر الكثير الذي تذكره آية البحث ، مع أنها خالية من التفكر لأنها ساعة عمل وطلب للرزق .
وتدعو آية البحث الناس جميعاً إلى طاعة الله عز وجل والإجتهاد في ذكره، وهو من أسرار ذكر الآية السابقة لأولي الألباب، فليس من إنسان إلا وعنده قلب وعقل , قال تعالى [َا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ]( ).
وهل هي حجة على أهل الجهالة والغفلة والضلالة، الجواب نعم.
وتقدير الآية : أيها العقلاء اذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم, وهو لا يتعارض مع رضا الله عز وجل عن العبد بأداء الفرائض والقليل من الذكر .
الآية سلاح
ابتدأت آية البحث بالذكر والتفكر , وبينهما نسبة العموم والخصوص من وجه , فمادة الإلتقاء أن كلا منهما طاعة الله عز وجل ووسيلة للتقرب إليه , وإقرار بعظيم قدرته وسلطانه , وتسليم بالعبودية له , وسلاح في النشأتين .
لقد جعل الله عز وجل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
ومن خصائص الخليفة حب الله عز وجل , وعبادته , وعدم الإبتعاد عن منازل الطاعة , ومن يبتعد يبتلى فرداَ كان أو طائفة أو أمة , وقد أدّعى فرعون الربوبية على الناس وأتبعه قومه وتمادى في محاربة الإسلام والنبوة فهلكوا غرقى خارج سلطانهم وبلدتهم في مصر , وفي خطاب إلى بني إسرائيل [وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ] ( ).
لتبين آية البحث نجاة أولي الألباب من الهلاك العام بواقية من جهات :
الأولى : واقية ذكر الله عز وجل .
الثانية : واقية التفكر في بدائع صنع الله عز وجل .
الثالثة : واقية الدعاء الذي اختتمت به آية البحث .
وهل الإنسان بحاجة إلى هذه الأسلحة .
الجواب نعم , وهو من فضل الله عز وجل في نزول هذه الآية , وهداية المسلمين إلى تلاوتها , وهل يختص ذكر الله عز وجل والتفكر بالخلائق والإقرار بأن الله عز وجل لم يخلقها عبثاَ , إنما خلقها بحكمة منه تعالى وبالحق بالمسلمين وحدهم .
الجواب لا , وهو من أسرار عطف هذه الآية على خاتمة الآية السابقة بتسمية (أولي الألباب) .
قال تعالى [هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ اولو الأَلْبَابِ] ( ) لبيان أن النسبة بين الناس وأولي الألباب هو العموم والخصوص المطلق , وأن الناس أعم وأكثر , ووظيفة الناس تلقي البلاغ بالمعاد وأهواله بالقبول والرضا , ولكن التذكر والإتعاظ والإعتبار والإنتفاع الأمثل من بلاغات القرآن خاص بأولي العقول السليمة لبيان قانون وهو آية البحث طريق إلى التوبة والإنابة .
مفهوم الآية
موضوع آية البحث بذكر صفات أولي الألباب لبيان الملازمة بين العقل السليم والبصيرة وبين الإيمان ، وأن الفطرة تهدي الإنسان إلى الإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل ، وبما يؤدي إلى السلامة في النشأتين ، والفوز العظيم .
ومن مفاهيم آية البحث أنها برزخ دون إتباع الشهوات ، ومانع من الفساد ، وعندما احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) لأنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء أجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ومن علم الله سبحانه إنقطاع أصحاب العقول المستنيرة والبصائر إلى الذكر لتكتب الملائكة أعمالهم برضا وغبطة ، وهم لا يفسدون ولا يزنون ولا يسفكون دماً ، قال تعالى [وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا] ( ).
وتطرد الآية عن النفس الوسوسة والهمّ لأنه ضد ذكر الله ، وقد ثبت في الفلسفة عدم إجتماع الضدين في محل واحد ، ليكون من الإعجاز في الإنشغال بذكر الله عز وجل على كل حال من القيام والقعود والإضطجاع أنه جامع للأمن والسلامة والصحة البدنية والنفسية إلى جانب الثواب في الدار الآخرة ،.
ومن خصائص أهل الإيمان وأرباب العقول السليمة التدبر في آيات التنزيل ، قال تعالى [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ اولو الأَلْبَابِ] ( ).
ومن خصائص الإنسان التفكر وإشغال الفكر بمسائل شخصية أو عامة خاصة الإبتلائية منها ، فأخبرت آية البحث أن سبيل النجاة في المقام هو التفكر في بدائع صنع الله عز وجل ، ومن يتفكر بها ، هل يقضي الله عز وجل له حوائجه ، ويصرف عنه ما يهمه ويحزنه ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ) .
وتبين الآية قانوناً وهو أن التفكر في خلق السموات والأرض يقود إلى التسليم بالربوبية لله عز وجل وأنه وحده القادر على خلقهن وإلى الدعاء والتضرع إليه سبحانه .
فلابد من علة ومقاصد سامية في خلق السموات والأرض لا يحيط بها ، ولا يدرك كنهها إلا الله سبحانه ، فلذا يلجأ أرباب العقول إلى طلب النجاة من النار .
وتهدي آية البحث إلى التفكر والتدبر في الخلائق بما يؤدي إلى الصلاح والتقوى والإمتناع عن المعصية ، ويقود هذا التفكر إلى التسليم بأن الله عز وجل حاضر معنا ، إذ أنه خلق السموات والأرض ويحفظها من الصدام والزوال ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ]( ).
وهل تمنع آية البحث من الإرهاب ، الجواب نعم ، إذ أنها تدعو إلى السلم ونشر الأمن والسلم المجتمعي لبعثها المسلم بالإنقطاع إلى الذكر والتفكر بصيغ الهداية وما يقود إلى الصلاح والفلاح ، لبيان قانون وهو بناء القرآن لشخصية سليمة ودرع حصينة من الفتن ومقدمات الفساد .
وتجتهد الحكومات والمؤسسات في إصلاح المجتمع وتحارب الجريمة ، وتفرض العقوبات ، وتخسر الأموال والجهود على السجناء وحراستهم .
بينما تأتي آية قرآنية لتهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات في مشارق الأرض ومغاربها ، وفي كل جيل من الناس فتتعاقب الحكومات وتتبدل بالوراثة أو الضد .
ولكن الآية القرآنية ومنافعها باقية إلى يوم القيامة، وسالمة من التبديل والتحريف ، وهل منافع آية البحث من الكلي المتؤاطئ والمتساوي في كل زمان أم أنها من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً.
المختار هو الثاني ، لذا يلزم الإجتهاد في التلاوة وعلوم التفسير ، والترغيب بقراءة القرآن والتدبر في معانيه ودلالات الآية القرآنية ، ومن إعجاز القرآن فهم ومعرفة كل إنسان جزء من ظاهر ومعاني الآية القرآنية بما يكفي للتسليم باعجازه ، وبعث الشوق في النفوس لقراءة القرآن ، والإنتفاع من قراءته والإستماع إليه , وفي التنزيل [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ]( ).
وتخبر آية البحث عن خصال حميدة لأولي الألباب مما يدل على علم الله عز وجل بما يعمل كل إنسان ، ليكون من مفاهيم آية البحث ذم الذين كفروا وتقبيح ما يفعلون ، وإنذارهم .
وهل في الآية دعوة لهم للتوبة والإنابة ، الجواب نعم .
فمن خصائص آيات الثناء على المؤمنين دلالتها على ذم وتوبيخ الذين كفروا ، فهم لا يذكرون الله ، وهل تشمل الآية التعريف بالمنافقين .
الجواب نعم ، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً] ( ).
لبيان قانون وهو آية [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ]( ) حرب على النفاق ، ومانع منه ، فلا يعلم منافع آيات القرآن في تنزيه المسلمين من النفاق إلا الله عز وجل .
وأختتمت آية البحث بالتوقي بالدعاء من السوق إلى نار جهنم ، ويخبر القرآن عن إقامة المنافقين [فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ..]( ) لبيان قانون وهو بعث آية البحث المسلمين والمسلمات لسبل التنزه عن النفاق ، وتوبة المنافقين والمنافقات وإصلاحهم لإنفسهم ، ويمكن القول بأمور :
الأول : قانون كل آية قرآنية زاجر عن النفاق .
الثاني : قانون كل آية قرآنية إصلاح للنفوس .
الثالث : قانون كل آية قرآنية تحض المنافق على المبادرة إلى التوبة والإنابة , قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
الرابع : قانون دعوة كل آية من القرآن المسلمين والمسلمات إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إفاضات الآية
من خصائص ذكر الله بعثه الوجل والفرق واستشعار الخوف والرجاء في القلوب ، وهو من إعجاز القرآن بالجمع بين المتضادين بما فيه النفع العام والخاص ، فقال تعالى [الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِ الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ] ( )وقال تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
لبيان قانون ترشح استدامة الصحة والعافية بالعمل بمضامين آية البحث ، ومن منافع ذكر الله عز وجل الإزدجار عن المحارم والإبتعاد عن المعاصي ، ويأتي هذا الكف عن إيمان وفقاهة وسلامة من الغفلة ، وذكر الله توكل عليه وتفويض للأمور إليه سبحانه لما في الذكر والتفكر ببدائع الخلائق من استعظام لمقام الربوبية ، والبعث على الإخلاص في الإيمان.
والمواظبة على ذكر الله علم مستقل ، وعصمة من الجهالة ، وهل يشترط كون هذ الذكر على اللسان وبصيغة جهرية ، الجواب لا ، لذا فان الآية لم تحصر الذكر بالتلاوة والقراءة.
وعن ابن عباس قال (جاء إسرافيل إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم فقال : قلْ يا محمّد : سُبحان الله والحمدُ لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله عَدد ما علم وزنة ما علم وملء ما علم، من قالها كتبت له ستّ خصال، كتب من الذاكرين الله كثيراً، وكان أفضل ممّن ذكره الليل والنهار، وكان له غرس في الجنّة، وتحاتت عنه ذنوبه كما تتحات ورق الشجر اليابسة، ونظر الله إليه، ومن نظر الله إليه لم يعذّبه)( ).
وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببيان ماهية الذكر وأفراده ، وحسنه الذاتي ، وعظيم نفعه ، والثواب العظيم الذي يترتب عليه .
لقد ذكرت آية البحث خصالاً حميدة لأرباب العقول لتتضمن المدح والثناء عليهم مجتمعين ومتفرقين ، ويؤازر ويشد بعضهم عضد بعض في إتيان مضامين آية البحث وهي :
الأول : ذكر الله عز وجل على كل حال ، وفي السعادة والشقاء ، والغنى والفقر ، وسن الشباب والشيخوخة ، ومن قبل النساء والرجال، إذ وردت صيغة التذكير للتغليب ، وكما أن لذكر الله منافع عظيمة فان له أسباباً منها الإيمان ، والإقرار بعظيم قدرة الله وسعة سلطانه ، وأن مقاليد الأمور كلها بيده سبحانه ، ليكون من معاني تقدير الآية قبل السابقة في نظم القرآن [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
الثاني : الإجتهاد في ذكر الله ، والدوام عليه في كل حال فهو غذاء العقل والروح ، والتسليم برجائه دون سواه ، وبلزوم طاعته في الأحكام التكليفية الخمس ، ويدعو القرآن العلماء إلى الإحصاء وجمع الآيات من جهات :
الأولى : الآيات التي تبين شرائط الإسلام .
الثانية : آيات خصال المؤمنين .
الثالثة : آيات المدح والثناء على المؤمنين .
الرابعة : الآيات التي تبين صفات المنافقين ، وقبيح فعلهم .
الخامسة : آيات ذم الذين كفروا .
السادسة : آيات الدفاع ، وبيان قانون (لم يغز النبي محمد (ص) أحداً)( ).
وتبين آية البحث قانون حب المؤمنين لله عز وجل وشكرهم له على رزقهم العقول المستقيمة ، والنفوس المستنيرة ، وإمتناعهم عن غلبة النفس الشهوية ، واللهث وراء الدنيا ، إذ أن ذكر الله يستوعب أوقاتهم ، وهو لا يتعارض مع الكسب وجلب المنفعة ، لذا جاءت الآية بالذكر والتفكر ، ولا يتعارض أي منها مع العمل والجد في طلب الرزق .
وقيل المراد من قوله تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ] ( ) أي أداء الصلاة لما ورد عن عمران بن حصين قال (كانت لي بواسير ، فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة فقال : صل قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب) ( ).
والمختار أن النسبة بين الذكر والصلاة هي العموم والخصوص المطلق ، والذكر أعم لبيان حب المؤمنين لله عز وجل ، والتلذذ بالذكر والتسبيح والتهليل ، وهو أخف من هيئة وأفعال الصلاة .
الثالث : إدراك أولي الألباب بقانون خالق هذا الكون العظيم قادر حكيم تدل بدائع آثاره ، ورشحات أفعاله على وحدانيته ، ووجوب عبادته ، ولزوم تلقي الكتب السماوية التي ينزلها على أنبيائه على نحو التعيين بالتصديق .
ترى ما هي الصلة بين فردي الآية وهما :
الأول : الذكر المستديم .
الثاني : التفكر بالخلائق ، الجواب هو التداخل ، فليس من إنفصال بينهما .
ومن إفاضات آية البحث استيلاء إدراك عظمة مخلوقات الله على الجوارح ، فبادروا إلى الدعاء والتسبيح والإستغاثة بالله ، وتنزيه مقام الربوبية بقول [سُبْحَانَكَ] وسؤال النعم العظيمة ، ومنها العمل بطاعة الله وإجتناب المعصية ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الآية لطف
تطرد آية البحث الغفلة عن المسلم لوجوه :
الأول : بعث آية البحث المسلم على الذكر.
الثاني : قانون التضاد بين الذكر والغفلة .
الثالث : قانون حب الله عز وجل للذين يحرصون على ذكره وتسبيحه ، قال تعالى [إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا]( ) .
ولم يرد لفظ [َالذَّاكِرِينَ] ، ولفظ [الذَّاكِرَاتِ] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
وهل تدل الآية أعلاه على أن ذكر الرجال لله أكثر من ذكر النساء له سبحانه ، الجواب لا ، والمختار أن الله عز وجل يرضى من المرأة بأقل مما يأتي به الرجل من الذكر ، فمن إعجاز الآية أعلاه مجئ صفة النساء بعرض واحد مع الرجال إلا بخصوص الذكر كثرة وقلة ، فلم تقل الآية : والذاكرين والذاكرات .
الرابع : قانون الثواب العظيم الذي يفوز به المواظب على ذكر الله عز وجل .
وقد ورد الأمر إلى المسلمين والمسلمات بقوله تعالى [اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا] ( ).
وعن (أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل فصليا ركعتين كانا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات) ( ) ومن مصاديق ذكر نعمه وإحسانه .
ووردت الآية بصيغة الجملة الخبرية ، فهل يلزم الإمتثال لها أم لابد من صيغة الأمر ، الجواب هو الأول .
ومن معاني تفسير آيات القرآن بعضها لبعض , بيان الجملة الإنشائية لمضمون الجملة الخبرية , إذ ورد بصيغة الأمر قوله تعالى [فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ]( ).
الآية بشارة
من خصائص الكتاب السماوي تضمنه البشارة على الإيمان والعمل الصالح .
وهل تختص بشارته بعالم الآخرة ، الجواب لا ، إنما تشمل الحياة الدنيا ، وهو الذي يتجلى بآيات القرآن منطوقاً ومفهوماً ، ليتخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن مادة وبلغة لجذب الناس إلى منازل الإيمان ، وعدم التفريط بالبشارات النازلة من عند الله ، إذ يجاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أجل منفعة الناس العامة والخاصة في قبول البشارات السماوية ، والعمل بمضامينها والإمتناع عن التشكيك بها ، لذا جاء القرآن بذم المنافقين والمنافقات لما يبثونه من الريب والكذب ، قال تعالى [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً] ( ).
لقد تضمنت آية البحث الثناء على المؤمنين لخصلة حميدة ملازمة لهم وهي ذكر الله عز وجل على كل حال ، ومنه أداء الفرائض العبادية في أوقاتها ، ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , قال تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
ومن ذكر الله تلاوة آيات البشارة , وسؤال الله عز وجل الفوز بها ، وتلاوة آيات الإنذار ، وسؤال الله عز وجل النجاة من موضوع الإنذار والوعيد كما في خاتمة آية البحث .
لقد أخبرت آية البحث عن تفكر وتدبر المؤمنين في خلق السموات والأرض ، والإقرار بأن الله عز وجل خلقها لحكمة وغايات عظيمة يعجز الناس عن درك كنهها ، لتكون فيها بشارات الرحمة والرزق الكريم من عند الله عز وجل .
وتنمي آية البحث ملكة التقوى عند المسلمين ، وتبعث على الإحسان والعمل الصالح [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
وهل يختص أولو الألباب بالإنتفاع من البشارات التي وردت في القرآن ، وتلك التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب لا ، إنما يستفيد منها الناس جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
ولا بأس في إحصاء آيات البشارة التي في القرآن من جهات :
الأولى : البشارات للمؤمنين وهي الأكثر ، منها [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ] ( ).
الثانية : البشارات التي وردت في القرآن للأنبياء السابقين .
الثالثة : البشارات إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : البشارات إلى المسلمين .
الخامسة : البشارات إلى أهل الكتاب .
السادسة : البشارات إلى عامة الناس بلحاظ رحمة الله عز وجل بهم جميعاً ، وبصفة العبودية ، قال تعالى [نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] ( ) .
السابعة : البشارات التي تأتي بالدعاء والمسألة ومنها قوله تعالى في آية البحث [سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] ( ).
وهل تلقي البشارات القرآنية بالقبول من ذكر الله الكثير الوارد في آية البحث ، الجواب نعم.
الثامنة : البشارات الخاصة منها , قوله تعالى [وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ]( )، في بشارة الملائكة لإبراهيم عليه السلام , ولم يرد لفظ (بشروه) في القرآن إلا في الآية أعلاه , واختلف فيه على قولين :
الأول : إسحاق , وقال ابن عطية (وجمهور الناس على أن الغلام هنا إسحاق ابن سارة الذي ذكرت البشارة به في غير موضع)( ).
الثاني : إسماعيل , عن مجاهد( ).
وقد ذكرت في كتابي الموسوم (تفسير سورة يوسف) والصادر في سنة 1991 أن المراد من الغلام العليم هو يوسف عليه السلام لما ورد حكاية عنه في التنزيل [اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ]( ).
وهذه البشارة غير البشارة [فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ]( ) والمشهور أنه إسحاق عليه السلام , ويدل عليه نظم الآيات , وقيل إسماعيل , ولا مانع من الجمع بينهما لإرادة تعدد البشارات لإبراهيم , وتشمل الولد الصلبي والحفيد فتكون البشارة لكل من إسحاق وإسماعيل ويوسف عليهم السلام.
مثلاً قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصَب، لا صخب فيه ولا نصب)( ).
الآية إنذار
لقد ابتدأت آية البحث بالاسم الموصول (الذين ) وبلحاظ صلته بخاتمة الآية السابقة فإنه ثناء ومدح للمؤمنين بذكر صفة حميدة عندهم ، إذ يأتي الثناء في القرآن مبيناً وواضحاً في جهته وموضوعه ليكون موعظة ، ولينتفع منه الذين يستحقونه والناس جميعاً بالسعي إلى منازله ، وباللطف الإلهي في جذبهم إليه .
لذا فان الثناء على الذين يذكرون الله قياما وقعوداً وعلى جنوبهم إنذار للذين كفروا في النشأتين ، وبيان لقانون وهو الإعراض عن ذكر الله خسارة وخيبة في الدنيا والآخرة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ]( ) أي تركوا ذكر الله ، وغفلوا عن أداء الفرائض فحرموا أنفسهم من فضل الله عز وجل وواسع رحمته.
وهل من معاني [فَأَنْسَاهُمْ] حجب لطف الله عز وجل عنهم في التقريب إلى طاعته ، المختار فوز كل إنسان بدرجة من لطف الله في تقريبه إلى طاعة الله ، نعم حجب الكفار عن أنفسهم الفضل والزائد من لطف الله عز وجل لغفلتهم وجهالتهم وإصرارهم على الكفر ومفاهيم الضلالة .
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً ممكناً ، وكل ممكن محتاج فتلازم الحاجة الإنسان في كل دقيقة من حياته ، بما فيها الحاجة إلى الشهيق والزفير الذي يتكرر نحو ست عشرة مرة في الدقيقة الواحدة ، ولا يتم في كل مرة إلا بإذن من عند الله عز وجل .
وهل يدخل في موضوع التفكر في خلق السموات والأرض الذي تذكره آية البحث ، الجواب نعم ، فهو من بديع خلق الله عز وجل ، وإخبار للإنسان بحاجته المستديمة ، وفي كل لحظة إلى رحمة وفضل الله عز وجل ، وحاجته لرحمته في الآخرة أكبر وأعظم .
وما أجمل الحياة الدنيا حينما يقترن الشهيق والزفير بذكر الله عز وجل ، لتكون من مصاديق قوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ) وليس من حصر لموضوع الزيادة هذا ، إذ يأتي من جهات :
الأولى : السلامة من الدرن , قال تعالى [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( ).
الثانية : طول العمر .
الثالثة : محو البلاء وعامة الأذى , قال تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
الرابعة : حب الله عز وجل للعبد .
الخامسة : الهداية والإيمان .
السادسة : ملكة ذكر الله على كل حال .
السابعة : الإتعاظ من الإنذارات الواردة في القرآن ، ومنها ما ورد في خاتمة آية البحث من إستحضار ذكر النار .
لبيان أن ذكر المؤمنين لله عز وجل عن فقاهة ، وأنهم يؤمنون بالمعاد وعالم الجزاء (عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من داع دعا إلى شيء إلا كان موقوفاً يوم القيامة لازماً به لا يفارقه ، وإن دعا رجل رجلاً . ثم قرأ { وقفوهم إنهم مسئولون }( ))( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بالاسم الموصول (الذين ) لبيان إتصال هذه الآية بخاتمة الآية السابقة التي ذكرت أولي الألباب لبيان خصال حميدة عندهم في تسخير العقول والجوارح والحواس لطاعة الله عز وجل علانية وسراً ، ومن هذه الصفات :
الأولى : ذكر الله عز وجل في حال القيام والوقوف بالتسبيح وتلاوة القرآن ، وهل منه القيام والوقوف في الصلاة ، الجواب نعم ، فهذا القيام على وجوه :
الأول : تحقق الوقوف عند تكبيرة الإحرام والتلاوة .
الثاني : القيام من غير تلاوة .
الثالث : القيام عند رفع الرأس من الركوع ، وكل فرد منها من مصاديق ذكر الله قياماً لما فيها من الخشوع والخضوع لله عز وجل .
الثانية : يواظب أولو الألباب على ذكر الله عندما يكونون في حال قعود وجلوس ، فهم لايقصرون في الذكر الواجب والنافلة ،فيذكرون الله في كل حال ، ومنها إذا كانوا قعوداً مجتمعين أو متفرقين ، فحينما يكون المؤمن قاعداً بمفرده فهو يسبح الله ، ويتلو آيات القرآن ويتفكر في بديع صنعه في السموات والأرض ، وإذا كانوا جماعة قعوداً فانهم يجتهدون في الذكر والتلاوة والتسبيح وتنزيه مقام الربوبية .
لقد أحب الله عز وجل أرباب العقول فهداهم إلى الإنشغال بذكره .
وهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من هذا الذكر ، الجواب نعم .
الثالث : ليس من ملازمة بين الإضطجاع والنوم ليغادر المؤمن حال اليقظة بالذكر والإستغفار .
وعن (أبي حاتم عن أبي أيوب ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين كان نازلاً عليه في بيته حين أراد أن يرقد قال كلاماً لم نفهمه قال : فسألته عن ذلك فقال
اللهم أنت تتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ، فتمسك التي قضى عليها الموت ، وترسل الأخرى إلى أجل مسمى ، أنت خلقتني ، وأنت تتوفاني ، فإن أنت توفيتني فاغفر لي ، وإن أنت أخرتني فاحفظني)( ).
ومن معاني قوله تعالى [وَعَلَى جُنُوبِهِمْ] استقبلوا الرقود والنوم بذكر الله ، والنوم شبه إماتة ، وقد يكون مناسبة للموت ومفارقة الروح الجسد ، قال تعالى [اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
وورد حرف العطف الواو في الآية ثلاث مرات ، ويمكن تقسيمه إلى قسمين :
الأول : العطف الخاص حال القعود وعلى الجنوب في الذكر .
الثاني : العطف العام وهو عطف التفكر على الذكر .
ولا تعني آية البحث إنحصار عمل أولي الألباب بالذكر والتفكر في آيات الخلق لوجوب السعي في طلب الرزق والمكاسب ، إنما تبين الآية عدم التعارض بين هذا الطلب للذات والعيال ، وبين الذكر الذي هو باللسان ، والتفكر الذي يكون بالقلب .
ولو تعارض الذكر مع العمل وطلب الرزق ، فالمختار تقديم العمل لطلب الرزق بخصوص ساعته سواء لضروريات المعيشة أو ما يلحق بها أو التقيد بالإجارة والعمل عند الدولة أو المؤسسات وأرباب العمل ، لتبين الآية إنتهاز المؤمنين ساعة الفراغ للذكر والتفكر في خلق الله ، ولزوم الخشية منه تعالى بالسر والعلانية .
لقد ورد عطف [يَتَفَكَّرُونَ] على [يَذْكُرُونَ] فهل يكون تقدير الآية : ويتفكرون في خلق السموات والأرض قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم .
ليكون المؤمن في أحواله المختلفة بالخيار بين الذكر والتفكر . المختار لا ، إنما خصت الآية الذكر بالدوام والإتصال ، وتغشيته لأحوال المؤمن المختلفة ، فالأصل الأكثر والأعم هو ذكر الله عز وجل ، ومنه أداء الصلاة وعدم تركها في أي حال .
لقد ذكرت آية البحث اسم الجلالة [الله ] كما ورد فيها اسم الرب بالإضافة (ربنا) لبيان تسليم أولي الألباب بأن الله عز وجل ربهم وخالقهم ،وهو مدبر أمورهم ، وهل يشملهم قوله تعالى [رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً..] ( ) الجواب نعم .
ليكون تقدير الآية (ما خلقتنا باطلا ) ، وتدل عليه آيات عديدة منها قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، وهل تنطبق الآية على السموات والأرض ، ويكون تقديرها : وما خلقت السموات والأرض إلى لتعبدني ) الجواب نعم وكل حسب حاله في العبادة من التسبيح والتهليل ، قال تعالى [يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ] ( ).
وهل خلقت السموات والأرض من أجل الناس وحدهم ، الجواب لا ، إنما سخر الله عز وجل للناس ما في السموات والأرض ، وجعلها مادة ووسيلة للتدبر والإتعاظ ، وقد انتفع أولو الألباب ، وأهل الإيمان منها ، إذ تفكروا في عظيم الخلائق مما يدل على عظيم قدرة الله ، وأنه سبحانه يعلم بكل ما يفعلون فلجأوا إليه سبحانه بالإستغفار والتضرع والدعاء ، للنجاة من حر نار جهنم في الآخرة .
ومن الإعجاز في آية البحث مجئ الذكر قبل التفكر ثم الدعاء ، وهل يدل هذا على إفادة واو العطف الترتيب ، وأن الذكر هو الأول ثم يتعقبه التفكير، الجواب نعم، إذ تفيد الواو الجمع والترتيب ، وكان إبراهيم عليه السلام يتفكر في خلق السموات والأرض ، قال تعالى [فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ] ( ) ويتداخل الذكر والتفكر في حياة المؤمنين لبيان أنهم يؤدون الفرائض العبادية عن بصيرة ، لذا أثنى الله عز وجل عليهم وسمّاهم أولي الألباب .
ولم يقف التفكير بالخلائق عند حده إنما يكون مقدمة ووسيلة للذكر والإيمان واليقين أيضاً ، لذا ذكرت الآية قولهم بعد التفكر[رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً] ( ) .
وتحتمل الصلة بين الذكر الأول والثاني وجوهاً :
الأول : التساوي والتشابه .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق .
وفيه شعبتان :
الأولى : الذكرالثاني أعم من الأول .
الثانية : الذكر الأول أعم من الثاني .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإشتراك والإلتقاء بينهما ، ومادة للإفتراق بينهما.
والمختار هو الشعبة الثانية من الوجه الثاني أعلاه ، فالذكر الذي تذكره الآية في أولها أعم، وتدخل فيه الصلاة والتسبيح وقراءة القرآن ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقصد القربة إلى الله عز وجل .

من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : بيان ما يقوم به المؤمنون من القول والعمل الحسن.
الثانية : الثناء على المؤمنين ، فقد وصفوا في خاتمة الآية السابقة بكونهم أولي الألباب ، وجاءت هذه الآية بصفات حميدة لهم ، وهذه الصفات من وجوه :
الأول : ذكر الله في حال القيام .
الثاني : ذكر المؤمنين لله عز وجل وهم في حال الجلوس والقعود .
وهل تشمل الآية أداء الصلاة ، الجواب نعم ، فالقيام فيها ركن من أركانها ، كما يقع التشهد في التشهد الوسطي ، وعند خاتمة الصلاة بالتشهد والتسليم عن جلوس في الصلاة الثلاثية كصلاة المغرب ، والرباعية كصلاة الظهر .
الثالث : ذكر الله في حال الإستلقاء ، وعند الذهاب إلى الفراش ، وفي حال المرض ليكون هذا الذكر نوع طريق للشفاء .
الرابع : من معاني آية البحث سدّ الذرائع ، إذ تطرد الغفلة عن الناس ، وتدعو إلى الإقامة على الذكر في كل حال .
الخامس : ذكر المؤمنين لله عز وجل مجتمعين ومتفرقين ، ويشمل قوله تعالى [قِيَامًا] المشي لأنه فرع القيام.
ويشمل قوله تعالى [قُعُودًا] الجلوس على الراحلة وفي السيارة والقطار ونحوه ، وتجد كثيراً من المؤمنين ينشغلون بذكر الله في السيارة والطائرة ، وهل في قراءة القرآن أو أحد كتب التفسير أو الفقه والمعارف الدينية في السيارة والقطار والطائرة من مصاديق الآية وقوله تعالى [وَقُعُودًا] الجواب نعم .
الثالثة : الترغيب بذكر الله على كل حال ، وفي كل هيئة ، وعدم التردد فيه أو الإنشغال عنه .
الرابعة : طرد الغفلة ومنع الجهالة .
الخامسة: تحبيب ذكر الله إلى النفوس وعدم الملل أو الضجر منه.
السادسة : بيان حب الله عز وجل للذين يذكرونه على الدوام ، وهل نعتهم في الآية السابقة بأولي الألباب شكر لهم، الجواب نعم لبيان معجزة في القرآن وهي الشكر من الله على الفعل .
السابعة : إخبار آية البحث عن علم الله عز وجل بحال التفكر وإحاطة العقل بعالم الأشياء .
ومن الناس من يتفكر في حاله والعيال أو تركبه الهموم والأوهام ، أو الخشية من بلاء ، فنزلت آية البحث لهدايته إلى النجاة بالتفكر في آيات الخلق ، وبديع صنع الله ، وهل يدفع هذا التفكر البلاء عنه ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
لبيان قانون وهو ترغيب آية البحث بأسباب ومقدمات النجاة من البلاء ، والتي تتجلى بالمواظبة على ذكر الله ، والتفكر في الخلق بقيد التسليم بأن الله عز وجل هو الصانع ،والخالق ، والمالك ، والمدبر ، والمتصرف .
الثامنة : بيان المنهاج اليومي للمؤمنين بالذكر والعبادة والدعاء من غير تعارض مع طلب الرزق ، والسعي في الدنيا ، قال تعالى [فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ] ( ).
عن معمر (عن أيوب قال : أشرف على النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل من رأس تل فقالوا : ما أجلد هذا الرجل! لو كان جلده في سبيل الله .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أو ليس في سبيل الله إلا من قتل .
ثم قال : من خرج في الأرض يطلب حلالاً يكف به والديه فهو في سبيل الله ، ومن خرج يطلب حلالاً يكف به أهله فهو في سبيل الله ، ومن خرج يطلب حلالاً يكف به نفسه فهو في سبيل الله ، ومن خرج يطلب التكاثر فهو في سبيل الشيطان) ( ).
والرواية مرسلة ، والمراد من أيوب هو أيوب السختياني من التابعين (66-131) هجرية ، مولى قبيلة عنزة من ربيعة لقب بالسختياني لطبيعة عمله والسختيان هو جلد الماعز المدبوغ ، رآى أنس بن مالك ، وليس من رواية له عنه ، أثنى عليه ابن سيرين وغيره ، وكان إذا ذكر عنده حديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكى ، وحج البيت الحرام أربعين حجة ، وإذا سئل عن شئ لا يعلمه قال : سل أهل العلم ، ومات في البصرة أيام الطاعون .
ورواية معمر عن البصريين ضعيفة ، ومنهم أيوب إذ دخل معمر إلى البصرة من غير كتبه ، وسمع منهم ولم يكتب ، فلما عاد إلى بلده اليمن حدّث بما سمع في البصرة من حفظه .
التاسعة : بيان قانون الإكرام وفق سنن التقوى ، وإخلاص العبادة ، إذ تتضمن الآية الثناء على المؤمنين الذين يحرصون على ذكر الله في كل حال ، قال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ..] ( ) .
العاشرة : من الإعجاز في أداء الصلاة التذكير اليومي بخلق الله عز وجل للسموات والأرض ، وعظمة هذا الخلق وبدائع الصنع بتلاوة المسلمين والمسلمات لآية البحث وآيات القرآن الأخرى في الصلاة على نحو الوجوب العيني .
الحادية عشرة : عدم اكتفاء أولي الألباب بالذكر والتفكر بل يقومون باللجوء إلى الله تضرعاً وتسليماً وإقراراً بالعبودية له سبحانه [رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً..]( ).
الثانية عشرة : من رشحات العقول الإستجارة بالله عز وجل للنجاة من النار ، وإدراك أن العمل الصالح لا يكفي وحده الإنسان للأمن والسلامة يوم القيامة .
الثالثة عشرة : بيان خاتمة الآية لحاجة كل إنسان إلى رحمة الله ومغفرته وعفوه يوم القيامة ، وفي التنزيل [يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا] ( ).
الرابعة عشرة : من خصائص أولي الألباب الإقرار بالمعاد والبعث من القبور للحساب والجزاء ، ولا يكتفون بهذا الإقرار بل يستعدون له بذكر الله في حال القيام والقعود والإستلقاء ، وبالتفكر في الخلائق وكيف أن آيات السموات والأرض تكون حجة على الإنسان يوم القيامة .
فكانت خاتمة آية البحث شاهداً حاضراً في الدنيا والآخرة على تسليم المؤمنين باليوم الآخر ، وإدراك قانون وهو كل آية من بديع صنع الله في السموات والأرض ، وحجة على الناس في الدنيا والآخرة إلى جانب قيام الأنبياء بالتبليغ ، ونزول الكتب السماوية بالبشارة والإنذار .
إذ يدل قوله تعالى [فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ) على تصديق المؤمنين بالإنذارات ، وسعيهم للعصمة من عذاب الآخرة ، وما يصاحبه من الخزي ، قال تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا] ( )وهل آية البحث من الإنذار ، الجواب نعم ، ليكون أولو الألباب منذرين لأنفسهم وعامة الناس بالدعاء للنجاة من عذاب النار .
التفسير
قوله تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ]
لقد أختتمت الآية السابقة بالوصف بالثناء [أُولِي الأَلْبَابِ] وابتدأت آية البحث بعملهم الذي يدل عليهم ويبين استحقاقهم لهذا الوصف من عند الله عز وجل بأنهم قدموا العقول ، وجعلوها هي التي تتحكم في أفعالهم وأعمالهم ، ولم يتبعوا الشهوات والرغائب ، ولم تنسهم ملذات الدنيا الذكر والتسبيح ، وليس كل ملذات وشهوات الدنيا حرام ، فمنها ما هو حلال كالنكاح ، وأكل الطيبات بالحلال ، والملكية للدار والبستان والراحلة .
وهل يمكن الجمع بينها وبين الذكر ، الجواب نعم لذا فآية البحث تشمل المؤمنين الأغنياء والفقراء ، ويمتاز الأغنياء منهم باخراج الصدقة الواجبة والمستحبة من أموالهم ، قال تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
فتفضل الله عز وجل وجعل ذكره على الألسن مثل هذا الإنفاق.
وعن قتادة (إِنَّ رَجُلاً، قَالَ: يا رَسُول الله، ذهب أَهْل الدثور بالأجور .
فقال : أرأيت لو عمد إِلَى متاع الدُّنْيَا، فركب بعضها عَلَى بعض أكان يبلغ السَّمَاء .
أفلا أخبرك بعمل أصله في الأَرْض، وفرعه في السَّمَاء.
قَالَ: مَا هُوَ يا رَسُول الله .
قَالَ: تقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، عشر مرات في دبر كُلّ صلاة، فذاك أصله في الأَرْض وفرعه في السَّمَاء( ).
وإن كان الشخص غنياً ولا يخرج الزكاة والخمس ولكنه يكثر من ذكر الله عز وجل على كل حال ويؤدي الصلاة ، فهل ينفعه كما ينتفع الغني الذي يتقيد بالعبادات المالية ، الجواب لا ، وهو من أسرار عدم إنحصار موضوع آية البحث بالذكر ، إذ تشمل الآية التفكر في خلق السموات والأرض وسؤال النجاة من عذاب النار ، ولا ينجو منها الذي يتخلف عن واجباته العبادية ومنها الزكاة .
وعن عبد الله(ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع يفر منه وهو يتبعه فيقول : أنا كنزك حتى يطوّق في عنقه .
ثم قرأ علينا النبي صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله . . . }( ) الآية)( ).
وهل المداومة على ذكر الله باعث لإخراج الزكاة والحقوق الشرعية ، الجواب نعم ، وهو من الإعجاز في آية البحث بأن تأتي بخبر ليكون على وجوه :
الأول : العمل بمضامين الخبر .
الثاني : إرادة الأمر من الخبر ، ومثلاً في قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ) ورد (عن ابن عباس قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: “يَأيُّهَا النَّاسُ، إنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُم الحَجَّ”. فقام الأقرع بن حابس فقال: يا رسول الله، أفي كل عام .
قال: لَوْ قُلْتُهَا، لَوَجَبَتْ، ولَوْ وَجَبَتْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهَا، وَلَمْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْمَلُوا بِهَا؛ الحَجُّ مَرَّةً، فَمَنْ زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ)( ).
الثالث : العمل بمفهوم الموافقة وفحوى الخطاب للخبر ، فمثلاً قوله تعالى [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا]( ) من الأولوية أن لا تزجرهما .
ومن مفهوم المخالفة برهما والعناية بهما ، لموضوعية الإحسان للوالدين وثوابه في الدنيا والآخرة ، ولم يترك الله عز وجل استنباطه من مفهوم المخالفة ، إنما وردت آيات عديدة بخصوصه منها قوله تعالى [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
أقسام الذكر
الذكر استحضار الشئ في الوجود الذهني ، وهو ضد الغفلة ، وقد يكون موضوع الذكر عاما ، وقد يكون خاصاً ، قال تعالى [وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ] ( ).
والمراد من الذكر في المقام على أقسام :
الأول : جريان اسم الله ، والثناء والحمد له على اللسان .
الثاني : ذكر المسلم لله سبحانه بالإخفات ، قال تعالى [وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ] ( ) .
الثالث : تلاوة آيات القرآن .
الرابع : الإكثار من الإستغفار .
الخامس : الإتيان بالفعل أو الترك بقصد القربة إلى الله تعالى ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
وهل كل تفكر هو ضد الغفلة ، الجواب لا ، فقد يكون ذات التفكر غفلة ، كما لو كان تفكراً في اللهو واللعب والخداع والهمّ بالإضرار بالغير .
فمن إعجاز آية البحث طردها لمثل هذا التفكير إذ تقيده بأن يكون في خلق السموات والأرض ، ومصاديق عظيم قدرة الله ، وبدائع صنعه ، ولطفه ورحمته بالناس والخلائق .
ويدل على تعدد مصاديق الذكر في المقام مجئ الآية بالتفكر الحميد ، وهل يشمل الذكر الوارد في الآية الخاطر ، وما يطرأ على البال ، الجواب نعم ، لتكون آية البحث حصانة للفكر ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ] ( ).
ولم يرد لفظ [مُبْصِرُونَ]في القرآن إلا في الآية أعلاه ، ومن معاني مبصرون في الآية البصيرة واللجوء إلى الله والإستغفار والإنابة .
أداء الصلاة ذكر
لقد خفّف الله عز وجل عن المسلمين والمسلمات فجعل الصلاة واجبة عينياً على كل واحد منهم خمس مرات في اليوم .
وهل أفعال الصلاة ذكر أم التلاوة وحدها ذكر ، الجواب هو الأول ، وكذا بالنسبة للصيام ، فان الإمساك عن الأكل والشرب والجماع ساعات نهار الصيام ذكر لله عز وجل ، وقربة إليه ، وكذا مناسك الحج، فلا يختص الذكر فيه بالتلبيات الأربعة ، وهي ( لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك ) لبيان أن الذكر على أقسام :
الأول : الذكر القلبي .
الثاني : الذكر باللسان ، وهو أظهرها .
الثالث : الذكر العملي .
الرابع : الذكر الجوارحي .
وهل ذات القيام والقعود وعلى الجنوب التي تذكرها آية البحث من الذكر أم أنها وعاء وكيفية ومحل للذكر ، المختار لا تعارض بين الأمرين .
فتفضل الله ويحسب الذكر في حال القيام ذكراً بالنسبة للحال والكيفية .
ترى لماذا تذكر آية البحث تلاوة القرآن سواء مع ذكر الله عز وجل أو مستقلاَ , واكتفت بقوله تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار]( ).
الجواب تتضمن الآية قراءة القرآن لأن النسبة بين ذكر الله عز وجل والتلاوة عموم وخصوص مطلق , فذكر الله عز وجل أعم وأشمل .
وإذا وردت آية ليس فيها اسم من أسماء الله عز وجل أو ذكر فعل لله عز وجل فهل هي من ذكر الله عز وجل الجواب نعم , لأن كل كلمة من القرآن هي من كلام الله عز وجل .
وقد تفضل الله عز وجل وجعل القراءة في الصلاة واجباً عينياً وجزءً من كل ركعة من الصلاة ، ويأتي بها عن قيام ، وتكون تارة جهراً كما في صلاة الصبح والمغرب والعشاء ، وأخرى إخفاتاً كما في صلاة الظهر والعصر ، وفيها تعاهد لذكر الله خارج الصلاة وجعله ملكة مستديمة مصاحبة لأيام المسلم والمسلمة في الحياة الدنيا.
قانون إستحضار نعمة الله من الذكر
لقد أخبرت آية البحث عن تفكر أولي العقول [فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) ومن أفراد هذا الخلق كثرة وتوالي النعم على الخلائق ، فيعجز الناس مجتمعين ومتفرقين عن عدّ وإحصاء النعم التي تفضل الله مما يلزم جريان شكرها على اللسان والجوارح ، وظهوره في عالم الفعل ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ…] ( ).
ترى ما هي النسبة بين ذكر الله وذكر النعم ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فذكر نعم الله عز وجل فرع ذكره سبحانه ، وهو من مصاديق آية البحث وخلق السموات والأرض الذي تذكره آية البحث من نعم الله عز وجل ، وكذا فان ذكر العبد لله عز وجل من النعم ، وسبل الهداية ، وكذا بالنسبة للتفكر في خلق السموات والأرض .
وقد يغفل الإنسان عن النعمة فلا يحجبها الله عز وجل ، إنما يزيد على العبد النعم سواء كان مؤمناً أو كافراً لقانون الدنيا دار النعم ، ولرحمة الله عز وجل بالناس مطلقاً ، ولأن خزائنه لا تنفد .
وقد أختتمت الآية قبل السابقة بقوله تعالى وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومن قدرة الله عز وجل مضاعفة خزائن النعم أضعافاً كثيرة ، وتوالي النعم على الناس وفتح أبواب الرزق الوفير لهم بما يزيد على حاجاتهم التي بالأصل أو العرض ، ليكون هذا التوالي والفتح مناسبة لذكرهم لله عز وجل ،وشكرهم له سبحانه .
ومن عظيم قدرة الله وسعة رحمته أن غفلة الناس عن شكره تعالى ليست برزخاً عن نزول النعم عليهم ، وحجب الموانع التي تحول دون الإنتفاع الأمثل منها ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ] ( ).
وجاءت آية البحث بالذكر المتصل للتدارك ، ومنع الكبر والطغيان واستحواذ الغفلة على الإنسان .
ومن النعم ما هي عامة ، ومنها خاصة مع التداخل بينهما ، وتفرع بعضها عن بعض من غير أن يلزم الدور أو التزاحم بينها ، ومن خصائص نعم الله أنها توليدية .
ولقد نصر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار في معركة بدر ، قال تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
ونزلت الآية أعلاه بعد معركة بدر وتتضمن صفة [أَذِلَّةٌ] في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) .
فمعنى الذلة هنا ليس الهوان والأدنى ، إنما استضعاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من قبل المشركين الطغاة لإختيار الصحابة الإيمان ولقلة عددهم ، وتتعظ أجيال المسلمين المتعاقبة بظهور وعز الإسلام بمعجزة من عند الله فيذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم .
ولم تذكر الآية أعلاه خصوص مكة أو المدينة إنما ذكرت الأرض ، وفيه دعوة لمعرفة قلة عدد المسلمين بالنسبة لعموم أهل الجزيرة والناس مطلقاً ، وللمقارنة بين قلة عددهم يومئذ ، وكثرة عددهم وانتشارهم في مشارق ومغارب الأرض في الأزمنة اللاحقة ، ليكون من شكر المسلمين لله عز وجل المواظبة على ذكره وتسبيحه ، وتعاهد أداء الفرائض العبادية .
وهل الصيام من ذكر الله عز وجل أم أن الذكر ينحصر بالذكر باللسان .
المختار هو الأول ، فذات العبادة بقصد القربة من ذكر الله والسعي في طاعته ، وطلب رضاه .
وهل حال المسلمين كمستضعفين قبل معركة بدر نعمة من الله عليهم ، أم أن النعم جاءت بالنصر وما بعده كما تذكره الآية أعلاه من سورة الأنفال ، المختار هو الأول ، إذ ان الإستضعاف مع الإيمان نعمة ، ونوع طريق للفوز بالثواب العظيم ، فليس من نعمة في المقام أعظم من الإيمان ، ويصاحب ذكر الله الذي تذكره آية البحث ، لبيان قانون من جهات :
الأولى : الذين يذكرون الله وهم قليل .
الثانية : الذين يذكرون الله وهم مستضعفون في الأرض .
الثالثة : الذين يذكرون الله على كل حال .
الرابعة : الذين يذكرون الله وهم يخافون أن يتخطفهم الناس فصرف الله عنهم أسباب هذا الخوف ، قال تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) .
الخامسة : الذين يذكرون الله وهم في حال الكثرة والمنعة ، وفي التنزيل [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ]( ).
قانون ذكر الله يورث المحبة
لقد نفخ الله عز وجل من روحه في آدم حينما خلقه , قال تعالى [ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ) لينغرس الحب في نفس ووجدان آدم ويكون ملكة وإحساساَ فطرياَ يتحكم به العبد تارة , وأخرى يغلب عليه , ليكون من موارد الإبتلاء بذاته وبما يترشح عنه من أسباب ومصاديق الميل إلى محاكاة الصالحين وفعل الخيرات أو العكس .
لذا فمن خصائص آية البحث الشوق في النفوس للمواظبة على ذكر الله عز وجل , وعدم الندم عليه , فهو لذة في الدنيا , واشعاع في النفس , وبهجة للقلب , وثواب عظيم في الآخرة .
لتبعث آية البحث على الأخلاق الحميدة , والحب للأسرة والجماعة ولأيام الحياة الدنيا , إذا كانت مسخرة في طاعة الله عز وجل , واكتناز الحسنات .
ومن خصائص الآية السابقة وصلتها بآية البحث دعوتها لحب الأيام والليالي والتدبر فيها , واستثمارها بالذكر والإستغفار , وعدم الندم والأسف على ما فات , والعصمة من اليأس لما يأتي من الأيام .
وفي التنزيل [إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ] ( ).
وينجذب الإنسان إلى المحبوب , وملأ الله عز وجل الأكوان ببدائع صنعه كي يتعاون الناس في حبهم له على غيره , وهو سبحانه [غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ) .
فنزلت آية البحث لتنمية ملكة حب الناس لله عز وجل , والتي فاز بها المؤمنون والمؤمنات لأن الذكر المستمر والمتجدد مظهر من مظاهر الحب الصادق .
وعن الإمام الباقر عليه السلام (وهل الدين إلا الحب ؟
إن الله يقول : (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)( ))( ) .
ومن معاني الحب في المقام وجوب أداء الفرائض العبادية .
ومن خصائص آية البحث حضور ذكر المحبوب بالقلب على نحو دائم ومصاحبة الخشية من الله عز وجل للعبد , وهي لا تتعارض مع الهيام والشوق للذكر والتسبيح والتهليل , ومعاني الكمال النفسي والسكينة المترشحة عنه , قال تعالى [حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ]( ).
ويحول ذكر الله عز وجل دون الفتنة ويحجب مفاهيم الضلالة , ويزجر عن الميل إلى الهوى واتباعه , ومن خصائص النفس الإنسانية أن تسيح في التفكير إلى الماضي والحاضر والمستقبل .
فجاءت آية البحث لإصلاح هذا التفكير , ومنع الوهم والزيف , إذ جعلت التفكير بالخلائق , وبديع صنع الله عز وجل وفيه الفطنة إذ تبين آية البحث نتيجة وهي اللجوء إلى الله عز وجل للنجاة من عذاب النار يوم القيامة مما يدل على التسليم باليوم الآخر , وأن الله عز وجل خلق الإنسان للإمتحان والإبتلاء .
ومن معاني المواظبة على ذكر الله عز وجل الإرتقاء إلى مراتب العز والبهاء والرفعة , قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
ومع التفكير بالخلائق تأتي إرادة فعل الصالحات بقصد القربة إلى الله عز وجل ومن أجل الفوز بالثواب الذي هو من فضل الله عز وجل وعظيم إحسانه .
الإنصات من الذكر
إذا قرئ أحدهم القرآن وأنصت الآخر لقوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ) فهل هذا الإنصات من الذكر أيضاَ , وهل يكتب للمستمع أنه ذاكر لله عز وجل .
الجواب نعم , وهو من مصاديق مجئ آية البحث بصيغة الجمع [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
فمن إعجاز صيغة الجمع في الآية شمولها لكل من :
الأول : الذي يذكر الله عز وجل بمفرده .
الثاني : ذكر الجماعة لله عز وجل .
الثالث : ذكر المنفرد وانصات الجماعة , ومنه تلاوة الإمام في صلاة الجماعة .
لقد ذكرت آية البحث ذكر أولي الألباب لله عز وجل , وجاءت أخرى بصيرورة التدبر في آيات القرآن علة للتذكر كما في قوله تعالى [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ اولو الأَلْبَابِ]( ) ولم يرد لفظ (لِيَتَذَكَّرَ) في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان إعجاز للقرآن وهو لابد وأن يتدبر ويتفكر الناس في آياته .
ويكون الإنصات لتلاوة القرآن وأحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الذكر لله ويترشح عنه التدبر والعمل وفق الكتاب والسنة.
ويكون التدبر على نحو العموم الإستغراقي لكل الناس , ولكن لا يستثنى من التدبر , لذا حينما نزلت السور المكية كانت قصيرة ولا يختص التدبر في مضامينها وبلاغتها وإعجازها ودلالاتها المسلمون والمسلمات , بل انشغلت قريش ورجال القبائل الذين يفدون إلى مكة بالتدبر بآيات القرآن وهو من المعجزات الحسية للقرآن لبيان أن القرآن لم يكن معجزة عقلية فقط , إنما كان معجزة حسية أيضاَ , فينفرد من بين الكتب السماوية بأنه معجزة عقلية وحسية .
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية إنصات المؤمنين لقراءة الإمام في الصلاة وإجزاء قراءته عنهم مما يدل على أن هذه القراءة ذكر منهم.
ومن الإعجاز الغيري للقرآن صيرورة التلاوة سبباَ لتذكر المؤمنين لواجباتهم العبادية ولزوم القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , ويكون من معاني الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث على وجوه :
الأول : قانون ذكر الله عز وجل مناسبة للتدبر بآيات القرآن .
الثاني : قانون تلاوة آيات القرآن ذكر لله عز وجل .
الثالث : تذّكر أولي الألباب لزوم ذكرهم لله قياماَ وقعوداَ وعلى جنوبهم .
الرابع : قانون التفكر في خلق السموات والأرض من التذكر .
ترى ما هي النسبة بين آية البحث وقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً]( ).
المختار هو نسبة التساوي , والقرآن يفسر بعضه بعضاَ , و(عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون) ( ).
(وأخرج أحمد عن وهب قال : قال المسيح عليه السلام : أكثروا ذكر الله ، وحمده ، وتقديسه ، وأطيعوه ، فإنما يكفي أحدكم من الدعاء إذا كان الله تبارك وتعالى راضياً عليه أن يقول : اللهم اغفر لي خطيئتي ، واصلح لي معيشتي ، وعافني من المكاره يا إلهي) ( ).
و(عن الإمام الباقر عليه السلام قال : إن إبليس عليه لعائن الله يبث جنود الليل من حين تغيب الشمس وتطلع فأكثروا ذكر الله عزوجل في هاتين الساعتين وتعوذوا بالله من شر إبليس وجنوده، وعوذوا صغاركم في هاتين الساعتين، فانهما ساعتا غفلة.) ( ).
لقد فرض الله عز وجل على العباد فرائض عبادية ، وكل فريضة مقيدة بحد معلوم من القدرة والإستطاعة.
أحاديث في ذكر الله عز وجل
من خصائص رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جهاده لتثبيت ذكر الله عز وجل في الأرض , وجعله سجية مستديمة عند المسلمين , وصاحباَ لكل مسلم ومسلمة .
لقد جاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بجعل كلمة الله عز وجل هي العليا , ولعمارة الأرض بذكر الله , وكان الإمام بذكر الله عز وجل , ولسانه رطب بذكره تعالى , لا يفارقه بحال .
وكان يحض أهل البيت وأزواجه وعامة المسلمين والمسلمات على ذكر الله عز وجل , سواء في خطبه أو في أحاديثه أو بيانه وتفسيره للقرآن .
و(عن خالد بن أبي عمران قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن ، ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن( ).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِى فَإِنْ ذَكَرَنِى فِى نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِى نَفْسِى وَإِنْ ذَكَرَنِى فِى مَلإٍ ذَكَرْتُهُ فِى مَلإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنِ اقْتَرَبَ إِلَىَّ شِبْرًا اقْتَرَبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا وَإِنِ اقْتَرَبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِى يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً( ).
وعن أنس : يا ابن آدم إذا ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي ، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ من الملائكة.
أو قال : في ملأ خير منهم ، وإن دنوت مني شبراً دنوت منك باعاً ، وإن أتيتني تمشي أتيتك بهرولة( ).
وعن معاذ بن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قال الله عز وجل ذكره : لا يذكرني أحد في نفسه إلا ذكرته في ملأ من ملائكتي ، ولا يذكرني في ملأ إلا ذكرته في الرفيق الأعلى( ).
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : قال الله : يا ابن آدم إذا ذكرتني خالياً ذكرتك خالياً ، وإذا ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير من الذين تذكرني فيهم وأكثر( ).
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : قال الله: أنا مع عبدي ما ذكرني، وتحركت بي شفتاه( ).
وعن عبد الله بن بسر : أن رجلاً قال : يا رسول الله إن شرائع الإِسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أستن به ، قال : لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله( ).
وعن مالك بن يخامر ، أن معاذ بن جبل قال لهم إن آخر كلام فارقت عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن قلت : أي الأعمال أحب إلى الله.
قال : أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله( ).
وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي المخارق قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مررت ليلة أسري بي برجل في نور العرش قلت : من هذا ، ملك .
قيل : لا . قلت : نبي .
قيل : لا . قلت : من هذا .
قال : هذا رجل كان في الدنيا لسانه رطب من ذكر الله ، وقلبه معلق بالمساجد ، ولم يستسب لوالديه( ).
وقيل لأبي الدرداء : إن رجلاً اعتق مائة نسمة قال : إن مائة نسمة من مال رجل لكثير ، وأفضل من ذلك وأفضل إيمان ملزوم بالليل والنهار أن لا يزال لسان أحدكم رطباً من ذكر الله( ).
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ قَالَ مَكِّيٌّ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ قَالُوا وَذَلِكَ مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ( ).
وعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول : إن لكل شيء صقالة وإن صقالة القلوب ذكر الله ، وما من شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله .
قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله .
قال : ولو أن يضرب بسيفه حتى ينقطع( ).
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من عجز منكم عن الليل أن يكابده ، وبخل بالمال أن ينفقه ، وحين غدر العدوان يجاهده فليكثر ذكر الله( ).
وأخرج الطبراني في الأوسط عن جابر رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما عمل آدمي عملاً أنجى له من العذاب من ذكر الله .
قيل : ولا الجهاد في سبيل الله .
قال : ولا الجهاد في سبيل الله إلا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع( ).
وعن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة : قلب شاكر ، ولسان ذاكر ، وبدن على البلاء صابر ، وزوجة لا تبغيه خوناً في نفسها وماله( ).
وعن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ليذكرن الله أقوام في الدنيا على الفرش الممهدة ، يدخلهم الله الدرجات العلى .
وعن أبي موسى قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت .
وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما من يوم وليلة إلا ولله عز وجل فيه صدقة من بها على من يشاء من عباده ، وما من الله على عبد بأفضل من أن يلهمه ذكره .
وعن خالد بن معدان قال : إن الله يتصدق كل يوم بصدقة ، فما تصدق على عبده بشيء أفضل من ذكره .
وعن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو أن رجلاً في حجره دراهم يقسمها وآخر يذكر الله لكان الذاكر لله أفضل .
وأخرج الطبراني والبيهقي عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم لم يذكر الله تعالى فيها)( ).
ومعنى لم يستسب والديه أي لم يكن سبباَ في سبهما وشتمهما , كما لو تمادى في ظلم الناس , أو قيام بسب والدي شخص فجازاه الله بالمثل .
و (عن ابن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه .
قالوا : وكيف يلعن الرجل والديه.
قال : يَسُبُّ أبا الرجل فيسب أباه ، ويَسُبُّ أمه فيسب أمه)( ).
ذكر الله واجب مطلق
ينقسم الواجب إلى قسمين :
الأول : الواجب المطلق وهو الذي لم يقيد أداؤه بقيد أو شرط مثل الصلاة التي تجب على كل حال .
الثاني : الواجب المشروط والذي يؤدى عند تحقق شرطه ولا يتوجه الخطاب التكليفي بفعليته وأدائه إلا بتحقق شرطه مثل شرط الإستطاعة بالنسبة للحج.
ففي الصلاة هناك صلاة السليم الذي يؤديها بشرائطها ، ومنهم من تتعذر عليه المقدمة من الطهارة المائية فتنتقل وظيفته إلى الطهارة الترابية ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، ومنهم من يبتلى بمرض يعجز معه عن أداء الصلاة قياماً فيصليها عن قعود فيشمله قوله تعالى في آية البحث [وَقُعُودًا].
والنسبة بين الكلمة أعلاه في آية البحث وبين الصلاة عن قعود عموم وخصوص مطلق ، فقوله تعالى [قُعُودًا]أعم وأوسع لتنفرد الصلاة من بين الفرائض العبادية بصيغة الإطلاق بأن تؤدى على كل حال ، وتسقط فريضة الصيام عن المريض العاجز عن أدائه والشيخ والشيخة ، وينتقل إلى الفدية ، قال تعالى [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ] ( ) ويتجلى القيد في أداء حج البيت الحرام بقوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ) .
أما ذكر الله فهو واجب مطلق غير مقيد بدليل آية البحث .
ومن الإعجاز في سنخية خلق الإنسان قدرته على ذكر الله في كل حال.
وفي علم الأصول تذكر الصلاة كواجب مطلق مقابل الواجب المشروط مع أنه يلزم الوضوء ومقدمة الطهارة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
والأولى أنه يرد المثال بذكر الله للواجب المطلق ، إذ يستطيع أي انسان ذكر الله عز وجل في كل وقت حتى الأخرس.
ومن أدلة وجوب الذكر المطلق آية البحث والتي وإن جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنه ورد بصيغة الأمر قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا]( ).
وقد توجه الخطاب التكليفي من الله عز وجل إلى الناس جميعاً بالذكر كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ]( ).
(وأخرج أحمد في الزهد عن أبي الجلد : أن الله أوحى إلى موسى عليه السلام : إذا ذكرتني فاذكرني وأنت تنتفض أعضاؤك ، وكن عند ذكري خاشعاً مطمئناً ، وإذا ذكرتني فاجعل لسانك وراء قلبك ، وإذا قمت بين يدي فقم مقام العبد الحقير الذليل ، وذمَّ نفسك فهي أولى بالذم ، وناجني حين تناجيني بقلب وجل ولسان صادق) ( ).
ولم يرفع أبو الجلد الخبر ،وأبو الجلد جيلان بن أبي فروة الأسدي البصري تابعي (ويقال كان يقرأ الكتب) ( ) وهو ظاهر من الأخبار الكثيرة التي يذكرها ، روى عن ابن عباس .
(عن ميمونة بنت أبي الجلد قالت كان أبي يقرأ القرآن في كل سبعة أيام ويختم التوراة في ستة يقرؤها نظرا فإذا كان يوم يختمها حشد لذلك ناس وكان يقول كان يقال تنزل عند ختمها الرحمة)( ).
بحث بلاغي (الإقتدار)
من وجوه البديع الإقتدار , وهو في إصطلاح البلاغة إتيان المتكلم للمعنى الواحد بصيغ متعددة ليتجلى اقتداره على تركيب الألفاظ , وبيان المعاني والدلالات بالحقيقة والمجاز , والتصريح والكناية , والإستعارة , والإطناب أو الإيجاز .
أما في القرآن فالمعنى يختلف , فمع تعدد اللفظ تتعدد معاني المرة الواحدة منه , وتترشح عنها العلوم , إلى جانب موضوعية نظم وسياق آيات القرآن , وهو علم ينفرد به القرآن , ومنه مثلاَ في ابتداء آية البحث بالاسم الموصول (الذين).
ومن الإقتدار البلاغي في القرآن قصص القرآن ، إذ تأتي مضامين القصة بصيغ وألفاظ مختلفة ، ولا ينحصر موضوع الإقتدار في المقام بخصوص البلاغة ، إنما تتعدد الدلالات والمسائل المستنبطة من كل صيغة منها .
وكذا بالنسبة للمكرر من المواضيع ، والسنن والأحكام ، وهو من قانون اللامتناهي في علوم القرآن ، وعدم إنقطاعها .
ويتجلى الإقتدار في آية البحث في بيان إقامة المؤمنين على الذكر في كل أحوالهم مع ذكر القيام والقعود والإضطجاع ، للترغيب العام بذكر الله ، والتنبيه على أمر وهو ليس من حال يخرج بالتخصص أو التخصيص عن الملائمة للذكر .
ولم تقل الآية يتفكرون في خلق الله للسموات والأرض ، لأن الذكر المتصل لله يدل على التسليم بأن الله عز وجل هو خالقها ،وللنداء العام بعدها [رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً] ليكون معنى الآية : خلق الله السموات والأرض بالحق .
ثم تضمنت الآية نداء التنزيه المطلق لمقام الربوبية [سُبْحَانَكَ] وجاء بعد النداء( ربنا ) لبيان صدق الإيمان ، والجمع بين الذكر والتفكر ، وتفرع الذكر عن التفكر بالخلائق ، كما تفرع التفكر في بداية الآية عن الذكر .
ثم انتقلت الآية إلى سؤال المؤمنين النجاة من عذاب النار ، لبيان تعمقهم في الدين ، والتصديق باليوم الآخر ، والصلة بينه وبين الدنيا من جهة الكسب ثم الجزاء , والعمل ثم الثواب .
أحوال الذكر
لقد تضمنت آية البحث الثناء على المؤمنين لذكرهم الله عز وجل على كل حال من أحوالهم من القيام ، والقعود ، والإستلقاء مما يدل بالدلالة التضمنية على ذكرهم لله عز وجل في :
الأول : أداء الصلاة في أوقاتها .
الثاني : الجهر بالتلاوة .
الثالث : حار الرخاء .
الرابع : حال الضراء .
الخامس : حال الغنى .
السادس : حال الفقر .
السابع : حال الصحة .
الثامن : حال المرض .
التاسع : حال اليسر .
العاشر : حال العسر .
الحادي عشر : حال الأمن والسلامة .
الثاني عشر : حال الخوف .
الثالث عشر : حال العز والشأن .
الرابع عشر : حال الإستضعاف والقهر.
الخامس عشر : حال الكثرة والعيال والألفة .
السادس عشر : حال الوحدة والغربة .
السابع عشر : ذكر الله في الصباح والمساء .
الثامن عشر : ذكر الله في النهار والليل .
التاسع عشر : أداء الفرائض .
العشرون : ذكر الله بأداء الطاعات .
الواحد والعشرون : ذكر الله بالإمتناع عن المعصية .
وهل قوله تعالى [فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ) على أن ذكر الله على كل حال والوارد في آية البحث هو غير الصلاة والصيام ، والحج والزكاة والخمس .
الجواب لا ، فصحيح أن الآية أعلاه ذكرت حال المسلمين من القيام والقعود والإستلقاء على نحو التفصيل إلا أنها تعني إتصال الذكر المستحب بالواجب خاصة عند الخوف والأذى لبيان قانون وهو صرف الخوف وأسبابه بذكر الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
وليتحقق مصداق متجدد ومتكرر للذكر الكثير الوارد في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا]( ) .
لقد اجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذكر الله على كل حال سواء في الإقامة أو السفر ، وكان يحرص على أداء الصلاة جماعة في أوقاتها ، ويصعد المنبر ويجيب على الأسئلة ، ويبادر إلى بيان الأحكام وتلاوة القرآن والتفسير ، ويكثر من ذكر الله في الليل والنهار ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
مصاديق وحدة المسلمين بآية[الَّذِينَ يَذْكُرُونَ]
من إعجاز الآية القرآنية ترشح المنافع العامة والخاصة من بين ثناياها ، وعند تلاوتها وبعد التلاوة ، وهو من ثمرات قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) لتجلي قانون متجدد وهو مع كل أمر من الله هناك نفع وثواب عند تلقيه وعند الإمتثال له ، ويحتمل ترشح النفع والثواب في الصلاة مثلاً من وجوه :
الأول : عند إتمام الصلوات اليومية الخمس ، فكل يوم هناك ثواب في الصلاة ، وما فيها من ذكر الله .
الثاني : ترتب النفع والثواب على أداء الفرد الواحد من الصلاة كصلاة الصبح ، وهي أقصر الصلوات اليومية لأنها تتكون من ركعتين، وليس فيها تشهد وسطي .
الثالث : المراد أداء الصلاة طول العمر .
والمختار هو الثاني ، لذا وردت آية البحث بذكر المؤمنين لله عز وجل على كل حال ، ومن الآيات يستحب الذكر عند الوضوء بأدعية مخصوصة .
وأخرج الترمذي عن عمر (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من توضأ فأحسن الوضوء ، ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ، فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء .
وأخرج ابن أبي شيبة عن علي بن أبي طالب . أنه كان إذا فرغ من وضوئه قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، رب اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين .) ( ) .
لبيان قانون الذكر من وجوه :
الأول : عند ابتداء الوضوء .
الثاني : اثناء الوضوء .
الثالث : عند الإنتهاء من الوضوء مقدمة لدخول الصلاة التي هي ذكر محض .
لقد أراد اللهعز وجل للمسلمين تعاهد الوحدة ، والمنع من الإقتتال بينهم بذكر الله على نحو الوجوب العيني المتعدد كل يوم وعدم استثناء أحد منهم ، فيلتقون في الذكر والدعاء وأفعال الصلاة لتذكيرهم بقوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
لإرادة كثرة الثواب الذي يفوز به المؤمن والمؤمنة ، والصلاة حبل الله المتين وهي نور في الدنيا والآخرة وهي من مصاديق [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ) .
وهل يرى البلاء هذا النور فينصرف عن المؤمن ، المختار نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
قوله تعالى [قِيَامًا وَقُعُودًا]
من معاني آية البحث قانون ملازمة الذكر الإطلاقي في الهيئة والحال ، فلا ينشغل المسلم عن ذكر الله أبداً ، وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين والمسلمات بتشريع الأذان في وقت كل صلاة ، فهو بذاته ذكر مستحب ومقدمة ودعوة إلى الذكر الواجب وهو الصلاة .
ومن معاني آية البحث تحلي المسلمين بالشكر لله عز وجل على القيام ، وكذا في القعود ، لبيان قانون وهو موضوعية العقل في إختيار حال القيام أو القعود .
وتأتي الصلاة ليكون القيام والركوع والسجود واجباً ، وهو بذاته من الذكر إلى جانب التلاوة عند القيام ، وقول (سبحان ربي العظيم وبحمده ) عند الركوع ، وقول (سبحان ربي الأعلى ) عند السجود .
وقد ورد لفظ [قِيَامًا وَقُعُودًا] مرتين في القرآن إحداهما في آية البحث والأخرى قوله تعالى [ فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( )، لبيان قانون تعقب الذكر المستحب للذكر الواجب ، وإتصاف المسلمين بذكر الله ما بين الصلاتين ، وفيه تأكيد لسلامتهم من الغفلة .
كما ورد لفظ [قِيَامًا] بحرص المسلمين على قيام الليل ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا]( ) لقد أمر الله عز وجل موسى وهارون بعدم الفتور في ذكره خاصة مع توجهما إلى فرعون لإنذاره وتذكره ، قال تعالى [وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي]( )ليرث المسلمون حال المواظبة بذكر الله ، وعدم الفتور فيها ، فلا تشغلهم هيئة القيام أو الجلوس عن الذكر ، بل جعلها الله كالسبب في تذكيرهم بوجوب الذكر .
وذكرت الآية القيام والقعود وعلى الجنب لإرادة عموم الحال ، كما في قوله تعالى [رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً]( ) لتأتي آية أخرى تؤكد العموم المكاني بقوله تعالى [قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
وهل من معاني الآية يجب الصلاة عن قيام ، فمن لم يستطع يصلي عن جلوس ، ومن لم يستطع يصلي مضطجعاً ، الجواب نعم.
(عن عمران بن حصين قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة الرجل وهو قاعد فقال : من صلى قائماً فهو أفضل ، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم ، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد) ( ).
وإذ تستوعب الآية حالات هيئة الإنسان فانها تشمل بالتبعية حاله من الحضر أو السفر ، والصحة والمرض ، والغنى والسفر .
و(عن ابن مسعود . أنه بلغه : أن قوماً يذكرون الله قياماً ، فأتاهم فقال : ما هذا؟!
قالوا : سمعنا الله يقول { فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم } فقال : إنما هذه إذا لم يستطع الرجل أن يصلي قائماً صلى قاعداً) ( ).
وموضوع الآية أعم من الصلاة ، والنسبة بينهما وبين الصلاة العموم والخصوص المطلق ، منه مثلا [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ]( )وقوله تعالى [فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا]( ) وقوله تعالى [فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
إذ تبين الآية أعلاه وجوب ذكر الله عز وجل بين الصلاتين ، وهي شاهد على أن الذكر عن قيام وقعود أعم من الصلاة .
بحث أصولي
هل تدل آية البحث على الملازمة بين إدراك العقل وحكم الشرع ، لأن أولي الألباب يجتهدون في طاعة الله ، فيؤدون الفرائض ، ويحرصون على ذكر الله عز وجل في كل حال ، الجواب نعم ، وتتجلى الملازمة في المقام بتبعية إدراك وقطع العقل لما حكم به الشرع ، فلا يدبّ الشك أو الريب إلى ذوي العقول في الحكم الشرعي الوارد في الكتاب والسنة النبوية .
وهل كل ما حكم به العقل يحكم به الشرع ، الجواب حكم الشرع واضح ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
فالعقل يدرك قانوناً وهو عدم التعارض بين أحكام الشريعة وبين إدراكه ، فحكم الشرع هو حكم للعقل بالتبعية .
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال (لما خلق الله العقل قال له أدبر فأدبر، ثم قال له أقبل فأقبل، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحسن منك، إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك اثيب وإياك اعاقب) ( ).
وليس من حصر لوجوه الثناء على المؤمنين في القرآن منطوقاً ومفهوماً ومنه آية البحث من وجوه :
الأول : نعت المؤمنين بأنهم أرباب العقول وأولي الألباب .
فإن قلت قد ورد هذا الوصف في خاتمة الآية السابقة، والجواب هذا صحيح إلا أنه وارد في آية البحث بالاسم الموصول(الذين) حيث إبتدأت الآية به والذي يأتي لربط الكلام ويفيد في المقام المؤمنين والمؤمنات.
وتقدير آية البحث: أولو الألباب يذكرون الله قياماً …) وفيه تحريض وندب للناس ليقوموا بذكر الله ، وطرد للغفلة عن المؤمنين والمؤمنات .
فمن فيوضات هذه الآية تعاهد المسلمين للذكر الكثير للحفاظ على الخصلة والوصف الحميد ، ورجاء الأجر والثواب ، ولإدراك العقل للحسن الذاتي للذكر .
الثاني : من خصال المؤمنين ذكر لله عز وجل على كل حال وإستحضار أسمائه الحسنى وتلاوة آيات القرآن، والنسبة بين الذِكر والتلاوة عموم وخصوص مطلق فكل تلاوة هي ذكر وليس العكس.
الثالث : ذكر الله عز وجل لحالات المؤمنين من القيام والقعود والإضطجاع، فمن فضل ولطف الله عز وجل أن يذكر أحوال المؤمنين وبما فيه الثناء عليهم، لأن هذا الذٍكر مقرون بقيامهم بالتسبيح والتهليل والحمد لله عز وجل .
الرابع : بيان قانون وهو من يثني على الله عز وجل يثني عليه سبحانه ، ومن يذكر الله يذكره بالرحمة ويخصه بالرزق والعافية ، ودفع البلاء ، قال تعالى[فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ]( ).
وهذه الآية من الآيات التي لم ترد كلماتها في القرآن إلا مرة واحدة في ذات الآية وهي (اذكروني) و(أذكركم) (اشكروا لي) (تكفرون) ، وقد ذكرت في تفسير الآية أعلاه ستة عشر وجهاً للذكر( ).
الخامس : الشهادة من الله عز وجل للمؤمنين بإقامتهم على الذكر والتسبيح ، ومن خصائص شهادة الله حضورها في الدنيا والآخرة ، وفي خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال الله[قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ]( ).
السادس : تسخير المؤمنين وقت الفراغ للتفكر ببديع خلق الله وقدرة الله المطلقة وإنتفاع الناس من بدائع الخلق .
السابع : بيان ثمرة عاجلة لذكر الله والتفكر ، وهذه الثمرة من جهات :
الأول : التوجه بالدعاء إلى الله عز وجل باسم (ربنا) مما يدل على أن التفكر في الخلق باستحضار قانون خلق الله للسموات والأرض .
الثاني : التسليم بأن الله عز وجل رب الناس والخلائق كلها ، وفي التنزيل [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ]( ).
الثالث : إدراك أولي الألباب بأن خلق الله عز وجل للسموات والأرض لعلة وغايات حميدة لايحيط بها إلا هو سبحانه ، وهو من الشواهد على أن المؤمنين أولو ألباب وأصحاب عقول راجحة لما في قولهم [مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً]( )، من أدب العبودية والإقرار بالعجز عن درك الحكمة من الخلق ، أو علل الأحكام والشرائع.
الرابع : تنزيه المؤمنين مجتمعين ومتفرقين لمقام الربوبية بقولهم (سبحانك) وما فيه من الدلالة عن تخلفهم عن الإحاطة بالمقاصد والغايات من خلق كل فرد من أفراد السموات والأرض .
ويدل قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) على تخلف العقل عن ملاك الحكم الشرعي ، وبدائع صنع الله .
الخامس : إنتقال المؤمنين إلى الإستجارة بالله من النار لبيان إدراك قانون وهو من علل الخلق إقامة الحجة على الناس يوم القيامة عند الوقوف بين يديه للحساب .
قال تعالى [وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ]( )، ومن بديع صنع الله جعل العباد عاجزين عن إدراك أسرار وسعة الكون .
فقوله تعالى [وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( )، منبسط على كل الأزمنة والأجيال المتعاقبة حتى مع ظهور الإكتشافات العلمية والصعود إلى السماء والوصول إلى كواكب بعيدة في السماء بل لا تزيد هذه الإكتشافات الناس إلى إندهاشاً وحيرة وخشوعاً لله عز وجل ، وتسليماً بأنه خالق الأكوان كلها وهو الذي يظهر على علماء الفيزياء والذرة واجزائها والرياضيات والفضاء عند دراسة المكتشَف والذي يتجلى من السماء والكواكب والأجرام .
وهل يؤدي التفكر بخلق السماوات والأرض إلى استحضار يوم القيامة ، الجواب نعم ، وهو الذي أخبرت عند خاتمة آية البحث بلجوء أولي الألباب إلى الله عز وجل للنجاة من لهيب وشدة حر نار جهنم ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ] ( ) وفيه ذم وتعريض بالمنافقين .
النفاق هو إظهار الإسلام ، وإخفاء الكفر ، ولم يكن النفاق معروفاً قبل الهجرة ، ولكنه ظهر بعد الهجرة وبعد النصر العظيم في معركة بدر ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) ثم جاءت معركة أحد ، وصحيح أن خسارة لحقت المسلمين فيها وسقط سبعون شهيداً من الصحابة إلا أنهم لم ينهزموا في المعركة، ولم يخسروها .
ولم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم موضعه في الميدان ، وقد تجلى النفاق يوم معركة أحد بانسحاب ثلاثمائة من جيش المسلمين من وسط الطريق إلى المعركة بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول مما يدل على أن الأخلاق المذمومة للمنافقين غير خفية ، منه النفاق العقائدي ، ومنه النفاق العملي ، وكان لإنسحاب جيش المشركين في نفس يوم معركة أحد عز ومنعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وبعث للخوف في قلوب المنافقين والمشركين .
و(عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أربع من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً .
ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدّث كذب .
وإذا وعد أخلف .
وإذا عاهد غدر .
وإذا خصم فجر) ( ).
وهل تطرد آية البحث النفاق ، الجواب نعم ، وهو من الإعجاز الغيري لها ، لما فيها من جذب الناس إلى مقامات الهدى والإيمان ، والتنزه عن الكفر ظاهراً وباطناً .
قوله تعالى [وَعَلَى جُنُوبِهِمْ]
من خصائص الآية القرآنية أمور :
الأول : قانون بقاء الآية غضة طرية إلى يوم القيامة .
الثاني : قانون سلامة الآية القرآنية من التحريف والزيادة والنقصان .
الثالث : قانون سهولة حفظ الآية القرآنية .
الرابع : قرب الآية القرآنية من الأفهام .
الخامس : أثر ونفع قراءة أو إستماع الآية القرآنية ، وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة آيات وسور من القرآن في الصلاة اليومية .
وتبعث آية البحث المسلم إلى الإنقطاع إلى ذكر الله ، ورجاء رفده وإحسانه ، ويغلق هذا الإنقطاع سبل إيذاء الغير ، ويمنع من القيام بالظلم للذات أو الناس .
وسيأتي قانون آية [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ]زاجر عن الإرهاب في أجزاء (التضاد بين القرآن والإرهاب ).
وأداء الصلاة وسيلة ونوع طريق للمغفرة (وأخرج ابن حبان عن واثلة بن الأسقع قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه علي .
فأعرض عنه ، ثم أقيمت الصلاة ، فلما سلم قال : يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه علي .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل توضأت ثم أقبلت؟
قال : نعم .
قال : وصليت معنا؟
قال : نعم . قال : فاذهب فإن الله قد غفر لك) ( ).
وعن (أنس بن مالك : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار عذب غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات فماذا يبقين من درنه؟ قال : ودرنه إثمه)( ).
إن الله عز وجل غني عن العالمين ، وقد نزلت آية البحث لما فيه نفع المسلمين والناس جميعاً ، وتقدير الآية : اذكروا الله قياما وقعوداً وعلى جنوبكم لتفوزوا بالنعيم.
ومن منافع آية البحث أنها مادة وعنوان لوحدة المسلمين ، ومنع الخصومة والإختلاف بينهم ، لإعطائهم الأولوية للذكر والتسبيح ، وإجتماعهم والتقائهم فيه ، وإذا ما ظهرت علامات على الفرقة والخلاف تفكروا في خلق السموات والأرض ، وصاروا يخشون من سوء العاقبة .
ويلتقي المسلمون بالحرص على أداء الصلوات في أوقاتها ، وفيه سكينة لهم ، وحل الخصومات بلطف ، ومعاني الأخوة مع منع طغيان النفس الغضبية أو السخط ، قال تعالى [إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا*إِلاَّ الْمُصَلِّينَ] ( ).
و(عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ، ثم ليقل : اللهم باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك ارفعه ، إن أمسكت نفسي فارحمها ، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به الصالحين من عبادك)( ).
(عن أنس بن مالك قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فقال : من يكلؤنا الليلة؟
فقلت : أنا .
فنام ، ونام الناس ، ونمت ، فلم نستيقظ إلا بحرِّ الشمس .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أيها الناس إن هذه الأرواح عارية في أجساد العباد ، فيقبضها إذا شاء ، ويرسلها إذا شاء .
وأخرج الطبراني عن أبي أمامة قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس ، فأقام الصلاة ثم صلى بهم .
ثم قال : إذا رقد أحدكم فغلبته عيناه فليفعل هكذا . . فإن الله سبحانه وتعالى { يتوفي الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها})( ).
(عن عرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد وقال إن فيهن آية أفضل من ألف آية .
وأخرج ابن الضريس عن يحيى بن أبي كثير قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ المسبحات ، وكان يقول : إن فيهن آية هي أفضل من ألف آية ، قال يحيى : فنراها الآية التي في آخر الحشر) ( ).
والمسبحات هي السور التي تبدأ بالتسبيح بعد البسملة وهي :
الأولى : سورة الحديد وتبدأ بقوله تعالى [سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
الثانية : سورة الحشر وتبدأ بقوله تعالى [سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
الثالثة : سورة الصف وتبدأ بقوله تعالى [سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
الرابعة : سورة الجمعة وتبدأ بقوله تعالى [يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ]( ).
الخامسة : سورة التغابن وتبدأ بقوله تعالى [يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
من مفاهيم آية البحث بيان فضل الله عز وجل على الناس في أحوالهم المختلفة , وتعدد الهيئات التي يكون عليها الإنسان ومنها :
الأول : القيام .
الثاني : القعود .
الثالث : المشي .
الرابع : الإستلقاء في اليقظة مقدمة للنوم .
الخامس : الإستلقاء مطلقاً للراحة والإستراحة بفضل ولطف من الله عز وجل .
السادس : الهرولة والركض .
السابع : التباين في مراتب المشي سرعة وإبطاءَ .
الثامن : الركوب والتنقل بالراحلة وغيرها , قال تعالى [وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن نعم الله عز وجل فوز كل إنسان بهذه الكيفيات المختلفة من غير تقييد بالإيمان وبما ذكرته الآية من ذكره تعالى والتفكر في مخلوقاته لبيان أن إتيان الأفعال الحميدة التي ذكرتها آية البحث تجلب النعم الإضافية للإنسان ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ) .
وهل ذكر الله عز وجل عن قيام شكر لله عز وجل على حال القيام , وكذا بالنسبة للقعود .
الجواب نعم , وتدل الآية على السلامة والعافية والأهلية للذكر من غير آلام وأوجاع في الجملة , وهل الزيادة المذكورة في الآية أعلاه خاصة بالشكر القولي كقول الشكر لله عز وجل وقول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) .
الجواب لا , فذكر الله عز وجل الوارد في آية البحث من الشكر القولي والفعلي لله سبحانه , ويفتح آفاق وأسباب النعم على الفرد والجماعة .
علم المناسبة
ورد لفظ جنوبهم في آية البحث كما ورد في الثناء على المؤمنين بالتنزيل قال تعالى [تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]( ) .
لبيان أن موضوع مدح وثناء الآية للذين يذكرون الله عز وجل لعزوفهم عن كثرة النوم , وإذا ما حلّ الليل ومالت النفس وأركان البدن إلى الإستلقاء اجتهدوا بذكر الله عز وجل , فمنهم من يقوم إلى الصلاة , ومنهم من يواظب على الذكر يصارع السِنة والنوم بالذكر , ويحرص على توديع اليوم والعمل بالذكر , وهل فيه خشية من الموت على غير ذكر .
الجواب نعم قال تعالى [اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في قيام الليل وكان يدعو المسلمين إلى تعاهد صلاة الليل .
(عن معاذ بن جبل قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك ، فأصاب الناس ريح فتقطعوا ، فضربت ببصري فإذا أنا أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقلت : لأغتنمن خلوته اليوم ، فدنوت منه .
فقلت : يا رسول الله أخبرني بعمل يقربني – أو قال – يدخلني الجنة ، ويباعدني من النار؟
قال : لقد سألت عن عظيم ، وأنه ليسير على من يسره الله عليه ، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤتي الزكاة المفروضة ، وتحج البيت ، وتصوم رمضان ، وإن شئت أنبأتك بأبواب الخير . قلت : أجل يا رسول الله .
قال : الصوم جنة ، والصدقة تكفر الخطيئة ، وقيام العبد في جوف الليل يبتغي به وجه الله ، ثم قرأ الآية { تتجافى جنوبهم عن المضاجع }( ).
ثم قال : إن شئت أنبأتك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه . قلت أجل يا رسول الله .
قال : أما رأس الأمر فالإسلام ، وأما عموده فالصلاة ، وأما ذروة سنامه فالجهاد ، وإن شئت أنبأتك بأملك الناس من ذلك كله . قلت : ما هو يا رسول الله؟
فأشار بإصبعه إلى فيك . فقلت : وإنا لَنُؤَاخَذَ بكل ما نتكلم به؟!
فقال : ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يُكِبُّ الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم ، وهل تتكلم إلا ما عليك أو لك؟)( ).
والنسبة بين ذكر الجنوب في الآية أعلاه وبين آية البحث العموم والخصوص المطلق , إذ أن موضوع آية البحث أعم , ولا يختص بصلاة الليل والقيام والركوع والسجود في الليل ونافلته , إنما يشمل التسبيح والذكر وتلاوة القرآن عند وضع الرأس على الوسادة ، وقد وردت نصوص متعددة فيه ، و(عن عبد الله بن حبيب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له : اقرأ { قل هو الله أحد } والمعوّذتين حين تصبح وحين تمسي ثلاثاً يكفيك من كل شيء) ( ) .
ذكر الله في الأحوال المتعددة
تقدير الآية على وجوه :
الأول : المؤمنون والمؤمنات هم أولو الألباب .
الثاني : نجاة وفوز أولي الألباب الذين اتخذوا العقل وسيلة للتوبة إلى الله عز وجل.
الثالث : المؤمنون يذكرون الله عز وجل في حال القيام وغيره .
الرابع : وجوب أداء الصلاة عن قيام , وهو شاهد على عدم التراخي في العبادة , وقال تعالى في ذم المنافقين [وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى] ( ).
الخامس : المؤمنون لا يغفلون عن ذكر الله عز وجل عندما يكونون في حال قعود .
السادس : يحب الله عز وجل الذين يذكرونه وهم قيام وقعود وعلى جنوبهم .
السابع : تحقق مصداق لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) بذكر المؤمنين لله عز وجل عن قيام وقعود وكذا وهم في حال الإضطجاع .
الثامن : المسلمون أمة يؤدي كل واحد منهم الصلاة على كل حال , قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ).
التاسع : وجوب ذكر الله عز وجل , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا]( ).
العاشر : استدامة الحياة الدنيا بذكر الله عز وجل عن قيام وقعود وإضطجاع .
الحادي عشر : تفقه المسلمين في الدين , ومعرفتهم للحاجة إلى ذكر الله عز وجل .
الثاني عشر : النفع العظيم بذكر الله عز وجل .
الثالث عشر : مجئ الرزق الكريم مع ذكر الله عز وجل .
الرابع عشر : صرف البلاء بذكر الله عز وجل على كل حال .
الخامس عشر : الذين يذكرون الله عز وجل قياماَ وقعوداَ وعلى جنوبهم برحمة ولطف من عند الله عز وجل , وفي التنزيل [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ]( ) .
السادس عشر : ذم الذين كفروا لإمتناعهم عن ذكر الله عز وجل في كل ساعة .
السابع عشر : الوقاية من نزغ الشيطان بذكر الله عز وجل .
(عن أنس : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن للوسواس خطماً كخطم الطائر فإذا غفل ابن آدم وضع ذلك المنقار في أذن القلب يوسوس ، فإن ابن آدم ذكر الله نكص وخنس فلذلك سمي { الوسواس الخناس }( ))( ).
(عن عائشة : أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ما من ساعة تمر بابن آدم لم يذكر الله فيها بخير إلا تحسر عليها يوم القيامة) ( ).
الثامن عشر : المؤمن يذكر الله عز وجل في كل آن .
التاسع عشر : بيان المائز بين المؤمنين والكفار بذكر الله عز وجل , فكل فرد من المؤمنين يجتهد بذكر الله ولا يغفل عنه .
العشرون : المؤمنون الذي يستمعون الذكر فتخشع قلوبهم , قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] ( ).
الواحد والعشرون : تخلف المنافقين عن ذكر الله عز وجل على كل حال.
الثاني والعشرون : طرد الشرك بذكر الله عز وجل على كل حال .
وقيل نزلت [وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ] ( ).
وهو يوم قرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المشركين (والنجم)عند باب الكعبة( ).
الثالث والعشرون : الذين يذكرون الله قياماَ وقعوداَ وعلى جنوبهم , ويذكرون معه رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنه قول الأذان , ومن قول : (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداَ رسول الله) .
الرابع والعشرون : الذين يذكرون الله عز وجل قياماَ وقعوداَ وعلى جنوبهم بتلاوة آيات القرآن .
الخامس والعشرون : المؤمنون الذين يستمعون إلى ذكر الله عز وجل فيزيدهم إيماناَ , قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] ( ).
السادس والعشرون : ذكر الله عز وجل واقية في البرزخ , ونجاة من عذاب القبر .
و (عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما عمل آدمي عملاً قط أنجى له من عذاب القبر من ذكر الله.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا أخبركم بخير أعمالكم ، وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من تعاطي الذهب والفضة ، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟
قالوا : بلى يا رسول الله .
قال : ذكر الله) ( ).
السابع والعشرون : من خصال المؤمنين ألسنتهم رطبة بذكر الله عز وجل , وقد وردت نصوص نبوية عديدة تتضمن بيان النفع العظيم للذكر المتصل .
وهل يصح تقدير الآية الذين يستمعون الذكر قياماَ وقعوداَ وعلى جنوبهم , الجواب نعم إلا أن الذكر هو المقدم , وهو قول وفعل وجهاد في سبيل الله , فلا ينتظر المؤمن سماع غيره يقرأ القرآن ويذكر الله عز وجل وهو من أسرار الوجوب العيني للصلوات اليومية الخمس على كل مسلم ومسلمة , نعم إذا سمع الذكر فإنه ينصت له ويتدبر في معانيه , قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الثامن والعشرون : أولو الألباب الذين يقيمون الصلاة ويتعاهدون ذكر الله عز وجل في الحضر والسفر .
وقال الإمام علي عليه السلام في وصيته لإبنه محمد بن علي : (واعلم أن مروة المرء المسلم مروتان : مروة في حضر، ومروة في سفر، أما مروة الحضر فقراءة القرآن ، ومجالسة العلماء ، والنظر في الفقه، والمحافظة على الصلاة في الجماعات.
وأما مروة السفر فبذل الزاد، وقلة الخلاف على من صحبك، وكثرة ذكر الله
عزوجل في كل مصعد ومهبط ونزول وقيام وقعود) ( ).
التاسع والعشرون : المؤمنون يذكرون الله عز وجل لا عن رياء ولا عن سمعة .
الثلاثون : الذين يذكرون الله عز وجل قياماَ وقعوداَ وعلى جنوبهم فلا تقع بينهم الخصومات والفتن , قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
عن الإمام الصادق عليه السلام (قال : إياكم والخصومة في الدين فإنها تشغل القلب عن ذكر الله عز وجل ، وتورث النفاق ، وتكسب الضغائن ، وتستجير الكذب)( ).
الواحد والثلاثون : ذكر الله عز وجل داخل البيت سعادة للأسرة وصلاح لأفرادها , ومنع للخلافات بينهم , وهل البر بالوالدين من ذكر الله عز وجل , الجواب إذا كان بقصد طاعة الله وطلب مرضاته , والفوز بالثواب فالجواب نعم , قال تعالى [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا] ( ).
قوله تعالى [وَيَتَفَكَّرُونَ]
لقد تقدم تقسيم حرف العطف (الواو) في الآية إلى قسمين :
الأول : العطف الخاص .
الثاني : العطف العام ، بعطف التفكر على الذكر ، ليحتمل حال التفكروجوهاً :
الأول : حال التفكر غير حال الذكر ، فعندما ينقطع الذكر يكون التفكر.
الثاني : إقتران التفكر بالذكر .
الثالث : تقديم الذكر لظهوره وبيانه ، وعند التوقف عن الذكر يكون التفكر .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، إذ يتداخل الذكر والتفكر ، وهو لا يمنع من سعي المؤمنين في الكسب للمعيشة وطلب الرزق ، وبذل الوسع في الزراعة والصناعة والتجارة ، إنما يكون الذكر حصانة وحرزاً في الطلب الحلال ، والزهد والقناعة والبركة والنماء .
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بين قوم كفار يجحدون بالربوبية ، ويعبدون الأوثان ، ويفكرون بعالم الحساب والجزاء الذي هو حق وصدق .
ومن خصائص وجوب التسليم به الزجر عن فعل السيئات ، وعن الإفتراء على الله ، والقول غير الحق بأمور الدين والدنيا مما يلزم الإلتفات إلى خلق السموات والأرض والحكمة منه ، وعلله ودلالالته ، وما يترشح عنه ، ويحب الله أن يثنى عليه بهذا الخلق العظيم ، ويظهر الإنسان عجزه عن إدراك كنهه ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ] ( ) .
ومن معاني الجمع بين الآيتين الفوز بالأجر العظيم بالتسليم بخلق الله عز وجل للسموات والأرض ، وأنه خلق لحكمة وآية تدل على ربوبيته المطلقة ، لذا هدى الله عز وجل المسلمين والمسلمات إليه ، وهل هذا الأجر خاص بعالم الآخرة أم يشمل الدنيا ، الجواب هو الثاني ، لذا ذكرت الآية نداء التقديس [سبحانك] .
وذكرت الآية الفرد الأهم وهو عالم الآخرة والنجاة فيها من دخول النار ، ويتعبد المؤمنون في كل زمان بالدعاء للسلامة من النار ، وفيه شاهد على استحضارهم في الوجود الذهني لها ، لشدة لهيبها ، وأسباب دخولها .
ليكون هذا الإستحضار سبباً للصلاح والهداية والرشاد ، لذا يتضمن مفهوم الآية الوعيد للذين كفروا بعذاب النار وبالمعاد مطلقاً.
وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى السماء والنجوم فقال : أشهد أن لك رباً وخالقاً : اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له) ( ).
وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لا عبادة كالتفكر ، لما فيها بالذات من الذكر والتسليم بالربوبية لله عز وجل ، ولأنها مقدمة لأداء الفرائض العبادية ، وواقية من الشك والريب ومفاهيم الضلالة .
وفي حديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (أول ما خلق الله نوري) ( ).

هل المشركون مكلفون بالفروع
[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
والمراد من المشركين في المقام خصوص الكفار بالله والنبوة فلا يشمل أهل الكتاب لايمانهم بالله والنبوة والمعاد.
لقد أخبر الله عز وجل الناس والخلائق كلها بغناه عنهم , وأنه سبحانه غير محتاج , إذ أن الحاجة ملازمة لعالم الإمكان ، وواجب الوجود قائم بذاته مستقلاَ بنفسه منزه عن الخلق والإيجاد , بخلاف الممكن الذي يتقوم بغيره , إذ أن الكيفيات ثلاث :
الأول : الوجوب وينفرد به الباري عز وجل .
الثاني : الإمكان وهو عالم الخلائق ومنها الإنسان , فهو ممكن العدم ولو لم يكن ممكن العدم لكان ضرورياَ .
الثالث : ممتنع الوجود , ومنه شريك الباري , للبرهان بتوحيد الله عز وجل .
والتوحيد أصل الأصول وبه تتقوم الحياة الدنيا وعالم الآخرة .
لقد بعث الله عز وجل مائة وأربعة وعشرين ألف نبي , كل واحد منهم يدعو إلى التوحيد , ويجاهد من أجل تثبيته في الأرض , ومن اللطف الإلهي أن آدم عليه السلام كان أول الأنبياء لبيان قانون من جهات :
الأولى : إبتداء الحياة الدنيا بشخص نبي أقام وزوجه في الجنة برهة من الوقت , قال تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى]( ).
الثانية : كثرة عدد الأنبياء .
الثالثة : من الأنبياء من كان (رسولاَ نبياَ) وتكرر هذا العنوان التشريفي مرتين في القرآن وفي سورة واحدة هي سورة مريم , قال تعالى [وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا * وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا]( ).
وقد تقدم في الجزء الرابع والثلاثين بعد المائتين من هذا السِفر بأن أصول الدين التي أجمع عليها المسلمون هي :
الأول : التوحيد .
الثاني : النبوة .
الثالث : المعاد( ).
وتكون خمسة باضافة العدل والإمامة ، ولكن العدل فرع التوحيد وكونه مائزاً بين العدلية والأشاعرة ليس علة تامة لجعله أصلاً في المقام ، خاصة وأن تقسيم علوم الشريعة إلى أصول وفروع لا أصل له في الكتاب والسنة ، إنما هو علم مستقرأ صحيح , وإجمال المسلمين , وكذا الملبين بأن الله عز وجل عادل ويأمر بالعدل.
ومنهم من جعل الأصول اثنين هما :
الأول : التوحيد .
الثاني : النبوة ، لسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقبول الشهادتين ، وأن الذي يؤمن بالله ويصدق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يؤدي الفرائض والعبادات .
وقيل العدل والإمامة من أصول المذهب ، ولا يُخرجان الإنسان عن الإسلام سواء من لم يقل بهما أو الذي عدّها من الأصول أو لا.
وبأصل التوحيد يخرج المشركون ، إذ يلتقي المسلمون وأهل الكتاب بالتوحيد وبأصل النبوة يظهر الفرق بين المسلمين وأهل الكتاب من جهة ، وبين المشركين .
إذ يقر اليهود برسالة موسى عليه السلام ، ويقّر النصارى برسالة عيسى عليه السلام ، ويتجلى أيضاً الفرق بين المسلمين وأهل الكتاب ، إذ يؤمن المسلمون بنبوة كل الأنبياء والرسل ، قال تعالى [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] ( ).
و(استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودي في قسم يقسمه: لا والذي اصطفى موسى على العالمين. فرفع المسلم يده فلطم بها وجه اليهودي فقال: أي خبيث وعلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فجاء اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاشتكى على المسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “لا تفضلوني على الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشا بقائمة العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور.
فلا تفضلوني على الأنبياء ، وفي رواية : لا تفضلوا بين الأنبياء)( ).
الأصول هي :
الأول : التوحيد وهو معرفة الله وأنه خالق كل شئ ومدبر الأكوان ، وأنه أزلي وأبدي ، ووجوده لذاته والتصديق بصفات الله الثبوتية كالقدرة والعلم والحياة ، وتنزيهه عما لا يليق بشأنه.
وقد جعل العدل أصلاً مستقلا ، وهو أن الله عادل حكيم ، لا يفعل إلا ما هو حكمة وخير محض ، ولا يرضى بالأفعال القبيحة التي تصدر من البشر.
وأن الإنسان يقوم بالفعل عن قوة واختيار جعلهما الله عنده ، ليكون مسؤولاً عن أعماله ، لأن الدنيا دار إمتحان وإختبار وإبتلاء , قال تعالى [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ]( ) ولا يستلزم تخصيص العدل كأصل من أصول الدين إنما هو من صفات الله وفرع التوحيد .
ولا أصل للجمع بين الشيعة المعتزلة بالعدلية في مقابل الأشاعرة ولا موضوعية للخلاف حول الحسن والقبح العقليين في المقام الذي قال به المعتزلة وقال الأشاعرة بالتحسين والتقبيح الشرعي وحده ولا حكم للعقل .
وهذا الخلاف ليس سبباَ لجمع الشيعة أنفسهم مع المعتزلة ولا يصح الأخذ في المقام ببعض النصوص وترك أخرى .
الثاني : النبوة والمراد التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين وأن القرآن كلام الله ، ولم يأت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بالوحي ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى]( ).
وهل يلزم التصديق بعصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه خاتم الأنبياء ، الجواب نعم .
الثالث : الإمامة وهي التصديق بامامة الأئمة ، وعدّ من ضروريات المذهب ، والأئمة معصومون وهم مسؤولون عن حفظ الشريعة ، وبيان أحكام الحلال والحرام وتلزم طاعتهم.
وقد تقدم أن اجماع المسلمين على أن الأصول ثلاثة وهي التوحيد والنبوة والمعاد .
الرابع : المعاد ، وهو الإعتقاد بالبعث وأن الناس يخرجون من القبور ويحشرون يوم القيامة للحساب ، وهذا الحشر جسماني ، وهو الأصل عند إطلاق لفظ المعاد , قال تعالى [وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ] ( ).
وذكر المعاد واليوم الآخر في مئات من آيات القرآن وورد في أحاديث كثيرة في السنة النبوية , وقد تقدم ذكر أسماء يوم القيامة في باب هل غير المسلمين مكلفون بالفروع( ).
ولا تقليد بالأصول ، وهناك قول شاذ وهو أن العلم بالعقائد يقع اضطراراً فلا تكليف به ، ولا أصل لهذا القول إذ جعل الله عز وجل الإنسان مخيراً في دار الإمتحان والإبتلاء والإختبار ، وقربه الله بلطفه إلى منازل الهداية.
ومن وسائل التقريب الآيات الكونية التي تذكرها آية البحث [َيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( )، والتي تواجه الإنسان ذكراً أو انثى ، مؤمناً أو كافراً كل يوم في مشارق الأرض ومغاربها لتدعوه مجتمعة ومتفرقة إلى الإيمان ، والإقرار بأصول الدين ، وإتيان الفروع ليجتهد العلماء في التحقيق في مسألة هل المشركون مكلفون بالفروع أم لا.
ولابد من الإيمان بالأصول واقرارهم بأن الله أنزل الكتب السماوية ليدركوا أنهم مكلفون بالفروع.
ومن معاني ودلالات البحث اختصاص أهل الكتاب بمعاملة خاصة تختلف وتتباين عن معاملة الكفار.
روى أبو العباس أحمد بن عبيد الله بن عمار الثقفي عن محمد بن سليمان بن حبيب المصيصي المعروف بنوين و روي أيضا عن علي بن محمد النوفلي عن مشيخته أن عليا عليه السلام مر بقوم و هم يأكلون في شهر رمضان نهارا فقال أ سفر أم مرضى .
قالوا : لا و لا واحدة منهما .
قال : فمن أهل الكتاب أنتم فتعصمكم الذمة و الجزية قالوا لا قال فما بال الأكل في نهار رمضان (وفيه دلالة بجواز أكل وشرب الكتابي علانية في شهر رمضان).
فقاموا إليه فقالوا أنت أنت يؤمون( ) إلى ربوبيته فنزل عليه السلام عن فرسه فألصق خده بالأرض و قال ويلكم إنما أنا عبد من عبيد الله فاتقوا الله وارجعوا إلى الإسلام فأبوا فدعاهم مرارا فأقاموا على كفرهم فنهض إليهم.
وقال شدوهم وثاقا و علي بالفعلة و النار و الحطب ثم أمر بحفر بئرين فحفرتا إحداهما سربا و الأخرى مكشوفة و ألقى الحطب في المكشوفة و فتح بينهما فتحا و ألقى النار في الحطب فدخن عليهم و جعل يهتف بهم و يناشدهم ليرجعوا إلى الإسلام فأبوا فأمر بالحطب و النار فألقى عليهم فأحرقوا فقال الشاعر :
لترم بي المنية حيث شاءت
إذا لم ترمني في الحفرتين
إذا ما حشتا حطبا بنار
فذاك الموت نقدا غير دين( ).
وعن الأصبغ بن نباته (قال: لما بويع أمير المؤمنين عليه السلام بالخلافة خرج إلى المسجد معتما بعمامة رسول الله صلى الله عليه واله لابسا برديه.
فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وأنذر، ثم جلس متمكنا وشبك بين أصابعه ووضعهما أسفل سرته، ثم قال: يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني .
سلوني فإن عندي علم الأولين والآخرين، أما والله لوثني لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الانجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، حتى ينهي كل كتاب من هذه الكتب ويقول: يا رب إن عليا قضى بقضائك، والله إني لاعلم بالقرآن وتأويله من كل مدع علمه، ولولا آية في كتاب الله تعالى لاخبرتكم بما يكون إلى يوم القيامة.
ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو سألتموني عن أية آية لاخبرتكم بوقت نزولها وفيم نزلت، وأنبأتكم بناسخها من منسوخها وخاصها من عامها، ومحكمها من متشابهها، ومكيها من مدنيها، والله ما من فئة تضل أو تهدي إلا وأنا أعرف قائدها وسائقها وناعقها إلى يوم القيامة)( ).
و(عن عمرو بن شمر، عن جابر قال: دخل رجل على أبي جعفر الباقر عليهما السلام فقال له: عافاك الله اقبض مني هذه الخمسمائة درهم، فانها زكاة مالي، فقال له أبو جعفر عليه السلام: خذها أنت فضعها في جيرانك من أهل الاسلام والمساكين من إخوانك المسلمين ثم قال: إذا قام قائم أهل البيت قسم بالسوية وعدل في الرعية، فمن أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله.
وإنما سمي المهدي لانه يهدي إلى أمر خفي. ويستخرج التوراة وسائر كتب الله عز وجل من غار بأنطاكية ويحكم بين أهل التوراة بالتوراة وبين أهل الانجيل بالانجيل، وبين أهل الزبور بالزبور وبين أهل القرآن بالقرآن، ويجمع إليه أموال الدنيا من بطن الارض وظهرها.
فيقول للناس: تعالوا إلى ما قطعتم فيه الارحام، وسفكتم فيه الدماء الحرام وركبتم فيه ما حرم الله عزوجل، فيعطي شيئا لم يعطه أحد كان قبله، ويملا الارض عدلا وقسطا ونورا كما ملئت ظلما وجورا وشرا) ( ).
وعمرو بن شمر ضعيف ، وقال بضعفه النجاشي ، وابن الغضائري ، ولو تنزلنا عن ضعف الرواية فمن معانيها أن الإمام المهدي عليه السلام لا يُكره اليهود والنصارى على دخول الإسلام .
ويروي عمرو بن شمر قال : سألت جابر بن يزيد النخعي : ولم سمي الباقر باقراً ، قال : لأنه بقر العلم بقرأ أي شقه شقاً ، وأخرج العلوم.
لذا استحدثت العنوان فالمتعارف هو : هل الكفار مكلفون بالفروع أو بفروع الشريعة ، واخترت له عنواناً آخر هو : هل المشركون مكلفون بالفروع.
ليخرج أهل الكتاب بالتخصيص من الموضوع , إذ أنهم آمنوا بالله والنبوة والمعاد , ولا ينقضه كون الرخصة بالذمة فقد قال تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
وورد أن أحكام التوراة موافقة لأحكام الإسلام ، قال تعالى [وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ] ( ).
ولابد من الفصل والتمييز في المقام بين أهل الكتاب وبين المشركين فلا يشمل هذا المبحث أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، إنما يخص الكفار المشركين بالله عز وجل والذين لايؤمنون بالمعاد.
عن معاذ بن جبل قال كنت رديف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال ما تدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله قلت الله ورسوله أعلم قال حق الله على العباد أن لا يشركوا به شيئا وأن حق العباد على الله أن لا يعذب من فعل ذلك منهم قلت يا رسول الله أفلا أبشر الناس قال دعهم لا يتكلموا من سأل وهو قائم عالماً جالساً( ).
وفي رواية (فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَفَلاَ أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ قَالَ : لاَ تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا)( ).
وفروع الدين هي :
الأول : الصلاة ، قال تعالى [وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ]( ).
وتجمع هذه الآية بين الأصل والفرع , ولزوم الإقرار بالأصل والعمل بالفرع , لأن المعاد أصل والصلاة فرع .
الثاني : الصيام ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
الثالث : الزكاة قال تعالى ،[ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ]( ).
الرابع : الخمس ، قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ..]( ).
الخامس : الحج ، ويدل قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )، على تكليف أهل الكتاب والمشركين بالحج .
السادس : الجهاد الدفاعي , قال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
السابع : الأمر بالمعروف ، وهناك آيات عديدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الثامن : النهي عن المنكر .
التاسع : التولي لأولياء الله .
العاشر : التبرئ من أعداء الله .
أما القائلون بعدم تكليفهم بالفروع فاستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل عندما بعثه إلى اليمن ، قال (فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فإن هم أطاعوا لذلك فاعلمهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوا لذلك فاعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) ( ).
أي أن النبي أمر معاذاً أن يدعوهم إلى الإيمان أولاً فاذا أجابوه أمرهم بالفروع .
ورد هذا الإستدلال بأنه لا فائدة من الصلاة مع الكفر ، وجاء الحديث لتقديم الأهم والأولى والأصل الذي تبتنى عليه الفروع وهو التوحيد ، ثم أن هذا المبحث الأصولي الإبتلائي العام لا ينحصر الإستدلال عليه بخبر شخصي واحد ، فلابد من الرجوع إلى آيات القرآن والأحاديث الأخرى .
قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( )، وتدل هذه الآية على أن الناس جميعاً مخاطبون بأصول الدين والعقيدة ، وأداء الفرائض العبادية بحسب شريعة رسول الزمان ، ونزل الخطاب في الآية أعلاه أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : بعثت إلى الناس كافة .
والأصل بأن المسلم والكتابي والكافر متساوون في الأحكام الجنائية ، قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) فيقام الحد عند الجناية ، ويقع الضمان مع تحقق أسبابه وشروطه ، وكذا بالنسبة للمعاملات والتجارات والمكاسب ، وعند الخصومة ، وقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحكم بين المسلمين واليهود وعامة أهل المدينة .
وتدل عليه آيات منها لفظ الناس وإرادة العموم في قوله تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا] ( ) لبيان أن القرآن جامع للأحكام الشرعية ، وحتى الخصومات وفك النزاع ومنع الفتنة .
التفسير بالتقدير
وفيه وجوه :
الأول : أولو الألباب يسخرون عقولهم للتفكير ببدائع صنع الله عز وجل .
الثاني : قانون الآيات الكونية تجذب أولي الألباب , لبيان أن ذات السموات والأرض تجعل الناس يفكرون في نشأتها وأسرارها.
فذات آيات السموات والأرض تدعو الناس للتدبر في عظمتها , وينتفع أولو الألباب من هذه الدعوة ، ويتخذونها طريقاَ للتوبة والهداية .
الثالث : يحب الله عز وجل الذين يتفكرون في الخلائق ويقرون بأنها من صنع الله عز وجل .
الرابع : أولو الألباب يسخرون عقولهم في ذكر الله عز وجل ، وهو من الشكر له سبحانه .
الخامس : الناس محتاجون للتفكر في خلق السموات والأرض .
السادس : ليس في التفكر في الخلق إلا الخير .
السابع : الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض تنزل عليهم البركات , وتخرج الأرض كنوزها .
الثامن : أولو الألباب الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض .
التاسع : بديع صنع السموات والأرض تملي على أولي الألباب التفكر في أسرارها ومعالمها وذخائرها وعظيم قدرة الله عز وجل في خلقها .
العاشر : الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض يحبهم الله عز وجل مادام تفكرهم عن تسليم بأن الله عز وجل هو الخالق المدبر لها .
ويتجلى هذا التسليم بعطف التفكر على الذكر لإفادة إجتماع الخصلتين معاَ .
فهذا التفكر عن إيمان وإقرار بربوبية الله عز وجل المطلقة .
وإذا كان ذكر المؤمنين لله عز وجل مجتمعين ومتفرقين فهل التفكر بالخلائق كذلك أم أنه يتم على نحو القضية الشخصية المختار هو الجامع بينهما لأن التفكر إعمال العقل فإذا صار حديث الجماعة فهو الذكر , ليكون طريقاً للذكر , وكذا العكس فالذكر سبيل للتفكر ، وإخبار الآية عن التفكر في الخلق شاهد على أن الله عز وجل يعلم السرائر .
التفكر القويم
ومن خصائص التفكر السليم وتوظيف العقل في مسالك العبودية طرد للغفلة ،وفيه سياحة في عالم الملكوت ، ووقاية من الجهالة، وهل فيه إصلاح للذات في أمور الدنيا ، الجواب نعم ، فمن منافع التفكر في خلق السموات والأرض في المقام أمور :
الأول : حسن الإختيار .
الثاني : التأني والتحلي بالصبر .
الثالث : إتباع منهاج الحكمة في المعاملات .
الرابع : الخشية المستديمة من الله عز وجل ، والتحلي بالتقوى التي هي طريق للنجاة في النشأتين ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا] ( ).
الخامس : التفكر طريق إلى الذكر والتسبيح .
السادس : تهذيب القول وإصلاح السلوك .
السابع : الأمن والسلامة العامة من الضرر الخاص ، فالذي ينشغل في التفكر بخلق الله للسموات والأرض يتجنب الكذب والظلم والتعدي ، وقال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ) .
لقد أراد الله عز وجل إصلاح النفوس والمجتمعات بالتفكر في خلقه وبدائع صنعه .
وجاءت الآية بصيغة المضارع [يَتَفَكَّرُونَ] لبيان استدامة هذا التفكر من جهات :
الأولى : إقامة الفرد الواحد من أولي الألباب على التفكر .
الثانية : إنشغال الجماعة بالتفكر بالخلائق .
الثالثة : إجتهاد العلماء في الدعوة إلى التفكر في الخلائق .
الرابعة : الرجوع إلى القرآن ومطلق التنزيل في إستنباط وجوه للتفكر في الخلق مثلاً قوله تعالى [وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا]( ) وقوله تعالى [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ]( )وقوله تعالى [مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ]( ).
وقد تقدم ذكر جهات من الموضوع الذي يتفكر به المؤمنون في خلق السموات والأرض ، وهل لنزول القرآن موضوعية ونفع في المقام ، الجواب نعم ، من وجوه :
الأول : قانون القرآن كتاب التوحيد.
الثاني : بيان القرآن لملكية الله للسموات والأرض وما فيهن ودلالتها على انتفاء الشريك ، قال تعالى [ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ]( ).
واختلف أهل اللغة في القطمير ، ولكن الجامع المشترك بينهم هو جزء ضئيل لا شأن له من الفردة الواحدة من التمر ، و(القِطْميرُ: الفوفَةُ التي في النواة ، وهي القشرةُ الرقيقةُ، ويقال هي النُكتة البيضاء التي في ظهر النواة تنبت منها النخلة)( ).
الثالث : بيان القرآن لعلم الله عز وجل بكل ما يقع في السماء ، وحاجة الناس إلى فضله النازل من السماء .
وهل يدل قوله تعالى [هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( )، على علم الله بما يصعد في السماء من المركبات الفضائية في هذا السماء .
واحتمال سكن الناس في السماء ، الجواب نعم ، ولا تتم هذه العلوم إلا بلطف وإذن ومشيئة من عند الله ، وفي التنزيل [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
التفكر في خلق الإنسان والجان
قال تعالى [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ] ( ) وبيان أن الخلائق عندها إدراك وتسليم بالعبودية والإستجابة المطلقة لله عز وجل ، وفي التنزيل [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ] ( ).
ومن التفكر ما يتعلق بالعرش وسعته وعجز الناس عن الإحاطة باسراره وعظمته ، وفي التنزيل[فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ] ( ) .
وليس من حصر زماني أو سنوات مخصوصة من عمر الإنسان للتفكر في الخلق ، فهو مصاحب للمؤمن في حله وترحاله .
ولو تعارض التفكر مع الذكر الوارد في آية البحث أيضاً فيقدم الذكر ، فاذا حان وقت الصلاة لابد من المبادرة إليها ، وأيهما أكبر وأعظم أجراً الذكر أم التفكر في الخلق .
الجواب هو الأول ، لذا ابتدأت آية البحث بالذكر والثناء على الذين يذكرون الله عز وجل على نحو الإطلاق من جهة اختلاف الحال كالقيام والقعود ، والإنفراد والإجتماع ، والتذاكر والتدارس ، وفيه وقاية من الأخلاق المذمومة كالغيبة والنميمة .
قوله تعالى [فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]
تجمع آيات متعددة السموات مع الأرض لبيان عظيم قدرة الله وسعة سلطانه وإحاطته علماً بالخلائق كلها ، إذ أخبر القرآن عن أمور :
الأول : خلق الله عز وجل للسموات والأرض من غير تعب أو عناء .
الثاني : لم يشارك أحد الله عز وجل في خلق السموات والأرض ، وهذه الشراكة ممتنعة.
الثالث : خلق السموات والأرض في ستة أيام .
الرابع : خلق السموات والأرض من غير عمد ، فيدرك الإنسان حاجته إلى الأعمدة في نصب السقف ضَيقاً أو واسعاً ، أما السموات فقد اثنى الله عز وجل على نفسه إذ قال [خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ]( ).
وجاء قوله تعالى [خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ] بياناً وتفسيراً لآية البحث التي هي احتجاج وحجة وبرهان ودعوة للناس للإيمان بالإقتداء بالمؤمنين الذين يتفكرون في بديع صنع الله عز وجل وأنه سبحانه المدبر والمتصرف في عالم الأكوان.
ولا ينحصر التفكر في ذات خلق السموات والأرض بل يشمل نزول المطر عن السماء إلى الأرض ، وحاجة الأرض وعمارها إلى السماء وأسباب الرزق والكسب من السموات والأرض ، والخلائق التي فيها ، وسعة السموات وعجز الناس عن الإحاطة بها حتى مع إرتقاء العلوم في هذا الزمان والأزمنة اللاحقة .
ومنها آيات الكواكب والنجوم والسديم ، والظاهر من اكتشافات علماء الفضاء أن الكون كان كتلة واحدة ثم فضل الله عز وجل بين الكائنات ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا]( ).
الملكية المطلقة لله وحده
قد يقال من الناس من يمتلك في الأرض فهل يتعارض مع ملك إلله للأرض , الجواب لا ، من جهات :
الأولى : ملك الناس في الأرض عرض متزلزل وإلى زوال طوعاَ أو قهراَ , فلابد أن يغادر الإنسان ملكه بالموت أو البيع أو الهبة ونحوها.
الثانية : لا يمتلك أحد قطعة من الأرض أو مالاَ أو عروضاَ إلا بإذن ومشيئة من عند الله عز وجل , لتكون رحمة ونعمة من عند الله عز وجل , ودعوة سماوية للشكر لله عز وجل .
الثالثة : لا يصل أحد إلى الملك أو السلطان إلا أن يأذن الله عز وجل وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ]( ).
الرابعة : إنفراد الله عز وجل بالملك يوم القيامة , وفي التنزيل [لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( ).
وأختتمت الآية أعلاه بقوله تعالى [بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) لبيان اختيار الملك والسلطان برحمة ومشيئة من الله عز وجل , وهو من أسباب هداية الناس واستدامة عبادتهم لله عز وجل .
وانفردت الآية أعلاه بذكر لفظ الملك ثلاث مرات لبيان أن الملك كله لله عز وجل وأنه سبحانه بيده الملك لما فيه من استدامة ذكره وتسبيحه في الأرض ونزول البركات.
وعن ابن عباس في قوله تعالى [تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ]( ) قال النبوة.
والآية أعم في موضوعها ودلالتها , ومن مصاديق (مالك الملك) أن الناس كلهم من ملك الله عز وجل , وأنهم يحتاجون إلى رحمته , ولابد من الدعاء كيلا يسلط عليهم من يؤذيهم ويرهقهم , ويسوقهم إلى الحروب أو يفرض عليهم الأتاوات والضرائب القاسية.
وتبعث الآية على الدعاء , ورجاء فضل الله عز وجل وسؤال الغنى والأمن منه تعالى , و(عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ : ألا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك مثل جبل أحد ديناً لأداه الله عنك؟
قل يا معاذ {اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير }( ) رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، تعطيهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء ارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك) ( ).
ومعنى (اللهم) أي يا الله , وقد كان العرب في الجاهلية يقولون بها , كما أنها وردت على لسان عيسى عليه السلام , [اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ]( ).
وهي موجودة في التوراة (الوهيم) وقيل , هو اسم الله وحده في اللغة العبرانية .
ويصاحب النداء (ربنا) الناس من أيام أبينا آدم عليه السلام , ففي كل يوم من أيام الحياة الدنيا هناك أمة تسأل وتدعو الله عز وجل (ربنا) وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
ليبعث الله عز وجل النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم ويتضمن القرآن الدعاء والنداء لفظ (ربنا) و (ربي) و (اللهم) و (سبحانك) ويتلو المسلمون والمسلمات القرآن خمس مرات في اليوم في مشارق الأرض ومغاربها وفيه دفع وإرجاء النفخ في الصور , قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
عالم البرزخ
إبتدات آية البحث بالاسم الموصول [الذين ] وابتدأت الآية التالية بندائهم واستجارتهم بالله عز وجل [ربنا] فبعد الذكر والتفكر والدعاء في آية البحث جاء البيان والإخبار عن العلم بأحوال الناس في عالم الآخرة ، وهو من الشواهد على إرتقاء أولي الألباب في مراتب التفقه في الدين .
وهل ينفي الجمع بين الآيتين حساب البرزخ لإنتقال القول من الدنيا إلى عالم الجزاء ، الجواب لا ، لإستقراء الإخبار عن عالم البرزخ من آيات القرآن ، والتي يمكن جمعها وتسميتها آيات البرزخ ، وهو مدة ما بين الموت إلى يوم البعث وفيه آيات قرآنية متعددة منها قوله تعالى [وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ]( ) وقوله تعالى [حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] ( ) ومنها قوله تعالى [قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ] ( )، وأحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أن السنة النبوية المصدر الثاني للتشريع .
و(عن بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قال عشر كلمات عند كل صلاة غداة وجد الله عندهن مكفياً مجزياً : خمس للدنيا ، وخمس للآخرة : حسبي الله لديني ، حسبي الله لما أهمني ، حسبي الله لمن بغى عليّ ، حسبي الله لمن حسدني ، حسبي الله لمن كادني بسوء ، حسبي الله عند الموت ، حسبي الله عند المسألة في القبر ، حسبي الله عند الميزان ، حسبي الله عند الصراط ، حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه أنيب) ( ).
و(عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا قال نزلت في عذاب القبر يقال له من ربك فيقول ربي الله ونبيي محمد فذاك قوله (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة))( ).
(عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع صوتا من قبر فقال متى مات هذا قالوا مات في الجاهلية فسر بذلك وقال لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر) ( ).
ومن وسائل نجاة المؤمن من حساب منكر ونكير في القبر تلقين الميت عند دخوله القبر و(عن أبي أمامة ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا مات أحد من اخوانكم فسوّيتم التراب عليه ، فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل : يا فلان ، ابن فلانة ، فإنه يسمعه ولا يجيب ، ثم يقول : يا فلان ابن فلانة ، فإنه يستوي قاعداً ، ثم يقول : يا فلان ابن فلانة ، فإنه يقول : ارشدنا رحمك الله ، ولكن لا يشعرون ، فليقل : اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، رضيت بالله رباً وبالإِسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبياً ، وبالقرآن إماماً .
فإن منكراً ونكيراً يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول : انطلق بنا ما يقعدنا عند من لقن حجته ، فيكون حجيجه دونهما .
قال رجل : يا رسول الله ، فإن لم يعرف أمه قال : ينسبه إلى حواء ، يا فلان ابن حواء) ( ) .
وعن ميمونة بنت سعد مولاة وخادمة (النبي صلى الله عليه وآله و سلم قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا ميمومة تعوذي بالله من عذاب القبر قلت : يا رسول الله وإنه لحق ؟
قال : نعم يا ميمومة وإن من أشد عذاب القبر يا ميمومة الغيبة والبول) ( ).
قال تعالى [فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ] ( ) أي يعيد الناس إلى سطح الأرض بعد أن كانوا في جوفها إذ يسمى العرب الأرض الساهرة لأن فيها يسهر أو ينام الإنسان ،في مقابل الدفن في الأرض عند الموت .
قال شاعر لفرسه يوم ذي قار (أَقْدِمْ مَحاجِ إنها الأساوِره … ولا يهولنّك رِجْلٌ بادِرهْ
فإنما قَصْرُكَ تُرْبُ السّاهرهْ … ثم تعودُ ، بَعْدها في الحافرهْ
من بَعْد ما صِرْتَ عظاماً ناخِرهْ) ( ).
والأولى مخاطبة الإنسان نفسه للإجتهاد بالذكر والعبادة قبل أن ينتقل إلى دار الحساب بلا عمل .
ولم يرد لفظ [السَّاهِرَةِ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، ومن خصائص آية البحث أنها إدخار لعالم البرزخ وحرز من ضغطة القبر ، ومن الحساب الإبتدائي من قبل منكر ونكير .
المسألة الخامسة : وحينما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قال المشركون[أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ] ( ) وهل هذا القول مقدمة لسعيهم بقتله وهو في مكة كما قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) ثم تجهيزهم الجيوش لقتاله عندما اختار الهجرة ،ولم يطق المشركون التوحيد ، وإنحصار الربوبية بالله عز وجل ونعتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالساحر والكذاب [وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ] ( ).
فمشى أشراف قريش إلى أبي طالب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسألوه أن يكف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن آلهتهم ، وعن سبّ آبائهم ، وهو لم يسبهم إنما ذم عبادة الأوثان ،كما في قوله تعالى [وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ] ( )، وأحضر أبو طالب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليسمعوا منه ، وأنهم يريدون منه ترك آلهتهم ليدعوه وإلهه .
فاجابهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟
فقال أبو جهل : لله أبوك لنعطينكها وعشر أمثالها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قولوا لا إله إلاّ الله.
فنفروا من ذلك وقاموا وقالوا : { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا }( ) كيف يسع الخلق كلهم إله واحد.
{إِنَّ هذا لَشَىْءٌ عُجَابٌ} أي عجيب) ( ).
لذا فان آية البحث والآيات التالية وتكرار كلمة (ربنا ) فيها تثبيت لكلمة التوحيد في الأرض ، ودعوة للمسلمين للتفقه في الدين ، وإخلاص العبودية لله عز وجل ، وهل في تكرار قول (ربنا ) واقية من النفاق ، وطرد له ، الجواب نعم .
الأرضين السبع
وبينما ذكرت آية البحث السموات بصيغة الجمع فإنها ذكرت الأرض بصيغة المفرد ،ويحتمل وجوهاً :
الأول : إرادة جنس الأرض ، والمراد أنها سبع أرضين لقوله تعالى [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا] ( )، ولنصوص من السنة النبوية منها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (مَنْ غَصَبَ شِبْراً مِنْ أرْضٍ طَوَّقَه اللَّه مِنْ سَبْعِ أرضِينَ)( ).
ومنها ما يدل على توارث الأنبياء لمفهوم الأرضين السبع ، و(عن عبد الله بن عمرو : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن نوحاً لما حضرته الوفاة قال لابنه : إني قاصر عليك الوصية ، آمرك باثنتين وأنهاك عن اثنتين ، آمرك بلا إله إلا الله ، فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعن في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة لرجحت بهن ، ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة لقصمتهن لا إله إلا الله وسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء ، وبها يرزق كل شيء وأنهاك عن الشرك الأكبر .
وأخرج ابن أبي شيبة عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا أعلمكم ما علم نوح ابنه؟ قالوا : بلى ، قال : آمرك أن تقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، فإن السموات لو كانت في كفة لرجحت بها ، ولو كانت حلقة قصمتها ، وآمرك بسبحان الله وبحمده فإنها صلاة الخلق وتسبيح الخلق ، وبها يرزق الخلق)( ).
الثاني : الأرض واحدة ، والتماثل الذي تذكره الآية أعلاه في مقابل كل سماء واحدة ، وفي عظيم جرمها ووجود خلائق كثيرة فيها تعبد الله ، وبه قال جمع من العلماء .
الثالث : إرادة خصوص الأرض التي يعمرها الناس ، وهي التي قال تعالى بخصوصها [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
والمشهور والمختار هو الأول ، وما اكتشف العلماء من الأكوان الا الشئ القليل ، ومن وجوه تعدد الأرض :
الأول : تكون أرضنا هذه سبع أرضين من حيث الطبقات والتركيب وهناك علامات فاصلة سوف تتبين للعلماء في طبقاتها وجوفها وأصناف الرزق فيها .
الثاني : التعدد ليس عمودياً في أعمال الأرض إنما هو في سعة فتكون كل قارة من الأرض أو نحوها أرضاً من الأرضين السبع.
الثالث : الفرد الجامع للجوف والسعة الأفقية ، فكل جوف لأرض قارة مثلاً غير الآخر ، وكذا بالنسبة لسطحها وتقسيم الأرض إلى سبع أرضين في علم الله ، وهل يعلمه الملائكة على فرض صحته ، الأقرب نعم.
الرابع : التقسيم استقرائي فهي أرض واحدة ولكن تقسيمها إلى سبع أرضين للأسرار وذخائر يعلمها الله ، وستتجلى معالمها يوماً ما للبشر لبيان قانون وهو من إعجاز القرآن ما يكون متأخراً في زمانه أو متجدداً في كل زمان.
الخامس : وجود أرضين ستة أخرى غير الأرض التي نحن عليها ، وفي التنزيل [لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
وهل خطاب الله عز وجل للملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )،بقصد الأرضين السبع ومطلق الأرض أم بقصد أرض واحدة من الأرضين السبع .
المختار هو الأول لأصالة الإطلاق ، والمسألة صغروية للتسالم على موضوع الخلافة ، وحصره بهذه الأرض التي نعيش عليها ، إلا أن يقال سيكون اكتشاف لأرضين أخرى من قبل الإنسان وتكون له الخلافة والتصرف فيها، والعلم عند الله.
بحث بلاغي
من بديع علوم القرآن , وكنوز بلاغته (الإلتفات) وهو الإنتقال بالكلام من صيغة إلى أخرى , من وجوه :
الأول : الإنتقال من الغائب إلى المتكلم , ومن الجملة الخبرية إلى الجملة الإنشائية , ومنه قوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ] ( ).
فمن صيغة الغائب والخبر (الَّذِي أَسْرَى) , ومن صيغة المتكلم (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) فلم تقل الآية وحسب السياق من (ليريه من آياته) .
إنما أراد الله عز وجل نسبة فعل الإسراء والمعراج إليه بصيغة المتكلم دعوة للمسلمين للثناء عليه سبحانه .
الثاني : الإلتفات من الغائب إلى الخطاب كما في قوله تعالى [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( )،وقوله تعالى [وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
إذ ابتدأت الآية بصيغة الغائب لبيان أن الوصية بالوالدين مصاحبة لوجود الإنسان في الأرض ، والألف واللام في الناس للجنس ، وهل فيه إشارة إلى عقوق قابيل بن آدم عندما أقدم على قتل أخيه هابيل ، وأدخل الحزن الشديد على قلب آدم وحواء ، الجواب نعم ، وفيه حجة عليه ، ودعوة متصلة زمانياً وفي كل جيل بالبر بالوالدين بالذات والواسطة.
والأولى اختيار اصطلاح آخر بدل (الغيبة) في اصطلاح البلاغة في المقام لإنصراف لفظ الغيبة في الإصطلاح الشرعي إلى ذكر إنسان في غيبته بعيب أو سوء هو يتصف به خاصة وأن هذا المعنى هو الشائع والمتعارف .
واسميت المصطلح البلاغي هنا (الغائب) خلافاً لما متعارف في علوم البلاغة بتسميته (الغيبة) .
وهو فرع اقتراحنا بتوحيد مصطلحات العلوم بما يمنع التعارض والتزاحم بينها.
الثالث : الإلتفات من الخطاب إلى الغائب ، كما في قوله تعالى [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ اولو الأَلْبَابِ]( )، وقوله تعالى [هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا]( ).
الرابع : الإلتفات الموضوعي ، وهذا مصطلح وقسيم مستحدث هنا بأن تأتي الآية في موضوع ثم تنتقل إلى موضوع آخر ، كما في قوله تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ]( ).
الخامس : الإلتفات من المتكلم إلى الخطاب كما في قوله تعالى [لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا]( )، ومنه قوله تعالى [إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ]( ).
السادس : الإلتفات من جمع الغائب إلى خطاب الجمع ، ومنه قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ]( ).
السابع : الإلتفات من الخطاب للمنفرد إلى الجمع ، كما في الآية أعلاه [فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ]( )، لبيان قانون وهو قد تتضمن الآية الإلتفات البلاغي المتعدد ، سواء بذكر صيغة مستحدثة عن الصيغتين السابقتين كما في الآية أعلاه أو بالرجوع إلى الصيغة السابقة كما في قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
إذ ابتدأت الآية بالأمر ثم انتقلت إلى النهي [وَلاَ تَفَرَّقُوا] ثم عادت إلى الأمر [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ] ، وهل ذكر النعمة المخصوصة من مصاديق الذكر في آية البحث بقوله تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ..]( )الجواب نعم .
الثامن : الإلتفات من الخبر إلى الدعاء كما في آية البحث [وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
ومنه [وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ]( ).
والآية أعلاه هي الآية الوحيدة التي يتكرر فيها النداء (ربنا) ثلاث مرات .
التاسع : الإلتفات من قانون إلى قانون وهو كثير في القرآن منه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] ( ) وفيه انتقال من وجوه :
الأول : قانون النداء في القرآن .
الثاني : قانون الذين آمنوا فلابد من وجود أمة من المسلمين والمسلمات في كل زمان يتوجه إليها الخطاب .
الثالث : قانون اتقوا الله .
الرابع : قانون تقييد التقوى من الله حق تقاته و(عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { اتقوا الله حق تقاته } أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى) ( ).
الخامس : قانون مغادرة الدنيا على الإسلام .
العاشر : الإلتفات من أمور الدنيا إلى عالم الآخرة ، منه قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ]( ).
الحادي عشر : الإلتفات في صيغة الفعل بين الإستقبال والأمر ، ومنه قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ]( ).
الثاني عشر : الإلتفات من الجملة الخبرية إلى الشرطية ، ومنه [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( ) .
الثالث عشر : الإلتفاف من الجملة الإنشائية إلى الشرطية ومنه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً]( ).
الرابع عشر : الإلتفات من الأمر إلى النهي ، ومنه [فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ]( )، ومنه [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ]( )، لبيان أهلية المسلمين في مقامات الإستجابة لله عز وجل من الإمتثال إلى الإمتناع ، ومنه [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ]( ).
الخامس عشر : الإلتفات من النهي إلى الأمر كما في قوله تعالى [فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ]( )، وفيه نكتة وهي إرتقاء المسلمين في منازل الفقاهة في الدين ، بالإنتقال بالعمل من الإجتناب إلى الإمتثال .
فمثلاً يأتي نهي متعدد عن أفعال مذمومة ثم يأتي أمر بالتقوى ليكون من سور الموجبة الكلية الذي فيه السلامة من هذه الأفعال ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ]( )، ومنه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ) ( ).
بحث أخلاقي
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء ، ولأنها مزرعة للآخرة وعالم الجزاء ، ودار الرحمة والمغفرة بعث الله عز وجل الأنبياء ،وأنزل الكتب السماوية لنجاة الناس من الشرك والكفر ومفاهيم الضلالة ، ونزلت الكتب السماوية بالأحكام الشرعية والجزائية ، ونزلت آية البحث لتنزيه الناس من الأخلاق المذمومة مثل الغيبة ، وذكر عيوب الناس ، والنميمة ومقدمات الفتنة.
ويأتي هذا التنزه بالأصالة والترفع عنه للإقامة على الذكر ، وهو حاجب للضرر والإضرار ، فذكر الله عز وجل والمواظبة عليه ضد لذكر عيوب الناس ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ] ( ).
و(عن البراء بن عازب قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أسمع العواتق في الخدر ينادي بأعلى صوته يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإِيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ، ومن تتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته .
وأخرج ابن مردويه عن بريدة قال : صلينا الظهر خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما انفتل أقبل علينا غضبان متنفراً ينادي بصوت يسمع العواتق في جوف الخدور يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإِيمان قلبه لا تذموا المسلمين ، ولا تطلبوا عوراتهم ، فإنه من يطلب عورة أخيه المسلم هتك الله ستره وأبدى عورته ولو كان في جوف بيته) ( ).
لبيان الضررالعاجل المترشح عن الغيبة في الدنيا ، ويدل الحديث بالدلالة التضمنية على أن المؤمن يمتنع عن الغيبة ومن أسباب الإمتناع عن الغيبة الإنقطاع إلى ذكر الله ، والذي جاءت فيه آيات متعددة ، منه بصيغة الأمر والوجوب ومنه بصيغة الجملة الخبرية .
وإذ نزل القرآن، وجاءت السنة بذم الغيبة وبيان شدة العقاب عليها ، فقد وردت النصوص بالثناء على الذي يخفي عيوب الآخرين ، ويمتنع عن ذكرها وإفشائها ، (عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يرى مؤمن من أخيه عورة ، فيسترها عليه ، إلا أدخله الله الجنة) ( ).
وذكر الله عز وجل إنشغالٌ عن التعرض لعيوب الناس ورصدها وذكرها ليكون الذكر سبباً لدخول الجنة بذاته ، وبالمنافع العرضية المترشحة عنه سواء قصد الذاكر لله عز وجل ستر عيوب الناس أو لا.
ومن منافع ذكر الله عز وجل على كل حال إجتناب تسخير اللسان للإضرار بالناس أو إثارة الفتن ، قال تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ( ) ومنها صيرورة الناس في مأمن من المؤمن إذ أنه مشغول عنهم بالذكر والتسبيح مع التقيد بأداء وظائفه العملية ، ومن خصائص ذكر الله تنمية ملكة الأخلاق الحميدة ، وإقتداء الناس بالمؤمن في تنزهه عن الإساءة للغير .
و(عن علي بن أبي طالب قال : صفة المؤمن قوة في دينه ، وجرأة في لين ، وإيمان في يقينه ، وحرص في فقه ، ونشاط في هدى ، وبر في استقامة ، وكيس في رفق ، وعلم في حلم ، لا يغلبه فرجه ، ولا تفضحه بطنه ، نفسه منه في عناء ، والناس منه في راحة ، لا يغتاب ولا يتكبر) ( ).
ويستلزم الذكر الجهد وبذل الوسع وحبس النفس الشهوية وحب الدنيا ، وطرد للنفاق ، والتنزه عنه .
لبيان قانون التنافي بين الذكر المتصل والنفاق ، ويدل عليه قوله تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً] ( ) .
مسائل في حديث الإسراء
لابد من ذكر حديث الإسراء قبل التأويل والإستنباط واستقراء المسائل منه .
وفي حديث عن أبي سعيد الخدري قال : (حدثنا رسول الله بالمدينة عن ليلة أسري به من مكة إلى المسجد الأقصى قال : بينا أنا نائم عشاء بالمسجد الحرام إذ أتاني آت فأيقظني فاستيقظت فلم أر شيئا وإذا أنا بكهيئة خيال فأتبعه بصري حتى خرجت من المسجد فإذا أنا بدابة أدنى شبهة بدوابكم هذه بغالكم غير أن مضطرب الأذنين يقال له البراق وكانت الأنبياء تركبه قبلي
يقع حافره عند مد بصره فركبته فبينا أنا أسير عليه إذ دعاني داع عن يميني : يا محمد انظرني أسألك
فلم أجبه ثم دعاني داع عن شمالي يا محمد انظرني أسألك فلم أجبه فبينا أنا سائر إذا بامرأة حاسرة عن ذراعيها وعليها من كل زينة خلقها الله فقالت : يا محمد أنظرني أسألك
فلما ألتفت إليها حتى أتيت بيت المقدس فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء عليهم السلام توثقها بها ثم أتاني جبريل عليه السلام بإناءين أحدهما خمر والآخر لبن فشربت اللبن وتركت الخمر فقال جبريل : أصبت الفطرة أما أنك لو أخذت الخمر غوت أمتك
فقلت : الله أكبر
الله أكبر
فقال جبريل : ما رأيت في وجهك هذا ؟
قلت : بينا أنا اسير إذ دعاني داع عن يميني : يا محمد أنظرني أسألك فلم أجبه
قال : ذاك داعي اليهود أما لو أنك لو أجبته لتهودت أمتك
قلت : وبينا أنا أسير إذ دعاني داع عن يساري : يا محمد أنظرني أسألك فلم أجبه
قال : ذاك داعي النصارى أما أنك لو أجبته لتنصرت أمتك فبينما أنا أسير إذا أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها عليها من كل زينة تقول : يا محمد أنظرني أسألك فلم أجبها
قال : تلك الدنيا أما أنك لو أجبتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة
ثم دخلت أنا وجبريل بيت المقدس فصلى كل واحد منا ركعتين ثم أتيت بالمعراج الذي تعرج عليه أرواح بني آدم فلم تر الخلائق أحسن من المعراج
! أما رأيت الميت حين رمى بصره طامحا إلى السماء عجبه المعراج
؟ فصعدت أنا وجبريل فإذا أنا بملك يقال له إسماعيل وهو صاحب سماء الدنيا وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف
فاستفتح جبريل باب السماء قيل : من هذا ؟ قال : جبريل
قيل : ومن معك ؟ قال : محمد
قيل : قد بعث إليه ؟ قال : نعم فإذا أنا بآدم كهيئته يوم خلقه الله على صورته لم يتغير منه شيء وإذا هو تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول : روح طيبة ونفس طيبة اجعلوها في عليين
ثم تعرض عليه أرواح ذريته الكفار الفجار فيقول : روح خبيثة ونفس خبيثة اجعلوها في سجين
فقلت : يا جبريل من هذا ؟ قال : هذا أبوك آدم فسلم علي ورحب بي فقال : مرحبا بالابن الصالح
ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بأخونة عليها لحم قد أروح وأنتن عندها أناس يأكلون منها
قلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء من أمتك يتركون الحلال ويأتون الحرام
وفي لفظ : فإذا أنا بقوم على مائدة عليها لحم مشوي كأحسن ما رأيت من اللحم وإذا حوله جيف فجعلوا يقبلون على الجيف يأكلون منها ويدعون اللحم فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الزناة
عمدوا إلى ما حرم الله عليهم وتركوا ما أحل الله لهم ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بقوم بطونهم أمثال البيوت كلما نهض أحدهم خر يقول : الله لا تقم الساعة وهم على سابلة آل فرعون فتجيء السابلة فتطؤهم فسمعتهم يضجون إلى الله قلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء من أمتك الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بأقوام لهم مشافر كمشافر الإبل قد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار ثم يخرج من أسافلهم فسمعتهم يضجون إلى الله
قلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء من أمتك الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بنساء يعلقن بثديهن ونساء منكسات بأرجلهن فسمعتهن يضججن إلى الله قلت يا جبريل من هؤلاء النساء ؟ قال : هؤلاء اللاتي يزنين ويقتلن أولادهن ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بأقوام يقطع من جنوبهم اللحم ثم يدس في أفواههم ويقول : كلوا مما أكلتم فإذا أكره ما خلق الله لهم ذلك
قلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الهمازون من أمتك اللمازون الذين يأكلون لحوم الناس
ثم صعدنا إلى السماء الثانية فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله قد فضل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب ! قلت : يا جبريل من هذا ؟ قال : هذا أخوك يوسف ومعه نفر من قومه فسلمت عليه وسلم علي ورحب بي
ثم صعدنا إلى السماء الثالثة فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى ومعهما نفر من قومهما شبيه أحدهما بصاحبه ثيابهما وشعرهما فسلمت عليهما وسلما علي ورحبا بي
ثم صعدنا إلى السماء الرابعة فإذا أنا بإدريس قد رفعه الله مكانا عليا فسلمت عليه وسلم علي ورحب بي
ثم صعدنا إلى السماء الخامسة فإذا أنا بهارون ونصف لحيته بيضاء ونصفها سوداء تكاد لحيته تصيب سرته من طولها قلت : يا جبريل من هذا ؟ قال : هذا المحبب في قومه
هذا هرون بن عمران ومعه نفر كثير من قومه فسلمت عليه وسلم علي ورحب بي
ثم صعدنا إلى السماء السادسة فإذا أنا بموسى رجل آدم كثير الشعر لو كان عليه قميصان خرج شعره منهما وإذا هو يقول : يزعم الناس أني أكرم الخلق على الله وهذا أكرم على الله مني ولو كان وحده لم أبال ولكن كل نبي ومن تبعه من أمته
قلت : يا جبريل من هذا ؟ قال : هذا أخوك موسى بن عمران ومعه نفر من قومه فسلمت عليه وسلم علي ورحب بي
ثم صعدنا إلى السماء السابعة فإذا أنا بإبراهيم وإذا هو جالس مسند ظهره إلى البيت المعمور ومعه نفر من قومه فسلمت عليه وسلم علي وقال : مرحبا بالابن الصالح فقيل لي : هذا مكانك ومكان أمتك ثم تلا إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين وإذا بأمتي شطرين : شطر عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس وشطر عليهم ثياب رمد
ثم دخلت البيت المعمور ودخل معي الذين عليهم الثياب البيض وحجب الآخرون الذين عليهم ثياب رمد وهم على خير
فصليت أنا ومن معي في البيت المعمور ثم خرجت أنا ومن معي قال : والبيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون فيه إلى يوم القيامة
ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا كل ورقة منها تكاد تغطي هذه الأمة وغذا في أصلها عين تجري يقال لها سلسبيل فيشق منها نهران فقلت : ما هذا يا جبريل ؟ فقال : أما هذه فهو نهر الرحمة وأما هذا فهو نهر الكوثر الذي أعطاكه الله
فاغتسلت في نهر الرحمة فغفر لي من ذنبي ما تقدم وما تأخر ثم أخذت على الكوثر حتى دخلت الجنة فإذا فيها ما لا عين رأت وما لا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وإذا أنا بأنهار من ماء غير آسن وأنها من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى
وإذا فيها رمان كأنه جلود الإبل المقتبة وإذا فيها طير كأنها البخت
قال : ورأيت فيها جارية لعساء فسألتها لمن أنت ؟ فقالت : لزيد بن حارثة
فبشر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زيدا
ثم عرضت علي النار فإذا فيها غضب الله وزجره ونقمته ولو طرح فيها الحجارة والحديد لأكلتها ثم غلقت دوني
ثم إني رفعت إلى سدرة المنتهى فتغشاها فكان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى ونزل على كل ورقة ملك من الملائكة ثم إن الله أمرني بأمره وفرض علي خمسين صلاة وقال : لك بكل حسنة عشر وإذا هممت بالحسنة فلم تعملها كتبت لك حسنة فإذا عملتها كتبت لك عشرا وإذا هممت بالسيئة فلم تعملها لم يكتب عليك شيء فإن عملتها كتبت عليك سيئة
ثم دفعت إلى موسى فقال : بم أمرك ربك ؟ قلت : بخمسين صلاة
قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لا يطيقون ذلك
فرجعت إلى ربي فقلت : يا رب خفف عن أمتي فإنها أضعف الأمم
فوضع عني عشرا
فما زلت أختلف بين موسى وبين ربي حتى جعلها خمسا فناداني ملك : عندها تمت فريضتي وخففت عن عبادي فأعطيتهم بكل حسنة عشر أمثالها
ثم رجعت إلى موسى فقال : بم أمرت ؟ قلت : بخمس صلوات : قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك
قلت : قد رجعت إلى ربي حتى استحييته
ثم أصبح بمكة يخبرهم العجائب : إني رأيت البارحة بيت المقدس وعرج بي إلى السماء ثم رأيت كذا وكذا فقال أبو جهل : ألا تعجبون مما يقول محمد ؟ قال : فأخبرته بعير لقريش لما كانت في مصعدي رأيتها في مكان كذا وكذا وإنها نفرت فلما رجعت رأيتها عند العقبة وأخبرتهم بكل رجل وبعيره كذا ومتاعه كذا
فقال رجل : أنا أعلم الناس ببيت المقدس
فكيف بناؤه وكيف هيئته وكيف قربه من الجبل ؟ فرفع لرسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المقدس فنظر إليه فقال : بناؤه كذا ، وهيئته كذا وقربه من الجبل كذا.
فقال : صدقت) ( ).
وفي هذا الحديث مسائل :
الأولى : إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة عن حديث الإسراء مع أنه وقع في مكة .
الثانية : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحديث إلى الصحابة ، والمتعدد منهم لقول أبي سعيد الخدري (حدثنا ) ولم يقل حدثني .
الثالثة : تأكيد وقوع الإسراء من مكة ، وليس من المدينة ، وقال الله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ]( ) أي قبل الهجرة .
وهل الإسراء في بدايات البعثة النبوية ، وأختلف في يوم الإسراء وسنته ، وهل هو في شهر ربيع الأول أو في رجب أو في رمضان ، وقيل في شوال ، وأدعى ابن حزم الإجماع على أنه قبل الهجرة بسنة ، ولم يثبت الإجماع ، وقيل قبلها بخمس سنين ، ويمكن الجمع بين حديث الإسراء وما قبل ولادة الزهراء بمدة الحمل المبارك بها .
وعن الإمام الباقر عليه السلام (عن جابر بن عبد الله قال: قيل يا رسول الله إنك تلثم فاطمة وتلزمها وتدنيها منك وتفعل بها ما لا تفعله بأحد من بناتك .
فقال: إن جبرئيل (عليه السلام) أتاني بتفاحة من تفاح الجنة فأكلتها
فتحولت ماء في صلبي ثم واقعت خديجة فحملت بفاطمة فأنا أشم منها رائحة الجنة) ( ).
وولدت فاطمة الزهراء في اليوم العشرين من شهر جمادي الأخرة.
واختلف في سنة ولادتها ، وعن الإمام الباقر عليه السلام والصجابي جابر بن عبد الله الأنصاري أنها ولدت بعد مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخمس سنين ، وقال أبو الفرج كان مولد فاطمة عليها السلام قبل النبوة وقريش حينئذ تبني الكعبة.
ويدل الإختلاف في تأريخ الإسراء كاجماع مركب على أنه صدق وحق ، ويجب أن لا يشغلن هذا الإختلاف وكذا الإختلاف في مكان وموضع الجنة عن التدبر في معجزة الإسراء ودلالاتها والقوانين والمسائل المستنبطة منها .
الرابعة : حدوث الإسراء باليقظة وليس بالمنام لقوله صلى الله عليه وآله وسلم (إذ أتاني آت فأيقظني فاستيقظت).
الخامسة : إسراء النبي بجسده وروحه ، وليس بالروح وحدها لقوله تعالى [أَسْرَى بِعَبْدِهِ] ( )وفي آية أخرى [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى *عَبْدًا إِذَا صَلَّى] ( ).
السادسة : لقد تحمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشد الأذى من كفار قريش فخفف الله عز وجل عنه بتوالي نزول الآيات ، وكل آية معجزة ، ومنها آية البحث ، كما رزقه الله الإسراء ، وبعد وفاة أبي طالب وخديجة في عام الحزن في السنة العاشرة للبعثة على قول أي قبل الهجرة بثلاث سنين ، فهاجر أولاً إلى مدينة الطائف التي تبعد عن مكة نحو ثمانين كيلو متر ، وفاتح بعض وجهاء البلدة بنبوته ، ودعاهم إلى الإسلام وسألهم أن يكتموا عليه ، ومنهم إخوة ثلاثة من سادة ثقيف وهم (اخوة ثلاثة : عبد ياليل،
ومسعود،
وحبيب،
بنو عمر بن عمير،
عندهم امرأة من قريش من بني جمح،
فجلس إليهم،
فدعاهم إلى الله تعالى وكلّمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام،
والقيام معه على من خالفه من قومه.
فقال أحدهم،
هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله تعالى أرسلك،
وقال الآخر : أما وجد الله أحد يرسله غيرك؟
وقال الثالث : والله لا أُكلّمك كلمة أبداً لئن كنت رسولاً من الله كما تقول،
لأنت أعظم خطراً من أن أردّ عليك الكلام،
ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أُكلّمك.
فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف .
وقال لهم : إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموه.
وكره رسول الله أن يبلغ قومه عنه فيديرهم عليه ذلك.
فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم .
وعبيدهم يسبّونه .
ويصيحون به.
حتّى اجتمع عليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة .
وشيبة ابني ربيعة .
هما فيه .
ورجع عنه سفهاء ثقيف.
ولقد لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلك المرأة من بني جمح .
فقال لها : ماذا لقينا من أحمائك؟.
فلمّا اطمئن رسول الله .
قال : اللَّهم إنّي أشكو إليك ضعف قوّتي .
وقلّة حيلتي،
وهواني على النّاس،
أرحم الراحمين أنت ربّ المستضعفين،
وأنت ربّي،
إلى من تكلني،
إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدوَ ملّكته أمري. إن لم يكن بك عليَّ غضب،
فلا أُبالي،
ولكن عافيتك هي أوسع،
وأعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك،
ويحلّ عليَّ سخطك،
لك العتبى حتّى ترضى،
لا حول،
ولا قوّة إلاّ بك) ( ).

حديث الإسراء في آية البحث
تقتبس الدروس من حديث الإسراء بلحاظ آية البحث من وجوه :
الأول : يبعث حديث الإسراء على ذكر الله عز وجل ، والتسليم ببديع صنعه .
الثاني : الشكر لله عز وجل على فضله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بحديث الإسراء والمعراج .
الثالث : وقوع وتحقق الإسراء حجة على الناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) في ملكية الله عز وجل للسموات والأرض، وإنعدام الشريك والند له سبحانه.
الرابع : دعوة الناس للتفكر في خلق السموات والأرض .
الخامس: دلالة حديث الإسراء على أن الله عز وجل عليم حكيم ، قال تعالى [عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
السادس : سؤال المسلمين الله عز وجل بالنجاة من النار التي رآها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابع : الإنذار للمسلمين والناس جميعاً من شدة النار .
الثامن : بيان مصداق لما ورد في آية البحث من سؤال النجاة من النار ، ويكون تقدير الآية : فقنا عذاب النار التي رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
التاسع : حديث الإسراء والمعراج من مصاديق [خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]الذي تذكره آية البحث ، ويكون من وجوه تقدير الآية : ربنا ما جعلت حديث الإسراء باطلاً ، لبيان كثرة منافع حديث الإسراء من حين وقوعه وإلى يوم القيامة .
العاشر : التدبر في حديث الإسراء والمعراج وذكره وما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخصوصه من مصاديق قوله تعالى [وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
ومن الإعجاز في المقام نزول القرآن بآية الإسراء [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ] ( ) لتبين هذه الآية أن الأرض والسماء ملك لله عز وجل ، وأنه ملك تصرف مطلق تتجلى فيه معاني الرحمة والرأفة ، وأسباب الهداية والإيمان .
الحادي عشر : إيتداء آية الإسراء أعلاه بقوله تعالى [سُبْحَانَ] وهي كلمة تنزيه يختص بها الله مثلما يختص باسم الجلالة ، وورد في آية البحث قوله تعالى [سُبْحَانَكَ] ( ) على لسان المؤمنين لبيان أن ذكر الله والتفكر في الخلائق إرتقاء في المعارف الإلهية .
الثاني عشر : دعوة المسلمين والمسلمات إلى دراسة حديث الإسراء ، واستقراء المسائل منه ، وبيان عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله ، ورحمة الله تعالى بقريش في رؤيتهم الآيات والمعجزات الحسية.
الثالث عشر : ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقانون وهو ركوب الأنبياء للبراق من قبل ، وهل المراد جنس البراق أم ذات الفرد أبقاه الله عز وجل حياً يتوارث الأنبياء ركوبه .
المختار هو الأول ، فلا دليل على بقاء هذا الحيوان آلاف السنين ، وإن كان مركوب الأنبياء ، فذات الأنبياء يموتون ويغادرون الدنيا ، قال تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ]( ).
ليكون البُراق -بضم الباء- معجزة مشتركة للأنبياء في سياحتهم في الأرض ، وقد أكرم الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بركوبه وهو من الشواهد على صدق نبوته .
ومن خصائص البراق أنه يضع حافره عند منتهى طرفه أي كل خطوة على مدّ البصر ، كما لو كانت عشرة كيلو متر .
الرابع عشر : وقوع حوادث وشواهد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريقه إلى بيت المقدس ، منها مثلاً سؤال رجل وامرأة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (أنظرني أسألك) مما يدل على إمكان وقوف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسماعه لها، ولكنه استمر في طريقه وطيه الأرض إلى بيت المقدس .
الخامس عشر : بيان النبي لقانون زيارة الأنبياء البيت المقدس في أيام حياتهم لقوله (فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء عليهم السلام توثقها) .
ولا يعني هذا الإسراء بالأنبياء جميعاً ، لكثرة أنبياء بني إسرائيل مثلاً الذين بعثهم الله .
وهل يختص هذا الربط والوثاق بخصوص البراق ، الجواب لا فيشمل دواب الأنبياء الذين سكنوا بجوار بيت المقدس وباطرافه ، وهو من مصاديق البركة في قوله تعالى [الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ] ( ) فيأتون لزيارته، ويربطون دوابهم في ذات الحلقة لبيان ربط البراق وغيرها به.
السادس عشر: وصول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت المقدس في نفس الليلة التي خرج فيها من مكة بآية ومعجزة من عند الله عز وجل ، وهو من مصاديق [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ) ، وليكون حديث الإسراء من مصاديق تفكر أجيال المسلمين والمسلمات في خلق السموات والأرض .
السابع عشر : لقد أخبرت آية البحث عن صفات المؤمنين بأنهم يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ، فهل كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يذكر الله في طريقه إلى بيت المقدس ، ومنه ربط البراق فيه ، الجواب نعم ، ومن خصائص الأنبياء أنهم أئمة الذكر والتسبيح .
وعن زر بن حبيش(لحذيفة: أربط الدّابة بالحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء – قال: أكان يخاف أن تذهب منه وقد أتاه الله بها، كأن حذيفة لم يبلغه أنّه صلّى في المسجد الأقصى، ولا ربط البراق بالحلقة ) ( ).
ولكن هذا الربط للدابة إنما هو سنة الأنبياء [وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً]( ) والظاهر أنه لم يبلغ حذيفة برط البراق بالحلقة .
الثامن عشر : حصول إختبار وإمتحان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قبل جبرئيل بأن أتاه باناء خمر وآخر لبن ، فشرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم اللبن فكانت بشارة نجاة الأمة من الغواية .
التاسع عشر : لقد جاءت الدنيا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الإسراء بهيئة امرأة جميلة ، وفي الحديث أعلاه (عليها من كل زينة) وهذا العموم من الإعجاز في الخبر أي أنها تحمل أفراداً من زينة أهل كل زمان من الذهب والدر واللؤلؤ والياقوت ، ومن الأصباغ الحديثة .
العشرون : لقد أخبر الله عز وجل عن إتصاف خلق الملائكة بالأجنحة كوسيلة للطيران والإنتقال باسرع من الصوت في السموات والهبوط إلى الأرض ، قال تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
وليكون حضور الملائكة واقعة الإسراء مقدمة لهبوط أفواج منهم من السماء الدنيا والثانية والثالثة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
الواحد والعشرون : تضمن الحديث دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (بيت المقدس )أي المسجد مما يدل على وجوده أيام النبوة .
فقد وردت الأخبار أن داود عليه السلام هو الذي ابتدأ بناء المسجد الأقصى وأن سليمان عليه السلام هو الذي اتمه ، وعندما اتمه خرج لحج بيت الله الحرام بجنوده من الأنس والجن والطير والوحوش في معسكر كبير ، والريح تحملهم ، ليكون هذا الحمل مقدمة لحديث الإسراء ، وحينما وصل إلى مكة قال لأشراف قومه (إنَّ هذا مكان يخرج منه نبيّ عربيّ صفته كذا وكذا،
يعطى النصر على جميع من ناوأه،
وتبلغ هيبته مسيرة شهر بالقريب والبعيد عنده في الحق سواء لا تأخذه في الله لومة لائم.
قالوا : فبأي دين ندين يا نبي الله؟
قال : بدين الحنيفية فطوبى لمن أدركه وآمن به وصدقه.
قالوا : وكم بيننا وبين خروجه يا نبي الله؟
قال : زهاء ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل وإن إسمه محمد في زمر الأنبياء.) ( ).
وأقام سليمان عليه السلام في مكة إلى أن قضى المناسك ، وهل كان هذا الأداء من مصاديق دعوة إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( )الجواب نعم.
ثم سار إلى اليمن ووصل إلى صنعاء عند زوال الشمس عن كبد السماء في الظهيرة مسيرة شهر قطعها بيوم واحد .
لتأكيد أن المسجد الأقصى ليس برزخاً دون أداء مناسك الحج ، ويتجلى بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانشاء المسجد النبوي والمساجد الأخرى في المدينة ليست بديلاً عن المسجد الحرام ،وأداء مناسك الحج فيه ، وقد وردت الرواية بأن الصلاة فيه أضعاف الصلاة في المسجد النبوي (عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة ، وفي مسجدي ألف صلاة ، وفي مسجد بيت المقدس بخمسمائة صلاة .
وأخرج ابن ماجة عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صلاة الرجل في بيته بصلاة ، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة ، وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة ، وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة ، وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة ، وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة) ( ).
وكانت أرض خضراء فاحب أن ينزل فيها ويصلي الظهر ويتغدى فطلبوا الماء فلم يجدوه ، وعندما سأل عن الهدهد الذي من اختصاصه رؤية الماء من تحت الأرض فيشير إلى موضعه فتأتي الشياطين فتزيح ظاهر الأرض كما لو يحفرون بئراً ، فكانت قصته التي وردت في القرآن .
و(عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : لا تقتلوا الهدهد فإنه كان دليل سليمان على قرب الماء وبعده،
وأحب أن يعبد الله في الأرض حيث يقول {وجئتك من سبأ بنبأ يقين إني وجدت إمرأة}( ) الآية) ( ).
لقد صلى الله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بيت المقدس لتكون دعوة للمسلمين بالصلاة فيه ولبيان فضله وتعاهده .
(عن مكحول: أن ميمونة( ) سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيت المقدس ، قال : نعم المسكن بيت المقدس ، ومن صلى فيه صلاة بألف صلاة فيما سواه قالت : فمن لم يطق ذلك ، قال فليهد إليه زيتاً) ( ).
والمسجد الأقصى قديم في إنشائه ، ولكن البيت الحرام سابق له ، وفي خبر أبي ذر(قلتُ: يا رسولَ الله، أيُّ مَسجِد وُضِع في الأرض أوَّلُ؟ قال: “الْمسْجِدُ الْحَرَامُ”. قلت: ثم أَيُّ؟
قال: “الْمسجِدُ الأقْصَى”. قلت: كم بينهما؟ قال: “أرْبَعُونَ سَنَةً”. قلتُ: ثم أَيُّ؟ قال: ثُم حَيْثُ أدْرَكْت الصَلاةَ فَصَلِّ، فَكُلُّهَا مَسْجِدٌ) ( ).
ويدل عليه قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا] ( ) .
الثاني والعشرون : قيام جبرئيل بالصلاة ركعتين في بيت المقدس مثلما صلى الله عليه وآله وسلم ، ترى هل كان جبرئيل في تلك الساعة على هيئة آدمي كما كان يتمثل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهيئة دحِيه الكلبي .
المختار نعم ، لبيان قدسية الموضع ، وإرادة الملائكة الصلاة والتعبد فيه .
الثالث والعشرون : الإتيان بالمعراج إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكأنه مركبة فضائية بصورة جميلة وبهيجة ، إذ تصعد فيه أرواح المؤمنين إلى السماء ، ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم صعد به وهو في الدنيا ، ويتصف المعراج بخلوه من الأخطار أو الضرر .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) الوارد في آية البحث .
الجواب نعم ، ومن الإعجاز في الآية أعلاه جمعها بين السموات والأرض ، ومنه في المقام وجوه :
الأول : إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدقائق معدودة من مكة في الحجاز إلى بيت المقدس في الشام على البُراق ومن غير عناء أو تعب أو مواجهة الريح .
الثاني : هبوط جبرئيل من السماء إلى الأرض ، ليكون هذا الهبوط مقدمة لنصرته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر.
الثالث : إحضار البُراق وهو مركوب الأنبياء ليركب عليه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو خاص للنقل الإعجازي السريع وكأنه صاروخ .
وهل هو من أفراد عالم البرزخ ، الجواب نعم ، وسخره الله عز وجل لمعراج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : صعود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السماء ، وهو من مصاديق واو العطف في آية البحث بالجمع بين السموات والأرض ، ليكون تفكر المؤمنين على أقسام :
الأول : التفكر في السموات .
الثاني : التفكر في الأرض .
الثالث : التفكر في السموات والأرض مجتمعين .
لقد أخبرت آية الإسراء [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ] ( ) عن الذهاب بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونقله في ليلة واحدة من مكة إلى المسجد الأقصى الذي هو ظاهر وبارز في الشام ، ويزار ويصلي فيه المسلمون والمسلمات إلى يومنا هذا ، وهو من إعجاز آية الإسراء والأحاديث النبوية بالثواب العظيم في عمارته وشد الرحال إليه ، والصلاة فيه .
وأشارت الآية أعلاه إلى المعراج بقوله تعالى [لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا]( ).
فمن الآيات هبوط جبرئيل وميكائيل وشق صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وغسله وتطهيره ، ومنها البُراق وركوب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها وطيها الأرض بسرعة الصوت ، فمسيرة شهر بين مكة وبيت المقدس على الإبل تمت بدقائق معدودة.
وعن (معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : يقول الله تعالى : يا شام أنت صفوتي من بلادي وأنا سائق إليك صفوتي من عبادي) ( ).
لقد ورد بأن جبرئيل وميكائيل شقا بطن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليغسلوا صدره من ماء زمزم ، إذ ورد عن ابن عباس وجابر بن عبد الله ( لما كانت ليلة أسري بي وأنا بمكة بين النائم واليقظان،
جاءني جبرئيل (عليه السلام) فقال يا محمّد قم فقمت فإذا جبرئيل ومعه ميكائيل فقال جبرئيل لميكائيل : أئتني بطشت من ماء زمزم لكيما (وعطر قلبه) وأشرح له صدره.
قال : فشق بطني فغسله ثلاث مرات واختلف إليه ميكائيل بثلاث طشات من ماء زمزم، فشرح صدري ونزع ما كان فيه من غل وملاه حلماً وعلماً وإيماناً .
وختم بين كتفيَّ بخاتم النبوة، ثمّ أخذ جبرئيل بيدي حتّى انتهى بي إلى سقاية زمزم فقال لملك : ائتني بنور من ماء زمزم ومن ماء الكوثر، فقال : توضأ فتوضأت ثمّ قال لي : انطلق يا محمّد. قلت : إلى اين؟
قال : إلى ربك ورب كل شيء،)( ).
الرابع والعشرون : إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن صعوده والملك جبرئيل إلى السماء بالمعراج ، وأول مرحلة وصل إليها هي السماء الدنيا، وهي أقرب السماوات السبع إلى الأرض ، وذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم اسم الملك المسؤول الأول عن هذه السماء مع سعتها وهو (إسماعيل) ويعمل تحت أمرته سبع مليارات من الملائكة ، كل واحد منهم يكون باشكال وهيئات مختلفة، وهل هؤلاء الملائكة أقل حجماً وهيئة من الرئيس عليهم (إسماعيل ) الجواب لا دليل عليه لعدم الملازمة بين كبر الهيئة وبين الرياسة والوظيفة الملكوتية .
وعند الوصول إلى السماء الدنيا (استفتح جبرئيل ) باب السماء( ) أي طلب جبرئيل فتح باب السماء لدخولها ، مما يدل على أن هناك كلمة سر لهذا الإستفتاح لا يعلمها إلا ملائكة مخصوصون ، ولا يفتح باب السماء بهذا الإستفتاح ، إنما هو نوع إذن وسؤال لدخول السماء ، فمع عظيم شأن ومنزلة جبرئيل فانه لا يتنقل بين السماوات إلا باذن من الله ، ثم أنه من الملائكة القائمين على السماوات .
وهل يقف جبرئيل على الباب كثيراً ، الجواب لا ، وصارت شواهد في هذا الزمان في فتح الأبواب الخاصة الكترونياً بكارت ورقم خاص ، وهو قياس مع الفارق ، فسأل أهل السماء الدنيا من الذي يستفتح ويريد الدخول ، قال جبرئيل :
ورآى الملائكة معه شخصاً فقالوا له : ومن معك ؟
وأظهروا التعجب والغبطة حين سمعوا اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيه من الدلالة على بعثته ، وفيه شاهد بأنهم ينتظرون صعوده وعروجه إلى السماء ، وهل هذا الإنتظار قريب في أوانه أم أنه منذ آلاف السنين ، المختار هو الثاني .
الخامس والعشرون : لقد رآى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آدم عليه السلام في السماء الدنيا في حديث الإسراء ، تعرض عليه أرواح الناس الذين يموتون فيستقبل المؤمنين بالإكرام والأمر بجعلها في عليين ، قال تعالى [إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ] ( ) ويستقبل المشركين بالذم مع نقل ارواحهم إلى سجين، قال تعالى [إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ]( ).
وهل [عِلِّيِّينَ]و[سِجِّينٍ] من بدائع خلق السموات والأرض، الجواب نعم وهما مما يتفكر به المؤمنون ليجتهدوا في عمل الصالحات والفوز بصيرورتهم إلى عليين ، ويحرصوا على الإمتناع عن فعل السيئات للنجاة من سجين .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إن المؤمن إذا حضر أتته الملائكة بحريرة فيها مسك وضبائر ريحان ، فتسل روحه كما تسل الشعرة من العجين .
ويقال : أيتها النفس الطيبة أخرجي راضية مرضيّاً عنك إلى روح الله وكرامته ، فإذا خرجت روحه وضعت على ذلك المسك والريحان وطويت عليها الحريرة وذهب به إلى عليين ، وإن الكافر إذا حضر أتته الملائكة بمسح فيه جمر فتنزع روحه انتزاعاً شديداً ، ويقال : أيتها النفس الخبيثة أخرجي ساخطة مسخوطاً عليك إلى هوان الله وعذابه ، فإذا خرجت روحه وضعت على تلك الجمرة ، فإن لها نشيشاً ويطوى عليها المسح ويذهب به إلى سجين) ( ).
لقد رآى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آدم بهيئة البشر ، وأدرك أنه ليس من صنف الملائكة ، فسأل جبرئيل عنه ، فأخبره بأنه آدم أبو البشر ، ومع كثرة الآباء بين آدم والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان جبرئيل قال له هذا أبوك آدم ، لبيان أن الجد وإن ارتفع فهو بمنزلة الأب ، وفي التنزيل [أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] ( ).
لقد ابتدأ آدم النبي محمداً السلام (فسلم علي ورحب بي ) وفيه تشريف للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد على تفضيله على الأنبياء ، ويلاحظ قلة كلام آدم مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإنشغاله باستقبال الأرواح ولسنخية الحديث في عالم البرزخ ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل كان آدم ينتظر معراج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : هل عمل آدم في السماء مما يتفكر به المؤمنون .
أما المسألة الأولى فالجواب نعم ، وهو ظاهر اللقاء والترحيب ، وقد كان آدم في حياته يبشر ببعثته ورسالته .
وأما المسألة الثانية فالجواب نعم ، فذات خلق آدم وذريته من مصاديق [فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) الذي تذكره آية البحث ، ولقد خلق الله عز وجل آدم وذريته ليتفكروا في الخلق العام للسموات والأرض ، ويتفكروا في خلقهم ويقتبسوا منه المواعظ من وجوه :
الأول : علة خلق الناس .
الثاني : بديع صنع الله في خلق الإنسان .
الثالث : التناسل والتكاثر بين الناس .
الرابع : علة خلق الناس وهي عبادتهم لله عز وجل , والعصمة من الشرك والكفر والضلالة .
الخامس : تسخير السموات والأرض لنفع الناس في حياتهم اليومية وفي عباداتهم ومناسكهم , كما في إطلالة الهلال ليكون مناسبة للعبادة , فهلال شهر رمضان إعلان كوني لبدء فريضة الصيام , قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ) .
وهلال ذي الحجة بداية مناسك الحج وأهلة الأشهر الحرم للإمتناع عن القتال , ولمعان السيوف وسفك الدماء , قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ) .
وهل التفكر والتدبر في عالم البرزخ وأهواله وضيق القبر من مصاديق قوله تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الجواب نعم .
السادس : فضل الله عز وجل في حديث المعراج وكيف أسرى بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت المقدس حيث موضع الصعود إلى السماء , والله عز وجل قادر على أن يصعده بالمعراج إلى السماء من مكة نفسها خاصة مع شرف وقدسية البيت الحرام , ولكن ليريه الله عز وجل الأنظمة الكونية , ويعمل المسلمون والناس جميعاَ بالأسباب , ووجوب المقدمة لوجوب لذيها ، ومما يتجلى به هذا القانون في العبادات وجوب مقدمة الوضوء لأداء الصلاة [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ..]( ) وعن (حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فُضّلنا على الناس بثلاث : جُعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، جُعلت الأرض لنا مسجداً، وجُعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء) ( ).
وهل في حديث الإسراء دعوة للتفكر فيه , الجواب نعم لتعدد الآيات فيه , ولزوم شكر المسلمين لله عز وجل على هذه النعمة والدروس والمواعظ المقتبسة منها .
لقد كان لقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع آدم عليه السلام قصيراَ إذ تبادلا كلمات قليلة لبيان أن أهل السماء في عمل متصل وأن آدم عليه السلام إرتقى إلى منزلة وشأن رفيع في السماء في مدة عالم البرزخ .
ليكون من مصاديق تصديق المسلمين بالأنبياء جميعهم , واكرامهم رؤيتهم في عالم البرزخ , والفوز باللطف منهم وشفاعتهم في الأخرة .
حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع الأنبياء السابقين
وقد لا يظن الناس أن النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم يلتقي بآدم عليه السلام ويتكلم معه وهو في الدنيا , ولكنها شبهة بدوية تزول بأدنى تفكر إذ ينزل جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويحدثه والأنبياء أحياء عند الله عز وجل , وشاء الله عز وجل أن يجمع بينهم وبين رسوله الكريم في الإسراء والمعراج .
وهل التقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بجميع الأنبياء السابقين , الجواب لا , فظاهر الكلام أنه التقى بعدد من الأنبياء والمرسلين في السماء , لبيان عظيم شأنهم وإمكان الصلة بين أهل الدنيا وأهل الآخرة , وليكون الإسراء من معاني ودلالات آية البحث ، سواء من جهة ذكر الله أو التفكر في الخلق أو الدعاء ، ورجاء النجاة من النار ، و(عن سعيد بن جبير : أن عمر بن الخطاب سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة الملائكة ، فلم يرد عليه شيئاً .
فأتاه جبريل فقال : إن أهل السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة ، يقولون : سبحان ذي الملك والملكوت ، وأهل السماء الثانية ركوع إلى يوم القيامة ، يقولون : سبحان ذي العزة والجبروت ، وأهل السماء الثالثة قيام إلى يوم القيامة ، يقولون : سبحان الحي الذي لا يموت) ( ).
لقد التقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع كل من :
الأول : آدم عليه السلام أبو البشر في السماء الدنيا .
الثاني : يوسف عليه السلام في السماء الثانية , ولم يكن يوسف وحده بل كان معه جماعة من مؤمني بني إسرائيل.
الثالث: عيسى ويحيى عليهما السلام في السماء الثالثة .
يشبه أحدهما الآخر في الهيئة ولون الشعر , وفي اللباس وطول الشعر .
وبادرهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم السلام ورحبا به، وفي رواية عن أنس بن مالك يرفعه ، أن عيسى ويحيى في السماء الثانية ، وأن يوسف عليه السلام في السماء الثالثة ( ) .
الرابع : لقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بادريس عليه السلام في السماء الرابعة , وإقامته بهذه السماء , قال تعالى [وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا]( ).
وفي رواية ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : (ثمّ صعد بي إلى السماء الرابعة فاستفتح قالوا : من هذا؟
قال : جبرئيل،
قالوا : ومن معك؟
قال : محمّد. قالوا : وقد أُرسل محمّد؟
قال : نعم. قالوا : حيّاه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء،
فدخلنا فإذا برجل من حاله (كذا) فقلت : من هذا يا جبرئيل؟
قال : هذا إدريس رفعه الله مكاناً علياً وهو مسند ظهره إلى دواوين الخلائق التي فيها أمورهم) ( ).
الخامس : ولم يكن الأنبياء وحدهم الذين يستقبلون النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم بالترحاب في السماء , بل كان الملائكة القائمون على شؤون السماء يرحبون به , ويستبشرون ببعثته .
فمثلاَ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (ثمّ صعد بي إلى السماء الخامسة فإستفتح قالوا : من هذا؟
قال : جبرئيل. قالوا : من معك؟
قال : محمّد قالوا : وقد أُرسل محمّد؟
قال : نعم. قالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء.
قال : ثمّ دخلنا فإذا برجل جالس وحوله قوم يقصٌّ عليهم فقلت : ياجبرئيل من هذا؟
ومن هؤلاء الذين حوله؟
قال : هذا هارون (المحبب) وهؤلاء الذين حوله بنو إسرائيل)( ).
السادس : ثم صعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء السادسة ومعه جبرئيل الذي كان يستفتح أبواب السماء فيأذن له الحفظة بالدخول بعد أن يعرّفهم بنفسه وبمن معه .
وكان موسى عليه السلام في هذه السماء ، والذي أثنى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأقر بعظيم منزلته عند الله عز وجل بأنه أكرم عند الله عز وجل .
إذ إرتقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من أهل الدنيا في السموات ليريه الله عز وجل ومن خلفه أمته الآيات الكونية , ويكون حديث الإسراء مناسبة للإجتهاد بذكر الله عز وجل , والتفكر في الخلائق والصلة بين السموات والأرض , ومنها حديث الإسراء فهو نوع تداخل وإرتباط بين السموات والأرض .
السابع : صعود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معراجه إلى السماء السابعة وهي أعلى السموات وآخرها من الجهة الفوقية , إذ وجد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إبراهيم عليه السلام , ومن الآيات في المقام ورود ذكر الجنة في السماء السابعة , قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : (ثمّ دخلنا فإذا برجل (أشمط) جالس على كرسي عند باب الجنة وعنده قوم جلوس (بيض) الوجوه أمثال القراطيس ، وقوم في ألوانهم شيء (…) فقام الذين في ألوانهم شيء فدخلوا نهراً فاغتسلوا فيه فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شيء .
ثمّ دخلوا نهراً آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلص من ألوانهم وصارت مثل ألوان أصحابهم فجاءوا فجلسوا إلى جنب أصحابهم فقلت : يا جبرئيل من هذا الأشمط ومن هؤلاء وما هذه الأنهار؟
قال : هذا أبوك إبراهيم (عليه السلام) أوّل من شمط على الأرض، وأما هؤلاء البيض الوجوه فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم ، فأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء فقوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً فتابوا فتاب الله عليهم، وأما الأنهار الثلاثة فأولها رحمة الله والثاني نعمة الله والثالث سقاهم ربهم شراباً طهوراً قال : فإذا إبراهيم مستند إلى بيت فسالت جبرئيل.
فقال : هذا البيت المعمور يدخل فيه كل يوم سبعون الف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم) ( ).
الثامن : وصول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى سدرة المنتهى مع وصف لها ولموضعها , وتدلي أغصانها تحت الكرسي , وتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى [مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ]( ).
التاسع : صعود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحجب السبعين وغلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام , وما بين الحجاب والآخر خمسمائة عام , فيكون المجموع مسيرة سبعين ألف عام وهذه الحجب والمسافات الشاسعة بينها , هي برزخ وفاصل بين السماء السابعة وبين العرش .
ولا يتعارض هذا الحديث ومدة الخمسمائة عام مع ذكر التفاوت في قوله تعالى [الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ]( ).
فيشمل موضوع التفاوت الدخان والغبار الكوني ، وطبقات لا تدركها عقول البشر لذا فقد ذكرت الآية أعلاه انتفاء التفاوت والتمايز في طبقات السموات ، فكل فرد منها معجزة وحتى مسيرة خمسمائة عام بين كل سماء وأخرى معجزة أخرى.
وسيبقى الناس عاجزين عن إيجاد ثغرة أو فجوة أو خلل في ترتيب وبناء السماء ولا يعني قوله تعالى [مِنْ تَفَاوُتٍ] انتفاء التباعد بينها ، إذ ورد عن ابن عباس قال (تشقق)( ).
وعن قتادة : من اختلاف.
ولم يرد لفظ (تفاوت) و(فطور) و(كرتين) و(خاسئاً) (حسير) إلا في الآيتين أعلاه.
من أسرار السموات
يحتمل موضوع قوله تعالى في آية البحث [وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( )، تدبر وتحاور وتدارس المسلمين والمسلمات بخصوص السموات وجوهاَ:
الأول : سعة السموات .
الثاني : كثرة الخلائق والمجرات والغبار الكوني والدخان في أنظمة دقيقة ومحبوكة في السموات ، قال تعالى [وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ]( ).
الثالث : إطلالة الكواكب والنجوم كل ليلة .
الرابع : بديع حركة وأنظمة سير الكواكب .
الخامس : تعاقب الشمس والقمر .
السادس : تعلق أوان النهار والليل بحركة الشمس والقمر ، فاذا طلعت الشمس فالنهار موجود مع عجز الناس عن التصرف في عالم الأكوان , فان قلت قد تصنع بعض الدول شمساَ صناعية .
والجواب إنه فعل محدود زماناَ ومكاناَ وكلفته عالية , ولا يرقى إلى منافع وضياء الشمس في صحة الأبدان وصلاح الزراعات ونضوج الثمار وطيب الهواء ونحوه وعموم النفع .
كما أن الشمس الصناعية والقمر الصناعي على فرض تحققها من مصاديق قوله تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ).
السابع : إرتباط الفرائض العبادية بالآيات الكونية ، قال تعالى [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ) .
وقال تعالى بخصوص الصيام [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ]( ).
وهل أوقات العبادات مناسبة للعمل بمضامين آية البحث ، وارتقاء المسلمين لمرتبة أولى الألباب ، الجواب نعم ، وهو من الإعجاز في إصلاح المسلمين للإمتثال للأحكام وسنن القرآن ، فمثلاً ينتظر المسلم طلوع الفجر لأداء صلاة الصبح ، ويحرص على إتيانها قبل طلوع الشمس ، ولا ينتظر غروب الشمس كي يصلي صلاة المغرب ، بل يلحظ وسط النهار وزوال الشمس عن كبد السماء لأداء صلاة الظهر ، ويؤدي المسلمون الصلاة جماعة وفرادى ، ليكون من معاني قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ]( )، لحاظ الآيات الكونية واتخاذ التدبر فيها مادة للحرص على أداء الصلوات بخشوع وخشية من الله عز وجل .
الثامن : عدد السموات سبعة عدا الحجب التي بين كل اثنتين منها من غير تزاحم بينها ، قال تعالى [وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا]( ).
التاسع : ترغيب ذات السماء لأهل الأرض بالتدبر في عجائبها ، ونظمها والتفكر في خلقها ، واتخاذها مادة ومقدمة للإيمان ، قال تعالى [أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ]( ).
فمن معاني (يتفكرون في خلق) أي أن السموات والأرض تبعث الناس على التفكر في خلقها وعظمتها وأنه لايقدر على هذا الخلق إلا الله عز وجل.
وهل إسراء ومعراج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق قوله تعالى [هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] ( )، الجواب نعم ، فلم يعرج بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء إلا بعلم وأمر من عند الله عز وجل .
قانون الثناء على المؤمنين
لقد سبق الثناء على أهل هذه الآية بخاتمة الآية السابقة بنعتهم [ِأُولِي الأَلْبَابِ] ( )فهم أصحاب العقول الذين يمتنعون بها عن الإنقياد إلى الهوى والنفس الشهوية ، قال تعالى [وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) ليكون من إعجاز القرآن الثناء على المؤمنين من جهات :
الأولى : تقدم وسبق الثناء على المؤمنين قبل ذكرهم في الآية .
الثانية : بيان الخصال الحميدة للمؤمنين .
الثالثة : قانون الملازمة بين الإيمان والفعل الحسن ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً]( ).
الرابعة : لجوء المؤمنين إلى الشكر لله والدعاء والتسليم بربوبيته المطلقة .
ومن خصائص الإيمان الإستقامة والصلاح , فيأتي الثناء من عند الناس طوعاَ وانطباقاَ , فترى الشقي والفاجر يمدح المؤمنين ويغبطهم على تقواهم وصلاحهم , وامتناعهم عن التعدي .
وهو من منافع إنقطاعهم لذكر الله عز وجل , وخشيتهم من بطشه وهي التي تترشح عن تفكرهم بخلق السموات والأرض , قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا] ( ).
وتتضمن آية البحث الثناء على المؤمنين من وجوه :
الأول : نعتهم بأولي الألباب وفيه وقاية من أهل الريب والنفاق.
الثاني : تفضل الله عز وجل بجعل بدائع الخلق واختلاف الليل والنهار آيات للمؤمنين كما تدل عليه الآية السابقة .
وهل ينحصر وصف المؤمنين في القرآن بأولي الألباب , الجواب لا , فقد ورد وصفهم بالتفكر كما في قوله تعالى [وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( ) .
وذكرت آية البحث تفكرهم في بدائع الخلق , كما وصفتهم آيات القرآن بالعقل والتعقل , قال تعالى [وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] ( ) .
كما ورد نعتهم بتبوئ مقام الشكر , قال تعالى [كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ] ( ) .
موضوعية الآية في حفظ القرآن من التحريف
حرف الشئ : طرفه وجانبه، قال تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ] ( ) أي على طرف وجانب ونفع من الدين من غير أن يتقيد بالأوامر والنواهي في الشريعة ، كالذي يحضر مع الجيش ، ويكون في طرفه ، فاذا تحقق نصر كان حاضراً وطلب الغنيمة ، وإن حدث إنكسار وكثرة قتلى كان سالماً ومستعداً للهزيمة ، وجاءت الحروب والأسلحة الحديثة التي قد تصيب الذي بالخلف والجانب قبل الذي في المقدمة والقلب .
ومن إعجاز القرآن إطلالة كل آية منه على أهل الزمان ، والجيل اللاحق مثلما أطلت على الجيل السابق ، وإمتناعها عن التأويل المخالف للحق والصواب ، وهو من قانون سلامة القرآن من التحريف بلحاظ عدم إنحصار هذه السلامة بالعصمة من الزيادة أو النقيصة ، ليكون من معاني الحفظ في قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) حفظ الآية القرآنية في تفسيرها وتأويلها ، والمنع السماوي من تحريف معناها ، والمراد من الذكر في الآية أعلاه القرآن.
ومن وجوه ومادة هذا الحفظ :
الأول : تفسير الآية القرآنية لآية أخرى ، وقد يكون التفسير بعدة آيات لآية واحدة ، وتجلت شذرات منه في تفسيرنا هذا .
الثاني : عربية القرآن ، وتثبيته لمفردات اللغة ومعانيها ، وعناية العلماء بقواعد اللغة والصرف ببركة القرآن ، والصدور عنه في الغالب ، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
الثالث : بيان السنة النبوية لآيات القرآن ، وتفسيرها ، وتأسيس قانون عدم التعارض بين القرآن والسنة النبوية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ) .
الرابع : إنذارات القرآن والسنة النبوية من التحريف في القرآن ، قال تعالى [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ] ( ).
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) ( ).
الخامس : تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلاة اليومية بما يفيد تعاهد آيات القرآن بالفاظها مع ضبط حركاتها , ولهذا الضبط جمال وبهاء خاص ، وإنقداح المعاني الثابتة للفظ القرآني عند تلاوته .
السادس : موافقة الوقائع والأحداث لمنطوق آيات القرآن .
السابع : تفضل الله عز وجل ببعث الشوق في النفوس لحفظ القرآن وآياته ، ومعانيه ، ودلالاته ، ومنه آية البحث ، فمن مصاديق قوله تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ]، تلاوة المسلمين لآيات القرآن في الصلاة وخارجها ، والتدبر في معانيها ، وإتخاذها موضوعاً للذكر والتسبيح .
وتكون آيات القرآن وسيلة وسبباً للتفكر في خلق السموات والأرض ، كما تترشح تلاوتها والعناية بها عن هذا التفكر ، قال تعالى [وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] ( )والتحريف والزيادة والنقيصة من مصاديق الباطل الذي يمتنع عنه القرآن .
منافق يسرق
هل النفاق كيفية نفسانية وحدها ، الجواب لا ، فهو خلق مذموم يترجل على اللسان ، وفي أفعال الجوارح والأركان .
ولقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتلقى الأذى من المشركين في مكة قبل الهجرة ، أما بعدها فقد فتح الله عز وجل له ، ولكن الأذى اشتد عليه ، إذ صار المشركون يجهزون الجيوش لغزوه وقتاله ، كما في معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، ومعركة حنين ، وجاء أذى أخر داخل مجتمعات المدينة والإسلام من المنافقين والمنافقات ، قال تعالى الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
و(عن قتادة بن النعمان قال : كان أهل بيت منا يقال لهم : بنو أبيرق . بشر ، وبشير ، ومبشر ، وكان بشير رجلاً منافقاً يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم ينحله بعض العرب ، ثم يقول : قال فلان كذا وكذا ، قال فلان كذا وكذا ، وإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك الشعر قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث .
فقال : أو كلما قال الرجال قصيدة أضحوا فقالوا : ابن الأبيرق قالها .
وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام ، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير ، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة( ) من الشام من الرزمك( ) ابتاع الرجل منها فخص بها بنفسه ، وأما العيال فإنما طعامهم الشعير ، فقدمت ضافطة الشام فابتاع عمي رفاعة بن زرد جملاً من الرزمك ، فجعله في مشربة له وفي المشربة سلاح له درعان وسيفاهما وما يصلحهما ، فعدا عدي من تحت الليل فنقب المشربة وأخذ الطعام والسلاح ، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه ، فنقبت مشربتنا ، فذهب بطعامنا وسلاحنا قال : فتجسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق قد استوقدوا في هذه الليلة ، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم .
قال : وقد كان بنو أبيرق قالوا – ونحن نسأل في الدار – والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلاً منا له صلاح وإسلام ، فلما سمع ذلك لبيد اخترط سيفه ، ثم أتى بني أبيرق وقال : أنا أسرق ، فوالله ليخالطنكم هذا السيف أو لتتبين هذه السرقة .
قالوا : إليك عنا أيها الرجل – فوالله – ما أنت بصاحبها ، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها . فقال لي عمي : يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له؟ .
قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقلت : يا رسول الله إن أهل بيت منا أهل جفاء ، عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له ، وأخذوا سلاحه وطعامه ، فليردوا علينا سلاحنا ، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سأنظر في ذلك ، فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلاً منهم يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك ، واجتمع إليه ناس من أهل الدار فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقالوا : يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا ، أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت .
قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكلمته .
فقال : عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت؟
قال قتادة : فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك ، فأتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ما صنعت؟
فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : الله المستعان . . . فلم نلبث أن نزل القرآن [إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا]( )، لبني أبيرق [وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ]، أي مما قلت لقتادة [إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلاَ تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ]( )، إلى قوله [ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا]( )، أي أنهم لو استغفروا الله لغفر لهم { ومن يكسب إثماً } إلى قوله { فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً } قولهم للبيد { ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك }( ) يعني أسير بن عروة وأصحابه إلى قوله { فسيؤتيه أجراً عظيماً} .
فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة . قال قتادة : فلما أتيت عمي بالسلاح – وكان شيخاً قد عسا في الجاهلية ، وكنت أرى إسلامه مدخولاً – فلما أتيته بالسلاح قال : يا ابن أخي هو في سبيل الله ، فعرفت أن إسلامه كان صحيحاً ، فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين ، فنزل على سلافة بنت سعد ، فأنزل الله { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى }( ) إلى قوله { ضلالاً بعيداً }( ) فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر ، فأخذت رحله فوضعته على رأسها ، ثم خرجت فرمت به في الأبطح ، ثم قالت أهديت لي شعر حسان ما كنت تأتيني بخير) ( ).
وآية البحث واقية من النفاق ، كما أنها تأخذ بأيدي المنافقين نحو سبل التوبة والإيمان من جهات :
الأولى : قانون الذكر المستديم لله عز وجل برزخ دون النفاق ، وبراءة منه .
الثانية : التفكر في الخلائق وبديع صنع الله حجة على المنافق ، ودعوة له لترك النفاق .
الثالثة : إتخاذ المؤمنين آية البحث للأمر بصدق الإيمان ، والنهي عن إخفاء الكفر ، والإقامة على مفاهيم الضلالة .
الرابعة : التسليم بأن الخلائق كلها من بديع صنع الله مقدمة للتصديق ببعث الأنبياء والرسل .
الخامسة : لقد ذكرت آية البحث التفكر في السموات والأرض ، كما أن التفكر في آيات القرآن تنزه عن النفاق .
السادسة : من معاني قول [سُبْحَانَكَ] تنزيه مقام الربوبية ، والدعوة لإخلاص العبودية لله عز وجل .
السابعة : اختتام الآية بانذار المنافقين والكافرين من النار يوم القيامة ، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا]( )ولم يرد لفظ [الدَّرْكِ] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
أعلى من التواتر
تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن كل يوم على نحو الوجوب العيني خمس مرات يجعل حفظه وتوارثه أعظم وأعلى مرتبة من مصطلح التواتر الذي يفيد رواية جماعة عن جماعة لا يتواطئون على الكذب ، إذ تكون رواية القرآن مرتبة عالية أسمى من تقسيمات علم الرواية والدراية الذي هو خاص بعلم الحديث.
ويختص علم الرواية بنص ومتن الحديث نفسه الذي أضيف إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الأئمة أو الصحابة ، والأصل فيه هو أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسنته الفعلية والتقريرية والدفاعية .
أما علم الدراية فيختص بحال الراوي ووثاقته ، وقبول حديثه أو رده ومدحه أو جرحه ، ورجال سند الحديث .
ولكن نقل القرآن لا يختص بواحد أو جماعة معينة ، فلم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا إلى الرفيق الأعلى إلا وعشرات الآلاف الصحابة يتناقلونه ويتلونه ، فهو أعلى من التواتر ولابد من إيجاد إصطلاح خاص يدل عليه مما يندرج تحت العموم ويفيد الشمول مثل اليقين.
سُمي المتواتر لأنه لا يقع مرة واحدة ودفعة بل يحصل على التعاقب والتوالي ، وهو من الحديث المسند التي هي على أقسام منها :
الأول : المتواتر .
الثاني : المشهور .
الثالث : الآحاد .
ويقابل السند الحديث المرسل.
وورد وصف القرآن بانه (بالتواتر عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعن جميع الأمة) ( ).
وقال بدر الدين الزركشي (745-794) وهو شافعي في كتابه البرهان في علوم القرآن (والمصحف المنقول بالتواتر مصحف عثمان ورسم الحروف واحد إلا ما تنوعت فيه المصاحف وهو بضعة عشر حرفا مثل الله الغفور وإن الله هو الغفور)( ).
إنما أقول أن نقل القرآن عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه أكبر وأوسع من مصطلح التواتر ، وكذا في طبقات وأجيال المسلمين ، فلم تروه جماعة عن جماعة فقط ، بل ترويه أمة عن أمة وتتداخل هذه الأمة والأجيال في نقل وحفظ القرآن ، وهو من أسرار وجوب تلاوته في الصلاة اليومية ، فلابد من إيجاد مصطلح لنقل القرآن أكبر وأوسع من مصطلح التواتر في الحديث فلكما أن القرآن أعلى مرتبة من الحديث وكذا هو أعلى مرتبة في سنده .
وتوارث القرآن أعم من النقل الذي هو موضوع المتواتر السندي ، لاعتناء الأمة اليومي وفي الأقطار المختلفة بالقرآن.
فقد يختص طائفة من العلماء بتدوين ونقل الحديث النبوي ، ولكن القرآن تنقله أمة عن أمة وجيل عن جيل.
والمختار أن القرآن قطعي الصدور قطعي الدلالة ، والمتوارث عندنا في الحوزة الشريفة هو أن القرآن قطعي الصدور ظني الدلالة والمختار بخلافه نعم قد تحمل الآية الواحدة معاني ودلالات ظنية إلى جانب الدلالة القطعية لذا سمي القرآن الفرقان , وسمي حمال أوجه .
وفي وصية الإمام علي عليه السلام لابن عباس (لما بعثه للاحتجاج على الخوارج : لا تخاصمهم بالقرآن فان القرآن حمال ذو وجوه تقول ويقولون، ولكن حاجهم بالسنة فإنهم لن يجدوا عنها محيصا)( ).
ويعرف القرآن بانه المكتوب في المصاحف المنقول بالتواتر المتعبد بتلاوته) ولكن نقله أعم من التواتر مصطلحاَ ومعنى ، والمختار أنه منقول بأعظم وأعلى رتبة من المتواتر.
ترتيب سور القرآن بلحاظ عدد الآيات والكلمات والحروف
عدد حروفها عدد كلماتها عدد آياتها أسم السورة
139 29 7 الفاتحة
25613 6144 286 البقرة
14605 3503 200 آل عمران
15937 3712 176 النساء
11892 2837 120 المآئدة
12418 3055 165 الأنعام
14071 3344 206 الأعراف
5299 1243 75 الأنفال
10873 2506 129 التوبة
7425 1841 109 يونس
7633 1947 123 هود
7125 1795 111 يوسف
3450 854 43 الرعد
3461 831 52 إبراهيم
2797 658 99 الحجر
7642 1845 128 النحل
6480 1559 111 الإسراء
6425 1583 110 الكهف
3835 972 98 مريم
5288 1354 135 طـه
4925 1174 112 الأنبياء
5196 1279 78 الحج
4354 1051 118 المؤمنون
5596 1317 64 النور
3786 896 77 الفرقان
5517 1322 227 الشعراء
4679 1165 93 النمل
5791 1441 88 القصص
4200 982 69 العنكبوت
3388 818 60 الروم
2121 550 34 لقمان
1523 374 30 السجدة
5618 1303 73 الأحزاب
3510 884 54 سبأ
3159 780 45 فاطر
2988 733 83 يس
3790 865 182 الصافات
2991 735 88 ص
4741 1177 75 الزمر
4984 1228 85 غافر
3282 796 54 فصلت
3431 860 53 الشورى
3508 837 89 الزخرف
1439 346 59 الدخان
2014 488 37 الجاثية
2602 646 35 الأحقاف
2360 542 38 محمد
2456 560 29 الفتح
1493 353 18 الحجرات
1473 373 45 ق
1510 360 60 الذاريات
1293 312 49 الطور
1405 359 62 النجم
1438 342 55 القمر
1585 352 78 الرحمن
1692 379 96 الواقعة
2475 575 29 الحديد
1991 475 22 المجادلة
1913 447 24 الحشر
1519 352 13 الممتحنة
936 226 14 الصف
749 177 11 الجمعة
780 180 11 المنافقون
1066 242 18 التغابن
1170 279 12 الطلاق
1067 254 12 التحريم
1316 337 30 الملك
1258 301 52 القلم
1107 261 52 الحاقة
947 217 44 المعارج
947 227 28 نوح
1089 286 28 الجن
840 200 20 المزمل
1015 256 56 المدثر
664 164 40 القيامة
1065 243 31 الإنسان
815 181 50 المرسلات
766 174 40 النبأ
762 179 46 النازعات
538 133 42 عبس
425 104 29 التكوير
326 81 19 الإنفطار
740 169 36 المطففين
436 108 25 الإنشقاق
459 109 22 البرج
249 61 17 الطارق
293 72 19 الأعلى
378 92 26 الغاشية
573 139 30 الفجر
335 82 20 البلد
249 54 15 الشمس
312 71 21 الليل
164 40 11 الضحى
102 27 8 الشرح
156 34 8 التين
281 72 19 العلق
112 30 5 القدر
394 94 8 البيِّنة
156 36 8 الزلزلة
164 40 11 العاديات
158 36 11 القارعة
122 28 8 التكاثر
70 14 3 العصر
133 33 9 الهمزة
96 23 5 الفيل
73 17 4 قريش
112 25 7 الماعون
42 10 3 الكوثر
95 27 6 الكافرون
79 19 3 النصر
81 29 5 المسد
47 15 4 الإخلاص
71 23 5 الفلق
80 20 6 الناس
322604 77845 6236


جدول يبيّن عدد مرات ورود كل حرف في القرآن الكريم
أ ب ت ث ج ح
52655 11491 10519 1414 3317 4140
خ د ذ ر ز س
2497 5991 4932 12403 1599 6010
ش ص ض ط ظ ع
2124 2074 1686 1273 853 9405
غ ف ق ك ل م
1221 8747 7034 10497 38102 26735
ن هـ و ي
27268 17195 25676 25746
قراءة الآية وفق القوانين الأربعة
تضمن هذا التفسير آلافاً من القوانين في العلوم المختلفة ، وكلها مستنبطة من آيات القرآن ومفاهيمها في آية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً ، ومن خصائص هذه القوانين أن الكثير منها يصلح أن يكون دراسة ماجستير أو دكتوراه في قادم الأيام إن شاء الله .
وهناك من القوانين الأساسية التي صدرت بخصوص كل منها أجزاء متعددة من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) وهي :
الأول : قانون (لم يغز النبي (ص) أحدا ، وصدرت بخصوصه الأجزاء :
الأول : الجزء الرابع والستون بعد المائة .
الثاني : الجزء الخامس والستون بعد المائة .
الثالث: الجزء السادس والستون بعد المائة .
الرابع : الجزء الثامن والستون بعد المائة .
الخامس : الجزء التاسع والستون بعد المائة .
السادس :الجزء السبعون بعد المائة .
السابع :الجزء الواحد والسبعون بعد المائة .
الثامن :الجزء الثاني والسبعون بعد المائة .
التاسع :الجزء الرابع والسبعون بعد المائة .
العاشر :الجزء السادس والسبعون بعد المائة .
الحادي عشر :الجزء السابع والسبعون بعد المائة .
الثاني عشر :الجزء الثامن والسبعون بعد المائة .
الثالث عشر :الجزء الثمانون بعد المائة .
الرابع عشر :الجزء الواحد والثمانون بعد المائة .
الخامس عشر :الجزء الثاني والثمانون بعد المائة .
السادس عشر :الجزء الثالث والثمانون بعد المائة
السابع عشر :الجزء السابع والثمانون بعد المائة .
الثامن عشر : الجزء الثالث والتسعون بعد المائة .
التاسع عشر :الجزء الرابع والتسعون بعد المائة .
العشرون : الجزء السادس والتسعون بعد المائة.
الواحد والعشرون : الجزء الرابع بعد المائتين .
الثاني والعشرون : الجزء الثاني عشر بعد المائتين .
الثالث والعشرون : الجزء السادس عشر بعد المائتين .
الرابع والعشرون : الجزء الواحد والعشرون بعد المائتين .
الخامس والعشرون : الجزء التاسع والعشرون بعد المائتين .
الثاني : قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب ) وصدرت بخصوصه الأجزاء :
الأول : الجزء الرابع والثمانون بعد المائة .
الثاني : الجزء الخامس والثمانون بعد المائة .
الثالث : الجزء الثامن والثمانون بعد المائة .
الرابع : الجزء الخامس والتسعون بعد المائة .
الخامس : الجزء الثامن والتسعون بعد المائة .
السادس : الجزء التاسع والتسعون بعد المائة .
السابع : الجزء الثالث بعد المائتين .
الثامن : الجزء العاشر بعد المائتين .
التاسع : الجزء الحادي عشر بعد المائتين .
العاشر : الجزء التاسع عشر بعد المائتين .
الثالث : قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة ) وصدرت بخصوصه الأجزاء :
أولاً : الجزء السادس بعد المائتين .
ثانياً : الجزء السابع بعد المائتين .
ثالثاً : الجزء الثامن بعد المائتين .
رابعاً : الجزء الرابع عشر بعد المائتين .
خامساً : الجزء الخامس عشر بعد المائتين.
سادساً : الجزء الثالث والثلاثين بعد المائتين .
الرابع : (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب ) وصدرت بخصوصه الأجزاء :
*الجزء الثاني والعشرون بعد المائتين .

  • الجزء الثالث والعشرون بعد المائتين .
  • الجزء الرابع والعشرون بعد المائتين .
  • الجزء السابع والعشرون بعد المائتين .
  • الجزء الثلاثون بعد المائتين.
    الخامس : قانون (آيات الدفاع سلام دائم) وصدرت بخصوصه الأجزاء :
    أولاً : الجزء الثاني والأربعون بعد المائة .
    ثانياً :الجزء الخامس بعد المائتين .
    ثالثاً : الجزء السابع عشر بعد المائتين .
    رابعاً :الجزء الثامن عشر بعد المائتين .
    خامساً :الجزء الواحد والثلاثون بعد المائتين .
    سادساً : الجزء الثاني والثلاثون بعد المائتين .
    وهل من صلة بين هذه القوانين وآية البحث ، الجواب نعم .
    أما بالنسبة للقانون الأول أعلاه فتدل الآية على انشغال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة بذكر الله في كل حال وأوان ،ليس من وقت عندهم للغزو ولا يحتاجون إليه ، فان قلت قد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتائب متعددة ، وأرسل نحو مائة سرية ، والجواب هذا الخروج من مصاديق آية البحث من جهات :
    الأولى : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب عرض لمبادئ الإسلام على القبائل .
    الثانية : إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة في الجادة العامة وعند مداخل القرى.
    الثالثة : شكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لله عز وجل على نعمة الصحابة من المهاجرين والأنصار وهذا الشكر من مصاديق ذكر الله الذي ابتدأت به آية البحث و(عن أبي جحيفة قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقوم حتى تفطر قدماه فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال : أفلا أكون عبداً شكوراً) ( ).
    الرابعة : منع المشركين من تجهيز الجيوش على المدينة.
    الخامسة : بيان حال العز التي صار عليها المؤمنون .
    أما بالنسبة للقانون الثاني أعلاه وهو التضاد بين القرآن والإرهاب فان الآية تزجر عن الإرهاب وتمنع منه لما فيها من سبل الهداية من جهات :
    الأولى : قانون ذكر الله والمداومة عليه ضد للإرهاب لإنعدام النفع منه.
    الثانية : قانون التفكر في بدائع خلق الله باعث للرحمة في النفوس.
    الثالثة : مجئ النداء (ربنا) بصيغة الجمع تسليم بأن الله عز وجل رب الناس جميعاً وهو أعلم بالمصلحة ، فلابد من ترك الإرهاب.
    الرابعة : قانون قول (سبحان الله) لجوء إليه تعالى.
    الخامسة : بيان قانون وهو الذي يسأل الله عز وجل النجاة من النار يجتنب أسباب ومقدمات الدخول إليها ، فيبتعد عن الإرهاب وإخافة الناس ، والإضرار بالممتلكات العامة والخاصة.
    وأما القانون الثالث أعلاه وهو (آيات السلم محكمة غير منسوخة) فان آية البحث من آيات السلم بمعناه الأعم ، لما تنشر من الموادعة والأمن والسكينة ، ويدل قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ]( )، على أن ذكر المسلم ينفعه وينتفع منه غيره ، يقوم المسلم بذكر الله فتشمل شآبيب الرأفة عياله والأقربين ، ويكون موعظة ودعوة للآخرين لذكر الله.
    فصحيح أن آية البحث ليست من آيات الموادعة ونبذ الحروب والإقتتال إلا أن مضامينها تدل عليه ، والإجماع والمتسالم على أنها محكمة غير منسوخة.
    إذ تدعو آية البحث إلى السلم والتواد والرحمة بين الناس جميعاً ، ومن مصاديق قوله تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ]( )، ذكرهم لرحمة الله بالناس جميعاً لذا ابتدأت كل آية من القرآن بالبسملة وتنشر آية البحث مفاهيم الرأفة والأخلاق الحميدة بين الناس.
    وأما القانون الرابع وهو (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب) فآية البحث مدرسة في التربية للكبير والصغير ، والغني والفقير ، والذكر والأنثى ، من المسلمين وغيرهم ، إذ تسكن النفوس بذكر الله طوعاً وقهراً وانطباقاً ، قال تعالى [وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ]( ).
    فان قلت كيف تشمل مفاهيم التربية في آية البحث غير المسلمين من أهل الكتاب والكفار ، الجواب لدلالتها على قانون حسن ذكر الله ذاتي وغيري ، وهو من مصاديق إجهار المسلمين بالتلاوة في الصلاة.
    ومن معاني ذكر الله وجوه :
    الأول : جريان ذكر الله على اللسان.
    الثاني : طاعة الله .
    الثالث : الإمتناع عن معصية الله .
    بلحاظ قانون الإمتناع عن المعصية أمر وجودي عن إختيار.
    الرابع : رجاء ثواب الله .
    الخامس : سؤال من العذاب كما تدل عليه خاتمة آية البحث.
    ومن أسرار تلاوة القرآن كل يوم على نحو الوجوب العيني على كل مسلم ومسلمة ، وبعثه الناس على التدبر في آياته ، وسلامته من التحريف الحرب على الإرهاب ، وغلق الأبواب على الظلم والتعدي ، والمنع من إخافة الناس في بيوتهم ودور العبادة والأسواق والمركبات ، ومن مصاديق هذه الحرب آية البحث ودلالاتها ومعاني الرحمة والرأفة العامة فيها.
    وأما بالنسبة للقانون الخامس وهو (آيات السلم سلاح دائم ) فان من معاني الجمع بينه وبين آية البحث عدم التعارض بين المواظبة على الذكر وبين صد المشركين في غزوهم وتعديهم ، وتجلي قانون كفاية الله عز وجل للمؤمنين .
    وسيأتي مزيد كلام في الجزء التاسع والثلاثين بعد المائتين في باب (قراءة في آية [أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ]).
    وكما أن الله عز وجل لم يخلق السموات والأرض باطلاً فانه سبحانه بعث الأنبياء بالحق والهدى ، وأسباب الصلاح والرشاد ، وجعل شطراً من الناس يتبعونهم ، وتتصل قلوبهم بشآبيب وأطراف العرش بالذكر المستديم ، ليصرف الله عز وجل عنهم شرور ومكر الذين كفروا .
    قوله تعالى [سُبْحَانَكَ]
    سُبحان كلمة تنزيه وتقديس لله عز وجل , ولا تقال لغيره لتكون رديفاَ لاسم الجلالة , ومن معانيها تسليم العباد بأن الله عز وجل منزه عن الشريك , وعن كل سوء أو نقص أو شر .
    وسبحان منصوباَ على المصدرية وهي كلمة تقديس (وسَبَحَ الرجلُ وغيره في الماء سَبْحاً وسِباحة. وقد جاء في التنزيل : في فَلَكٍ يَسبحون ، واللّه أعلم بكتابه.
    وسَبَّحَ الرجلُ تسبيحاً، إذا عَظم اللّه ومجده. ولسُبْحان في اللغة مواضع: سُبْحان: تنزيه وتبرئة. قال الأعشى :
    أقول لمّا جاءني فَخْرُهُ … سُبْحانَ مِن عَلْقمةَ الفاخرِ
    أي براءةً من فخرِ علقمةَ. وأنشدونا عن أبي زيد الأنصاري:
    سُبْحانَ مِن فِعْلِكِ يا قَطام … بالرَّكْبِ تحت غَسَقِ الظَّلام
    أمَا لمن ضافَكِ من ذِمام , فهذا تعجُّب) ( ).
    وأمر الله عز وجل النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم بالتسبيح على كل حال , وقال تعالى [وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ]( ) أي من كل جلوس , وقيل : من نومك من فراشك , ولا تعارض بينهما إنما هو من العام والخاص , ولو دار الأمر بينهما في التسبيح يقدم العام.
    وعن (عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من تعار من الليل فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
    سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال : رب اغفر لي -أو قال : ثم دعا-استجيب له، فإن عزم فتوضأ، ثم صلى تقبلت صلاته) ( ).
    وتستحضر كلمة (سبحانك) عند التعجب من عظيم قدرة الله عز وجل لما فيها من إقرار الناس بالعجز عن الإحاطة بالخلائق فتكون هذه الكلمة لجوء واستجارة بالله عز وجل وثناء عليه ورجاء فضله ورحمته وإحسانه .
    و(سبحان الله) كلمة تنزيه وتقديس لله عز وجل , ونفي للشريك والند , والمثل والضد , ومن معانيه إرادة تخلف وعجز الخلائق عن وصفه سبحانه , وفي التنزيل [كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ]( ) لإفادة البعد وسعة السموات .
    وفي قوله تعالى [وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا]( )، ورد عن الإمام علي عليه السلام انه قال : هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين) ( ).
    ومن الآيات في الفرائض العبادية قول كل مسلم ومسلمة في الركوع سبحان ربي العظيم وبحمده , وفي السجود سبحان ربي الأعلى وبحمده , تأسياَ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وبأمر من عند الله عز وجل .
    و(عن عقبة بن عامر الجهني قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { فسبح باسم ربك العظيم }( ) قال : اجعلوها في ركوعكم ، ولما نزلت { سبح اسم ربك الأعلى }( ) قال: اجعلوها في سجودكم) ( ) لبيان من وجوه :
    الأول : قانون أفعال الصلاة توقيفية من عند الله عز وجل .
    الثاني : قانون موضوعية تسبيح وتقديس الله عز وجل في حياة المؤمن اليومية .
    الثالث : قانون حب الله عز وجل لسماع الناس يلهجون بقول سبحان الله .
    ومنه آية البحث إذ تتضمن هداية المؤمنين لقول سبحان الله الجواب لأن العقل يدرك أنه لا يقدر على خلق السموات والأرض إلا الله عز وجل ولا يحافظ عليها في استدامتها إلا هو سبحانه , ولا تنتظم في أنظمتها إلا بالربوبية المطلقة لله عز وجل ففزعوا إلى الله عز وجل بالثناء والتمجيد والتقديس بكلمة وافية وهي (سبحان الله).
    وهل يقف قولهم وثناؤهم على الله عز وجل عند هذه الكلمة , الجواب لا , إنما وردت كلمة (سبحانك) لذكر المؤمنين لها بالخصوص ولأنها عنوان التمجيد والتقديس لله عز وجل , ولأولوية تقديم الثناء لله عز وجل في الدعاء إذ أن خاتمة آية البحث دعاء وسؤال للنجاة من عذاب النار.
    لبيان حسن أدب العبودية , ورجاء الإستجابة والفضل الإلهي.
    وهل قول (سبحانك) من التسبيحة الصغرى أم التسبيحة الكبرى ، الجواب تدل الآية على مطلق التسبيح ، والتهليل وإفادة تنزيه مقام الربوبية.
    و(عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من قول : سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه ، فقلت يا رسول الله : أراك تكثر من قول : سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه ، فقال : خبرني أني سأرى علامة في أمتي فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه ، فقد رأيتها [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ]( )، فتح مكة وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا( ).
    التفسير بالتقدير
    وفيه مسائل :
    الأولى : سبحانك تقدست وتعاليت أنت الرب , والخلائق كلها منقادة إليك .
    الثانية : سبحانك لا يقدر على خلق السموات والأرض إلا أنت.
    الثالثة : سبحانك إبتدعت السموات والأرض بحكمة منك , وفي التنزيل [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ).
    لتبين الآية أعلاه أن خلق الله عز وجل لا ينحصر بالسموات والأرض بل يشمل كل شئ , وهو سبحانه عالم بخلقه , وجميع المخلوقات حاضرة عنده ، ومنها أولو الألباب الذين يعلم الله عز وجل باستدامة ذكرهم له سبحانه وتفكرهم في الخلق فأنزل آية البحث لأمور :
    الأول : قانون الثناء على أولي الألباب .
    الثاني : قانون دعوة الناس جميعاَ للإرتقاء إلى مرتبة أولي الألباب.
    الثالث : قانون حب الله عز وجل لأولي الألباب لإيمانهم .
    الرابع : الإخبار السماوي عن علم الله عز وجل بالذين يذكرونه ويتفكرون في خلقه للسموات والأرض , فتفضل واثنى عليهم .
    الرابعة : سبحانك أنت العفو الغفور , أغفر لنا ولآبائنا وذرياتنا.
    الخامسة : سبحانك أنت الذي أنزلت القرآن , لبيان خلقك للسموات والأرض بعظيم قدرتك .
    السادسة : سبحانك تتيه العقول في التفكر في مخلوقاتك , مما يملي على أرباب العقول المبادرة بتصديق الأنبياء والرسل , والإنصياع لأوامرك , وإجتناب ما نهيت عنه .
    السابعة : سبحانك اجعل ذكرنا لك رحمة لنا في الدنيا والآخرة , ويدل عليه قوله تعالى [وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
    على إن الله عز وجل يرضى بالذكر بالإخفات واستحضار الخوف والخشية لله عند الإقدام على فعل وإن الله عز وجل هو [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( ).
    صلة (سبحانك) بالآيات التالية
    هل تدل آية البحث على سؤال المؤمنين الجنة , الجواب نعم , كما أنها بداية لأدعية متعددة وردت في الآيات التالية ومنها [رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ]( ).
    ومن معاني الصلة بين كلمة (سبحانك) وبين الآيات التالية وجوه :
    الأول : سبحانك رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ.
    الثاني : سبحانك ربنا وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ.
    الثالث : سبحانك ربنا رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ.
    لبيان نسبة التساوي بين أولي الألباب والمؤمنين, كما يدل عليه تكرار النداء (ربنا) بصيغة الجمع في هذه الآيات خمس مرات , بدأت بآية البحث [رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً] ( ).
    الرابع : سبحانك ربنا فاغفر لنا ذنوبنا .
    الخامس : سبحانك ربنا كفر عنا سيئاتنا .
    السادس : سبحانك ربنا توفنا مع الأبرار .
    السابع : سبحانك رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ .
    الثامن : سبحانك ربنا ولا تخزنا يوم القيامة .
    التاسع : سبحانك ربنا إنك لا تخلف الميعاد .
    وسيأتي مزيد كلام في الأجزاء التالية والصلة بينها في باب (سياق الآيات) وتبيّن هذه الآيات إدراك المؤمنين للحاجة إلى :
    الأول : قانون الإلحاح بالدعاء .
    الثاني : قانون اقتران الدعاء بتقديس مقام الربوبية .
    الثالث : قانون الإقرار والتسليم بالمعاد .
    الرابع : قانون سؤال دخول الجنة , والنجاة من عذاب النار .
    وبعد آيات الدعاء والتضرع هذه جاءت البشارة والوعد من عند الله عز وجل [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ] ( ).
    ولم يرد لفظ (اسْتَجَابَ لَهُمْ) في القرآن إلا في الآية أعلاه , وجاءت الإستجابة بأضعاف مما سألوا موضوعاَ وحكماَ .
    ترى لمن يعود الضمير (هم) في (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ) ، الجواب لأولي الألباب ، لبيان الصلة والإتصال بين آيات خاتمة سورة آل عمران
    علم المناسبة
    سبحان كلمة تقديس وتنزيه لله عز وجل ، وهي خاصة به تعالى لبيان عدم إنحصار المختصات بالذات المقدسة باسم الجلالة ، إنما كلمات التنزيه منها ، وكذا صيغة الجمع (إنا ، نحن ) قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) .
    ومع قلة كلمات الآية أعلاه فقد ورد فيها اسم الجمع (إنا ) وإرادة الله عز وجل مرتين ، كما وردت صيغة الجمع [لحافظون] وورد هذا اللفظ ثلاث مرات في القرآن ، إذ ورد مرتين في أخوة يوسف [أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] ( ) وبدل أن يفوا بوعدهم لأبيهم يعقوب النبي ، ألقوا يوسف في قعر البئر ، بعد أن ارادوا قتله والتخلص منه ، ولكن سفك الدماء كان عظيماً عند بني إسرائيل ، للحفاظ على ميراث النبوة .
    كما تعهدوا مرة أخرى لأبيهم في حفظ بنيامين أخ يوسف لأمه وأبيه [فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] ( ).
    وهل يستقرأ من هذا إنفراد الله عز وجل بالحفظ فهو وحده الذي يحفظ الوعد ، ويحفظ السموات والأرض ، ويحفظ أعمال بني آدم لتحضر معهم يوم القيامة ، ويحفظ الأرواح ويمنع اختلاطها ، فلا ترجع الروح يوم القيامة إلا لذات الجسد الذي خرجت منه .
    الجواب نعم ، ويحفظ الإنسان الوعد والعهد والوظائف العبادية ، قال تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ] ( )ومن خصائص الأمر الإلهي وجود المستجيب له ، فلابد من وجود أمة من المسلمين يحفظون أداء الصلاة في أوقاتها الخمس كل يوم إلى أوان النفخ في الصور .
    لقد وردت كلمة التسبيح بصيغة التقديس لله عز وجل بألفاظ متعددة مشتقة من سبّح ، منها قوله تعالى [سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ] ( )، وقوله تعالى [سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ] ( ) ، قال تعالى [قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ] ( )، وقوله تعالى [لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] ( ).
    لبيان أن كلمة [سُبْحَانَ] دعوة إلى الهدى والإيمان ، وهي وحدها مدرسة للتفقه في الدين ، وتثبيت الأقدام في مقامات العبودية لله عز وجل .
    وهل كلمة [سُبْحَانَكَ] حرب على الشرك ، الجواب نعم ، ليكون من الإعجاز في آية البحث قانون تلاوتها تأديب وتفقه وجدال وإحتجاج .
    لذا جعل الله عز وجل قراءة القرآن واجباً عينياً على كل مسلم ومسلمة ، متكرراً خمس مرات في اليوم ، ولا تجزي تلاوة أحدهم عن الآخر إلا الإمام في صلاة الجماعة ، لبيان أن منافعها أعظم في الدنيا والآخرة ، وأن التلاوة فيها ذات صبغة عامة .
    وهي من مصاديق آية البحث لأنها ذكر لله وتفكر في الخلق ، وتقديس لله ، ودعاء للنجاة من النار .
    لقد ورد لفظ [سُبْحَانَكَ] في القرآن تسع مرات وهي :
    الأولى :قوله تعالى [قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ]( ).
    الثانية: قوله تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
    الثالثة : قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ]( ).
    الرابعة : قوله تعالى [وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
    الخامسة : قوله تعالى [دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
    السادسة : قوله تعالى [وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ]( ).
    السابعة : قوله تعالى [وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ]( ).
    الثامنة : قوله تعالى [قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا]( ).
    التاسعة : قوله تعالى [قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ]( ).
    قوله تعالى [رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً]
    جاء النداء (ربنا) بصيغة الجمع , وفيه وجوه :
    الأول : دعوة المؤمن لنفسه .
    الثاني : دعوة المؤمن لنفسه , ولجماعته .
    الثالث : دعوة المؤمن لوالديه , فيتلو المؤمن هذه الآية فيُكتب عند الله عز وجل باراَ بوالديه لأنه يدعو لهما , وتقدير الآية : ربي وربّ والدي ما خلقت هذا باطلاَ .
    لتتضمن الآية التالية سؤال النجاة من النار للنفس والوالدين ، ويكون قوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( )، ربنا لا تخزني ووالدي يوم القيامة .
    الرابع : دعاء الجماعة من المؤمنين للفرد الواحد منهم .
    الخامس : دعاء الجماعة من المؤمنين لأنفسهم .
    وتبيّن هذه الآية أن خلق كل فرد وجزء من السموات والأرض لعلة وحكمة ، وفي التنزيل [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
    وهل تدل الآية إلى التحقيق العلمي في هذه العلل , الجواب نعم , مع التسليم بالعجز عن درك معشارها إلا أنه علم شريف ، ومن أفراد علم الكلام .
    وفيه بيان لقانون وهو ترشح الذكر عن التفكر ، فالذي يتفكر في خلق السموات والأرض يدرك أن الله عز وجل وحده هو القادر على خلق السموات والأرض وعلى حفظها واستدامتها ، وأنه لم يخلقهما إلا لحكمة ولطف منه تعالى .
    وجاءت الآية باسم الإشارة للقريب (هذا) ولم تأت باسم الإشارة للبعيد (ذلك) مع أن السموات بعيدة عن الإنسان مكاناً وادراكاً وإحاطة .
    والجواب لبيان إرتقاء المؤمنين في سلم المعرفة بحيث يكون البعيد عندهم قريباً بالتدبر والتفكر .
    ومن خصائص الذكر والتفكر في الخلائق صيرورتها كائناً قريباً ، واسم الإشارة (هذا ) في المقام شاهد على الإيمان ، وإدراك انتفاع الناس من خلق السموات والأرض في هدايتهم للإيمان ، وفي معايشهم وتوالي النعم عليهم ، وقد غزا الإنسان الفضاء في هذا الزمان ، ولا يعلم المكاسب منه إلا الله عز وجل ، قال تعالى [يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ] ( ) .
    وهل يدل لفظ (هذا) في الآية على تفقه المؤمنين في الدين بسبب الذكر المستديم ، وفي كل حال ، الجواب نعم ، فمن بديع صنع الله إرتقاء الإنسان والجماعة بالذكر ، وفيه تنمية لملكة التفكر عندهم ، لذا جاء التفكر بعد الذكر لبيان أنه من رشحات الذكر وطريق مستحدث إلى الذكر من غير أن يلزم الدور بينهما .
    إبتداء الدعاء بربنا
    تبيّن هذه الآيات قرب رحمة الله عز وجل من العباد بالنداء العام (ربنا) الذي يتضمن الإقرار بالعبودية لله عز وجل , وتستعمل أداة النداء (أي) للمنادى القريب , وأيا , وهيا , للمنادى البعيد , وتأتي (يا) للقريب والبعيد .
    وورد الدعاء في آية البحث والسياق من غير أداة نداء , لبيان إقرار المؤمنين بسماع الله عز وجل للدعاء , وعدم وجود حاجب أو حجاب أو برزخ بين العباد وبين الله عز وجل .
    لذا وردت أدعية عديدة للأنبياء في القرآن منها أدعية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام [رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]( ).
    وفي دعاء إبراهيم عليه السلام لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى هداية المسلمين [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ).
    [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] ( ).
    ولم ينس إبراهيم عليه السلام نفسه وأبناءه , ولم يسأل الدنيا إنما سأل الله عز وجل التوفيق لإقامة الصلاة والمغفرة لوالديه ، [رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ* رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ] ( ) .
    وجاءت أدعية نوح عليه السلام بالنداء [رَبِّي] بصيغة المفرد ، فهل هو بسبب جحود قومه بنبوته وشدة أذاهم له ، وإصرارهم على الكفر مع طول إقامته كنبي رسول بين ظهرانيهم الجواب نعم ، ومنها [قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ]( ) ، [قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ]( ) ، [وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ]( ) ،[ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا]( )،[ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا]( ).
    وفي دعاء عيسى عليه السلام [اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ] ( ) وأغلب أدعية الأنبياء بالسؤال [رَبَّنَا] للإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل ، وأنه وحده القادر على إستجابة الدعاء ، لذا ورد في الآية قبل السابقة [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
    وورد لفظ [ِ بِرَبِّنَا] مرتين في القرآن الأولى بخصوص سحرة فرعون عندما رأوا معجزة عصا موسى عليه السلام ، وكيف أنها أكلت عصيهم وأبطلت سحرهم ، وفضحت زيف إدعائهم ، إذ ورد حكاية عنهم في التنزيل [إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى] ( ) .
    ووردت الآية الأخرى حكاية عن الجن عندما سمعوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يتلو آيات القرآن [قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا] ( ).
    معنى الرب
    لقد ابتدأت آية البحث بالإخبار عن إكثار أولي الإلباب من ذكر الله عز وجل فهل مضامينها من هذا الإكثار ، الجواب نعم .
    ومنه قول (ربنا) فهذا النداء من أسمى مراتب الذكر ، والرب هو السيد والمالك والمدبر ، والمربي والمنعم ، والرب مشتق من التربية وتدبير الأمور .
    ولا يأتي مطلقاً غير مضاف إلا لله عز وجل ، فاذا قيل (الرب) فيقصد به الله عز وجل دونما سواه .
    وقد يأتي لغة بالإضافة لغير الله ، فيقال رب الدار ورب الناقة أي مالكها ، ومن معاني قوله تعالى [أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا] ( ) فهو السيد المطاع .
    وورد حكاية عن يوسف النبي عليه السلام أنه قال لغلام الملك [اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ] ( ) أي عند سيدك ، والله عز وجل هو الرب الذي إنفرد بخلق الأكوان والعوالم ، وهو مستقل بالأمر والمشيئة ، وتدبير شؤون الخلائق كلها.
    وتأتي صيغة الجمع (ربنا) لبيان قانون عدم خروج أي إنسان من مشيئة الله وملكه وسلطانه .
    ومن معاني الرب أنه وحده المعبود ، وليس من رب للخلائق إلا الله عز وجل فهو مدبر شؤون الكون وعالَم الخلائق كلها ، وأصاب الغرور والطغيان فرعون فقال [أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى] ( ) فنازع الله عز وجل في سلطانه في بلد محدود من الأرض ،ومدة أيام معدودة من الحياة الدنيا .
    فحينما خرج موسى من أرضه إلى أرض مدين نجا بنفسه من سلطانه ، ثم عندما أصر فرعون على اللحاق بموسى عليه السلام وبني إسرائيل أهلكه الله ، قال سبحانه [فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالْأُولَى] ( ).
    وورد لفظ [رَبِّ] في القرآن منفرداً إحدى وخمسين ومائة مرة منها [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) ومن الإعجاز تعقب قوله تعالى [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ) للآية أعلاه لبيان أن ربوبية الله رحمة عامة ، وفيها النفع العام للناس ، وأن الحياة لا تستديم إلا بالربوبية المطلقة لله عز وجل .
    (عَنْ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ : أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا رَسُولًا) ( ).
    [قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ] ( ).
    ومن معاني [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ] ( ) بيان أن مشيئة الله عز وجل أزاء العبد بما فيه المصلحة والمنفعة للناس جميعاً ، ووفق النظام العام للمجتمع، وتثبيت سنن العبادة .
    والنداء (ربنا ) هو دعاء الأنبياء ، وهو مصاحب لخلق الإنسان ، فأول من نطق به من البشر آدم وحواء ، وعلى نحو الإجتماع والإشتراك ، كما ورد في التنزيل [قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ] ( ).
    وفي نوح ورد في التنزيل [رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا] ( ) .
    ترى ما هي النسبة بين اسم (الرب) واسم (الإله) .
    الإله هو المعبود مشتق من أله إذا تحير ، إذ تتحير العقول والألباب في أسرار صفاته .
    وقيل أن لفظ الإله مأخوذ من لاه يليه ويلوه لياها ) إذا احتجب ، وفي التنزيل [لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ] ( ).
    وكان العرب في الجاهلية يطلقون لفظ الإله على كل معبود ، فيطلقونه على الله عز وجل وعلى الآلهة والأوثان التي اتخذوها للعبادة ، ووسائط وزلفى تقربهم إلى الله ، فنزل القرآن بذمهم ، قال تعالى [وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا] ( ) والإله هو المعبود ، ليكون من معاني الرب والإله عموم وخصوص من وجه .
    أقسام الإلحاح في الدعاء
    تتضمن كل من الآيتين النداء (ربنا) وهو نداء الأنبياء ، ووسيلة قرب واستجارة بالله عز وجل لما فيه من التسليم بالعبودية المطلقة لله عز وجل ، ويدل هذا التعدد على إتصاف أولي الألباب بخصلة حميدة وهي الإلحاح بالدعاء والمسألة ، وفيه تأديب للمسلمين ، وإرشاد لهم لتحقيق الرغائب في النشأتين ، وبلوغ المراد ، والإلحاح بالدعاء شاهد على الإيمان والإقرار بأن مقاليد الأمور كلها بيد الله سبحانه .
    ومن معاني الإلحاح بالدعاء حضور القلب عند الدعاء ،وحسن الظن بفضل الله وقربه ، وهذا الإلحاح من مصاديق الإحسان إلى النفس ، والتنزه عن ظلمها ويشترط في الدعاء أن لا يكون بقطيعة رحم أو بإثم وتعد .
    (عن أبي سعيد . أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال ، إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخرها له في الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها . قالوا : إذاً نكثر قال الله أكثر) ( )، أي الله أكثر إجابة وثواباً وفضلاً.
    أي نعم أكثروا فان الله يكثر لكم العطاء والنعم ، لذا تبعث آية البحث على الإكثار من الذكر لتتضمن البشارة بكثرة النعم بفضل من الله.
    إن اهتداء الإنسان إلى الدعاء نعمة عظيمة ، فهو عبادة يحبها الله عز وجل ، وسبب لصرف البلاء ، ثم يأتي الإلحاح بالدعاء لرجاء تقريب النعمة ودفع البلاء ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( )، أي بالدعاء والمسألة .
    ويكون الإلحاح بالدعاء على أقسام :
    الأول : الإكثار من النداء (ربنا الله ) (يا الله ) وقد تضمنت آية البحث والآيات التي بعدها الإكثار من قول أولي الألباب (ربنا ) .
    الثاني : الإلحاح في الموضوع المتحد ، كطلب الرزق ، وصرف شدة وأذى مخصوص ، وتضمنت آية البحث والآيات التي بعدها سؤال المؤمنين النجاة من النار يوم القيامة .
    الثالث : كثرة الدعاء للذات والغير .
    الرابع : اللجوء إلى الدعاء في حال الرخاء والشدة ، ويدل عليه قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ] ( ) وفيه شاهد بأن الدعاء عبادة .
    الخامس : هل تلاوة آية البحث والآيات التي بعدها من الإلحاح بالدعاء أم ينحصر موضوعها بصبغة القرآنية ولابد في الدعاء من قصده على نحو مستقل .
    الجواب هو الأول ، فتلاوة المسلم لهذه الآيات شاهد على أنه من أولي الألباب ، وتلاوة آيات الدعاء القرآنية من مصاديق الإلحاح في الدعاء وأقسامه ، لبيان كثرة كنوز القرآن ،ومعاني إصلاح المسلمين لسبل الهداية والرشاد ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
    و(عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يقول الله تعالى : يا ابن آدم واحدة لي ، وواحدة لك ، وواحدة فيما بيني وبينك ، وواحدة فيما بينك وبين عبادي . فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئاً ، وأما التي لك فما عملت من شيء أو من عمل وفيتكه ، وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعليّ الاجابة ، وأما التي بينك وبين عبادي فارض لهم ما ترضى لنفسك) ( ).
    ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية وجوب تلاوة سورة الفاتحة في كل ركعة من الركعات السبع عشرة اليومية الواجبة على كل مسلم ومسلمة .
    ومن خصائص هذه السورة أن نصفها دعاء فيتلوها المسلم فيكتبها الله عز وجل له تلاوة ودعاء في أكرم حال وهو الخشوع والمسكنة بين يدي الله في الصلاة .
    ويتعقب الدعاء الشكر لله عز وجل على تفضله بالهداية إلى الدعاء والمسألة ، ويدل نظم آية البحث والآيات التي تليها على تفضل الله بالإستجابة للإلحاح بالدعاء والمسألة ، وبيان قانون وهو تنجز الإستجابة لإلحاح المؤمنين بالدعاء ، إذ ورد بعد أربع آيات قوله تعالى [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ] ( ).

قوله تعالى [فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]
لم يبدأ المؤمنون الدعاء والمسألة إلا بعد النداء (ربنا) لتأكيد صدور الدعاء من مقام العبودية والخضوع لله عز وجل ، ترى لماذا لم تقل الآية (ماخلقت هذه) للإشارة إلى السموات والأرض ، الجواب لإرادة الخلق وبيان أن موضوعه أعم من السموات والأرض.
ومن معاني آية البحث التسليم بأن الله وحده القادر على انقاذ العباد من النار ، ويحتمل المراد من الإنقاذ من عذاب النار وجوهاً منها :
الأول : الهداية للعمل الصالح الذي هو واقية من النار.
الثاني : الفوز بالشفاعة.
و(عن أنس : سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ألا إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ، ثم تلا هذه الآية إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ( ).
الثالث : النجاة من النار بفضل الله وعفوه يوم القيامة ، قال تعالى [َإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا]( ).
و(عن أبي سميّة قال : اختلفنا في الورود ها هنا بالبصرة فقال قوم : لا يدخلها مؤمن .
وقال آخرون : يدخلونها جميعاً .
فلقيت جابر بن عبد الله فسألته فأهوى بإصبعيه إلى أُذنيه وقال : صمّتا إن لم أكن سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : الورود : الدخول، لا يبقى بّر ولا فاجر إلاّ دخلها فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم، حتى أنّ للنار أو لجهنم ضجيجاً لمن تردهمثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا( ).
وعن جابر ابن عبد الله (أقبل رجل أصم أخرس حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وآله فأشار بيده، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله: أعطوه صحيفة حتى يكتب فيها ما يريد فكتب : إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ” فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: اكتبوا له كتابا تبشروه بالجنة، فانه ليس من مسلم يفجع بكريمته أو بلسانه أو بسمعه أو برجله أو بيده فيحمد الله على ما أصابه ويحتسب عند الله ذلك إلا نجاه الله من النار، وأدخله الجنة.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن لاهل البلايا في الدنيا لدرجات في الآخرة ما تنال بالاعمال حتى أن الرجل ليتمنى أن جسده في الدنيا كان يقرض بالمقاريض، مما يرى من حسن ثواب الله لاهل البلاء من الموحدين، فان الله لا يقبل العمل في غير الاسلام)( ).
موضوعية التلاوة في تعاهد كلمات القرآن
مما هو ثابت نقل القرآن بين طبقات المسلمين بالتواتر ، ومنها أمور :
الأول : قانون تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآية أو الآيات حال نزولها .
فما أن يغادر جبرئيل حتى يتلو النبي صلى الله عليه وآله وسلم الآية وينادي على كتّاب الوحي لكتابتها ، فان قلت لم يكن في مكة قبل الهجرة كتّاب للوحي بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند نزول الآيات .
والجواب كان الإمام علي عليه السلام وبعض الصحابة يكتبون ، ثم أن الآيات المكية قصيرة ، وكذا ذات السور المكية ، وكان العرب يتصفون بسرعة الحفظ .
الثاني : المدد الإلهي في تيسير حفظ المسلمين لآيات القرآن .
الثالث : كتابة الصحابة الأوائل آيات القرآن ، وادخارها في بيوتهم .
الرابع : قانون إعجاز القرآن بلاغة وموضوعاً ودلالة عون على حفظه .
الخامس : قانون تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة وأهل البيت وكل مسلم ومسلمة القرآن في الصلاة اليومية.
فما يقرأ خمس مرات في كل يوم لا ينسى ، والذي يتلوه في الصلاة يعلم أنه مأمور بتلاوته غداً وبعد غد وإلى حين مغادرته الدنيا ، وهو من مصاديق قوله تعالى في آية البحث [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ] ( )، من جهتين :
الأولى : قانون أداء الصلاة على كل حال .
الثانية : قانون تلاوة القرآن من أبهى مصاديق ذكر الله الوارد في آية البحث .
السادس : من خصائص تلاوة المسلمين القرآن في الصلاة ضبط الحروف والكلمات وحركاتها ، والتفقه في الدين وعلوم العربية ، ومعرفة الفعل من الاسم ، والفاعل من المفعول ، وحركة كل واحد منها .
السابع : تدارس الصحابة آيات القرآن حلقاً حلقاً ، والسعي في تفسير كلمات وآيات القرآن ، واستحضار أسباب نزول الآيات التي هي عون في حفظها وتثبيتها في الأذهان .
الثامن : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة آيات القرآن خارج الصلاة ، وعلى المنبر ، وفي الأسفار .
التاسع : إجابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأسئلة الخاصة بالقرآن ، وقيامه بتفسير الآيات ، ولم يفسر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كل آيات القرآن أو اكثرها( ).
العاشر : عرض وتدارس جبرئيل عليه السلام القرآن مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كل سنة مرة ، ومعارضته في السنة التي فارق فيها الدنيا مرتين .
وهذه المعارضة والتدارس من أبهى وجوه ضبط آيات القرآن ، وعدم تفويت آية ، أو سقوط كلمة منه .
وعن محمد بن كعب القرظي قال (مر عمر بن الخطاب برجل وهو يقرأ {والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان}( ) فوقف عمر ، فلما انصرف الرجل قال : من أقرأك هذه.
قال : أقرأنيها أبي بن كعب .
قال : فانطلق إليه ، فانطلقا إليه ، فقال : يا أبا المنذر أخبرني هذا أنك أقرأته هذه الآية .
قال : صدق تلقيتها من فيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال عمر : أنت تلقيتها من في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قال : فقال في الثالثة وهو غضبان : نعم .
والله لقد أنزلها الله على جبريل عليه السلام ، وأنزلها جبريل عليه السلام على قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يستأمر فيها الخطاب ولا ابنه .
فخرج عمر رافعاً يديه وهو يقول : الله أكبر الله أكبر) ( ).
لبيان حرص الصحابة على الحرف القرآني الواحد ، وموضوعيته في تثبيت المعنى .
الحادي عشر : كثرة حفظة القرآن عن ظهر قلب ، وهناك من يحفظ أجزاء من القرآن ، ليكون مجموع القرآن الذي بين الدفتين محفوظاً في صدور المسلمين ، والمدار على المرسوم في المصاحف ، ولا تعارضه بعض القراءات في حرف أو كلمة لا تغير المعنى .

التفسير بالتقدير
وفيه وجوه :
الأول : اللهم أنت ربنا والهنا لا نشرك بك شيئاَ .
الثاني : دلالة خلق الله عز وجل للسموات والأرض على ربوبية الله عز وجل المطلقة للخلائق .
الثالث : بيان معاني التفكر في خلق السموات والأرض , فهو ليس تفكراَ مجرداَ بخصوص هيئة وعظمة السموات والأرض بل هو تفكر مع الإقرار
بأن الله عز وجل هو الذي خلقها ليكون تقدير الآية : ويتفكرون في خلق الله للسموات والأرض .
وعن الإمام الرضا عليه السلام : ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم: إنما العبادة التفكر في أمر الله عز وجل ) ( ).
والمراد : التفكر ببديع قدرة الله وسعة سلطانه ، والتقرب إلى الله والتدبر في إتيان الأعمال الصالحة والإستعداد لها ، ومنها أداء الفرائض العبادية ، فالحديث لا ينفي وجوب الصلاة والصيام ، ولكن يؤكده ويدعو إلى إخلاص النية في العبادات والرضا بقضاء الله وعدم إنحصار العبادة بكثرة النوافل .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا اجمعوا بين أداء الفرائض العبادية وبين التفكر في الخلق وبين الدعاء .
الخامس : ربنا الله ليس من خالق سواه .
السادس : ربنا ما خلقت السموات والأرض وما خلقت الليل والنهار وتعاقبهما باطلاً .
السابع : ربنا ما خلقتنا باطلاً فادخلنا الجنة ، وفي التنزيل [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
الثامن : اللهم ربنا لا تصح ولا تليق كلمة سبحانك إلا لك وحدك .
ومن الآيات ورود ذكرها بخصوص بديع صنع الله للسموات والأرض ، وانفردت هذه الآية والآيات الثلاثة التي بعدها بورود لفظ [رَبَّنَا] خمس مرات فيها .
كما ورد لفظ [رَبَّنَا] ثلاث مرات في كل من :
الأولى : آخر آية من سورة البقرة وهي قوله تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] ( ).
الثانية : آية دعاء شعيب وثباته وأصحابه في منازل الإيمان وتنزههم عن الشرك والإفتراء على الله,قال تعالى [قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ] ( ) .
الثالثة : قوله تعالى [وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ] ( )، لبيان لجوء الرسل من قبل بالدعاء والمناجاة بتكرار قول [رَبَّنَا]
ومن خصائص ذكر المسلمين لله عز وجل في كل حال شموله لساعات اليوم والليلة , وهو مناسبة للتفكر في آيات [اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ] ( ) وهو الذي تذكره الآية السابقة , وهل يمكن تقدير آية البحث : (ربنا ما خلقت اختلاف الليل والنهار باطلاَ) الجواب نعم.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn

مواضيع ﺫات صلة